الفصل الثالث
(ينكشف الستار عن قاعةٍ في قصرٍ من قُصور ضاحيةِ باريس، للقاعة بابان ومخرج يؤدِّي إلى حديقة.)
المشهد الأول
(فرجان – وفالانتون)
(فرجان منهمك في ترتيب الكتب على رفوف كبيرة، فيدخل فالانتون وبيديه شبكة صيد.)
فالانتون
:
أيمنعك شاغل عن مرافقتي إلى الصيد؟
فرجان
:
ألا تَرَى يا صديقي أنني لا أنفكُّ عن العمل كأنَّني سيدة بيت، لقد مضتْ عشرُ سنوات
على انتقالِنا إلى هذا القصر ولم أتمكَّن مِن جعْل إرين تهتمُّ بأيِّ عمل.
فالانتون
:
وهل هي جاءتْ عن طيبةِ خاطرٍ إلى هذا القصر لنُطالِبَها بالاهتمام بترتيبه؟
فرجان
:
وهل يَبْقَى الإنسانُ عشرَ سنواتٍ مُكْرَهًا؟
فالانتون
(وهو يلهو بترتيب شباكه)
:
إذا أُكْرِهَتِ المرأةُ مرةً فلن تَرْضى أبدًا.
فرجان
:
ليس في حياة زوجتي ما يُبرِّر سوءَ الظن، ولعلَّ هذا الإهمال طبيعةٌ فيها، لستُ أشكو
منها، وقد انقضى العهدُ الذي اضطُرِرتُ فيه إلى سَوْقِها بِيَدٍ من حديد.
فالانتون
:
وهكذا قمتَ بواجِبِك نحوَ نفسِك على ما نعتقد.
فرجان
:
بل قمتُ بواجِبِي نحوَها هي؛ لأنَّني وقَيْتُها السقوطَ وحفِظْتُها من التدهور في زمنٍ
كانتْ
فيه على شَفِير الهاوية لاضطراب أعصابِها، والحقُّ يُقال أنني مرتاحٌ إلى ما فعلتُ،
ولستُ بنادمٍ على ما أبدَيْتُ من حزمٍ وشدةٍ. لقد أعادتِ العُزلةُ السكينةَ إلى زوجتي،
ومنذ أصبحتْ أُمًّا تغيَّرتْ أطوارُها وأدركتْ معنى الحياة، فهي راضيةٌ بما قُسِم
لها.
فالانتون
:
وهل يَبْقَى من خلافٍ في زواجٍ مرَّتْ عليه عشرون سنة؟ إنَّ الهرم يُلْقِي السكينةَ على
كلِّ
شيء.
فرجان
:
ولكنَّ المصاعبَ لا تَزُول من الزواج حتى بعد مُضِيِّ خمسين سنة؛ فأنا اليوم تجاه مشكل
جديد يجب أن أستَعْمِلَ الشدةَ في حَلِّه.
فالانتون
:
سنعود إذن إلى المُشاكَسة القديمة.
فرجان
:
لا بد من ذلك؛ فإنَّ المسألة تتعلَّق بتعليم وَلَدِنا رينه وامرأتي تُقاوِمُني.
فالانتون
:
إذا كان لا بدَّ لكما من العِراك، فأرجو إرجاءَ المواقع إلى نهاية الصيف؛ أي إلى
أن أذْهَبَ مع زوجتي من بيتكم.
فرجان
:
ليتَ هذا الإرجاءَ مُمْكِنًا؛ فإنَّ اليوم ميعاد دخول التلامذة إلى المدرسة، وقد
قرَّرتُ إدخالَ رينه إلى مدرسة تبعد خمسة عشر ميلًا من هنا، وأوجبتُ أن يكون هذا
المساء بين أقرانِه فيها، وبما أنني أعرف طباع إرين؛ فقد أردتُ توفير الحنق عليها
مقدَّمًا؛ لذلك ستَرَى نفسَها أمامَ أمرٍ واقِعٍ هذا المساء.
فالانتون
:
أنتَ إذنْ تُرْغِمها إرغامًا ولم تسأَلْها رأْيَها.
فرجان
:
ولماذا أُطْلِعُها على أمرٍ أنا واثقٌ من رفْضِها له، فإذا ما صاحتْ هذا المساءَ أكونُ
وفَّرتُ عليها صِياحَ شهْرٍ.
فالانتون
(يستعدُّ للخروج بشبكته)
:
إن العاصفة على وشك الهبوب، فها أنا ذا ذاهب.
فرجان
:
أيَّ نوع من الأسماك تصطاد؟
فالانتون
:
كل نوع أتمكن من اصطياده.
فرجان
:
ولكنْ ما هي الأسماك التي تقع في شباكك؟
فالانتون
:
لا يقع فيها شيء.
فرجان
:
أنت تجهل صنعتك يا عزيزي.
فالانتون
:
لا بل هي الأسماك تجهل صنعتها، فهي ككل شيء في هذه البلاد تتلهَّى بالتفكير
مستغرقةً في أحزانها فلا تدنو من الشباك
(يقول هذا ويخرج.)
المشهد الثاني
(فرجان – ثم إرين وبولين)
(تدخل المرأتان من باب الحديقة، وعلى وجْه إرين دلائلُ الهرم، وقد لعِبَ برأْسِها الشَّيْبُ، وبولين تحمل باقةً من الأزهار.)
بولين
:
لقد أنهكَنَا التعب.
فرجان
:
إلى أين اتجهْتُما بهذه النزهة؟
بولين
:
ذهبنا إلى الحُرج، ومنه إلى المرج، ثم أرَدْنا الخروج من السياج للدخول إلى
المزرعة.
فرجان
(مُتَهَيِّجًا)
:
ولكنَّ السِّياجَ يمنع المرور.
بولين
:
لقد كان السِّياجُ مَخْرُوقًا فوَلَجْناه، وكانتْ هنالك امرأةٌ تغسل على شاطئ وهي التي
خرَقَتِ السياج.
فرجان
:
إنها لوقاحة. (إلى إرين) وماذا قلتِ لهذه
المرأة؟
إرين
:
سألتُها عن صحة ابنها.
فرجان
:
وبعدُ؟
إرين
:
أعطيتُها دراهمَ لتَشْتَرِيَ أدويةً له.
فرجان
(يأخذ قبعته ويتجه إلى الباب)
:
أمَّا أنا فسأعلِّمها كيف تخرق السياج مرة أخرى.
بولين
:
ويلاه! ما خطر لي أن المسألة ستنتهي على هذه الصورة، بالله يا فرجان، لا تُرْعِب
هذه المرأة المسكينة.
فرجان
:
ولماذا أجازتْ لنفسِها خَرْقَ سياجي ودخولَ أملاكي؟
بولين
:
أفما تُتْعِبك المُطالبةُ بحقوقِك دائمًا يا فرجان؟
فرجان
:
لو كان كلُّ الناس على شاكِلَتي يعرفون ما لهم ويدافعون عن حقوقهم لكانتِ الدنيا
على خيرِ ما هي عليه الآن (يخرج).
المشهد الثالث
(إرين – بولين)
بولين
:
كان يجب عليكِ أن ترُدِّي زوجَك عمَّا يَقْصِد.
إرين
:
إنه يفعل ما يُريد، وليس لي أن أقِفَ في وجهه.
بولين
:
أنتِ الآن كما كنتِ من قبلُ، تمرُّ الأيام مُلْقِيةً بغبارها على لِمَّتِك، وقلبك ذلك
القلبُ القديم لا يتحوَّل عن عواطفه.
إرين
:
ولن يتحوَّل.
بولين
:
يُخيَّل لي أن العواصف قد سكَنَتْ بينك وبين زوجك.
إرين
:
لم يَعُدْ ما يُوجِب النِّضالَ بيننا إلَّا أمرٌ واحدُ أُحاذِرُ وُقوعَه.
بولين
:
وما هو هذا الأمر يا تُرَى؟
إرين
:
مسألة تعليم رينه.
بولين
:
أظنُّه يستغرب مَزِيدَ انعِطافِك على ولدك يا إرين.
إرين
:
إنني أكاد أعبُدُه. لقد ضحَّيْتُ بمَوْتي من أجْلِ حياتِه، ولولاه لَمَا كنتُ أدرج على
الغبراء، بل كنتُ مُدرَّجة تحت أطباقها، إنني من أجْل هذا الطفل أعيش، وهو وحدَه
يَرْبِطني بهذه الدنيا، فليس لي في الحياة إلَّا حياتُه الواهِية، ونفسُه الصغيرة
المفكِّرة التي أحسبُها مُركَّبةً من أنيني وأوجاعي؛ فأنا لا أُطِيق الابتعادَ عن رينه،
وكيف أسلِّم تذكاري وضحيَّتي ودموعي لأيدي المعلِّمين، لأيدي الغرباء؟
بولين
:
وهل فاتَحَك فرجان بالأمر؟
إرين
:
لقد تحدَّث إليَّ بشأن تعليم ابنه مرارًا، وإذا شعر بما يُخالِج ضميري؛ فهم أنَّ
حياتي معلَّقة بشعر الولدِ الصغير، وقد مضى زمنُ دخولِ التلامذة إلى المدارس هذه
السنة، ولم يَرْجِع على حديثه، وإذا هو عاد إلى نغَمَتِه لأقِفَنَّ في وجْهِه وقفةَ اللَّبُؤة
تُدافِع عن شِبْلِها.
بولين
:
مسكينةٌ أنت يا إرين! أنت لا تَحْيَيْنَ إلَّا بحياةِ ابنِك. وقد قُضِي عليكِ ألَّا تكوني
لنفسِك، ومع هذا فإنَّكِ ما كنتِ لِتَصِلِي إلى حالةٍ أسعَدَ مِن حالِكِ اليومَ لو أنَّكِ
اتَّبعتِ
السبيلَ الذي استَهْوَتْك محجَّتُه من قبلُ.
إرين
:
مَن يدري؟
بولين
:
لا يا إرين، لو أنَّ حظَّكِ تابَعَ إرادتَكِ لكنتِ اليوم رازحةً تحت وِقْرِ أشجانِك؛
فقد وفَّر
القضاءُ عليكِ أعظمَ ما يقَعُ على قلبٍ رقيقٍ كقلبك.
إرين
:
لا أفهم ما تعنين.
بولين
:
ويلاه! ما كان أغناني عن إعادة هذه الذكرى إليك!
إرين
:
تكلَّمي يا بولين.
بولين
:
قولي لي الآن، أفما كنتِ مُصمِّمةً على الاقتران بميشال دافرنيه.
إرين
(تُشِيح بوجهها)
:
قد أكون فكَّرتُ في هذا.
بولين
:
أفما كنتِ أُصِبتِ بأشدِّ الضربات لو تمَّ لكِ ما أردتِ.
إرين
:
كان عليَّ أن أطلب هذه السعادة وأحصل عليها، وما كان سيقع بعد ذلك فليس من
شأني.
بولين
:
لا يا إرين، لو كنتِ اقترنتِ بميشال لكنتِ اليومَ على أسوأ حالٍ. أفتَرَيْنَ من السهل
على المرأةِ أن ترتَفِع مع رجلٍ إلى ذروة السعادة ثم تسقط منها بغتةً وهو ميت بين
ذراعَيْها؟
إرين
:
لو أنني تزوَّجتُ به لَمَا مات، لكنتُ شفَيْتُه بقُبلات غرامي، ورددتُ عنه سهامَ الموت،
لكنتُ منعتُ عنه الداءَ برَدِّ الشقاء عنه في حياته المنفردة المؤْلِمة، لكنتُ وَقَيْتُه
كلَّ
إفراطٍ مما أعلم (وتخفض صوتها كأنها تهمس
همسًا) أعلم.
بولين
:
كان ميشال مصدورًا وابن مصدور.
إرين
:
اسكتي.
بولين
:
مالك يا إرين؟
إرين
(تتمالك نفسها بصعوبة)
:
لا شيء يا بولين، إنها فكرة الموت المروِّع، ويلاه من التذكار لماذا تُعِيدِينه
إليَّ!
المشهد الرابع
(إرين – بولين – رينه)
(رينه ابن عشر سنوات، يدخل بلهفة وينطرح على أمه.)
رينه
:
أمي … أمي.
إرين
(فاتحة ذراعيها لابنها)
:
رينه، يا حياتي، يا ملاكي الصغير، تعال أقبِّلك (تُقبِّله) دَعْني أنظر إلى دلائل الصحة على وجهك، فقد صرتَ قويًّا
وصرتَ شيطانًا.
رينه
:
وعدني أبي أن يأخذني معه إلى النزهة.
إرين
:
لا أسمح لكَ بالخروج مع أيٍّ كان بدوني.
رينه
:
أواه!
إرين
:
ماذا فعلتَ يا رينه حتى بلَّلتَ أثوابَك عرقًا، وقد كنتَ تَكتب مع معلمتك.
المشهد الخامس
(إرين – بولين – رينه – فرجان)
(يدخل فرجان فيسمع العبارة الأخيرة.)
فرجان
:
هذا يدلُّ على تمرُّد المسيو رينه؛ فإنَّ معلِّمته لا تقدر على ضبطه.
إرين
:
يجب أن نُغيِّر كلَّ أثوابك.
فرجان
(يهز كتفيه)
:
ما شاء الله!
بولين
(تأخذ رينه بيده وتقوده)
:
تعالَ معي فسوف أوبِّخُك توبيخ العمَّة، فلا أُضْحِكك ولا أُبْكِيك.
(تخرج بولين مع رينه.)
المشهد السادس
(إرين – فرجان)
فرجان
(وهو يتردَّد)
:
عليَّ أن أتحدَّث إليك بشأن تعليم رينه.
إرين
:
وما يدعوك إلى ذلك اليوم؟
فرجان
:
لأن الأمر لا يحتمل التأخير.
إرين
:
لماذا؟
فرجان
:
لأن الولد قد بلغ العاشرة من عمره، وحين يبلغ الولد هذه السن ترتفع عنه سلطة
الأم. لقد أبقيتُ رينه تحت سلطتك حتى اليوم؛ لأنَّ الأطفال يحتاجون إلى الحنان، أما
وقد خرج رينه من طور الطفولة فهو بحاجةٍ إلى غير الإشفاق والتدليل.
إرين
:
إذا كنتَ ترى تربِيَتي غير وافيةٍ له الآن، فاستَقْدِم له مُعلِّمًا يعطيه الدروس في
البيت.
فرجان
:
ليس الولد محتاجًا إلى العلم فقط لنستقدم له معلِّمًا يعطيه الدروس في البيت،
فهو بحاجة أيضًا إلى تقويةِ نفسِه والاعتماد عليها، هو بحاجة إلى المناظرة
والاجتهاد والطاعة، وكلُّ هذه أمور لا يتعلَّمها الولد إلَّا في المدرسة.
إرين
:
ويلاه! لقد عدنا إلى مُعالَجة أمرٍ لا أُطِيق ذِكْره، ألم أقلْ لك يا فرجان إنك تَجْني
على حياةِ رينه إذا أنتَ حَرَمْتَه حنوي.
فرجان
:
دعي هذه الأوهامَ يا إرين، فإنَّ حبَّك لرينه سيكون عِلَّة شقائه؛ فأنت أضعف من أن
تتولَّيْ تقويمَه وتهذيبَه.
إرين
:
وأنت تريد أن تبتاع له قساوةَ الغرباء؟ ويلاه! أتطلب القساوة لهذا الطفل
الصغير الذي يتهدَّده الفناءُ حتى تحت جناحي، هذا الطفل الذي لا ينام إلَّا مُرْتَجِفًا
وأسمع سُعالَه المتقطِّع في الليل وأجفِّف بيدي عرَقَه البارد.
فرجان
:
تبالِغين في تدليل ابنك يا إرين، فتجعلِينَه مريضًا، ولن يُشفَى إلَّا حينَ يَعِيش كباقي
أبناءِ الناس.
إرين
:
إنَّ ابني لن يبارحني.
فرجان
:
إنَّ ابني سيكون مثلي، فليس هو خيرًا منِّي، وأنا عندما بلغتُ سِنَّه كنتُ دخلتُ المدرسة
منذ سنتين، وسوف يأتي رينه إلى البيت يوم الأحد من كل أسبوع، ولك أن تذهبي
لمشاهدتِه على قدْر ما تَسْمَح قوةُ خُيُولِنا.
إرين
:
أكرِّر لك القول إنَّ رينه مريض، وحياته رهن طريقة معيشته، أنا أعلم هذا، وقد أثبَتَ
الأطِبَّاءُ ظُنوني ومخاوِفي.
فرجان
:
ومَن هم هؤلاء الأطباء؟
إرين
:
كلُّ الأطباء الذين تسنَّى لي استشارتهم.
فرجان
:
وقد استشرتِ الأطباء دون علمي.
إرين
:
نعم.
فرجان
:
ما أشدَّ جنوني! وما قال لك هؤلاء الدجَّالون عن صحة الولد؟
إرين
(باضطراب)
:
قالوا إنه …
فرجان
:
ماذا؟
إرين
:
قالوا إنَّ لمحبتي وحدَها أن تَقِيَه الموت؛ فعليَّ أن أداريه وأنظم معيشته بكل
دقة.
فرجان
:
ما معنى هذا؟ إنَّ لكلِّ مرضٍ اسمًا، فما هو اسم مرض رينه يا تُرَى؟
إرين
:
أوَّاه! لكم تعذبني! دعني، أفما ترى لوعتي واضطرابي؟
فرجان
:
أراكِ تَخضعين اعتقادًا لأعصابك كما أخضعتِ لها حياتك، ولعلَّكِ وصفتِ للأطباء من
حالةِ ابنك ما شاءتْ لك الأوهامُ، فقالوا لك ما تريدين أنت لا ما يقرِّر العلم. إنني
والحمد لله ذو صحة كالحديد، ولستِ أنتِ مريضةً ليَجِيءَ ولدُنا مسلولًا، وسوف نرى كيف
تتحسَّن صحتُه بعدَ أن يَقْضِيَ السنةَ في المدرسة.
إرين
:
إنه لن يقضي فيها يومًا واحدًا.
فرجان
:
إيه، ماذا تقولين؟
إرين
:
عبثًا تحاول تنفيذَ أمرك؛ فإنني سأُقاوِمك إلى النهاية.
فرجان
:
إذن، لم يَبْقَ سوى العمل، تفضَّلي بإعداد أثواب رينه.
إرين
:
ولماذا؟
فرجان
:
لأنني سأذهب به إلى المدرسة.
إرين
:
أتجسر؟
فرجان
:
سيكون الولد بعد ساعة واحدة حيث أريد أن يكون.
إرين
:
ولن يكون هذا؛ لأنني سأَحْمي وَلَدِي، ولن أدَعَه يموت حتى أموتَ قبْلَه.
فرجان
:
لقد عادتْ إليك أعراضُ مرضِك القديم، ولكنني سأستعمل سلطة الأب لأشفِيَك كما
استعملتُ سلطةَ الزَّوْج فيما مضى.
إرين
:
خيرٌ لك ألَّا تُذكِّرَني بما فعلت؛ لقد كان انتصارًا باهرًا، وهذا الانتصار جدير
بإعجابك. لقد أحنيتُ رأسي، ولكنَّ قلبي لم يَزَلْ متمرِّدًا، ومنذ أحنيتُ جبيني أمامَك
وفَّرتُ على نفسي أن أنظر إليك وجهًا لوجه، أما الآن فها أنا ذي أرفع الرأس لأنظر
إليك، ليستِ الزوجة مَن تتمرَّد اليوم، إنَّ الأم هي المتمرِّدة وما يقِف بوجه الأمِّ
إلَّا
قوةٌ من السماء!
فرجان
:
أنتِ مغترَّةٌ بحقوقِ الأمومة يا سيدتي.
إرين
:
لستَ أعلمَ بحقوق الأمِّ من الأمهات يا سيدي، إننا نعلم هذه الحقوق علمًا أوفى
وأصدق من علم أيِّ مشرِّعٍ أفَّاك؛ لأن الله يكتب هذه الحقوق يومًا فيومًا مع نمو
الجنين في أحشائنا.
فرجان
:
أنا صاحبُ الحق، وسوف أتمتَّع بحقِّي باسم القانون.
إرين
:
ويلاه من هذه الكلمة المروعة! لقد حطَّمتَ حياتي باسم القانون، وباسم القانون
أيضًا تريد قتْلَ طِفْلي بين يدي، ما أنتَ الآن أمامي إلَّا ما كنتَ منذ عشر سنين؛ جلَّاد
الإنسانية وقاتِلُها باسم العدالة المضلِّلة، فأنت تُسلِّط الحقَّ بيدِك لقتْل الإنسانية،
وعينُك باردة كالثلج وقلبك مُتصلِّب كالصخر.
فرجان
:
قولي ما تشائين، إنني حرٌّ في التصرُّف بولدي كما أشاء.
إرين
:
أفليس بوُسْعِي أن أقول لك كلمةً تروِّعك عن مُنازَعَتي ولدي؟
فرجان
:
إنَّ الولد لأبيه، هكذا ينص القانون.
إرين
:
لقد كذب القانون.
فرجان
:
بل أنتِ تكذبين.
إرين
:
لا … لا، لستُ كاذبة.
فرجان
:
اذهَبِي وأعِدِّي حوائج رينه.
إرين
:
اسمع، توقَّف.
فرجان
(وهو مُتَّجِه نحو الباب)
:
أنا ذاهبٌ لأُعِدَّ العربة، سوف نسافر الآن.
إرين
(حائلة بينه وبين الباب)
:
أَشهَدُ أمامَ الله أنَّ هذا الولد هو لي وحدي.
فرجان
(يدفعها بيده)
:
هو لي أولًا؛ لأنني أبوه.
إرين
(تصرخ بصوت هائل)
:
لا، أنتَ لستَ أباه!
فرجان
(يُدِير وَجْهَه بغتةً)
:
ماذا؟ هل طرأ عليك جنون؟
إرين
:
لا، بل أنا مُمَزِّقةٌ نقابَ التَّمْوِيهِ والخِداع.
فرجان
:
ماذا قلتِ؟ أتدرين ما تقولين؟
إرين
:
وهل أجْهَل ما تهتف به أحشائي؟
فرجان
:
إنك تكذبين، إنك تلجَئِين إلى آخِر وسيلةٍ يَخْتَرِعها حنانُك، قولي … اعترفي … تكلَّمي.
إرين
:
إذا كنتَ تطلُبُ ما يُقْنِعُك فإليك البرهان، ولْيَكُن ما تُريد. تذكَّرِ الآن، تذكَّر
أنني
أَوْصَدْتُ بابي في وجْهِك منذ عشر سنوات حين كنتَ حاكِمي وجَلَّادي، وما عدتُ إليك بعدَها
إلَّا مُرغَمةً على احتمالِك، فافهم الآن.
فرجان
:
ماذا؟
إرين
:
لو كنتَ ممَّن يُفكِّرون لأَدْرَكْتَ أنَّ المرأةَ لا يَمْتَلِكُها إلَّا مَن يَمْتَلِك
قلبَها.
فرجان
(وهو يرتعش)
:
ويلاه! لقد فهمتُ.
إرين
:
لقدِ احتفظتُ بسِرِّي في ذلك الزمانِ واحتملْتُك؛ لأُنْقِذَ حياةَ ولدي، ولأجل إنقاذِه
اليومَ
أيضًا أرْفَع النِّقاب، وأدفَعُ بكَ إلى الوراء.
فرجان
(يهجُم عليها وهو يتميَّز غيظًا)
:
بالشقِيَّة الجانية!
إرين
(تُهرَع إلى الجرس)
:
إذا أنتَ مددتَ يدَك، دعوتُ خدَّامك.
فرجان
:
ويلاه! أبعدَ الخيانةِ فضيحةٌ؟! وبعدَ العارِ شنار؟!
إرين
:
تلك هي نتيجةُ مبادِئِك الفاسِدة وقوانينِك المُضْحِكة، لقد جَرَرْتَني قَسْرًا إلى الكذب،
ثم إلى السقوط، أنتَ هو المذنبُ، وأنا لا أغتَفِر لك جنايَتَك.
فرجان
:
مَن كان هذا الرجل؟
إرين
:
لقد يكون ممَّن تعرفهم.
فرجان
:
قولي، اعترفي، مَن هو هذا الرجل؟
إرين
:
أبدًا!
فرجان
:
وهل جاء إلى هنا؟
إرين
:
إلى مكانٍ قريبٍ من هنا.
فرجان
:
أفهم كيف توصَّلتِ إلى الاجتماع به.
إرين
:
ولا أنا أفهم أيضًا.
فرجان
:
وهل تكرَّر اجتماعك به؟
إرين
:
ما يُهمِّك هذا؟
فرجان
:
أفلا يزال يجتمع بك.
إرين
(تحاول إخفاء حزنها)
:
لا؛ فإنَّه ذهبَ منذ زمان طويل إلى سفرٍ بعيدٍ ولن يعود.
فرجان
:
أفلا تَرَيْنَ من الجناية أن يَحمِلَ ابنُ غيري اسمي أنا؟! وأن أكون مُكْرَهًا على النظر
إليه كأنه ولدي؟!
إرين
:
هذا ما وَرَد في الشريعة التي مكَّنتْك مِن البَقاءِ زَوْجًا لي بالرغم من الأرض
والسماء.
فرجان
:
ما كنتُ لأرتابَ بعفافِك أيتُها المرأة، عرَفتُ أنكِ عدوَّةٌ لي، ولكنْ (تخنقه زفراته) ولكنَّني ما عرَفتُ أنكِ امرأةٌ ساقطةٌ
لا شرَفَ لها.
إرين
:
لكلٍّ سِلاحُه يا سيدي، لقد حارَبْتَني بكلِّ قوَّتِك فحاربْتُك بكلِّ ضَعْفي.
فرجان
:
لقد كنتُ أُدافِع عن حقِّي الصريح.
إرين
:
ولكنَّكَ نسيتَ أنَّ للطبيعةِ حُقوقًا أقوى من حقوقك.
فرجان
(وقد ظهر اللُّؤْم على وجهه)
:
لقد دفَعَكِ الغيظُ إلى الإقرار، فها أنا ذا مُحَرَّرٌ مِن كل واجبٍ نحوَ ابنك، غير أنَّني
لم
أزَلْ صاحبَ الحقِّ والسلطان عليه، فلسوف أستعمل قوَّتي.
إرين
:
لا، بل أنت أعجَزُ مِن أن تستعمل سلطانَك بعد هذا الاعتراف.
فرجان
:
وكيف ذلك أيتها المرأة؟
إرين
:
لن يذهبَ بك اللُّؤْم إلى الانتقام من طفل ضعيف.
فرجان
:
ما لي ولضَعْفِه؟!
إرين
:
ما أقدَمتُ على الاعتراف إلَّا لأنني أعتَقِدُ بأنْ ليس على وجْهِ الأرض رجلٌ يدَّعي
التمدُّن ويغتال الأطفالَ، مهما تمسَّك بالشريعة وتعزَّز بالقوانين.
فرجان
:
وإذا أنا جحدتُ الشرائعَ والتمدُّن الآن؟
المشهد السابع
(فرجان – إرين – رينه)
إرين
:
رينه، يا ألله!
رينه
(يتجه راكضًا نحو فرجان)
:
أفما نذهبُ إلى التنزُّه يا أبي؟
فرجان
:
اسكت.
إرين
(تجتذب ولدها إليها)
:
اسكت … اسكت!
فرجان
:
أخرجيه لنتمِّم حديثنا.
إرين
(إلى رينه)
:
اذهب وانتظِرْني عند خالتك.
رينه
:
لماذا يبكي أبي، وهو لا يبكي أبدًا؟
إرين
:
اذهب يا ولدي، اذهب.
رينه
:
لماذا لا تبكين الآن، وأنت تبكين دائمًا؟
إرين
:
أواه يا عزيزي! لقد نفدتْ دموعي.
(يخرج رينه.)
المشهد الثامن
(إرين – فرجان)
فرجان
:
لقد أصبح هذا الولدُ لكِ وحدَكِ الآن، فافْعلي به ما تُرِيدين، لقد قلتِ حقًّا إنني
لن أستطيع تعذيبَه، وأكادُ لا أجِدُ القوةَ الكافية لقتْلِ محبَّتي.
إرين
:
لا، لن أذهب من هنا.
فرجان
:
وكيف يمكنك البقاء؟
إرين
:
سأبقى من أجْلِ رينه، فما أرضى بأن أُطْرَد وأُهان. إنَّ لهذا الطفل حقًّا أنْ يُقِيم
في
المجتمع أدبيًّا وماديًّا، فهو ابن الشريعة.
فرجان
:
سأُكْرِهك على الذهاب.
إرين
:
لن تستطيع.
فرجان
:
لقد طلبتِ الطلاقَ أنتِ فيما مضى، فها أنا ذا أطلُبُه اليوم.
إرين
:
لقد رفضتَ أنتَ أمسِ، وأنا أرفضُ اليوم، لم يَعُدْ لي من مستقبلٍ، وقد تلاشتْ آمالي،
فأنا أتحاشَى كلَّ تغيير وكلَّ جهد، لقد شُلَّتْ إرادتي، فلسوف أبْقَى على ما أنا حيث
أنا.
فرجان
:
أفترضَيْن أن أحتَمْلَك احتمالًا؟
إرين
:
لا بُرْهان لدَيْكَ غير اعترافي، فعليك أن تحتمل.
فرجان
:
وهل أنتِ مُنكِرةٌ هذا الإقرار؟
إرين
:
أتطلُبُ أنْ أهتِفَ به عاليًا أمام الناس، وأُشهِرَه على ملأ الأشهاد؟
فرجان
(يتنهَّد ويبكي)
:
ولكن كيف أعيشُ وأنتِ أمامي؟
إرين
:
لقد احتملتُ هذا فيما مضى، فاحْتَمِلْه أنتَ الآن، كلانا مُرْتبطٌ بالآخَر، وما ربطتْه
عماوةُ الناس لا تَقْدِر قوةٌ على حلِّه، هذه هي الشريعة. لقد شعرتُ بوِقْرِها طويلًا
وحدي، وقد آنَ لك أن تُساعِدَني على حملها.
إرين
:
بلى، هناك عدالةٌ، وهي حَمْلُ الشَّقاء بالمساواة.
فرجان
:
وما هي هذه المساواةُ وأنتِ مُجرمةٌ وأنا بريء؟
إرين
:
لا بريءَ ولا مجرمَ هنا؛ كلانا شَقِيٌّ، وحيث يسودُ الشقاء تسودُ المساواة.