سيرة أحمد بن طولون
الحمد لله وبه أستعين، الحمد لله خالق السموات والأرض وما بينهما من الآيات الدالات على
حكمته، الشاهدات على قدرته، المنبِّهات على وحدانيته، حسن نَظْمِ فطرته لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا فسبحانه من مليكٍ قدير
وإلهٍ خبير، وصلى الله على محمد رسوله الأمين وخيرته من العالمين، المبشِّر بالجنة عبادَه
المؤمنين، وبالنارِ أعداءَه الكافرين، وعلى مَنْ تقدَّمه من النبيين، وعلى آله
الطاهرين.
فهمتُ ما ذكَرْت، جعلَني الله فداك، في سيرة آل طولون، وأنك قرأتَ كتاب أحمد بن
يوسف ذلك،
فلم يكن موقعه منك الغرض الذي إليه ذهَبْت، ولا المعنى الذي له نحَوْت، وأنك تريد ما
هو
أكبر منه شرحًا وأكمل وصفًا، وأن أحمد بن يوسف كان يمُرُّ في شرح قصةٍ ثم يرجع إلى ما
هو
قبلها، وأنه كان يخلِط أخباره
١ فيأتي بقصةٍ من قصصه التي تدُل على ذكاء عقلِه وفطنتِه ولطيفِ حسِّه، ثم يأتي
بضدها، وأنه لم يأتِ بجميع أخباره ولا أخبار أبي الجيش ابنه، وما كان من جميل أفعاله،
وحسن
آثاره، ولا أخبار سائر إخوته بعده.
وقلتَ ما هكذا أرَّخ الناس الأخبار، ولا عليه نَظَم العلماء الآثار، وأردتَ أن يكون
ذلك
مستقصًى جميعه وعلى ترتيب في شرحه، ولا يذكُر آخِرًا قبل أول ولا يقدِّم سالفًا على
آنف،
وقد امتثلتُ أمرك فيما أردتَ وسلكتُ فيه الذي اخترتَ. ولم أدَعْ من أخبار جماعتهم شيئًا
مثلُه يُؤرَّخ وبه يُتأدَّب وله يُستحسَن إلا ذكرته، وجعلتُ ذلك أبوابًا [ولم أذكُر في]
الباب ما ليس منه شكلُه، ولا خلطتُ به ما خرج [عن أصله، وإن] ابن آدم لا يخلو من نقص
وتقصير، ولم يَعْرَ من ذلك العلماء الواصفون لشرائط الدين، والمبلِّغون سننَ المرسلين،
وكيف
ما إن قصَّر عنه مقصِّرٌ لم يوزَر، وإن بالغ فيه مجتهدٌ لم يؤجَر.
فأول ذلك، أعزَّك الله، أن المعتصم بالله لمَّا اختَصَّ الأتراكَ ووضَع من العرب،
فجعل
الأتراك أنصار دولتِه، وأعلام دعوتِه، وبذلك احتجَّ عليهم العلَوي البصري فقال:
واستفتَحوا بالتُّركِ أمرَهُمُ
لم يستَفتِحوا بالأَوسِ ولا بالخَزرجِ
٢
فكان مَنْ عظُمَت عندهم منزلتُه، وحُمِدَت طريقتُه، ألزموه خدمتَهم، وجعلوه الذابَّ
عن
بَيضتِهم، وقُلِّد الأعمال الجليلة الخارجة عن الحَضْرة،
٣ واستخلَفوا له عليها الخلفاء، وحُمل إليه مالُها، ودُعي له على منابرها.
فكانت سبيلُ مصر عندهم أن يُحْبَى بها مَنْ صحَّت فيه هذه الصفة التي قدَّمنا ذكرها،
كما
فعل هارون الرشيد بعبد الملك بن صالح، والمأمون بطاهر بن الحسين، والمعتصم بأشناس، والواثق
بإيتاخ، والمتوكل ببُغا ووصيف، والمهتدي بيارجوخ، وكما قدم بُغا وأتامش وغيرهما فقُلِّدَت
مصر باكباك والْتُمِس له خليفةٌ فوُجِّه به إليها.
وكان أحمد بن طولون قد مات أبوه في سنة أربعين ومائتَين ولأحمد عشرون سنة، من جارية
كانت
لأبيه تُعرف بقاسم، ولدَت أحمد في سنة عشرين ومائتَين، وولدَت بعده أخاه موسى وحبسية
وسمانة، وكان طولون من طغرغر، حمله نوح بن أسد عامل بُخاراى وخراسان إلى المأمون فيما
كان
موظَّفًا عليه من المال والرقيق والبراذين وغير ذلك في كل سنة، وذلك في سنة مائتَين.
وسألتُ أبا العباس أحمد بن محمد الكوفي،
٤ وكان خبيرًا بأمر الأتراك عارفًا بأحوالهم، عن أحمد بن طولون وقلتُ له: إن
الناس في أمره فريقان؛ أحدهما يقول إنه أحمد بن طولون وإن يلبخًا كان زوج أمه قاسم، والآخر
يقول إنه أحمد بن طولون وإن يلبخًا ابن قاسم جارية طولون، فأكذَب ذلك وضَحِك منه، وقال
لي:
يلبخ هذا تركي سُبي مع طولون، وكان خفيف الروح يغنِّي بالتركية مُستحْلَى الكلام، فلما
مات
طولون ألزَمه الوفاءُ له القيامَ بأمرِ ولده والمحافظة عليه، فكان يركب معه حتى يُوصِلَه
إلى المواضع التي لم يكن أحمد يَصِل إليها لحداثة سِنِّه وصِغَره عن ذلك، وكان كُلُّ
مَنْ
يراه معه يقول له: هذا ابنك؟ فيقول: نعم، هو ابني وابنُ سيدي، رحمه الله.
وتُوفِّي يلبخ بعد وفاة طولون بعشرِ سنين ولم يخلِّف إلا طفلة، فكان أحمد بن طولون
يُجري
على أمها وعليها ما يسعُهما من الرزق حتى ماتتا.
وقال لي: ومما يدُل على صحة ذلك أن الموفَّق لما لعَن أحمد بن طولون أسنده إلى طولون
ولم
يُسنِده إلى يلبخ، ولو كان ابن يلبخ لَمَا زوَّجه يارجوخ ابنته؛ لأن يلبخًا كان عندهم
مغنيًا وطولون معروفٌ بالسِّتر والصيانة.
فنشأ أحمد بن طولون نُشوءًا جميلًا غيرَ نشوء أولاد العجم، من بُعْدِ الهمة وحُسن
الدين
والذهاب بنفسه عما كانت تُسِفُّ إليه طبقته، وطلب الحديث وأحبَّ الغزو،
٥ وخرج إلى طرسوس مراتٍ، ولقي شيوخ المحدِّثين، وسمِع منهم، وكتَب العِلم وحصَل
له من ذلك قطعةٌ كبيرة.
وألِفَ بطرسوس جماعةً من الزهَّاد، وأهل الدين والورع، فأدَّبوه بآدابهِم، فحسُنَت
طريقتُه وظهَر فضلُه؛ فتمكَّن له في قلوب الأولياء ما ارتفَع به عن طبقتِه، وبان فضلُه
على
وجوه الأتراك، وصار محلُّه عندهم محلَّ مَنْ يُوثَق به على الأموال والأسرار والفروج،
ومثلُ
هذا عند العجَم محلُّه عظيم في نفوسهم لو تصنَّع به متصنِّع فكيف من مبتدئ غير متصنِّع؟
فخطَب إلى يارجوخ ابنتَه فزوَّجه، وكانت أمَّ ابنه العباس [وابنته] فاطمة.
فلِمَا كان في نفسه من محبة الخير ورغبته فيه، سأل الوزير
٦ أن يكتب له برزقه إلى الثغر،
٧ وعرَّفه رغبتَه في المقام به، فأجابه الوزير عبيد الله بن يحيى إلى ذلك، وكَتَب
له به، وخرج فأقام بطرَسوس مدة، وشقَّ على أمه مفارقتُه لها فكاتبَتْه بما أقلقَه، فلمَّا
قفل الناس إلى سُرَّ مَنْ رأى
٨ قفَل معهم بسبَب أمه، وكان جُملة القافلين نحوًا من خمسمائة رجل، والخليفة
يومئذٍ المستعينُ بالله.
وكان قد اتفَق أن المستعينَ بالله استحسَن شيئًا يُعمل ببلاد الروم من بَزْيون
٩ وكراسي حديد منقوشة بأحسَن نقشٍ يجري فيها الذهب، وأشياء يَضِنُّ بها الملك أن
تخرج إلى أرض العرب، فأنفَذ خادمًا من خدَمه يتكلَّم بالرومية إلى ملِك الروم، برسالةٍ
جعلها سببًا لما يريده، وأمَر الخادم أن يتلطَّف في ابتياعِ ما تهيَّأ له مما قدَّمْنا
ذِكْره وقدَر عليه، وخرج الخادم ووصل إلى ملك الروم وأدَّى الرسالة، وأُنزِل في دارٍ
فُرشت
له وبلغ في إكرامه كُل مبلغ، وجعَل يلتمسُ شراء كُل ما يُمكِنه بضِعْف ثمنه المبيع منه،
فاشترى ما حصل له منه وِقْر بغل لم يُمكِنه أكثر منه.
فأجاب ملِكُ الروم المستعينَ عن رسالته، وحمَل إليه هدايا حسانًا، وخلَّص الخادمُ
ذلك
البغلَ المُحمَّل ذلك المتاع بالحِيلة، على محلِّه من أمير المؤمنين في حَملِه ما حمل
معه،
وخرج حتى حصَل بطرَسوس
١٠ وخرج مع القافلين وفيهم أحمد بن طولون.
ومِن رَسْم الغزاة أن يسيروا متفرِّقين مثل العُقْبان، فنظَرَت الأعرابُ شيئًا من
سوادهم
١١ في بعض المواضع فأخذوه، ووقعَت الصيحة، وجاء النذير إلى الطائفة التي فيها أحمد
بن طولون .. فكان أوَّل من انتدَب، وحَضَّ على القتال والذهابِ خلْف الأعرابِ إلى حيث
قصَدوا، وسار يريدهم، فلمَّا رآه الباقون اتَّبعوه، فكان أوَّل من لَحِق بالأعراب، ووضَع
فيهم السيفَ ورمى بنفسه عليهم وحذَفهم بالنُّشَّاب، وكان حَسَنَ الرمي لا يُخطئ شيئًا،
فخلَّى الأعرابُ عن جميعِ ما أخذوه ونجَوا بأنفُسِهم على خُيولِهم.
وكان فيما أخذَه الأعراب البغل المُحمَّل ذلك المتاع الذي لم يُوصَل إليه إلا بالحيلة،
وكانت نَفْس الخادم قد كادت أن تخرج لذلك؛ خوفًا على فَوْت ما أمَّله من جائزة أمير
المؤمنين، ولِمَا لَحِقه من التعب والمخاطرة قبل أن وصل إليه، ولمَّا سلِمَ سكَن رُوعُه
ورجع إليه عقلُه بعد أن كاد يزول.
وعَظُم أحمد بن طولون في عينه وقلبه، وصار له كالعبد، وكَبُر في قلوب أهل القافلة،
فلمَّا
وصلوا إلى العراق أَحضر الخادمُ ذلك المتاع إلى المستعين، فاستحسَنه وسُرَّ به كلَّ السرور،
فذكَر له الخادمُ ما عاناه في أمره قبل الوصول إليه، وقال له: وأعظَم ما جرى يا مولاي
أنه
لمَّا حصل وسَلِم إلى طرسوس، وقفَلتُ مع الناس، خرج علينا الأعراب فأخذوه، فلولا أنَّ
الله،
جلَّ اسمُه، مَنَّ عليَّ بغلامٍ من غلمان مولاي أمير المؤمنين يُعرف بأحمد بن طولون؛
فإنه
أول مَنِ انتدَب وخرج إليهم، وحصَّلَه وجميعَ ما أخذوه، لقتَلتُ نفسي أسفًا على
فواته.
فازداد به المستعين سُرورًا، وأمر في الوقت لأحمد بن طولون بألف دينار، وقال للخادم:
امضِ
أنت بها إليه سرًّا، وأقرِئه مني السلام، وقل له عني: لولا خوفي من أن يُعلم محلُّه من
قلبي
فيُحسَد ويُقْتل لبلَّغتُه أفضل مراتبِ أمثاله، وإذا هو دخل إليَّ في المسلِّمين
فأرِنِيه.
فأوصَل إليه الخادمُ المال، وعرَّفه الرسالة، فحمِدَ الله، عز وجل، على ذلك.
فلما كان يوم السلام، ودخل مع الأولياء، غمز الخادمُ المستعينَ عليه حتى رآه، فأشار
إليه
المستعينُ بالسلام، ولم يزَل يفعل ذلك كلما دخل إليه في المسلِّمين، ويوجِّه إليه بالصِّلة
الوافرة في كل وقت، دفعةً بعد دفعة، حتى حسُنَت حاله بذلك، ووَهَب له جاريةً اسمها مياس،
فوَلدَت له أبا الجيش في النصف من المحرَّم سنة خمسين ومائتَين.
ولمَّا كان من أمر المستعينِ ما كان من تنكُّر الأتراك عليه، واستقرَّ الأمر بعد
ذلك على
أن يصير المعتَز على الخلافة ويُنفى المستعينُ إلى واسط
١٢ مع رجلٍ يُختار له، يُوثَق بدينه وأمانته، وترضى به الأتراك، ويأمنه على نفسه،
وقع اختيارهم على أحمد بن طولون، فسُلِّم إليه ومضى به إلى واسط، وأحسن عِشْرة المستعين
وشَكَر له ذلك الجميل في أمره، فأطلق له التنزُّه والصيد. وكَرِه أحمد بن طولون أن يلحقَه
منه احتشام، فألزمه أحمد بن محمد الواسطي كاتبه، وكان يومئذ غلامًا جريئًا، حَسَن الشاهد،
حاضر النادرة، فأنِس به المستعين غايةَ الأنْس، وشكر لأحمد بن طولون ما يأتيه في أمره،
ولم
يألُ أحمد بن طولون حرصًا في خدمة المستعين وتَوفيةِ حقِّه.
فلمَّا تمَّت البيعة للمعتز وخُلِع المستعين أُنفِذ إليه أهلُه وولدُه، فأقام بواسط
مدة،
واجتمع غلمان المتوكِّل، وقالوا: نخاف من كيدٍ يلحق المعتز من المستعين، فصاروا إلى قبيحةَ
أمه، فعرَّفوها ذلك وخوَّفوها منه، وقَوِي الخوف في نفسها فاضطَربَت له، فعزمَت على قتلِه،
فحضَر الأولياء وتشاوَروا في ذلك فأشاروا به، فكتبَت قبيحةُ أم المعتز إلى أحمد بن طولون:
«إذا قرأتَ كتابي فجِئني برأس المستعين وقد قلَّدتُّك واسط.» فلما وصل الكتاب إليه اغتمَّ
غمًّا عظيمًا، وكتَب إليها يقول: «والله لا يراني الله، عز وجل، أقتُل خليفةً له في رقبتي
بيعةٌ وأيمانٌ مغلَّظة أبدًا.»
فلمَّا ورَدَ كتابُه بذلك زاد به في قلوب الأتراك محلًّا كبيرًا، ووسَموه بحسن التوقُّف
وجميل المذهب، وأَحسَن أحمدُ بن طولون في ذلك وأجمل، رحمه الله. كما أمَر الحجَّاج بن
يوسف
رجلًا من التابعين بقتل رجلٍ اتُّهم بما أراد قتلَه بسببه فامتنع وقال:
ولستُ بقاتل رجلًا يصلِّي
على سلطان آخرَ من قُريشِ
له سلطانُه وعليَّ إثمي
معاذَ الله من جهلٍ وطَيشِ
إذا طاوعتُه وعصيتُ ربي
فما فَضْلي هناك على قُمَيْشِ
وكان قُمَيشٌ هذا رجلًا خليعًا ماجنًا ماردًا.
ووجَّهوا إلى أحمد بن طولون لمَّا امتنع من قتله بسعيد الحاجب، وكتبوا إليه ليُسلِّم
المستعين إليه، وينصرف عن واسط إلى سُرَّ مَنْ رأى، ففعل ذلك، وأحمدَ الناسُ كلُّهم فِعلَ
أحمد بن طولون، وشَكَره عليه الخاص والعام.
حدَّث أحمد بن محمد الواسطي وقال: وكنتُ مع المستعين بالله على الرَّسْم، فرأينا
غَبرةَ
خيلٍ قد أقبلَت، فأنفَذ غلامًا له يركُض ليعرفَ له خبرها، فعاد وقال: هو سعيد الحاجب.
فاصفرَّ لونه ووجِم،
١٣ فقال لي: يا أبا عبد الله، أنا أستودعك الله، هذا جزَّار بني هاشم قد جاءني،
فحِرْتُ وجزِعْتُ، وعُدنا جميعًا.
ووافى سعيد في أثَرنا، فأوصل إلى أحمد بن طولون الكتاب، فأحضَر قاضيَ واسط والشهود،
فأشهدَهم على تسليمه إياه سليمًا، فتَسلَّمه وأخرجه من وقته إلى الصحراء، وضَربَ له خيمةً
فأدخله إليها، فأقام سُوَيْعة وخرج، وألقى الخيمة عليه، ورَكِب من وقتِه دابَّتَه، وسار
راجعًا.
فلمَّا بَعُد أتينا الخيمة فرفعناها، وأحمد بن طولون معي، فإذا بجثة المستعين مطروحة
على
الأرض، وقد صَرعَه وأخذ رأسه ومضى، فأقبل أحمد بن طولون يبكي وينتحب عليه، كما تبكي
الثَّكْلى، وأنا معه كذلك؛ لِمَا وَرَد على قلبه منه، ولم يزل قائمًا على رجليه حتى غُسِّل
وكُفِّن وصلَّينا عليه وواريناه، ورحل إلى سُرَّ مَنْ رأى.
ووافق دخولُه سُرَّ مَنْ رأى تقليدَ باكباك مصر، والتماسَه من يخلُفه عليها، فقيل
له أحمد
بن طولون؛ الثقة، الأمين، الحبْر، الديِّن، الخيِّر، فقلَّده خلافتَه، وضمَّ إليه
الجيش.
ورَحَل إلى مصر فدخلها يوم الأربعاء لسبعٍ بَقِينَ من شهرِ رمضانَ سنة أربع وخمسين
ومائتَين مقلدًا للقصبة دون غيرها من الأعمال الخارجة عنها، مثل الإسكندرية وغيرها، ودخل
معه أحمد بن محمد الواسطي، وكان خليطًا به جدًّا، وأبو يوسف يعقوب بن إسحاق، كان الوزيرُ
قد
قَرنَه به.
فحدَّثَني شيخٌ من شيوخنا قال: جلستُ في بعض الدكاكين الشارعة
١٤ مع الناس، لننظر دخولَ أحمد بن طولون البلدَ وترتيبَه، وكان معي في الدكان رجلٌ
مكفوف يُعرف بأبي قبيل
١٥ صاحب الملاحم، فسألَه رجلٌ كان معنا عما يجدُه في كتبهم، فقال: هذا رجلٌ نجد
صفتَه كذا وكذا، ويتقلَّد البلد هو وولده قريبًا من أربعين سنة، فما تمَّ كلامُه حتى
أقبل
أحمد بن طولون، فكانت صفتُه كما وصَف في صورته وشمائله، لم يغادر منها شيئًا، وكانت مدة
الطولونية ثماني وثلاثين سنة.
ودخل أحمدُ بن طولون مصر، وكان على خَراجها أحمد بن محمد بن مدبَّر، وكان من دهاة
الناس،
وشياطين الكُتَّاب والعمال الأجلاد؛ فحسبُك أنه ابتدَع بمصر بدعًا صارت سننًا إلى اليوم
لا
تُنقض. ولقد حَرصَ أبو الحسن علي بن عيسى بن الجراح عند دخوله مصر أن ينقض شيئًا منها
فما
تهيَّأ له، على صناعته ودهائه بين الوزراء الذي كان هو باركهم،
١٦ فمما ابتدعه بمصر: النَّطْرون، وكان مباحًا لجميع الناس بمصر، فصيَّر لهم
ديوانًا مفردًا، وعاملًا جلْدًا يحظُر على الناس أن يبيعوه أو يشتروه إلا من جهته.
والمراعي، وهي الكلأ المباح المطلَق التي أنبتَها الله، عز وجل، لعباده ترعاها بهائمهم.
والمصايد، وهي ما أطعم الله، جل اسمه، من صَيد البحر.
فلمَّا احتَشَم ابن مدبَّر من ذكر المصايد وشناعة القول فيها، أمر بأن يُكتب في الديوان:
خراج مَضارِب الأوتاد ومَفارِش الشِّباك وغير ذلك بمصر، وله بالشامات
١٧ أمثالُ هذا.
فحين دخل أحمدُ بن طولون أهدى إليه ابن مدبَّر هدايا حسنة، قيمتُها عشرة آلاف دينار.
وكان
ابن مدبَّر خرج لتلقِّيه عند دخوله ومعه شقير الخادم
١٨ وكان صاحب البريد
١٩ يومئذٍ بمصر، وهو غلامُ قبيحةَ أمِّ المعتز المعروف بأبي صحبة، فلمَّا تلقَّياه
وسلَّما عليه بشَّ بهما، وأحسَن مخاطبتَهما.
ونظر بين يدَي أحمد بن مدبَّر مائة غلامٍ من مولَّدي الغُور
٢٠ قد انتخبَهم وجعلَهم عُدَّة وجمالًا، وكان لهم خَلْقٌ حسَن وطُولُ أجسامٍ وبأسٌ
يُعرفون به شديد، وعليهم الخفاتينُ
٢١ والأقبيةُ والمناطقُ الثِّقال العِراض، وبأيديهم مقارعُ تامَّة غِلاظ، على كل
طَرَفٍ من أطرافها فضةٌ مُقمَّعة بها، وكانوا يقفون في حافَتَي مجلس ابن مدبَّر إذا جلس،
وإذا ركِب كانوا بين يدَيه، فكانت له بهم هيبةٌ عظيمة في صدور الناس إذا رأَوْهم.
فلمَّا أهدى إلى أحمد بن طولون الهديةَ التي قدَّمنا ذِكْرها ردَّها ولم يقبَلْها،
فقال ابن مدبَّر:
٢٢ إن هذه لهمَّة عظيمة، ومَنْ كانت هذه همَّتَه فغيرُ مأمونٍ على طَرفٍ من
الأطراف، وكان في ابن مدبَّر دهاءٌ عظيم ورياءٌ كبير، فخافه
٢٣ وكَرِه مُقامَه معه في البلد، فاجتَمع مع شقير صاحب البريد على أن يكتُب فيه
إلى أميرِ المؤمنين بما يُقدِّران به إزالتَه.
فلمَّا كان بعد أيام كتب أحمد بن طولون إلى ابن مدبَّر: «قد كنتَ، أعزَّك الله، أهديتَ
لنا هديةً وقع الاستغناء عنها، فلم نُجِز تغنُّم
٢٤ مالِك، كثَّره الله، فردَدْناها توفيرًا عليك، وأُحِبُّ أن تجعل العِوضَ منها
الغلمان الذين رأيتُهم بين يدَيك؛ فأنا إليهم أحوجُ منك.» فقال ابن مدبَّر: هذه أخرى
أعظمُ
مما تقدَّم قد ظهرَت من هذا الرجل، كيف آمنُه إذا كان يردُّ الأعراض والأموال ويَستَهدي
الرجال ويستأثر عليهم؟ ولم يجِد ابن مدبَّر بدًّا من أن يبعثَهم إليه، فتحوَّلَت هيبتُه
إليه، ونقصَت هيبتُه هو بمفارقتهم مجلسَه، وزال جمالُهم له بين يدَيه في ركُوبه، وكتب
بخبره
إلى الحَضْرة. ونمى الخبرُ إلى أحمد بن طولون، فأسرَّه في نفسه ولم يُبْدِه، فأقام أحمد
بن
طولون أيامَ المعتز، فلمَّا مات وجلس المهتدي بالله كان في نفسِه على باكباك ما بعثَه
على
قَتْلِه إياه، وردَّ جميع ما كان له وفي يده إلى يارجوخ التركي. وكان بين يارجوخ وبين
أحمد
بن طولون أجملُ مما كان بينه وبين صاحبه باكباك، لِمَا قدَّمنا ذِكْره من تزويجه ابنتَه
من
زوجته التي كان المتوكل أزوجه إياها، وكانت من جواريه، وكان لها محلٌّ وجلالةُ خطر، فكان
يارجوخ من أكبر عُدَد أحمد بن طولون.
فلما حصلَت مصر ليارجوخ في جُملة ما حصَل له من أمور باكباك، كتَب إلى أحمد بن طولون
يعرِّفه ما جرى ويقول: تسلَّم من نفسِك لنفسِك. وزاده جميعَ الأعمال الخارجة كانت عن
مصر.
وكتب إلى إسحاق بن دينار
٢٥ وهو متقلِّد الإسكندرية بتسليمها إلى أحمد بن طولون، وعظُمَت منزلتُه ووَرَد
على ابن مدبَّر ما زاد في قلَقه وغمِّه، ودعَته الضرورةُ والخوفُ منه إلى ملاطفَته
والتقرُّب من قلبه.
كان موسى أخو أحمد بن طولون رجلًا فيه خير، فلمَّا حصلَت الإسكندرية لأخيه، وهي بلَد
ثَغر، أحَب المُقام بها، فسأل يعقوبَ أبا يوسف الكاتب، الذي كان ضمَّه الوزير إلى أحمد
بن
طولون عند رحيله إلى مصر أن يسأل أخاه في تقليده إياها، وكانت بينه وبينه مودَّة، فقال
له:
ابتَدِئ أنت بالقول وأنا أكفيك إذا خلوتُ به، فخاطب أخاه على مَضَضٍ منه؛ لأنه كان لمَّا
قَدِما البلد أمَر فيه ونهَى كما
٢٦ يفعل الأخ الشقيق [مع الشقيق] فثقُل ذلك على أخيه، حتى إنه قصد قومًا كان أخوه
يعتني بهم بالأَذِيَّة.
وأمسك موسى عما كان يعملُه ويحملُ مسألته، فيخرج من البلد ولا يكون معه فيه لما بيَّنتُه،
فلمَّا سألَه ردَّ عليه ردًّا ضعيفًا فأغضَبه ذلك، فقال له: تالله لقد أيِستُ منك ومن
مَرتَبة أنالُها بك في الدنيا، وإنما طلبتُ هذا البلد؛ لأنه ثغرٌ من الثغور، اخترتُ المُقام
فيه والتعبُّد، فوعدَه بتقليده إيَّاه.
وكان أحمد بن طولون يتوقَّع من يارجوخ إنفاذه إليه الكُتبَ بولاية الثغور الشامية،
وقد
رشح أخاه موسى لتقليده إياه طَرَسوس؛ فإنها أجلُّ مما طلَب منه، وأسَرَّ ذلك إلى أن تَرِد
الكتب به عليه، وأراد أحمد بن طولون بولاية أخيه طَرَسوس إحياء ذكره بالثغر؛ لأنه كان
أغلبَ
البلدان على قلبه محبة وآثَرَها عنده.
وعزَم أحمد بن طولون على الخروج إلى الإسكندرية لمُشاهدتِها وتسلُّمها، فسأل موسى
أبا يوسف الكاتب معاودةَ أخيه في أَمرِها له حسب ما وعدَه، فخاطَبه في ذلك فوعدَه أيضًا.
وخرج أحمد بن طولون إليها مرابطًا فرِحًا بما حَصَل له منها؛ لمحبِّته الثغورَ لا غير،
وكان
ذلك في سنة ست وخمسين ومائتَين.
فحدَّث الواسطي أحمد بن محمد كاتبُه عنه أنه قال لما وردَت عليه الكتب بردِّ الأعمال
الخارجة إليه: الحمد لله كثيرًا. وقال: تَركْنا لله، عز وجل، شيئًا واحدًا عوَّضَنا منه
أشياءَ أعظمَ منه وأجودَ وأحمدَ عاقبة، كانت نهاية ما وُعِدنا به على قتل المستعين بالله
تقليد واسط، فخِفنا الله، عز وجل، في قَتلِه فلم نقتُله، فعوَّضنا، جلَّ اسمُه، مصر
وغيرها.
فلمَّا قَرُب من الإسكندرية تلقَّاه إسحاق بن دينار، وقد كان وقَف على ما جرى، وتوقَّع
صرفه عنها، فخرج إليه حتى لَقِيَه بأبعدِ المواضع، فلمَّا رآه ترجَّل له، وأعطاه بحق
الرياسة عليه، فأحشم
٢٧ ذلك منه أحمدَ بن طولون وكان حَيِيًّا رقيق الوجه، فاستحيا منه أن يصرفَه عن
البلد، فأقرَّه عليه.
وجعل موسى يترقَّب من أخيه إنجازَ وعده له، فلمَّا طال ذلك سأل أبا يوسف أيضًا المسألة،
وقال له أبو يوسف: أيَّدَ الله الأمير، أخوك منتظر لوعدك، فقال له: ويحك قد كان ما وعدتُ
به، وتالله إني لآمُلُ له ما هو أجلُّ منه، وقد ترى ما صنَعه هذا الرجل معنا من الجميل،
على
محلِّه أيضًا في نفسه، ولا والله ما يحملُني وجهي أصرفُه عن عمله، فتلطَّف لي في أن تَصرِف
رأي أخي عن هذا الأمر، وقل له: إن أخاكَ يرشِّحُك إلى ما هو أجَلُّ من هذه المدينة، واحذَر
أن تُطلِعَه على شيءٍ مما ذكرتُه لك من أمر ابن دينار. فلمَّا سأله موسى عن الجواب عرَّفَه
أن أخاه يرشِّحُه لما هو أجلُّ مما طلَبه فلم يَثْنِه ذلك وقال: ما أريد سوى هذه المدينة،
وهي أحبُّ إليَّ من كل ناحيةٍ جليلة. فلمَّا رآه أبو يوسف لا ينتهي عنها كشَف له الخبر،
لِمَا كان بينه وبينه من الموَدَّة، ولأنهما كانا يجتمعان على التعجُّب من مصادر أمور
أحمد
بن طولون ومواردها، وأن الحظ قد عمل له ما لم يقدِّره، حتى إنه قد حسَّن قبيحَه، وأصلَح
رديئَه.
فاغتاظ موسى مما حكاه له أبو يوسف، وصار إلى أخيه وقال له: بخِلتَ عليَّ بما لا مشقَّة
عليك فيه. وخاطَبه بدالَّة الأُخوَّة بكلامٍ فيه غِلَظ بحضرة الناس إلى أن قال له: ما
أحسبُكَ تخرج من الدنيا سالمًا؛ لقطعِك لرحمِك وسوءِ نيتِك وتفضيلِك غلمانَك ومَنْ تختاره
بسوء رأيكَ على أقربِ الناسِ منك، فلعَن الله جوارَك وأراحَني منه. فأمَر به فبُطح، وضربه
بيده مقارعَ يسيرة. فعاتب الناس موسى على ما خاطَب به أخاه، وقالوا له: ليس أخوك اليومَ
هو
الذي تعهدُه وتعرفُه، فوفِّه حقَّ الرياسة، واطرح دالَّة الأُخوَّة. فلم يقبَل، وكان
فيه
لجاجٌ وكِبرُ نفسٍ، فراسلَه في أن يكتب له جوازًا ليَخرُج عن البلد، فتغنَّم ذلك أحمد
بن
طولون منه ليُربح قلبه منه ومن دالَّته عليه، فكتب له الجواز وأمر له بمالٍ كثير فلم
يقبَلْه، وخرج غضبان إلى طَرَسوس، فقبض أحمد بن طولون على أبي يوسف وقال له: أظْهرتَ
لأخي
ما أمرتُكَ بستره عنه، فأوحشتَ بذلك ما بيني وبينه. وأنفذه من الإسكندرية إلى المُطبِق
٢٨ بمصر.
وكان أحمد بن عيسى بن شيخ الشيباني يتقلد جندَي فلسطين والأردن، فلما مات توثَّب ابن
شيخٍ
عليهما، وقال: هي من عملي. وحمل أحمد بن مدبَّر مالًا إلى السلطان من مصر مبلغُه سبعمائة
وخمسون ألف دينار، فقبض أيضًا عليه ابن شيخ، وقال: إنا نحتاج إليه للرجال. ففرَّقه في
أصحابه. وبلَغه اضطرابُ الأمور بالحَضْرة فقَويَت شوكتُه، فجمع الجموع، وقَوِي طمعُه
في
التغلُّب على الشامات بأَسْرها. وشيَّع الناس، لِما رَأوا من قوة أمره أنه على أن يتغَّلب
أيضًا على مصر، وأنه مُجِدٌّ في ذلك.
فأنفذ المهتدي بالله حسينًا الخادم المعروف بعَرَق الموت
٢٩ ومعه الكُريزي وأبو نصر المروزي
٣٠ الفقيهان، ومعهما عهدٌ على أنه إن رد ابن شيخٍ المالَ الذي أخذَه وحمل ما وجب
عليه عما كان يتقلَّده، وانصرف عن الشامات سلَّما العهدَ إليه وانصرفا عنه، فإن لم يفعل
لم
يُسلِّما العهد إليه وكاتَبَا بخبره ليدبِّر أمره بما يجب.
فلمَّا ورَدَا عليه وخاطباه في ذلك، احتجَّ في المال بأنه قد استُهلِك على الرجال،
ثم لم
يجِبهما إلى شيء مما يُحبونه، ووَرَد الخبر بقتل المهتدي وجلوس المعتمد فلم يَدعُ له
ابنُ
شيخ، ولا أخذ له بيعةً على أصحابه، وأراد أن يُوهِمَهما بذلك منه، فبلغ منهما فعله، واستعمل
حسين الخادم مُداراته، بأنْ دفع إليه عهده على أرمينية حتى أقام الدعوة للمعتمد وأخذ
له
البيعة، وعَمِل ابنُ شيخٍ على أن يستخلف على أرمينية ولا ينصرف عن أعماله، وتخلَّص حسين
الخادم والكُريزي والمروزي منه بما فعَلوه، وعادوا إلى بغداد فعرَّفوا المعتمد ما كان
من
ابن شيخ.
وكتَب إلى أحمد بن طولون يأمُره بأن يتأهَّب للخروج إلى ابن شيخ، وأمَرَه أن يزيد
في
عُدَّته، وكتب إلى ابن مدبَّر أن يُطلِق له من المال ما أراد لذلك، فتَبعَهما أحمد بن
طولون
فعرض الرجال، وأثبت من يصلُح إثباتُه، واشترى العبيد رومًا وسُودانًا، وجدَّد آلتَه وكل
ما
يحتاج إليه، وخرج وراسَل ابنَ شيخٍ بقيسِ بن حفص كاتبِ بكار بن قُتيبة وبأحمد بن يحيى
السرَّاج، وجعلَهما معذرةً بينه وبينهم قبل إيقاع الحرب، [وأوعز] إليهما بأن يدعُواه
إلى
طاعة السلطان وردِّ ما أخذَه من ماله المحمول كان من مصر، فأجابه بجوابٍ قبيح، فلقياه
بالجواب وقد نزل بالعباسة
٣١ فوَرَد الخبر عليه بأن المعتمد قد أنفذ أيضًا إلى ابن شيخٍ بغلام من غلمانه
يُعرف بماجور الإفرنجي.
٣٢ وأقام أحمد بن طولون بموضعه إلى أن يعلم ما يكون من ماجور مع ابن شيخ، فلمَّا
قرُب ماجور من دمشق أنفذ [عيسى بن شيخ] إلى ماجور ابنه منصور، وكان من الشجعان الفرسان،
وبخليفته، وبجماعة من فرسان عسكره، فوافَياه في جيشٍ كثيف، وأمرهما أن يمنعاه دخوله دمشق
وأن يُحارباه، فالتقى العسكران فأوَّل مَنْ قُتِل منصور بن شيخ وجماعةٌ من وجوه أصحابه
وأُسِرَ خليفتُه، فضرب ماجور عنقه وصَلَبه مع منصور، وانهزم سائر عسكرهم ولم ينجُ منهم
إلا
ذو فرسٍ جوادٍ عتيق.
ودخل ماجور دمشق عزيزًا مظَفرًا، فلما اتصل الخبر بابن شيخ وقتلِ ولدِه وخليفتِه
وصناديدِ
عسكره، انخزل وفتَّ ذلك في عضُدِه،
٣٣ وانكسَرَت نفسه، وضاقت به الشامات، فرحَل عنها على طريق الساحل يريد أرمينية،
وبلغ خبره ماجور فوجَّه بمَنْ قبض على أعمالِه كلها، واستخلَف عليها خُلفاء من قِبَله،
وتقلَّد أعمال الشامات كلها، وذلك في سنة سبع وخمسين ومائتَين.
وعاد أحمد بن طولون إلى مصر وقد استكثر من العبيد والرجال
٣٤ والآلات، فضاقت به داره، وكان هو والأمراء مِن قَبْله يسكنون في الدار التي
تُعرف إلى اليوم ببلد الإمارة التي لها بابان؛ أحدهما بالحارة المعروفة بحوض أبي قديرة،
والمعروف إلى اليوم بباب الخاصة، وبابها الآخر الملاصق للشرطة الفوقانية، وكان باب الشرطة
أيضًا أحد أبوابها، وكانت كلُّها دارًا واحدة ولها بابٌ إلى المسجد الملاصق للشرطة، وكان
يجمع فيه الجمعة، وفيه منبرُه ومقصورتُه إلى اليوم، وإنما فُرِّقت هذه الدار حُجَرًا
بعد
دخول محمد بن سليمان البلد، وبعد انحلال أمر آل طولون، وكانت في أيام هارون بن خُمارويه
قد
صُيِّرَت ديوانًا للخَراج.
فركِب أحمد بن طولون إلى سفح الجبل فاختطَّ فيه قصرًا، وأمر أصحابه وغلمانه وتُبَّاعه
أن
يختطُّوا لأنفسهم حوله وما قرُب منه؛ فاختطَّ الناس وبنَوا حتى اتصل البناء بعمارة البلد،
وهي هذه الدور الشارعة من حد قيسارية بدر إلى سوق الدواب.
واتصل البناء والعمارة من الجانب الآخر إلى أن جاوز المدينة ثم قُطِّعَت القطائع،
وسُميت
كل قطيعةٍ باسم منْ يسكنها، فكانت للنوبة قطيعةٌ مفردة تُعرف بهم، وللروم قطيعةٌ أخرى
وللفرَّاشين قطيعةٌ مفردة، ولغيرهم من كل صنف من الغلمان، وبنَى القُوَّاد مواضعَ متعددة،
فعمرَت عمارةً حسنة تفرَّقت فيها السكك والأزقَّة، وبُنيَت فيها المساجد الحسان والطواحين
والحمَّامات والأفران، وسُمِّيت أسواقها فسُمي منها سوق العيَّارين
٣٥ يجمع فيه البزَّازين والعطَّارين وسوق الفاميين
٣٦ [يُجمع] فيه الجزَّازين والبقَّالين والشوَّائين، وكان في دكاكين الفاميين جميع
ما في دكاكين نظرائهم في المدينة وأكثر وأحسن، وسوق الطبَّاخين [يُجمع] فيه الصيارفة
والخبَّازين وأصحاب الحَلْواء، ثم لكل صنفٍ من جميع الصنائع أفرَد له سوقًا حسنًا عامرًا
نبيلًا صيِّنًا.
فكانت هذه المدينة أعمَر من مدينةٍ كبيرة من مدن الشام وأكبر وأحسن.
وبنى قصره ووسَّعه وحسَّنه وبنى فيه ميدانًا حسنًا يُضرب فيه بالصوالجة،
٣٧ فسُمِّي القصر كله الميدانَ من أجل الميدان، فكان كل مَنْ أراد الخروج من صغيرٍ
أو كبيرٍ سُئل عن ذهابه فيقول: إلى الميدان. وعمل له أبوابًا وسُمِّي كل بابٍ منها باسْم؛
فمنها باب الميدان ومنه كان يدخل ويخرج معظم الجيش، وسُمِّي باب الصوالجة، وباب الخاصة
لا
يدخل منه إلا خاصَّته، و[ما] كان مما يلي المقطَّم سمي باب الجبل، وبابٌ للحرم ولا يدخل
منه
إلا خادم أو حُرمة، وباب سُمِّي باسم حاجبٍ كان يجلس عليه يقال له: الدرمون؛
٣٨ لأنه كان رجلًا أسودَ عظيم الخَلْق، وقُلِّد النظر في جنايات الغلمان السُّودان
والرَّجَّالة خاصةً فسُمِّي باب الدرمون، وبابٌ آخر سُمِّي باسم حاجبٍ كان عليه يُقال
له
دعناج، وبابٌ عُمِل من خشب الساج سُمِّي باب الساج، وبابٌ في الشارع الأعظم كان يخرُج
منه
إلى الجامع الذي بناه فسُمِّي باب الصلاة، وصَوَّر عليه سَبُعَين من جِبْس. وهذا الباب
قائمٌ بحاله إلى اليوم وهو يُعرف بباب السباع أيضًا في أول سوق الدواب. وكان الطريق الذي
يعرُج منه الفاصل إلى قصره طريقًا واسعًا، ولم يكن يكتنفُه بابٌ واحد ولا بابان فقطعه
بحائط
وعمل فيه ثلاثةَ أبوابٍ كأكبر ما يكون من الأبواب، [وكانت] الدروب متصلةً كلها واحد إلى
جانب واحد، يفرق بين الناس الركن الذي ينصَفِق إليه الدرب.
فكان إذا ركب أحمد بن طولون لعيد أو لغيره يخرُج عسكَره منه متكاثفَ الخروج، على حُسن
ترتيبٍ بغير زحمة، ويخرج هو من الباب الأوسط منها، لا يختلط به أحد، فتلك السكَّة إلى
اليوم
تُسمَّى ثلاثة أبواب. ومن هذه الأبواب واحدٌ قائم إلى اليوم، ودخل البابان الآخران بعدهما
في بناء الناس لمَّا انقضَت أيامُهم وخَربَت القطائع.
وكانت أبواب قصره، التي سمَّينا قبل هذا، تُفتح بعد عرض الجيش أو يوم صدقة، وسائر
الأيام
تُفتح على ترتيب في وقت وتُغلق في وقت، وكان له في قصره مجلسٌ يُشرِف منه يومَ العرض
ويومَ
المساكين، فينفُذ منه مَنْ يدخل إلى جنب الخارج، فكانوا يَرِدون من باب الصوالجة ويصدُرون
من باب السباع.
وبنَى على باب السباع مجلسًا يُشرِف منه ليلة العيد على القطائع، فيرى اضطراب الغلمان
في
تأهُّبهم وتصرُّفهم في حوائجهم، على مقدار كل واحدٍ منهم، فإذا شاهد من واحدٍ منهم يسيرًا
من الاختلال أمر له في الوقت بما يتسع به ويزيد في جماله، وكان يُشْرِف منه أيضًا على
البحر
وعلى باب المدينة وما والاهما، وكان متنزَّهًا حسنًا.
وكان يُصلِّي الجمعةَ في المسجد القديم الملاصق للشرطة، فلمَّا ضاق عنه بنَى الجامع
الجديد بما أفاء الله عليه من المال الذي وجدَه فوق الجبل في الموضع المعروف بتنُّور
فرعون،
ومنه بنَى العينَ المعروفة بعين أُبي بن خليد، وتولَّى بناء العين والجامع رجلٌ نصراني
حاذق
بالهندسة. ونحن نأتي بخبره إن شاء الله.
واتسعَت أحوالُه بعد فراغه من بناء الجامع، وكثرت إصطبلاته لكثرة كُراعه، وعظم صوته،
فلما
بلغ ماجور خبرُه خافه وهابه وكتب إلى الحَضْرة يقول: «أما بعدُ، فإنه قد اجتمع لأحمد
بن
طولون أكثر مما كان يجتمع لأحمد بن عيسى بن شيخ، والخوفُ منه أكثر؛ إذ كان فيه من الفَضْل
ما ليس في أحمد بن شيخ.» وكَتَب أيضًا أحمد بن مدبَّر وشقير الخادم صاحبُ البريد بمثل
ذلك،
فكتب [الخليفة] إلى أحمد بن طولون: «أما بعدُ، فإنا رأينا أن نرُدَّ إليكَ أمر دارنا
بالحضرة وتدبير مملكتنا، فإذا قرأتَ كتابنا هذا فاستخلِفْ على قصرك
٣٩ مَنْ أحبَبْت، والبلدُ لك وباسْمِك، واشخَص إلينا لِمَا ندبناك إليه، ورأيناك
أهلًا له، والسلام.»
فلمَّا قرأ أحمد بن طولون الكتاب عَلِم، بما فيه من الدهاء والذكاء والعقل وحَزْم
الرأي،
أنها حيلة تُوقَّع عليه، فأنفَذ كاتبه أحمد بن محمد الواسطي إلى الحضرة، وحمل معه مالًا
كثيرًا إلى الوزير، وكان يومئذ الحسن بن مَخْلَد، وحمَل إليه مع المال كل شيءٍ حسنٍ غريب،
من دِق
٤٠ تِنِّيس ودمياط، ومن الخيل والبغال وغير ذلك ما يجوز الوصفَ حُسنًا ومقدارًا،
وسألَه أن تشملَه عنايتُه في أن يطلق له ولدَه وحُرمَه، وكتب إلى يارجوخ صاحبه بما كتَب
به
إليه، وعرَّفه ما كاتَب به الوزير وسألَه مسألته في أمره، وحمل أيضًا إلى يارجوخ مالًا
ومتاعًا، فلمَّا وصل كتابُه إلى الوزير وما حملَه معه، قال لكاتبه: «لن نُزعِجَه عن عمله،
ولا يُقبل فيه قول ساعٍ سعى فيه.» وركِب إليه يارجوخ فسألَه فأجابه إلى إنفاذ ولده وحرَمه،
وأقرَّ ولدَه في عمله وركِبَا إلى أمير المؤمنين فأحسنا القول فيه، وصغَّرا ما كتب به
ماجور
وابن مدبَّر وصاحب البريد، فأمر بتثبيت يده في عمله، فكتب إليه الوزير ويارجوخ بذلك،
وأطلَق
له حُرَمه وولده فحملهما كاتبه إليه، ووافاه وقد بلغ له ما يُحبه.
فلمَّا ورد كتاب الوزير بذلك عليه سرَّه غاية السرور، وتصدَّق من وقته بصدقاتٍ جليلة
كثيرة، وحمل إليه الوزير أيضًا هدايا حِسَانًا ومالًا كثيرًا، وكتب إليه يشكُر ما كان
من
تَطوُّله عليه، واستدعى منه أن ينفذ إليه كُتُبَ مَنْ يكتُب فيه من العمال بمصر وأهل
البلد،
فلِمَا ملَك به قلب الوزير وملأ به عينه بعثه على أنْ أنفَذ إليه ما استدعاه، فأنفذ إليه
كتاب شقير صاحب البريد بمصر يقول له: «إن أحمد بن طولون على التغلُّب على مصر والعصيان
بها.» ثم أنفذ إليه كتبًا من ابن مدبَّر بمثل ذلك.
فأحضر أحمد بن طولون شقيرًا الخادم راجلًا من داره وتقدَّم بأن يُتعتع
٤١ ويكِدَّ في عَدْوِه من داره بمصر إلى الميدان، وكان شقير الخادم مبدَّنًا
مرفَّهًا، وقصَد أحمد بن طولون لعلمه بذلك منه أن يقتُلَه التعَب، فلم يصل إليه إلا وقد
كادت نفسُه تخرج، فلمَّا مثَلَ بين يدَيه أمر بأن تُحضر السياط والعقابان
٤٢ فأُحضِرا، وأمر بشَدِّه في العُقابين وغفَل عنه، فاستغاث ساعة، وسقطَت قُوَّته
ووقَع، وتبيَّن فيه الموت فلم يُضرب، وأمر بردِّه إلى داره راكبًا، فلمَّا حَصل فيها
مات
آخر نهار يومه.
وأنْفَذَ أحمد بن طولون إليه العدول حتى شاهدوه عُريانًا، وأنه مات من غير ضرب ولا
سبب
غير فناء أجله، فكان عِلْمُ أحمد بن طولون بأن ما عَمِله يبلُغ به ما يُحب من أَمرِه
من غير
مكروه ضربٍ ولا غيرِه حسنًا.
وكان ابن هلال قد تقرَّب من قلب أحمد بن طولون وتعبَّد
٤٣ له، وكان له بمصر مَحَل ونُبْل، فسألَه أن يكتب إلى الحَضْرة يطلب له الخَراج،
فلموضعه منه ولما في نفسه من ابن مدبَّر سارَع إلى ذلك، وأكَّد القول فيه إلى يارجوخ
وإلى
الوزير، فورَدَت عليه الكتبُ بتقليد ابن هلالٍ عَملَ ابن مدبَّر، فقَوِيَت يدُ أحمد بن
طولون على الاستخفاف بابن مدبَّر، والسعي فيه، وقَبَض عليه وحبَسَه في داره بحالٍ
سيئة.
ووَلِي المعتمد فردَّ الخراج، باضطراب أخيه في أمره ببغداد، إلى ابن مدبَّر، وورَدَت
الكتب بذلك على أحمد بن طولون، فأطلَقه وتسلَّم الخراج، ولم يُمكِنه الإساءةُ لابن هلال
لموضعه من أحمد بن طولون وانحرافه عنه هو، لِمَا في نفسه منه، فتأمَّل ابنُ مدبَّر أمره،
فإذا به يخاف من أحمد بن طولون خوفًا لا يأمنه أن يأتي عليه، فكتَب إلى أخيه يقول: تلطَّف
لي في التخلُّص من أحمد بن طولون والخروج عنه، فأورَدَ أخوه عليه الكتاب بتقليده جندَيْ
فلسطين والأردن ودمشق، وقُلِّد أبو تراب أحمد بن شجاع
٤٤ ابن أخت الوزير الخَراج بمصر، وذلك في سنة ثمانٍ وخمسين ومائتَين.
فاستعمل أحمد بن مدبَّر مع أحمد بن طولون التلطُّفَ والحيلةَ في الخلاص منه، ووهَب
له
ضياعًا كان يملكها بمصر جليلة المقدار، وعقد نكاحًا بين أبي الجيش ابنه وبين ابنته فحلة،
٤٥ وخرج، فخرج أحمد بن طولون معه مشيِّعًا له.
واستمال أحمد بن طولون مَعْمَر الجوهري، وكان له محلٌّ جليل بمصر وببغداد، وأخذ كُتبه
إلى
أخيه ببغداد وإلى حدرى وجباب
٤٦ الجوهريَّين، وكانا أجلَّ أهل سُرَّ مَنْ رأى، وإلى جماعةٍ من وجوه التجار بها،
بأن يدفعوا إلى خليفته بالحضرة كُل ما أحبَّ من المال، وإن احتاج إلى ضمانهم عنه في شيء
يحتاج إليه من المصانعة ضمنوا وكتبوا له بذلك، ليأخذ العوض منه بمصر.
فكان خليفة أحمد بن طولون بالحضرة طيفور التركي، وكان جَلْدًا شهمًا ثقة، فكان كلما
بلغه
عن واحد من القُوَّاد أنه قد طلَب عمل مصر ونُدب لها؛ لأن الموفَّق كان إذا تعذَّر عليه
الرجال أو أكدَوه،
٤٧ قال: مصر خزانةُ السلطان وفيها أموالُه فليخرُج إليها أحدكُم. فمَنْ همَّ بذلك
من القُوَّاد أخذ طيفور خليفتُه من التجار ما يريد من المال، على قَدْر محَل الرجل، وركِب
إليه وقال له: أخوك أبو العباس أحمد بن طولون كتَب إليَّ يقرأ عليك السلام، ويشكو شوقَه
إليك، ووحْشَته منك، ويقول لك: يا أخي وسيدي؛ لبُعدِ الطريق وخَوفِ العوائق امتنعتُ أن
أحمِلَ إليك من هدايا مصر، فتَطوَّلْ ببَسطِ عُذري في ذلك، واصرِف هذه الدنانير فيما
تحتاج
إليه، ولا تُخلِّني من مكاتبتك وأخبارك وأحوالك وحوائجك فإني أُسَرُّ بذلك، ويدفع إليه
المال من ثلاثة آلاف دينار إلى ألفَي دينار إلى ألف دينار على مقدار الرجل، فيلحق الرجل
من
ذلك احتشامٌ ويمتنع من أخذه، حتى يسألَه طيفور ويُخاطِبه عليه بما يُزيل احتشامه فيأخذه،
وقد كبرَ أحمد بن طولون في قلبه، وعظُم في صدره، ومَلَكه جميلُ فعلِه، وإذا ذُكِرت له
مصر
استبعَد طريقها، وتثاقَل عن قبول تقلُّدها، وإن كان هو الخاطب لها أَضرَب عن ذكرها. ولا
يخلو أيضًا من أن يكون بينه وبين التجار الذين قد كاتبَهم مَعْمَر في أمر أحمد بن طولون
معاملةٌ فيصيرون إليه ويطالبونه بما لهم عليه من المال، ويقولون له: أنت قد عزمتَ على
الخروج إلى مصر وهو بلدٌ لا تُرجى فيه سلامة مَنْ يخرج إليه؛ لأن مَنْ قصَده إنما يقصدُه
مائة ألف عِنان، فمَنْ سمع هذا ولو لم يكن حصَل له مال يجِبُ قلبه
٤٨ ويقْوى امتناعُه، فكيف وقد انضاف إلى ذلك ما صار إليه، فإذا حلَف لهم أنه لا
يخرج، قيل له: جُوزيتَ، ليس تحصُل إلا على فسادِ ما بينك وبين أحمد بن طولون، وقتْل أصحابك
وذَهابِ مالك، إن سلِمَت نفسُك، فيزداد بذلك امتناعًا، ولمِا فعَل في أمره خوفًا واحتشامًا،
فكانت هذه الأحوال تُقوِّي أمره، ويزول عنه ما يتخوَّفه؛ لأنه علم أن بلده مذمومٌ
مظلوم.
ولمَّا دخلَتْ سنة خمس وخمسين ومائتَين خرج رجلٌ علوي لقَّب نفسه ببُغا الكبير، وذكر
أنه
أحمد بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن طباطبا بين بَرقَة والإسكندرية بموضع يُعرف
بالبدريين [؟]، ثم صار إلى صعيد مصر، فوجَّه إليه أحمد بن طولون قائدًا يُعرف ببهم بن
الحسين، فكانت بينهما وقْعةٌ قُتل العلوي في معركتها، فأخذ رأسَه وانهزم أصحابُه
وتمزَّقوا.
ثم خرج بعده في سنة ست وخمسين ومائتَين رجل ذكر أنه
٤٩ إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن علي بن محمد بن عمر بن علي بن
أبي طالب، صلوات الله عليهم أجمعين، وكان يُعرف بابن الصوفي أيضًا. وجاءت الأخبار أنه
دخل إسنا
٥٠ وعاثَ وأفسَد في نواحيها،
٥١ فوجَّه إليه أحمد بن طولون بقائد من قُوَّاده يُعرف بابن يزداد، فظَفِر به
العلوي فقطع يده ورجله وصلَبَه، فبلغ ذلك أحمد بن طولون، فأنْفذ إليه بهم بن الحسين،
فالتقيا بنواحي إخميم
٥٢ فهَزَم العلوي ونهَب سواده، وقتَلَ خلقًا كثيرًا من رجاله وانفلَّ أمره،
٥٣ وعاد بهم بن الحسين إلى أحمد بن طولون فعرَّفه بما جرى من أمرهم، فخَلع عليه
خِلعًا حسانًا، وطوَّقه بطوقٍ ثقيل من ذهبٍ صامت، وأجازَه وقاد بين يدَيه خيلًا حِسَانًا،
فكان بهم إذا ركِب في الأعياد يركَب بذلك الطوق.
ودخل ابن الصوفي
٥٤ إلى نواحي الواحات
٥٥ وأقام مدة، ثم ظهر في نواحي الأشمونين،
٥٦ فأنفذ إليه قائدًا يُعرف بابن أبي المغيث،
٥٧ فوجدَه قد صاعَد إلى الصعيد، لقتال رجلٍ ظهر بالصعيد، زعم أنه عبد الحميد بن
عبد الله بن عبد العزيز بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب، رحمه الله، يُكنى أبا عبد الرحمن.
٥٨
وكان السبب في خروجه أن البجة
٥٩ أقبلَت في يوم عيد يقْدُمهم رجلٌ أعور مارد، كلهم ركبان على النُّجب، حتى
كبَسُوا الناسَ في مُصلَّاهم، وقتَلوا فيهم ونهَبوا ورجَعوا من حيث جاءوا سالمين، وكان
لهم
قبل ذلك مقدِّماتٌ كذلك، فخرج هذا العمري غضبًا لله، عزَّ وجل، وللمسلمين، فكمَن لهم
في
طريقهم حتى أقبلوا كعادتهم فكبسَهم، وقتل رئيسهم الأعور ومن معه؛ ولهذا السبب كانت
الطولونية وغيرهم من الأمراء وإلى اليوم يوقفون من سفح الجبل مما يلي الموضع المعروف
بالحبش
جيشًا كثيفًا، مراعيًا للناس، حتى ينصرفوا من عيدهم في كل عيد.
ثم دخل هذا العمري إلى بلاد البجة، فقتل فيهم مقتلةً عظيمة، وضيَّق عليهم بلادهم،
وصار
شجًا في حلوقهم حتى أدَّوا إليه الجزية استكفافًا له، وما أدَّوها لأحد قبله، فكان لا
يعرض
لأحد من الناس بأذية لا ذمي ولا ملِّي، وكان مسالمًا للنُّوبة للعهد الذي لهم حتى بدا
له
النوبي الأول الذي بالموضع المعروف بمريس
٦٠ فعطَف عليه العمري، وأجلاه عن دياره، وحرَّق مدائنه، وسبى منهم سبيًا كثيرًا،
حتى إنه كان الرجل من أصحابه يشتري الحاجة من البيَّاع أو من البقَّال بنوبي أو بنوبية؛
لكثرتهم كانوا في أيدي أصحابه.
فلما التقى هو والعلَوي كانت بينهما وقْعةٌ انهزم فيها العلَوي وصار إلى ناحية أُسوان؛
٦١ فعاث بها وأفسد، وكُتب بخبره إلى أحمد بن طولون فكتب إلى بهم بن الحسين يأمره
بأن يُصاعِد في طلبه حيث قصد.
فلمَّا اتصل الخبر بالعلوي مضى هاربًا إلى عيذاب
٦٢ وركِب البحر إلى مكة وتفرَّق عنه أصحابه، فلمَّا حصل بمكة بلَغ خبره صاحب مكة،
فقبَض عليه وحبَسه عنده، ثم حملَه إلى أحمد بن طولون، فلما وصل إلى مصر طِيفَ به وشُهر
للناس على جمَل، واعتقَلَه عنده مدة، ثم أظهر توبة، فأطلقه وأحسن إليه، وخرج إلى المدينة
ومات فيها.
ولمَّا وقف أحمد بن طولون على خبر العمري وشدة شوكته على البجة وغيرهم، خاف من سوء
العاقبة في أمره إن أغفلَه فأنفذ جيشًا عليه قائد من قواده يُعرف بشعبة بن خركام البابكي،
فلمَّا قرب منه خرج إليه العمري وقال لأصحابه: لا تعجلوا فإن هذا رجلٌ أعجمي، وأنا أخاطبه
بنفسي وأنظر ما عنده.
فخرج من عسكره وقال لمن قرُب من عسكر شعبة: إني أريدُ أخاطب الأمير قبل وقوع الحرب
بيننا.
فعرف شعبة ذلك فخرج إليه، فلمَّا قرُب منه خرج إليه العمري بحيث يسمع بعضهم كلام بعض،
فقال
له العمري: إن الأمير أحمد بن طولون لم يبلُغه خبري على حقيقته، وقد مُوِّه عليه في أمري،
إني لم أخرُج أبغي فسادًا، ويدلك على ذلك أني لم أوذِ مُسلِمًا [ولا] مُعاهَدًا، وإنما
خرجتُ في طلب أعداء المسلمين حتى كفانا الله أمرهم، فاكفُف يدك عن القتال حتى أكتُب إلى
الأمير، أعزَّه الله، وأكشِف له خبري، وتكتُب أنت أيضًا، فإن قبِلَ عذري ولم تثقُل عليه
وطأتي وأمِنَ جانبي، كَتَب إليك بالكَف والانصراف عني، فانصرفتَ معذورًا مشكورًا، وإن
أمَركَ غيرَ ذلك امتثلتَ أمره غير ملوم، فقال له شعبة: لست أنا فيجًا
٦٣ لك أحملُ كتابك، ما بيني وبينك إلا السيف. فقال له العمري: ما أنت بحمد الله
شعبة الرجال، بل أنت بلُعبة النساء أشبه، وما هذا الفعل السيِّئ والخلق القبيح إلا لمن
هو
كذلك.
ورجع إلى أصحابه وقال: هذا رجلٌ جاهلٌ أحمَق فدونكم، فعطَفوا به وحمَلوا عليه، فانهزم
أقبح هزيمة، وعادة [شعبة] إلى أحمد بن طولون فعرَّفه ما كان، فقال: أخطأتَ وأسأتَ، كنتَ
قد
أمهلتَه، وكتبتَ إلينا بخبره على صحته، لنرى فيه رأينا، لكنك بغَيتَ عليه فنُصِر
عليك.
وأهمل أحمد بن طولون أمره مدة، فلمَّا كان بعد شهورٍ يسيرةٍ وافى إلى أحمد بن طولون
غلامان
٦٤ زعما أنهما من غلمان العمري وأنهما أتَياه برأسه، فاستحضَرهما الرأسَ فأحضَراه،
فدعا بجماعة من أهل الصعيد ممن يعرف العمريَّ فأراهم الرأس، فعرفوه وشهدوا أنه رأس العمري
لا يشُكُّون فيه، فقال للغلامَين: كان صاحبكما مسيئًا إليكما؟ قالا: لا. قال: فكان يمنعكما
رزقكما؟ قالا: لا. قال: فرَكِب بحضرتكما إثمًا استحلَلتُما به قتله؟ قالا: لا. قال: فلِمَ
قتلتُماه؟ قالا: لأنَّا أردنا بذلك الحظوة عند الأمير والقرب منه. فقال: ذاك والله أبعدُ
لكما مني ومن الله، عز وجل. وأمر بضرب عنقهما فضُرِبَت وصُلِبَت جثَّتاهما، وأمر برأس
العمري فغُسِل وكُفِّن وطُيِّبَ ودُفِن.
ثم ورَد عليه الخبر بخروج رجلٍ في الصعيدٍ أيضًا يُكنى أبا روح، واسمه سكن، من بوادي
بحيرة الإسكندرية، ذُكِر له أنه من بقايا أصحاب ابن الصوفي، والتفَّت به طائفةٌ كبيرة،
فقَطَع الطريق وأخاف السبيل؛ فوجَّه إليه قائدًا من قُوَّاده يُعرف بيلبق الطرسوسي وكان
جلُّ أصحابه طرسوسيين، وكان أبو روح هذا غلامًا عيَّارًا قد رُبِّي بالريف وعَرفَ طرقاتها
والحرب فيها، فلمَّا اجتمعا للقتال أوقف أصحابه في أرضٍ كثيرة الشقوق، حصيدة قمح، قد
بقي من
تبنه ما يستُر شُقوقَه، وأهل الريف قد أَلِفوا المشي في هذه الأماكن ولا عهد لأهل طرسوس
بها، فلمَّا التقَوا تطارَد أصحاب أَبي روح لهم، وطلبَتْهم خيل يلبق وفرسانه، فوقعَت
حوافر
الخيل في تلك الشقوق فكبَتْ بفرسانها، وسقَط بعضُهم على بعض، فتراجع أصحاب أبي روح عليهم،
فقُتل كل مَنْ سقَط، وانهزم من سلِمَ أقبح هزيمة، فعاد يلبق إلى مصر، فكان الذي لَقِي
هو
وأصحابُه من غوغاء البلد وعَطعطَتهم
٦٥ أعظمَ مما لقُوه من الهزيمة.
وأهمل أحمد بن طولون أمره هُنيهَة إلى أن وافاه خبره من نواحي الفيوم، فأنْفَذ إليه
قائدًا من قُوَّاده يُعرف بابن جيغويه، وأمره أن يأخذ على طريق الواحات من ناحية الصحراء،
ليملِك عليه فَم البَرِّية من هناك ففَعل، ثم أمر شعبة بن خركام بالخروج إليه فخرج، وظن
أصحاب أبي روح أن هذا كالأول فلم يهربوا منهم وصافُّوه
٦٦ بالإبليز
٦٧ الكثير الشقوق، فأقبل أصحاب شعبة ينادون: خذوا حِذركم من الشقوق فحَذِروها وهم
عليها، وأخذوا عليهم نواحي طُرقهِم، فلمَّا علموا أنهم قد فَطِنوا لهم وأن مكيدتهم قد
بطلَت
ولَّوا منهزمين، فلم يذهب منهم أحدٌ إلا أخذَه النُّشَّاب فقُتل منهم خَلق، ومن استسلم
أُسِر، وانهزم أبو روح وولَّى يريد طريق الواح ولا ملجأ له غيره، فلما أشرف على ابن جيغويه
رآه قد ملك فَم البرية والطريق، وقف وراسلَه في الأمان، فظن ابن جيغويه أن شعبة لم يَلقَه،
وأنه وافاه قاصدًا يطلب الأمان راغبًا فيه فأمَّنه.
ولمَّا بلغ أحمد بن طولون ذلك اغتاظ على ابن جيغويه غيظًا عظيمًا، ومنعه من الرجوع
إلى
البلد، وألزمه سُكنى الريف شهورًا كثيرة؛ عقوبةً له على إعطائه الأمان، وكان قد تَم له
هلاكُ العدو بأخذه الطريق.
وبعَث شعبة بالأُسارى وفيهم رجلٌ مخزومي، وكان، فيما زعموا، سيِّئ المقدرة رديء الظفر،
فَضربَه أحمد بن طولون بالسوط، وحملَه على جملٍ فمات في الطريق، فمكَث زمانًا مطروحًا
على
رأس الجسر. وكان فيهم رجلٌ يهودي منجِّم، فقال له أحمد بن طولون: أرأيتَ هذا في نجومك؟
٦٨ فقال: نعم قد رأيتُه ونصحتُ له فلم يقبل نصيحتي، فأمر به فقُطعَت يداه ورجلاه
وصُلِبَ حيًّا مقابلًا للمخزومي حتى مات.
ثم هاج بعد أبي روح أَهلُ برقة ووثَبوا بأميرهم محمد بن فروخ
٦٩ الفرغاني، وأخرجوه عن البلد، فأنْفَذ إليهم أحمد بن طولون أبا الأسود الغطريف
ويزبك الفرغاني وكان من حُجَّابه، وهو صاحب الرحْبَة المجاورة لدور الماذرائيين المسمَّاة
به، في جيشٍ عظيم، وبعَث إليهم أيضًا مراكبَ مشحونةً رجالًا وسلاحًا وبمنجنيق، وأتبعَهم
بجيشٍ آخر عليه لؤلؤ غلامه، فلما فصَل لؤلؤ أتبعه أيضًا جيشًا آخر عليه شعبة بن خركام،
وأمر
رئيس كل جيشٍ منهم بالتوقُّف والتسانُد وبذل السلامة والأمان، إن قَبِل، وتقديم المعذرة
وتَركِ العجلة، فإن أجابوه وإلا السيف.
ولبَرقَة حصنٌ منيع، فترك الغطريف يزبك على أحد أبوابه، وترك لؤلؤًا على بابٍ آخر،
واستعملوا الرفق كما أُمروا فأمِنوا بذلك، وأطمعَهم
٧٠ اللين، ففتَحوا الباب الذي عليه الغطريف ليلًا وأوقعوا بعسكره، فلمَّا وقعَت
الصيحة تسرَّع الغطريف وقائدٌ معه يُعرف بدعباش وابنٌ لفروخ يُعرف بإسرائيل، فقُتِلوا
جميعًا في المعركة، وأصبح عسكر أبي الأسود بلا رئيس، فانضمَّ أهلُه إلى عسكر لؤلؤ، فكان
تسرُّع الغطريف تسرُّع باسلٍ لزِمَه فرضٌ وطمع في الظفَر وعجل، ولو تثبَّت وكان في أجلِه
تأخير لم يُقتل. كما رُوي عن هشام بن عبد الملك أنه قال لأخيه مَسلَمة: أذهلَك ذُعر قط
لحرب
أو عدو؟ فقال: ما سلِمتُ في ذلك من ذعر بيَّتُّه على حيلة تكون معها السلامة، وما غَشيَني
قَطُّ فيهما ذُعرٌ سلَبني رأيي، فقال له هشام: هذه المقالة.
ورُوي أن عمر بن الخطاب أمَّر الأحنف بن قيس على جيش وجَّه به نحو خراسان، فلمَّا
قربوا
منهم فرَّقوا جيشهم ثلاثَ فِرَق، وأقبلوا تدلُّهم طبولهم على السبيل، ففَزع الناس، فأول
من
رَكِب الأحنف فخرج وهو يقول:
إنَّ على كل رئيسٍ حقًّا
أن يَخضِب الصَّعْدةَ أو تندقَّا
وحَمَلَ على صاحب الطبل فقتَله، فلما فَقَدَ أصحابُه ضرب الطبل ولَّوا منهزمين، وفعل
في
الفريقَين كفِعلِه في الأول فتكامل ركوب الناس، وقد فرغَ لهم الأحنف مما أرادوا فتتبَّعوهم،
فكانوا بين قتلى وأسرى.
وأراد الغطريف أن يصنع هكذا فخانَه المقدار، ولكل ميتةٍ سبب، فقال أصحاب الغطريف:
ما
ننتظر؟ إن لم نناهضهم وإلا عملوا كل ليلةٍ مثل هذا.
فكتَب لؤلؤ إلى مولاه بجملة الخبر وما يعمل وما فعلوه، فكتب إليه يأمُرهم بقتالهم
ويقول:
قد أحسنتم في توقُّفكم، وأنتم الآن تُنصرون بمشيئة الله وعَونه، فباكَرهم لؤلؤ طالبًا
لثأر
صاحبه كما قال الشاعر:
إذا ما وُترنا
٧١ لم ننَم عن تِراتِنا
ولم نكُ أوغالًا نقيم البواكيا
٧٢
ولكنَّنا نُزجي الجياد شوازبًا
٧٣
فنرمي بها نحو التِّراتِ المراميَا
وعبَّأ عسكره ونَصَب منجنيقاته، وزحف إلى الحصن، فلما جدَّ بهم القتال وأخذَتهم الحجارة
والنُّشَّاب، صاح بعضهم وطلب الأمان، وفتحوا له الباب، ودخَلوا عليهم، وقبَضوا على جماعة
من
رؤسائهم فضربهم بالسَّوط، وقطَّع أيدي جماعة منهم، وصلَب منهم طائفة، وكتَب إلى مولاه
بالفتح.
ووَصل شعبة إلى لؤلؤ بعد الفتح، فاستخلَفه لؤلؤ على البلد، ودخل إلى الفسطاط، وحمَل
معه
جماعةً من الأسرى ليرى مولاه فيهم رأيه، فلمَّا وصل إلى الجيزة بعث إليه مولاه بالخِلع
وبطوقَين حسنَين ثقيلَين، فلبِس الخِلع والطوقَين وحمل الأسرى بين يدَيه، وطاف بهم البلد،
فسكَنَت رهبةُ أحمد بن طولون في صدور الناس حتى كان يُفزِع الصبيان [و]الأطفال.
ومن إقباله أن المعتمد لمَّا أنفذ أبا أيوب على الخَراج، وكتب إلى أحمد بن طولون
في
استحثاثه على حَمْل الأموال، وإدرار الحمل إليه، أجاب المعتمد يقول: إنه لا يَستَتِر
ما
أحمله من الأموال عن الأولياء، ولا يخفى عن الموالي والمطالبين به، وفيه تأخيرٌ كبير
من
أرزاقهم، ولا يتهيَّأ أيضًا إدرار الحمل والمتابعة به والخراجُ إلى غيرهم، فأنفذ المعتمد
نفيسًا الخادم إليه بتقليده الخَراج مع المعونة بمصر والثغور الشامية، ووجَّه مع نفيس
بصالح
بن أحمد [بن حنبل]
٧٤ وكان على قضاء الثغور، وبمحمد بن محمد الجذوعي
٧٥ وكان على قضاء واسط، على أن يَحمِل ما جرى الرسْمُ بحمله من المال والطِّراز
٧٦ وغير ذلك.
فأخرج أحمد بن طولون شيوخ مصر ووجوهها إلى العراق يشكرونَ سيرتَه فيهم، وضبطه لبلدهم،
وأنفذ معهم أصحاب أخبارٍ من حيث لا يعلمون بهم، يُحصون عليهم ما يكونُ من واحدٍ واحد،
ويُنهونه إليه عند عودتهم، فعادوا ولم يُعرف سيئ منهم، فشَكَر لهم ذلك وأحسن بِرَّهم،
وزادت
محبَّتُه لهم.
وأقرَّ أحمد بن طولون أبا أيوب على الخَراج من قِبَله، وجعل عبد الله بن دشومة أمينًا
عليه، وجعل نعيمًا المعروف بأبي الذؤيب عينًا عليهما، وقلَّد الأملاك لسليمان بن ثابت
المعروف بأبي ريشة، وكان عبد الله بن دشومة منهم واسع الحيلة، بخيل الكَف، لم يكن يعيبُه
غيرُ بخله وزهده في شكر الشاكرين، ويرى بجهله وما حَرمَه الله عز وجل من اصطناع الجميل،
أن
الثناء حيلةٌ من حيل القاصد على المقصود، ولا يهشُّ إلى شيء من أعمال البِر فمقَتَه الناس
على ذلك، وكثُر به الدعاء عليه، وكان فيه مع هذا الشر سِعاية.
وكان أحمد بن طولون رقيبًا على نفسه يتصدَّق في أثَر الإساءة، إذا جرت منه إلى إنسان،
بالصدقات الجزيلة، ويتضرَّع إلى الله جل اسمه في تمحيص ما جناه، فكان بذلك يُوفَّى ويُكفى
ويُنصَر.
٧٧
ولمَّا وَرَد عليه كتاب المعتمد بما استدعاه من ردِّ الخراج بمصر إليه، وزاده المعتمد
مع
ما طلب خَراج الثغور الشامية، رَغِب بنفسه عن أدناس المعاون ومَرافِقها، فرفَضَها وأمر
بتركها، وكتب بإسقاطها في سائر الأعمال، ومنع المتقبِّلين
٧٨ من الفسخ على المزارعين، وحظَر الارتفاقَ
٧٩ على العمال.
وكان قبل إسقاط المرافق بمصر قد شاور عبد الله بن دشومة في ذلك، فقال له: إن أمَّنَني
الأمير تكلَّمتُ بما عندي. فقال له: قد أمَّنَك الله، عز وجل، مني فقُل. فقال: أيها الأمير
إن الدنيا والآخر ضَرَّتان، فالحازم من لم يخلط إحداهما مع الأخرى، والمفرِّط مَنْ خلط
بينهما؛ فيتلَف أعماله ويبطُل سعيه. وأفعال الأمير، أيَّده الله، أفعالُ الخِيَرة، وتوكُّله
توكُّل الزهَّاد، وليس مثلُه ركب خطة لم يُحكِمها، ولو كنا نثق بالنصر دائمًا طُولَ العمر
لَمَا كان شيءٌ آثَر عندنا من التضييق على أنفسنا في العاجل بعمارة الآجل، ولكن الإنسان
قصيرُ العمر، كثيرُ المصائب، مدفوعٌ إلى الآفات
٨٠ فتركُ الإنسان ما قد أمكَنه وحصَل في يده تضييع. ولعل الذي حماه نفسَه يكون
سعادةً لمن يأتي بعده، فيفوز ذلك بما قد حرمه هو.
ويجتمع للأمير، أيَّدَه الله، مما قد عزم على إسقاطه من المرافق في السنة بمصر دون
غيرها
مائة ألف دينار، وإن فسَخ ضياع الأمراء والمتقبِّلين في هذه السنة؛ لأنها سَنةُ ظمأٍ
تُوجِب
الفسخ، وألزمَت القصبة
٨١ الاثنين زاد مال البلد وتوفر توفرًا عظيمًا ينضاف إلى مال المرافق، فضبط به
الأمير، أيَّدَه الله، أمر دنياه، وهذه طريقة خِدْمة الدنيا وإحكام أمور الرياسة والسياسة
فيها، وكل ما عدَل إليه الأمير، أيَّدَه الله، من غير هذا فهو مُفسِد لدنياه، وهذا رأيي،
والأمير، أيَّدَه الله، أعلى عينًا وما يراه.
٨٢
فقال له: ننظر في هذا إن شاء الله. وشغل قلبَه كلامُهُ، فبات من تلك الليلة بعد أن
مضى
أكثر الليل يفكِّر في كلام ابن دشومة، فرأى في منامه رجلًا من إخوانه الزهاد بطرسوس وهو
يقول له: ليس ما أشار به عليك مَن استشرتَه في أمر الارتفاق والفسخ برأيٍ تُحمد عاقبتُه
فلا
تقبله، ومَنْ ترك شيئًا لله، عز وجل، عوَّضه الله عنه، فأمضِ ما كنتَ عزمتَ عليه.
ولمَّا أصبح ابن طولون أنفَذ الكتب إلى الأعمال بذلك، وتقدَّم به في سائر الدواوين
وأمضاه
ودعا بابن دشومة فعرَّفه ذلك فقال له: قد أشار عليك رجلان؛ أحدهما في اليقظة، والآخر
ميت في
النوم، وأنت للحي [أوجَد] وبضمانه أوثَق، فقال: دعنا من هذا فلستُ أقبل منك، ورَكِب في
غد
ذلك اليوم إلى الصيد.
فلمَّا أمعَن في الصحراء ساخت في الأرض يدُ فرسِ بعض غلمانه، وهو رمل، فسقَط الغلام
لنزول
يد الفرس كلها في الرمل، فوقف عليه أحمد بن طولون وأُخرجَت يد الفرس، فنظر فإذا بفتقٍ
ففتح،
وأصاب فيه من المال [ما] كان مقداره ألف ألف دينار، وهو المطلب
٨٣ الذي شاع خبره، وكتب به إلى العراق، وكتب أحمد بن طولون بخبره إلى المعتمد
يستأذنُه فيما يصرفه فيه من وجوه البِر أو غيرها مما يأمره به، فكتب إليه المعتمد يأمره
بأن
يصرفَه في وجوه البِر، فبنى منه البيمارستان، ثم أصاب بَعدَه في الجبل مالًا عظيمًا فبنَى
منه الجامع، وأوقفَ جميع ما بقي من المال في الصدقات، فكانت صدقاتُه ومعروفُه لا تُحصى
كَثْرة، بنيةٍ قوية وشهوةٍ شديدة.
ولمَّا انصَرفَ أحمد بن طولون من الصحراء وحمل المال أحضر ابن دشومة وأراه المال وقال
له:
بئس الصاحبُ والمستشارُ أنت، هذا أوَّل بركة مَشُورة الميت في النوم، ولولا أنني أمَّنتُك
لضربتُ عُنقَك. وتغيَّر عليه أحمد بن طولون وسقط محلُّه عنده، ورُفِعَ إليه بعد ذلك أنه
قد
أجحَف بالناس، وألزمَهم أشياءَ ضَجُّوا منها، فقبَض عليه وأخذ ماله وحَبسَه فمات في
حبسه.
ومن أفعالِه خبرُه مع موسى بن بُغا، وذلك أنه لمَّا زاد أمرُ صاحب البصرة واستَفحَل
وكان
ابتداء خروجه في سنة أربعٍ وخمسين ومائتَين أنفَذ المعتمد رسولًا في حَمل أخيه المسمَّى
بالموفق من مكة إليه، وكان المهتدي قد نفاه إليها، فلمَا وصل إليه عقدَ العهدَ بعده لابنه
المفوَّض وله من بعده ولقَّبه بالموفَّق، وقسَّم المملكة بينه وبين ابنه المفوَّض كما
فعل
الرشيد في أمر ابنَيه، فجعل غربَ المملكة لابنه المفوَّض وشرقَها لأخيه الموفَّق، وكتَب
بينهما بذلك كتابًا ارتهَن فيه أيمانَهما بالوفاء بما وقعَت عليه الشروط على كل واحدٍ
منهما
وله، وضمَّن ذلك العهدَ الثابت في الشرط كلَّ ما يخاف من مثله العاقبة. والمعتمد ما يَعلَم
[ما] في طوية الموفَّق ولا في سِره، وكان يحسُد أخاه على الخلافة فلا يراه أهلًا لها،
ويطعَن عليه، ويُنقِص من أمره جدًّا.
ولمَّا جعل العهدَ لابنه، ولقبه المفوَّض، وجعله هو بعده، اشتدَّ ذلك عليه
٨٤ وقَوِي بغضُه لابنه، وزاد حِقدُه على أخيه المعتمد، واعتقد فيه، متى ظفِر
بالأمر، التشَفِّيَ منه، وبلوغَ كل مكروه به، وكان، لعمري، المعتمد بالله مُنحلَّ الأمر
جدًّا؛ لأنه كان رجلًا متشاغلًا بملاذِّ نفسه وطيبة عيشه بالصيد واللعب، والتفرُّد مع
الجواري، فكانت الأمور ضائعةً والتدبير فاسدًا، وكل متقلِّد لعملٍ قد فاز بما يتقلَّده،
ففعل كفعلة [الرشيد] بابنَيه المأمون ومحمد بن زُبيدة احتياطًا وإشفاقًا عليهما، ولم
يعلَم
أن ذلك كان منه لثقته بابنَيه على نفسه وحاله، فقدَّر ذلك في أخيه ووَلدِه، ولم يعلَم
ما في
ضميره له، وأنه يخرُج عن طاعته ولا يشكُر جميلَه عنده.
وإنما وقع الخلاف بين محمد بن زُبيدة وبين المأمون؛ لنَقصِ محمد عن محل المأمون في
نفسه
وشجاعته وفضله في كل فنٍّ من سائر العلوم.
ولقد عاتبَت زُبيدة الرشيدَ على تفضيله المأمونَ على ابنها فقال لها: الساعةَ أُبيِّن
لكِ
فضل كل واحد، فوجَّه إلى ابنها، وقد مضى من الليل وقت، يدعوه إليه، فوافاه وعليه ثياب
المنادمة مبخَّرًا مطيَّبًا، فقال له: اشتقتُ إلى رؤيتك. فسقاه بيده قدحًا، ووهب له من
جوهرٍ كان بين يدَيه جوهرةً واحدةً حسنةً وصَرفَه. ووجَّه إلى المأمون يدعوه فأبطأ، ثم
سمع
بعد ذلك للدار ضجَّةً عظيمة وجَلَبةً هائلة، ثم دخل إليه وعليه صُدرة السلاح بجَوْشنه
وخُوذته
٨٥ وآلة الحرب، وعرف الرشيد بأن الجيش قيامٌ له في السلاح فقال له: ما هذا؟ فقال:
خِفتُ أن يكون قد حدَث حادثٌ احتاج أمير المؤمنين إلى إنفاذي فيه فجئتُ مستعدًّا، فقال
له:
بارك الله عليك، إنما اشتقتُ إليك، انصرِف مُصاحَبًا. ووهب له جميع الجوهر. وقال لها:
كيف
رأيتِ؟ فأمسكَت عن المأمون.
وكان في الشرط الذي كتَبه المعتمد بين الموفَّق وابنه أنه ما حدَث في عمل كل واحدٍ
منهما
من حدَث كانت النفَقة عليه من مالِ خَراج قسمه، واستخلف المفوَّض على قسمه موسى بن بُغا،
فاستكتَب موسى عبيدَ الله بن سليمان بن وهب، وانفرد الموفَّق بقسمه، وتقدَّم إلى كل واحدٍ
منهما ألا ينظر في عمل صاحبه، وخلد كتاب الشرط للكعبة، وأفرد الموفَّق لمحاربة العلَوي
البصري، وأخرجه إليه وقوَّاه، وضمَّ إليه الجيوش، فلما كبر عليهم أَمرُ العلَوي البصري،
وطالت محاربتُه، انقطعَت مواد خَراج الشرق عن أبي أحمد الموفَّق، وتَقاعَد الناس عن حَملِ
المال الذي كان يُحمل، واحتجُّوا في ذلك بأشياء؛ منها خروج العلوي وما لحِقَهم منه، وأخذُه
من أموالهم، ومنها خوفُهم من أن يؤخَذ ما يحملونه في الطريق، لكثرة أصحاب العلَوي وانتشارهم
في الطرق، ومنهم من يتربَّص بالحمل لينظُر كيف تكون الأمور، ولمن يصِحُّ الأمر.
فدعَت أبا أحمد الموفَّق الضرورةُ إلى أن كتَب إلى أحمد بن طولون في حملِ ما يستعينُ
به
على أَمْره، وليتثبَّت من صدقِ عمله، إلا أنه شكا في كتابه شدةَ حاجته إلى المال لما
هو
بسبيله، وأنفَذ إليه لحمل المال نحريرًا خادم المتوكِّل، ووَرَد في عقب الكتاب إليه كتابٌ
من المعتمد يأمُره بحملِ المال إليه على رسمه، مع ما جرى الرسم بحَمْله مع المال في كل
سنةٍ
من الطراز والرقيق والخيل والشمع والخيش وغير ذلك.
وكتَب إليه [المعتمد] سِرًّا أن الموفق إنما أنفذ نحريرًا الخادم إليكَ عينًا عليك،
ومُستقصِيًا على أخبارك، وأراه أنه قد كاتَب بعض أصحابِك فاحترِس منه، واحمِل المالَ
إلينا
معه، لئلا تقوى يدُ الموفَّق به، وعجِّل إنفاذَه من حَضْرتك.
ولما وافى نحرير أنزله أحمد بن طولون في دارٍ معه في الميدان، ومنعَه من الركوب إلى
موضعٍ
من المواضع، ولم يمكنه الخروج من الدار التي أنزلَه فيها، إلى أن أَخرجَه من البلد، وتلطَّف
في الكُتب التي كانت معه فأخذَها، وحمَل معه ألفَ ألفٍ ومائتَي ألف دينار،
٨٦ وحمَل جميعَ ما جرى الرسم بحمله، وخرج بنفسه، وأخرج معه العُدول حتى شيَّعه إلى
العريش، ووجَّه إلى صاحب ماجور بالعريش فأحضره وسلَّمه والمال إليه، وأشهد عليه بذلك
العدول، وعاد إلى مصر ينظُر في الكتُب، فإذا هي إلى جماعةٍ من قُوَّاده، يُضرِّيهم عليه،
ويستميلُ قلوبَهم إليه، لِمَا كان في نفسه عليه من قُوة موالاته للمعتمد، وصحة طاعته
له.
وكانت قد قَوِيَت شوكة الموفَّق بمن ضمَّه إليه المعتمد من الجيوش والعُدَّة لمناوأة
العلَوي البصري،
٨٧ فمِمَّن كان كتابُه إليه جوابًا عن كتابه كان إليه بدر الحفيفي، وهو صاحب
القيسارية الوفائية التي تُعرف بقيسارية بدر، وإليه كانت ضياع أبي أحمد بن المتوكل والطراز
والخيم وصناعتُهما، وكان من وجوه غلمانه وكبارهم فضَربَه بالسوط حتى مات. ومنهم أحمد
بن
عيسى الصُّغْدي، وكان رجلًا من أجلَّاء أصحابه، فضَربَه أيضًا بالسَّوط، وحلَق رأسَه
ولحيتَه وطاف به البلد، وحبَسَه في المُطبِق وكان إحسانُه إليه وعليه فما شكَر ذلك
وكَفَره.
ولمَّا وصل المال كتب أبو أحمد الموفَّق إلى أحمد بن طولون كتابًا يستصغر فيه المال،
ويقول: إن الحساب يُوجِب أَضْعافه. وبسَطَ لسانه فيه، والتمَس من أصحابه من يخرُج متقلِّدًا
عملَه فأَعوزَه ذلك، لِما كنا قد ذكَرناه من ملاطفة أحمد بن طولون لوجوه أهل الدولة الذين
يندبُ أحدهم لمثله، وكتَب بذلك إلى أحمد بن طولون أصحابُ أخباره، فلمَّا قرأ أحمد بن
طولون
كتاب الموفَّق قال: وأي حسابٍ بيني وبينه أو حالٍ تُوجِب مكاتَبتي بمثل هذا وغيره؟ وأجابه
جوابًا نُسختُه:
٨٨
بسم الله الرحمن الرحيم، وصَل كتابُ الأمير، أيَّده الله، وفهِمتُه، وكان،
أسعَدَه الله، حقيقًا بحسن التخيُّر له في اختياره مثلي، وتصييره إياي عُمدتَه التي
يعتمد عليها، وسيفَه الذي يصُول به، وسِنانَه الذي يتَّقي الأعداء بحدِّه؛ لأني
دأبتُ في ذلك، وجعلتُه وكدي، فاحتملتُ الكُلَف العِظام، والمؤنَ الثِّقال، باجتلاب
كل موصوفٍ بشجاعة، واستدعاء كل منعوتٍ بغَنَاءٍ وكفاية، بالتوسعة عليهم، وتواصُل
الصِّلات والمعاوِن لهم؛ صيانةً لهذه الدولة، وذبًّا عنها، وحَسمًا لأطماع الشانئين
لها، والمُنحرِفين عنها. وكان مَنْ هذه سبيلُه في الموالاة، ومحلُّه في المناصحة،
حريًّا أن يُعرف له حقُّه، ويُوفَّر من الإعظام قدْرَه،
٨٩ ومن كل حالٍ جليلةٍ حظَّه ومَنزلتَه، فعُوملتُ بضد ذلك من المطالبة
بحمل المال مرةً، والجفاء في المخاطبة أخرى، بغير حالٍ تُوجِب ذلك، ثم أُكلَّف على
الطاعة جُعلًا، وأُلزم للمناصحة ثمنًا، وعهدي بمن استدعى ما استدعاه الأمير من
طاعتِه يستدعي ذلك بالبذل والإعطاء والإرغاب
٩٠ والإرضاء والإكرام، لا أن يُكلِّف ويُحمِّل مَنْ أطاعه مئونةً وثقلًا.
على أني لا أعرف السبب الذي يُنتِج الوحشة، ويُوقِعها بيني وبين الأمير، أيَّدَه
الله، ولا ثَمَّ معاملة تُوقِع مشاجرة، أو تُحدِث منافرة؛ لأن العمل الذي أنا
بسبيله لغيره، والمكاتبة في أموره إلى سواه [وتقليدي ليس من قِبَله ولا ولايته]
٩١ فإنه والأمير جعفر المفوَّض، أيَّدَهما الله، قد اقتسما الأعمال، وصار
لكل واحدٍ منهما قسمٌ قد انفرد به دون صاحبه، وأُخذَت عليه البيعة فيه، أنَّ مَنْ
نقض عهدَه أو خَفرَ ذمَّتَه ولم يفِ لصاحبه بما أكَّد على نفسه، فالأمة بريئة من
بيعته، وفي حِلٍّ وسَعَةٍ من خَلْعه، والذي عاملَني به الأمير من محاولة صَرْفي
مرة، وإسقاط رسمي أخرى، وما يأتيه ويَسومُنيه، ناقضٌ لشَرطِه، مُفسِدٌ لعَهدِه، وقد
التمَس أوليائي، وأكثَروا عليَّ الطلب، في إسقاط اسمه، وإزالة رسمه،
٩٢ فآثرتُ الإبقاء وإن لم يُؤثِره، واستعملتُ الأَنَاة إذ لم تُسْتَعمل
معي، ورأيتُ الاحتمالَ والكَظْم أشبه بذوي المعرفة والفهم، وأدنى إلى الظفر والنصر،
فصبَّرتُ نفسي على أحرَّ من الجمر، وأمرَّ من الصبر، وما لا يتسع له الصدر.
والأمير، أيَّدَه الله، أولى مَنْ أعانني على ما أُوثِره من لزوم عهده، وأتوخَّاه
من تأكيد عقده، بحُسْن العِشْرة والإنصاف، وكشف الأذى والمضرة، ولا يضطَرني إلى ما
يعلَم الله، عز وجل، كُرهي له، وإلى أن أجعل ما قد أعددتُه لحياطة الدولة من الجيوش
المتكاثفة، والعساكر المتضاعفة، التي قد ضرَّست رجالها من الحروب، وجرت عليهم مِحَن
الخطوب، مصروفًا إلى نقضها، فعندنا وفي حيِّزنا مَنْ يرى أنه أحقُّ بهذا الأمر
وأَوْلى من الأمير.
ولو أمِنوني على أنفُسِهم فضلًا عن أن يرجعوا مني إلى ميلٍ لهم أو قيامٍ بنصرتهم،
لاشتدَّت شوكتُهم، ولَصعُب على السلطان معاركتُهم، والأمير يعلَم أن بإزائه منهم
واحدًا قد أبرَّ عليه، وفَضَّ كل جيشٍ أُنهِض إليه، على أنه لا ناصر له إلا لفيف البصرة
٩٣ وأوباش عامَّتِها، فكيف بمن يجد ركنًا منيعًا وناصرًا مطيعًا؟ وما مثل
الأمير في أصالة رأيه قصَد لمائة ألف عِنان عُدَّةً له فجعلها عُدَّة عليه
٩٤ بغير ما سببٍ أوجَب ذلك، فإن يكُن من الأمير إعتابٌ أو رجوعٌ إلى ما هو
أشبه به
٩٥ وأَوْلى، وإلا رجَوتُ من الله، عزَّ وجل، كفايةَ أمره، وحَسْم مادة
شَرِّه، وإجراءَنا في الحياطة على أجمل عاداته عندنا، والسلام.
فلما وصل الكتاب إلى الموفَّق أقلَقَه، وبلَغ منه مبلغًا عظيمًا، وأغاظه غيظًا شديدًا،
فأحضر موسى بن بُغا، وكان موسى هذا عِوَل الدولة وأشدَّ أهلِها بأسًا وإقدامًا، فتقدَّم
إليه في صرف أحمد بن طولون عن مصر وتقليدها ماجورًا فامتثل ذلك، وكتَب لماجور كتابَ التقليد
وأنفذه إليه، فلما وصَل إليه الكتاب توقَّف عن إيصاله إلى أحمد بن طولون؛ لعجزه عن
مناهضته.
وخرج موسى بن بُغا عن الحَضْرة مقدِّرًا أنه يدُوس عمل المفوَّض الذي فيه نقضُ الشرط؛
لما
قَوِيَت به يد الموفَّق باستيلائه على الأمر وطاعة الجيوش بأَسْرها له، فلم يكن له مخالفٌ
غير أحمد بن طولون، وقصَد بمُشارفتِه الأعمالَ حَمل الأموال منها، وكتَب إلى ماجور وإلى
أحمد بن طولون، لمَّا عَلِم توقُّف ماجور عنه في حملِ مالِ أعمالها، وعزَم على أن يقصد
مصر،
لِمَا عَلِمه من قصور حال ماجور عنها، ليتسلَّمها ويستخلف ماجورًا عليها، ويعود إلى الحضرة.
وخرج حتى بلغ الرَّقَّة، واتصل ذلك بأحمد بن طولون فأقلقه وغمَّه وبلَغ منه، لا لأنه
يقصُر
عن موسى، لكن لتحمُّله هَتْكَ الدولة، وأنْ يأتيَ ما يكون سبيلُه فيه سبيلَ مَنْ قاوم
السلطان وكسَر جيشَه، فعَمِل على محاربة موسى، وتأمَّل البلد فعَلِم أنه لا يُفتَح إلا
من
جهة نِيله، فأراد لكِبَر همته و[كثرة] فكره في العواقب أن يبني حصنًا
٩٦ على الجزيرة التي بين الفسطاط والجيزة؛ ليكون معقلًا لحرمه لكثرتهم كانوا
ولذخائره، ويُستعمل بعد ذلك لحرب مَنْ يأتيه. وقد زال فِكره فيما سواه مما يشغَل قلبه،
وأَمَر ببناء الحصن على الجزيرة، واتخذ مائة مركبٍ عربية كبارًا ومائة مركبٍ حربية سوى
ما
ينضاف إليها من العلابيات والحمائم والعشاريات والسناديل وقوارب الخدمة، وعَمِل على سد
وجه
البحر الكبير و[أنْ] يمنَع ما يجيء إليه من مراكبِ طرسوس وغيرها بنقضِ مراكبه، ويكون
ما
فيها يذُبُّ عن هذه الجزيرة، وعَمِل على أن ينفُذ إلى الصعيد وأسفل الأرض
٩٧ فيمنع من حمل الغلَّات إلى البلد، ليمنع مَنْ يأتي من البَر بالميَرة.
فأقام موسى بن بُغا بالرَّقَّة عشرة أشهر، فاضطرب عليه أمرُ الأتراك، وطالبوا بأرزاقهم
مطالبةً عظيمة، استتر منها كاتبه عبيد الله بن سليمان؛ لتعذُّر المال عليه، وخوفه على
نفسه
منهم، فلمَّا تبيَّن موسى بن بُغا عظيمَ ما جرى ويجري دعَتْه الضرورة إلى الرجوع إلى
الحضرة، فرجع وأقام بها شهرين واعتلَّ ومات في صفر سنة أربعٍ وستين ومائتَين. ومات عبيد
الله بن خاقان في هذه السنة.
وكان أحمد بن طولون مُجِدًّا في بناء الحصن على الجزيرة، وقد ألزم قُوَّادَه وثقاتِه
أَمْره وفرَّقه قطعًا، وألزم كلًّا منهم قطعةً يكُدُّ نفسه بالفراغ منها، ويتعاهدُهم
هو
بنفسه في كل يومٍ يُشرِف عليهم، ولا يعلم أن الله، عز وجل، قد كفاه وأغناه ما يُعانيه،
وما
يشُك أحدٌ أن كل طوبة بُنيَت فيه تقوم على أحمد بن طولون بدرهمٍ صحيح.
ولمَّا تتابعَت الأخبار بموت موسى بن بُغا كفَّ عن البناء وتصدَّق بمالٍ كثير، لِمَا
وهَبه الله، جلَّ اسمه، له من صيانته عما تقبُح فيه عنه الأُحدوثة، وما رأى الناسُ شيئًا
كان أعجَبَ من ذلك الجدِّ العظيم في البناء، ومباكرة الصُّنَّاع في السَّحَر، حين يخرجون
من
منازلهم في كل يوم، حتى انقطع ذلك فلم يَرَ أحدٌ من الصناع أحدًا يطلبه، فكان كأنه نارٌ
صُبَّ عليه ماء فخمد من وقته،
٩٨ ووهَب للصُّنَّاع كل ما كان سُلَفًا عليهم.
وقبَضَ أحمد بن طولون من وقته على أحمد
٩٩ المدائني، صاحب موسى بن بُغا، وكان بمصر يتقلَّد ضياع صاحبِه بها التي أقطَعه
السلطان إياها، وكان رجلًا ترِفًا غذيَّ نعمة، وكان مبدَّنًا
١٠٠ فمشى راجلًا إليه، كما مشى شُقَير صاحب البريد، وكان يومٌ شديد الحر وكان أحمد
بن طولون يحقِد عليه خلافًا كان له كبيرًا فيما كان يحاوله، ولأنه كان صاحب موسى بن بُغا،
وكان لثقته بصاحبه وعِظَم منزلته، يبسُط لسانَه في أحمد بن طولون بأشياءَ تبلغه عنه فيغيظه
عليه ويحقده له، فلما أُحضر أَحضر له السياط والعُقابين فاستجاب إلى ما طالبه به من المال،
وبادر بكتْبِ خطِّه به خوفًا من مكروهٍ يلحقه، إلا أنه لحِقَه من التعتعة والمشي ما كان
أغلظَ عليه من الضرب أو مثله، فلما أخذ خطَّه بالمال ردَّه إلى داره فمات في تلك الجمعة،
فاحتاز أحمد بن طولون الضياع بما كان كتب به خطَّه، وقبَض على جميع نعمتِه، وقُبِض على
أندونة كاتبِه، فأُخِذ منه خمسون ألفَ دينار.
ولمَّا مات موسى بن بُغا كتب الموفَّق إلى المتعمد يقول: إن الثغور الشامية ضائعة،
وإنها
تحتاج إلى مَنْ يُقيم فيها ويغزو بأهلها، وإن أحمد بن طولون مُهمِلٌ لأمرها وإنما يبعَث
إليها مَنْ لا يستقلُّ بها، فاستقرَّ الأمر على أن ينفُذَ إليها محمد بن هارون التغلبي،
وكان يتولى الموصل فكُتِب إليه في الحضور لينفُذ إلى الثغور، فرَكِب في دجلة لعلَّةٍ
نالَتْه منعَتْه عن ركوب الظهر،
١٠١ وهاجت ريحٌ شديدةٌ فألقَتْه إلى موضعٍ من الشَّطِّ فيه قومٌ من أصحاب مساور الشاري
١٠٢ فقتلوه، وأخذوا كل ما كان معه، وبلغ ذلك الموفَّق فبقي متحيِّرًا في أمر أحمد
بن طولون، وما يأتيه به الإقبال، ووقع اختياره على إنفاذ محمد بن علي بن يحيى
١٠٣ الأرمني إليها، فأنفَذه متقلدًا لها ولأنطاكية، وحاول سيما الطويل دخول
أنطاكية، فمنَعه محمد بن علي بن يحيى منها ومن الثغر، فكتب إلى أهل طرسوس فألَّبهم ووثَّبهم
عليه، وخوَّفهم منه فقبضوا يدَه، ووقعَت بينه وبينهم حالٌ غليظة، وقُتِل في داره ودُفِنَ
فيها.
وبلغ ذلك الموفَّق؛ فاشتدَّ غيظُه أيضًا وحنقُه وتعجُّبه، وقلَّد الثغور أرخوز بن
يولغ بن
طرخان التركي، وأمره أن يقبض على سيما الطويل، فلما وصل إلى الثغور تَشاغَل بالأكل والشرب،
وأخذ كلَّ ما لاحَ له، واستَولَى على كل ما كان للمرتَّبين بلؤلؤة،
١٠٤ مما كان يُحمل إليهم من المِيَرة؛ فضجُّوا من تأخُّر ذلك عنهم، وكتَبوا إلى أهل
طرسوس يُعرِّفونهم أنهم إن لم يُنْفِذوا إليهم بما يحتاجون إليه على رسمهم، سلَّموا القلعة
إلى الروم، فأعظم أهل طرسوس ذلك وخافوه، وجمعوا لهم من البلد خمسة عشر ألف دينار، وعَمِلوا
على حَملِها إليهم، فقال لهم أرخوز: أنا أحمل إليهم المال من قِبَلي لنُصلِح بينهم. فأجابوه
إلى ذلك فكتب إليهم واعتذر من تأخير ما أخَّره، فلأنه أميرهم وصاحب الثغور قَبِلوا عُذره،
ورَجَوا استصلاحه، ولما سُلِّم المال شَرهَت نفسُه إليه، وقال: متى يجتمع لي مثل هذا؟
فاستولى عليه وعرَّفهم أنه قد أنْفذه، فلمَّا تأخَّر عن القوم المالُ انصرفوا عن لؤلؤة
وسلَّموها، فاضطرب أهل الثغور بأَسْرهم من ذلك غاية الاضطراب وضجُّوا في الطرقات.
وبلغ المعتمدَ ذلك فأنكَره، فدعت الضرورة إلى أن كتب إلى أحمد بن طولون في تدبير
أمر
الثغور وضبطها كما يَرى، فلم يكن للموفَّق بعد ذلك حيلةٌ في مَنعِه منها، وكتب أحمد بن
طولون إلى أخيه موسى وكان مقيمًا بطرسوس منذ وقعَت بينهما تلك الوحْشة بتقليده إياه لها
فأبى ذلك، لما كان في نفسه منه، فكتب إلى إبراهيم بن عبد الوهاب وكان أيضًا مقيمًا بها
فامتنَع تصاونًا، فأنفَذ إليها طخشي بن بلبرده
١٠٥ ووصَّاه بحسن العِشْرة لهم، وجميل السيرة فيهم، واحتمال هفواتهم ففعل، وحسُنَت
سيرتُه بطرسوس، فأقام بها إلى أن مات، فاغتمَّ عليه أهل طرسوس وسائر الثغور.
ومن إقبال أحمد بن طولون أيضًا موت ماجور، وكان أحد من يعرِّب
١٠٦ عليه، ويسعى في أذيته فلا تمكنه، فلمَّا بلغَه موتُه حمِدَ الله، عزَّ وجل، على
ذلك، واستخلف ابنه العباس على مصر وخرج من وقته، وأيَّد ابنَه بكاتبه أحمد بن محمد الواسطي،
ووصَّى العباس بالاقتداء برأيه، والامتثال لأمره، وألَّا يُجاوز شيئًا يرسمه، أو يشير
به،
وسار في شوَّال من سنة أربع وستين ومائتَين، وقد خلا قلبه من عبيد الله بن خاقان وموسى
بن
بُغا وماجور أعدائه، الذين كانوا يعمَلون الحِيَل في أمره وطَلَبِ هلاكه. وجدَّ في السير
واستكتَب أبا الضحَّاك محبوب بن رجاء، وقَدِم كتابه إلى ابن ماجور يُعزِّيه بأبيه، وكان
صبيًّا إلا أن أصحاب أبيه قد أقاموه مقام أبيه في الرياسة، وتولَّى الأمر وتَدبيرَه أحمدُ
بن دعباش
١٠٧ التركي، وَجْهُ أصحاب ماجور والمقدَّم فيهم، وكان رجلًا شهمًا جلْدًا عاقلًا،
سمحًا بالمال، سخيًّا على الطعام، حَسَن الخُلق، حازم التدبير.
ويذكُر أحمد بن طولون في كتابه إليه أن أمير المؤمنين قد قلَّده الشام كلَّه، مضافًا
إلى
الثغور الشامية، وأنه في
١٠٨ أَثَر كتابه، ويقول فيه: وينبغي أن تتقدَّم فيما نحتاج إليه من الميَرة والعلَف
للعساكر وما تحتاج إليه. فأجابه ابنُ ماجور أحسن جواب، فلمَّا قرب من الرملة تلقَّاه
خليفة
أبيه كان بها، وهو محمد بن رافع بالميَرة والعلَف، وكان قد أقام له الدعوة، لمَّا بلغه
خبر
رحيله إلى الشام، فلمَّا وقعَت عينُه عليه ترجَّل له، وتقدَّم إليه فباس يده، فلقيه أحمد
بن
طولون بجميل، وبشَّ به وساءله عن حاله، فقال له: سلامة، ما أُبقي لنا الأمير، أيَّدَه
الله،
فعزَّاه بصاحبه وأظهر له غمًّا به، وشَكَر ذلك منه، فأقرَّه أحمد بن طولون على عمله ولم
يَصرِفه، وشَخَص إلى دمشق فتلقَّاه علي بن ماجور وأحمد بن دعباش
١٠٩ وجميع قواد ماجور وأصحابه، فَوفَّوه حق الرياسة، وقد أعدُّوا له الميرة والعلَف
وكل ما يحتاج إليه بها.
١١٠ واستخلَف على دمشق أحمد بن دعباش وأقرَّه عليها.
وكان أحمد بن وصيف مقيمًا بدمشق على سبيل النفي، نفاه إليها المهتدي، وهو وصيف الكبير
التركي الذي يقول فيه الشاعر وفي بُغا أبي موسى الذي مضى لنا ذِكرُه فيما تقدَّم:
خليفةٌ في قفَصٍ
بين وصيفٍ وبُغا
يقولُ ما قالَا له
كما تقولُ الببَّغا
والخليفة الذي قيل هذا فيه هو المستعين بالله؛ لأنه كان يُؤثِرهما جدًّا ويقدِّمهما
ويفضِّلهما ويقول برأيهما.
فلمَّا دخل أحمد بن طولون دمشق انضم إليه ابنُ وصيف هو وجماعةُ قُوَّاد ماجور، ولمَّا
صار
أحمد بن طولون إلى حمص تلقَّاه عيسى الكرخي وكان يتقلَّدها، وترجَّل له، وعَمِل على أن
يُقرَّه أيضًا على عمَله، فضجَّ أهلُ حمص منه، وشَكَوا سوء سيرته فيهم، فصَرفَه عنهم
وولَّاها يمن التركي.
وكاتَب سيما الطويل، وكان بأنطاكية على جهةِ التغلُّب وعصيانِ السلطان، يدعوه إلى
الطاعة
للسلطان والسلْم، ويقول في كتابه إليه: لستُ أسومُك شيئًا غير إقامتك الدعوة، وأنصرف
عنك،
ويكون البلد لك، تدبِّره كما ترى، فامتَنع سيما من ذلك، ولجَّ فيه لأسباب المنية، وكان
قد
تحصَّن بأنطاكية؛ لأن حصنها ما فُتِح عَنْوةً قَط، فسار إليه أحمد بن طولون وعاوَدَه
المكاتبة، وراجَعَه القول الأول ولطَف به، وراسَلَه برسلٍ معهم عقلٌ ورأيٌ وتلطُّف، فأقام
على رأيه، وهذا الفعل منه على ما كان بينه وبين أحمد بن طولون من المحبة والمصادَقة
والموافَقة، فلم يَثْنه ذلك ولا راعاه، فركب إليه أحمد بن طولون ليُخاطِبه بنفسه ووجَّه
إليه: قد جئتُكَ لتسمع خطابي مشافهة. فأشرف عليه سيما من برجٍ من أبراج الحصن فجَرَتْ
بينهما مخاطبات
١١١ كثيرة، بعضُها بالتركية وبعضُها بالعربية، ولاطَفَه بكل لطفٍ وكل حيلة، وحلَف
له بكل يمين، فلم يُجبه إلى ما دعاه إليه، وكان آخر قول سيما له: امضِ واعمَل ما شئت؛
فلأن
يلْعبَ الصبيان برأسي فأُحمَد آثَرُ عندي وأحبُّ إلى قلبي من أن تلعَب أنت بروحي. وأخطأ
سيما الطويل في هذا القول وجهِل فيه؛ لأن أحمد بن طولون كان من طبعه أن من لايَنَه واستسلم
إليه، رأى منه كل ما يُحبه، وبلغ منه كل ما يريدُه، ومَنْ خاشنه أو قاومه لم يُطِقه وكافأه
بما يستحق، كما قال الشاعر:
وكالسيف إن لاينتَهُ لانَ متنُهُ
وحدَّاه إن خاشنْتَه خَشِنانِ
وكما وصف دعبل بن علي الخزاعي رئيسًا كان في زمنه، فقال:
وإذا جالستَه صدَّرتَهُ
وتنحَّيتَ له [في] الحاشية
وإذا سايرتَه قدَّمتَهُ
وتأخَّرتَ مع المُسْتأنِية
وإذا لاينتَه صادفتَه
سلِسَ الخلقِ سليمَ الناحية
وإذا خاشنتَه ألْفَيتَه
شرِس الرأي أبيًّا داهِيَة
فاحمَدِ الله على صُحبتهِ
وسلِ الرحمن منه العافية
وكانت هذه الأفعالُ كلُّها في أحمد بن طولون قد تبيَّنها الناس في علي بن إسحاق وعلي
بن
ماجور وغيرهما.
فانصرف أحمد بن طولون عن سيما لمَّا سمع ذلك القول منه من وقته، وكان عسكَرُه فيما
يلي
الباب المعروف بباب فارس، فأقام بقية يومه، وباكَرَه من غدٍ فنصَب المنجنيقات، ورمى الحصنَ
بالحجارة وبالنفط، وكان سيما قد أساء العِشْرة لأهل أنطاكية فكَرِهوه وأبغضوه، فلمَّا
حاصرهم أحمد بن طولون ورمى حصنهم بما لا يأمنون منه المكروه، وعلموا أنهم لا يُقاوِمونه،
بعَثوا إليه فدلُّوه على الموضع الذي منه المدخل إليهم، فلمَّا كان الليل دخل أحمد بن
طولون
وأصحابه الحصن منه، ونصب أعلامَه عليه، وركب سيما الطويل فأحرق باب فارس ليشغلَهم بالنار
فتُمكِنه النجاة بنفسه، وسقط الباب الحديد ودخل منه إلى بقية أصحاب أحمد بن طولون وهو
لا
يعلم ذلك، وطلَبه أحمد بن طولون وأصحابه والتقَوا، فحاربَ بنفسِه ساعةً حربًا
١١٢ شديدًا بانت فيه رُجلتُه وجزالتُه. وقد تقدَّم أحمد بن طولون إلى جميع مَن معه
ألا يُقتل وإن أمكن قتلُه، ولا يُرمى وإن أُخِذ أُخِذ سليمًا، فلِبُغض أهل أنطاكية له
رُمِيَ بالطوب والحجارة من المنازل والمواضع فتحيَّر ولحِقَه سَهمٌ فصرعه، فقُتِل في
المعركة ولم يُعلم به، وبقي مطروحًا واستأمن أصحابُه وغلمانُه، وأحمد بن طولون يسأل عنه
ويبحث عن خبره، فما وقف عليه حتى اجتاز به آخر النهار وصيفُ اللاني مولى القصيصيين
١١٣ فعَرفَه، فنزل وأخَذ رأسه وأتى به إلى أحمد بن طولون، فنَصَبه على رمح، فلمَّا
رآه مَنْ كان بقي من أصحابه منهم من هرب، ومنهم من استأمن.
ولمَّا رأى أحمد بن طولون رأس سيما قال: قد عَلِم الله، جلَّ اسمُه، أني كنتُ أُحب
لك غير
هذا فأبيتَ، فأنا بريء من دمك. والله ما أمرتُ بقتلك ولقد نهَيتُ عنه، فأحبَّ الله، جل
ذكره، فيك ما أحَب فأمضاه. وكان ذلك في المحرَّم سنة خمس وستين ومائتَين، وقبض أحمد بن
طولون على جميع ما كان لسيما من مال وعُدَّة وكُراع وغير ذلك، وكل شيءٍ عظيمٍ جليلٍ
خطير.
ودخل إلى طرسوس في جمعٍ عظيم، وعزٍّ منيع، فضاق السعر بها، وضاقت بأصحابه وسواده
طرقاتُها، فاضطرب أهلُها وتأذَّوا بأصحابه فصاروا إليه، وفيهم غِلْظة أهل الثغر، ونسُوا
أنهم في وجه عدُوٍّ عظيم قد قاوموه فقالوا: عافاك الله، قد ضاق بأصحابك بلدُنا، وتعذَّرت
بك
معيشتُنا، ونقَص سِعرُنا، فإما أقمت في عُدةٍ يسيرة تحمَّلَها بلدنا وإلا رحلتَ عنا.
وكان
كلامهم له كالشغْب، فقال لهم برفقٍ وتأنٍّ: نرحل عنكم، حفظكم الله. وركب من وقته.
وأطلقوا ألسنتَهم في أصحابه، فقال لهم أحمد بن طولون: احذروا أن تُنابِذوهم. فقالوا
له:
قد حمَلوا السلاح يريدوننا. فقال لهم: انهزموا عنهم، وأظهِروا الخوف منهم، واخرجوا عن
بلدهم؛ فقد ضيَّقناه عليهم، فشَقَّ على أصحابه ما أمرهم به من انهزامهم عنهم، وقالوا
له:
أيها الأمير، تَكسِرنا عنهم، وليس عُدَّتهم كُعدَّتنا، ولا حالهم كحالنا، ولا هم وغيرهم
ممن
يقاومنا. وخاطبه وجوه قُواده بمثل هذا، وقالوا له: علينا في هذا مكسرة، ووضعٌ منا عندهم
وعند غيرهم. فقال: ويحَكُم كل ما تقولونه أنا أعلمه، ولي فيه ما قد علمه الله، جلَّ اسمُه،
وأنا أتحمَّل فيه وأُحمِّلكم كل مكروهٍ ومشقةٍ مما ذكرتموه تقرُّبًا إلى الله، عزَّ وجل،
فقالوا له: فيُعرِّفنا الأمير لنسكُن إليه، فقال: إنه لم يَخفَ عن مُتملِّك الروم العِدَّة
التي دخلَت هذا البلد، والعُدَّة وما نحن عليه من القوة والنجدة، فأحببتُ أن يستقر في
قلبه
وعنده وعند عساكره وجنوده أنَّا على ما نحن عليه قد ضعُفنا عن أهل طرسوس، ولم يمكنَّا
مقاومتهم، فانهزمنا عنهم، وعزُّهم فهو لله، عزَّ وجل، وعزُّكم فهو لي، والله، جلَّ اسمُه،
أوْلى أن يؤثَر. فقالوا: صدق الأمير، الآن طابت نفوسنا. وضَربَ مَضارِبه خارجها، حتى
فرغ
مما احتاج إليه، ومنَع أن يدخُل إليها أحدٌ من أصحابه حتى رحل عنها.
ورَكِب يوم الجمعة، وقبل رحيله دخل إلى الجامع ليصلي راجلًا برداءٍ ونعلٍ ومعه ثلاثة
غلمان، فصلى الجمعة وجلس في الجامع فقضى حوائج أهل البلد، في كل ما سألوه فيه وأرادوه،
وبلغ
لهم كل ما أحبُّوه، وتصدَّق بجملة من المال، وكثُر الدعاء له والضجيج بذلك في الجامع
والطرقات، وخرج إلى مضربه، وخرج أهل البلد كلُّهم معه يشيِّعونه ويَدْعون له، ورحل عنهم،
فبلغ ذلك متملِّك الروم، وما كان من أهل طرسوس معه، فعظُمَت هيبةُ الثغر في قلبه.
حدَّث أبو العباس [الطرسوسي] المتولِّي كان لغسل أحمد بن طولون عند وفاته، وكان رجلًا
خيِّرًا فاضلًا زاهدًا يتقوَّت من المباح، قال: كان بطرسوس رجلٌ من خشن الصوفية خيِّرٌ
فاضل، قد خرج من طعمةٍ جليلة، ونعمةٍ حسنة إلى الله، عزَّ وجل، يتقوَّت من عمل الخُوص،
وكان
لا يقطع الخروج إلى الثغور راجلًا، وكان أحمد بن طولون، بمُقامه في ابتداء أمره بطرسوس،
مواصلًا له [ومتعجبًا من حُسن ألفاظه] فحدَّث قال: لمَّا أراد أحمد بن طولون الانصراف
عن
طرسوس أحضرني فجئتُه فساءلني عن حالي، فشكرتُ الله، جلَّ اسمُه، عليها، فقال: قد سُرِرتُ
بنظري إليك، وأنا أريد أن تتقدَّمني مع العِشاء إلى منزل فلانٍ صديقنا، يريد الرجل الذي
قدَّمتُ ذِكره، فتجلس عنده ولا تعرِّفه مصيري إليه، فإن سألكَ عني فلا تُرِه في كلامك
هيبةً
لي، وكن في جوابك له مستكينًا خاضعًا لذكري، وأَقرِئه مني السلام، وعرِّفه أني استدعيتُ
مجيئك لتعرُّف خبره، وذكرتُ لك شدة شوقي إليه، وقل له آخر كلامك: وأحسبُه يصير إليك ليسلِّم
عليك قبل رحيله، وودِّعه واخرج فتلقاني وتعرِّفني ما جرى بينكما.
وكانت قد حصَلَت بيني وبين أحمد بن طولون، بطُول مُقامه بالثغر، مودةٌ وعِشْرةٌ وصحبةٌ
على الخير، وكان يطوي أيامًا ويُحيي الليل بالصلاة إلى الصبح، فأحبَّه قلبي وقلبُ كل
مَن
شاهد ذلك منه، فلم أُحب مخالفتَه، ومضيتُ فعَمِلتُ كما رسم لي، فقال لي بانكسارٍ منه
وكثرة
حياء: يجيء متى شاء. وانصرفتُ عنه فلقيتُ أحمد بن طولون في الطريق، وهو يريد المجيء راجلًا،
وليس معه غلامٌ واحد كان خَصيصًا به، فأخبرتُه بما جرى فردَّني معه إليه، فلمَّا دخلتُ
إليه
قلتُ: لقِيَني فردَّني إليك، فلمَّا قرُبَ منه أحمدُ قام إليه وقال: هذا ما تُوجِبه الطاعة
لأولي الأمر وتارِكُه يخطئ. فبكى أحمد بن طولون، فقال له لمَّا استقرَّ به المجلس: يا
أخي،
ما الذي أنكرتَه من ربك حتى شردتَ عنه، وأنت مع تباعُدك عنه لا تخرُج من قبضته، فارحم
نفسَك
من تحميلها ما لا تحتمل، واعلم أن جِدَّه يُمحِّص هَزْلَك وطاعتَه تُزيل اجترامك، ولا
تستكثر من الدنيا مالًا يخفُّ معك حملُه، ولا ينفعك إذا دعا بك ربك، وتيقَّن أنك مردود
إليه
بعملك وحده، وما سواه متخلِّف عنك. وأحمد بن طولون لا يزيد على البكاء الكثير شيئًا.
قال أبو العباس: فالتفت إليَّ الشيخ وقال: يا أخي ما ترى الناس كيف يَبطَرون تحت الأقدار؟
ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم بصِّره رشدَه، وارحمه من سخطك عليه، ثم قال له: انصرف
في حفظ الله [فإني أخاف أن تُعدِيَني بحبِّ الدنيا وطاعة الائتمار]، ولست أنساك عند ذكري
إن
شاء الله.
فقيل لأبي العباس: كيف حفظتَ هذا الكلام؟ فقال: كان الغلام الذي كان مع أحمد بن طولون
هو
الذي كان كاتب السر، الذي كان يكتُب كل ما يجري من أحمد بن طولون مع مَنْ يُخاطِبه وما
يجري
مِن مُخاطبِه له، ولا يُسْقِط من ذلك شيئًا، فإذا خلا عَرضَ الغلام عليه مجملًا
١١٤ بما يجري يومًا يومًا وليلةً ليلة، فكتب الغلام جميع ذلك على الرسم، فلمَّا
انصرفتُ مشيعًا له إلى مَضْربه سألتُه أن يأمر الغلام أن يُطلِق لي نسخةً فأمَره بذلك
فنسختُه.
قال مؤلِّف هذا الكتاب: وكذا كان أحمد بن طولون إذا أنْفذ رسولًا في حاجة برسالة،
قال له:
أعِدْ عليَّ ما قلت. فإن أعاده ولم يَخْرم منه حرفًا أنفذَه، وإن قصَّر عن ذلك استبدَل
به
وأمَر بحبسه.
قال: وكان أحمد بن طولون قد عَمِل على أن يغزو قبل أن ينصرف من الثغر حتى ورَد عليه
الخبر
بخلاف ابنه العباس عليه، وأخْذِهِ كلَّ ما تهيَّأ له من المال والكُراع والسلاح، وذَهابِه
إلى الغرب، وحمْله معه أحمد بن محمد الواسطي، كاتب أبيه، مكرَهًا، وأيمن الأسود مقيدَين،
فانكفأ راجعًا إلى مصر قد حيَّره ما دهاه من مَأمنِه.
فمن دهائه وجَوْدة رأيه وحَزْمه، أنه لمَّا عمل على المبادرة إلى مصر، لم يكن الرأي
عنده
أن يترك أطراف عمله منتشرة، غير مضبوطة ولا محروسة، فتوقَّف وفي قلبه أحرُّ من الجمر،
حتى
بعَث بأحمد بن جيغويه في جيشٍ كثيف إلى حرَّان
١١٥ وما والاها، وبعث بلؤلؤ غُلامِه في مثل ذلك إلى نواحي الرَّقَّة
١١٦ والدنارين
١١٧ ليضبط ذلك. وهو آخر عمله مما يلي الشرق.
قال مؤلف هذا الكتاب: ومثل هذا بعينه رأيناه مع مؤنس الخادم الذي كان يُعْرَف بالأستاذ
لمَّا وجَّه
١١٨ به المقتدر لقتال عبد الرحمن صاحب الغرب، وقد حصَل عبد الرحمن هذا بالفيوم،
وملَكَ أكثر أعمال مصر، فأقام مؤنس الخادم بالجيزة حتى استتمَّ ما أراد من العُدَّة،
وسار
إلى الفيوم في جيش لم يُرَ مثلُه قَط، وأخذ أول عرضه الجبل والأهرام، وأخذ آخر عرضه شط
النيل، وأخرج في البحر مراكب حربية والعلابيات والعشاريات والسناديل العمالة والقوارب،
وكل
صنفٍ من السفن مما لا يُحصى كثرة، مملوءة رجالًا وسلاحًا وعلوفةً وزادًا، حتى كأن البحر
كله
قد فُرش سفنًا، وكانت تسير في البحر مسير الجيش في البَر، فلما اتصل خبره بعبد الرحمن
ولَّى
هاربًا راجعًا من حيث جاء، ولَحِق سُرعان مُقدمة مؤنس أطرافَ أصحاب عبد الرحمن، فأسَروهم
وقتَلوا منهم خلقًا عظيمًا، فلما اتصل بمؤنس خبرُ عبد الرحمن وهربه، أتاح له الفكر
والتيقُّظ أن يكون أظهر ذلك، لما صح عنده خُلُو البلد من الجيش، فخالف إليه ليَملكَ القصبة
عليهم، وأمر تكين
١١٩ الخاصة، وكان أميرُ مصر يومئذٍ، أن يلحَقَ الجيزة ويضربَ مَضارِبه بها
ومصافَّه، فأقبل تكين ركضًا من الفيوم حتى ضَربَ مَضارِبه بالجيزة، حيث كانت قبل الرحيل،
فساءت ظنون الناس لذلك ولم يعلموا ما السبب فيه حتى انكشَف لهم، وهذا التيقظ في سياسة
العساكر ومن حزم الرأي وجَوْدة التحفُّظ، وإنما استدرك مؤنس الرأي بعدُ، ولأحمد بن طولون
فضلُ السبق؛ لأنه استَقبَل أَمرَه بحُسن التدبير، وضبْط الأعمال، قبل دخول آفةٍ عليها
وعليه
فيها، فكان هذا من إقباله.
ولمَّا وصل ابن جيغويه إلى حرَّان وجد بها محمد بن أتامش
١٢٠ فطَردَه عنها وهَزمَه أقبح هزيمة، فاتصل خبره بأخيه موسى بن أتامش، وكان موسى
بن أتامش هذا من الفرسان المعدودين، والشجعان المذكورين، فأغاظَه ذلك وخرج تعصُّبًا لأخيه
وطالبًا له ولثأره، يريد ابن جيغويه، فلما اتصل خبره بابن جيغويه سُقِط
١٢١ في يده، وخاف أن يضعُف عنه ووقع بين شرَّين، كما قال الشاعر:
[فقال] غَدرٌ وثكلٌ أنت بينهما
فاختَرْ وما فيهما حظٌّ لمختارِ
مقارعة موسى بن أُتامش وليس هو من أنداده، ثم النكوص عنه والرجوع إلى أحمد بن طولون
فيَلْقى منه التلَف والبوار، فأحزَنَه ذلك وحيَّره، فتأمَّله بعضُ أصحابه من الأعراب
المضمومين إليه يُكنى أبا الأغر، وليس بصاحب ابن الخليج، فقال له: أيها الأمير، ما لي
أراك
مقطِّبًا مغمومًا ساهمًا مفكرًا منذ أيام فما الخبر؟ فقال له: لخبرِ موسى بن أتامش. فقال
له: فما هذا وزن ابن أتامش ولا مقداره أن يبلغ منك مبلغُه هذا المبلغ العظيم؟ والله إنه
لطيَّاش قلِق، ولو شاء الأمير أن أمضي فآتي به إليه أسيرًا لفعلتُ، فبقي ابن جيغويه متعجبًا
من قوله، وقد أغاظه منه ذلك، فلِغيظِه قال له: نعم، قد شئتُ أن تأتيَني به أسيرًا، ولك
السبْق الوافر. فقال له: فضُمَّ إليَّ عشرة
١٢٢ رجالٍ أختارهم، قال: أفعل. فاختار عشرة كما أَحبَّ وأمرهم ابن جيغويه بالسمع
والطاعة له.
وخرج فكمَنَ أربعةٌ منهم بموضع وثلاثة في موضعٍ آخر وجعل بينه وبين الثلاثة علامةً
وشعارًا، وسار في الثلاثة الباقية معه في زي الأعراب، حتى خالطوا عسكر موسى بن أتامش
ليلًا،
فقصد مضربه فلمَّا قرُب منه تعاثَر بآريٍّ
١٢٣ فيه خيل مربوطة قريبة من المضرب، فخلع الآري
١٢٤ فنفَرَت الخيل وصِيح بها فمرَّت نافرةً تعدُو بين المَضارِب وصاح هو ومَن معه:
الأعراب الأعراب. وأصحابُ موسى متفرِّقون منهم مَنْ قد مضى يلتمس عَلفًا لدوابه، وآخرون
في
حوائجهم ومَنْ في الخِيَم، فمنهم مَن يشرب، ومنهم مَن يضرب بطنبوره ويُغنِّي لنفسه، ومنهم
مَنْ قد سَكِر ونام. قد أمنوا أنهم لا يقدمُ عليهم أعرابٌ ولا غيرهم.
فأوَّل مَنْ خرج لما سمع الصوت موسى بن أُتامش وحده ثقةً منه بنفسه وشجاعته وإقدامه،
وقد
كان كذلك، وما كان يعبيه غيرُ عَجَلة الإقدام، وهي التي تُنسَب إليه الطيش، فلما رآه
أبو الأغر مرَّ منهزمًا بين يدَيه فقصَده موسى، وأقبل أبو الأغر يُطمِعه في نفسه، ويريه
أنه
قد خافه وهابه، وهو بين يدَيه يتطارد، ولجَّ موسى في طلبه حتى قرُب من موضع الكُمناء،
فناداهم بالعلامة بينهم، فخرجوا إليه من ها هنا ومن ها هنا، فعطف هو ومَن اجتمع معه على
موسى بن أتامش، فأخذوه أسيرًا، وأقبلوا به يقودونه قودًا إلى ابن جيغويه، فورَد عليه
وعلى
الناس من ذلك ما تعجَّبوا منه وتحيَّروا له، وقالوا: ليس هذا بتدبير الأعرابي ولا برُجلة
١٢٥ ابن جيغويه، ولكنه بإقبال أحمد بن طولون، تهيَّأ أخذُ مثلِ هذا الأسد ما لم
يُطمَع في مثله، فحيَّره إقبالُه حتى خرج بنفسه مبادرًا ولم يعلم به أحدٌ من غلمانه،
ولا
طلَبه ولا استدعاه. وكان لما أن رَكِب موسى وعَلِم به بعض غلمانِه وأصحابِه ركبوا خلفَه،
فلم يَدْروا كيف ذهب، وكانت ليلةً ظلماء فتفرَّقوا يمينًا وشمالًا، ولم يُقدَّر لواحدٍ
منهم
أن يسلك طريقه التي قصَدها، ليتمَّ القضاء المقدَّر لأحمد بن طولون، فلمَّا وصَل إليه
اعتقله في حُجرة فرشَها له في داره، وفكَّ قيده، وخلع عليه، وبلغ في إكرامه ما يستحقُّ
مثلُه، وخلع على أبي الأغر وأجازه، وزاد في رزقه ونوَّه باسمه، وقد كان جيغويه أجازه
أيضًا،
وحملَه وخلَع عليه، قبل إنفاذه موسى بن أتامش إلى أحمد بن طولون.
قال: وعُدنا إلى أخباره المشهورة في دَهَائه وعَقْله وحَزْمه، وجعَلْنا لخبر ابنه
العباس
بابًا مفرَدًا كما شرطنا، فمن ذلك أنه لمَّا وجَّه بالواسطي إلى العراق كما ذكرنا في
أول
أخباره، واستكتب جعفر بن عبد الغفار، اضطرب بما حُمِّله من الأمر ولم يكمُل له، فقال
له حمدان
١٢٦ بن خاقان: الأمير، أيَّدَه الله، يحتاجُ إلى كاتبٍ أوفى وزنًا من هذا الكاتب.
فقال له: أنا أحتملُه وأقنع به لأنه مصري. فقال له: والأمير، أيَّدَه الله، يرى أن الكاتب
المصري أكتَبُ من العراقي وأنهَضُ بما يتولَّاه. قال له: اعلم أن أصلح الأشياء لمن ملَك
بلدًا أن يكون كاتبه منه؛ فإنه يجمع بذلك أشياء تُحمَد عاقبتُها؛ منها أن عيال الكاتب
وَشْمله وكل ما يملكه معه في بلده. ومنها أن جميع ما يكسبه فيه، وإن كان ممن يرغب في
تجارة
كانت تجارتُه فيه، أو في شراء عقار أو بناءٍ كان فيه. ومنها أن جميع ما يتجمَّل به ولدُه
وعيالُه ويقتصدُه لهم من قليل وكثير ففي بلده، وما يعتقده
١٢٧ من ضيعة أو رَبْع
١٢٨ أو ماشية فكلُّه عمارة لبلده، وضمنه الجناية إن كانت منه أو جناية أحد من جهته،
و[هو] مع هذا وأهلُه ظاهرون لي، متصرفون في خدمتي.
والكاتبُ الغريب ليس كذلك؛ لأنه يعتقد المستغَلَّات في البلد النائي عني، وكدُّه عمارة
بلده بتخريب بلدي، وهو كذلك في كل حال متطلِّع إلى بلده، فإن اجتمع عليَّ منه أن يكون
رئيس
بلده من أميرها أو وزيرها عولى [؟] وهو أحد أهله المقيمين معه في بلده خلطة أو خدمة فاختصار
الحبه [؟] أمن الاشتمال عليه، فهذا الذي زهَّدني في كُتَّاب العراق، مع علمي بما فيهم
من
الصناعة وتقدُّمهم في الكتابة، فقال له: قد أصاب الأميرُ الرأي، وفَّقه الله.
ومن ذلك أن طيفور خليفته بالحضرة كتب إليه أن رجلًا من الموالي قد أشجاني وضيَّق عليَّ،
وشغل قلبي مما لا يجري ذِكرُكَ، أيها الأمير، بحضرته في مجلس الموفَّق أو غيره إلا بسَط
لسانَه فيك، وحرَّض عليك، فكتب إليه يقول: قد وجَّهتُ إليك كتابًا يصل من يدك إليه،
فأَوصِله سِرًّا عن جميع الناس، مع ما قد حملتُه إليك لتُوصِله إليه أيضًا ليلًا، فلا
يقف
عليه أحدٌ بوجه ولا سبب.
قال: وكان الكتاب يصِفُ فيه شوقَه إليه، وتطلُّعه إلى معرفة خبره، وأنه قد كان منذ
مدةٍ
طويلة يطلُب رجلًا يعتمد عليه بالحضرة لمهمَّاته، فعَسُر عليه ذلك؛ خوفًا أن ينكشفَ أَمرُه،
فيتعذَّر عليه ما يحتاج إلى معرفته من جهته، فلمَّا بلغَني مقالاتُك فيَّ، وبسْطُ لسانك
بذكري، بما يسرُّ العدوَّ ويغمُّ الصديق، علمت أن بهذه الحال يتمُّ لي بها منكَ ما أُحبه،
وتيقَّنتُ أنْ بمودتك برجوعك إليَّ يحصُل لي ما أستميل به قلبك، وأرغبُ فيه من مؤاخاتك
ومسالمتك، وقال رسول الله
ﷺ: «تهادَوا تحابُّوا.» وقال أمير المؤمنين علي، عليه
السلام: «الهدية عَطْفة القلوب.» وقد وجَّهتُ إليكَ بما جعلتُه هديةً إليك ألفَي دينار
تصرفُها في بعض مهمَّاتك، ولن أقطع مواصلتك بحسب ما أقفُ عليه من خُلوص طويَّتك، وصحة
نيتك،
فلا تخلِّني يا أخي، أعزَّك الله، من ذكر أحوالك، حسَّنها الله، وتُكاتِبني بجميع ما
أحتاج
إلى علمه، فإن الذي تأتيه من ذلك يغيب ويستتر عن الخلق كلهم، لِمَا يعرفونك به من الانحراف
عني، ولا تقطع ذِكري بما جرى رسمُك بذكره، بل فزِدْ في ثَلْبي والطعن عليَّ، فإنك تبلُغ
لي
بذلك ما تُحبه لي، وتسُرُّني فيما تأتيه في ذلك إن شاء الله.
فلمَّا وصل الكتاب إلى طيفور رَكِب به كما أمَره، وأوصَلَه إليه والمال، فدعا له وشَكَره،
ووعَد طيفورًا بأنه يبلُغ له في ذلك فوق ما يُحبه، وصار من أخص أصحاب أحمد بن طولون على
الأخبار، فكان يُكاتِبه بجميع ما يجري في دار الموفَّق ودار المعتمد وسائر البلد، مما
يحتاج
إلى علمه، واستَتَر أمرُه مدةً طويلة عن أصحاب أخبار الموفَّق، ثم انكشَف أمرُه للموفَّق،
فأحضَره وضَربَه بالسوط ورماه [في] المُطبِق، وأقام فيه أيامًا ومات، فانتفع به أحمد
بن
طولون مدةً على الضرورة، ثم استراح منه دفعةً واحدةً بأَهوَن سعي، وذلك الذي قصدَه
فيه.
ومنه ما رواه أبو جعفر بن عبد كان أنه وَرَد عليه كتابُ مُتملِّك الروم
١٢٩ يسألُه الهُدْنة، فأجابه إلى ذلك وقال له: اكتب إلى طخشي بطرسوس أنَّ مُتملِّك
الروم سألنا الهدنة مدة كذا وكذا، وقد أجبناه إلى ذلك على علمٍ منا أنه لم يدْعُه إلى
ما
سأل إشفاقٌ من سفك الدماء، ولا تحوُّز لطلب السلامة، بل أظن، وهو كذلك، أنه قد خَربَت
له
قصور أو استرمَّت
١٣٠ أو لحِقَه من بعض أعدائِه اضطرابٌ اضطَره إلى الهُدنة هذه المدة، ومن الخسران
المبين أن يكون بما التمس من ذلك أسعدَ منا، وإذا قرأت كتابي فتعاهَدْ جميع الحصون التي
بقُربك، فرُمَّ منها ما استَرمَّ، واعمُر منها ما خَرِب وجدِّد منها ما أخْلَق، وأنفق
على
ذلك من مالي الذي في أيدي وكلائي في ضياعي التي تقرُب منك، وفرِّق في صعاليك أهل الثغر
ممن
تضُر به هذه الهدنة ما يقيم أوَدَهم ويكفيهم، وأوْسِع عليهم في ذلك، وطالِعْني بما يكون
منك
فيه فإني أراعيه إن شاء الله.
قال ابن عبد كان وكان مضطلعًا بالكتابة: فوالله العظيم ما حضَرني لهذا الكتاب أحسنُ
من
معاني ألفاظه كلها فلم أتجاوزها. وأنفَذ الكتاب وعمِل به.
ومن ذلك ما حدَّثَت به نعت
١٣١ أم ولَدِه قالت: كان عندي له جوارٍ أُهدين إلى مولاي، ما رأيتُ أحسن منهنَّ ولا
أجمل، فأقمن عندي مدةً لم يطلبهنَّ، فشوَّقتُه إليهنَّ بحسن الصفة لهنَّ؛ فذكَر لي شُغل
قلبه عن ذلك، ثم دخل إليَّ بعد ليالٍ، فتبيَّنتُ منه انشراحَ صَدرٍ وطيبةَ نفس، فذكَرتُهنَّ
له فقال لي: اعرضيهنَّ عليَّ واحدةً واحدة ففعلتُ، فنظر إلى الأوَّلة وقال: حسنة والله،
ثم
أحضر بعض الخدَم ودفعها إليه، وقال له: امضِ بها إلى غلامي فلان، وقل له: بحياتي عليك،
اطلُب من هذه الولَدَ [سرَّك الله وكثَّرك]، ثم لم يزل يفعل ذلك بواحدةٍ واحدة حتى استوفى
عِدَّتهنَّ مني.
فتبيَّن الغَيظَ فيَّ فضحك، وقال: أراك مَغيظة؟ فقلتُ: يا مولاي، آثرتَ مثل هؤلاء
المتعذِّر مثلُهنَّ غلمانَكَ على نفسِك، فقال لي: يا ويحك، قد ارتفعَت رغبتي في النكاح
وما
ناسبه، وإنما رغبتي الآن وغَرَضي ورأيي في حراسة دولتي وضَبْط نعمتي، ومن اضطُر إلى من
يُضافِره على أَمْره سلك هذا المسلك وآثَر هذا الإيثار، وهؤلاء الغلمان فهم عُدَّتي،
وينتسبون إليَّ انتساب الأبناء إلى الآباء وشهواتُهم مقصورةٌ على الأكل والشرب والنكاح،
فأنا أُوثِرهم بما يحبُّون وأرتفع أنا عنه كما أنهم يُؤثِرونَني في أوقات التضايُق على
نفوسهم؛ فيبذلون فيَّ مُهَجهم دون مهجتي، فقلتُ: وفَّق الله الأمير. فقال لي: اعلمي أني
أجِدُ في فهم الرجل عني وإفهامه إيايَ من الالتذاذ أكثر مما يجدُه مُجامِع الحِسَان من
لذة
جماعها، وحسبُكِ. فدَعوتُ له.
وحدَّث نسيم الخادم قال: جرى ذِكْر أخلاقِ قومٍ بين يدَي مولاي فقال: أما أنا فأرى
أن
أدفَع بمالي عن رجالي، وبرجالي عن نفسي، وما في الأرض عندي أبغضُ إليَّ من رجلٍ يزيد
مالُه
على فعالِه، وحالتُه على كفايته.
واستكتب كاتبًا فقال له: إني جعلتك صاحب خبرٍ على ألفاظي، فانظر كل ما يجري بيني وبين
مَنْ يُخاطبني، مَنْ كان من الناس من صغير وكبير، فاكتب خطابَه وجوابي، وخطابي إياه وجوابَه
لي، واعرِضه عليَّ بالعشيِّ، فكان يراعي هذا أشدَّ مراعاة.
وحدَّث عنه ابن عبد كان قال: كنا نُنشِئ الكُتب إلى السلطان وغيره من أصحاب أعماله،
فيَرِد في الأجوبة غيرُ ما صَدرَت به الكتب إليهم، فذكرتُ له ذلك لمَّا كثُر، فضحك فقال:
هذه أجوبةٌ عن أشياء أضمِّنها أنا الكتب، لا أُطلِعُكم عليها.
ومن ذلك أن كُتَّابه
١٣٢ لم يكونوا يختمون كتابًا ولا يُحرِّرون نسخته حتى يعرضوه عليه، فإن استصابه
١٣٣ أمضاه وإلا غيَّره. وكان لمَّا استكتب في خَرْجَته إلى الشام أبا الضحَّاك
محبوب بن رجاء ولم يكُن بالكامل إلا أنه كان حاضرَ الذهن حُلوَ الألفاظ، فعَرضَ عليه
يومًا
كتابًا فلم يقُل فيه شيئًا، فأنفذَه محبوب، فسأله عنه أحمد بن طولون بعد أيامٍ فقال له:
قد
أنفذتُه. فحَردَ واغتاظ، وقال له: ويلك، حقُّ الكتب أن تُراجَعَ فيها الأفكار، وقد كان
ينبغي أن تُؤخِّر إنفاذه وتُراجعَني فيه. فكانت كُتبه بعد ذلك تُؤخَّر لمراجعة النظر،
والتصفُّح بعد الإنشاء، وجَعَل لها ديوانًا.
فقال له يومًا في كتابٍ قد كان عَرضَه عليه: أظُن ذلك الكتابَ قد شارَف دمشق. فقال
له
محبوب: لا والله أيها الأمير، هو مؤخَّر في ديوان التصفُّح،
١٣٤ فقال له: ويلٌ لك، أتشُك في رأيي حتى تطلُب مراجعةً بعد مراجعة؟ وإنما قصدنا
مراجعة مرة لا مرتَين، كأنك تراني بعين مَنْ لا يُوثَق بخاطره ونظره فكيف مراجعة مرة؟
فحمل
محبوب بن رجاء الغيظُ والدالَّة عليه إلى أن قال له: أيها الأمير، ما أدري أي شيء أنت؟
إن
قدَّمنا قلتَ: أخِّروا. فإن أخَّرنا قلتَ لنا: قدِّموا. فأمر به فبُطِحَ وضَربَه خمسَ
مقارع، فكانت المقارع تأخذه وهو يقول: اقتلني وقل لي أي شيء أنت؟ فضَحِك منه
وأطلَقه.
وهذا كلُّه فإنما كان منه دهاءً ولم يكن في كُتَّابه أحدٌ أعرَف بخدمته ولا أصبَر
عليها
من أحمد بن محمد الواسطي. لقد عتب عليه يومًا فضَربَه بيده ضربًا لا يحتمله المملوك.
ومن
حُسن أفعاله أنه كان لا يضربُ أحدًا من كُتَّابه إلا هو بيده، كما كان يضرب من يُخطِئ
من
ولده بيده.
ولمَّا ضرب الواسطي ضربًا بلَغ منه أمره بالانصراف عنه، فلمَّا خرج من بين يدَيه طرح
نفسه
في دهليز من دهاليزه، فأقام فيه ثلاثةَ أيامٍ ينام على حصير الدهليز ودواتُه تحت رأسه،
صائمًا نهاره، فإذا صُلِّيَت العِشاءُ أفطَر على خُبز وملحٍ لا غير ذلك، ولم يتهيأ لأحدٍ
من
حاشيته [أن] يفعل في أمرِه ما يستحقُّه ويلزمهم له خوفًا منه، وأخبار تُنقَل إلى أحمد
بن
طولون في كل ساعة.
ولمَّا مضت له ثلاثةُ أيامٍ أحضَره وخلَع عليه، وأجازَه وعاتَبه على ما كان منه، حتى
أخرجه إلى ما جرى إليه، وأنه جعل ذلك تأديبًا له كما يؤدِّب أحدٌ ولده، فشَكَر ودعا وزادت
حاله عنده.
وحدَّث الواسطي هذا قال: انصرفتُ ليلةً إلى داري، وكان عندي مَنْ آنَسُ به وأتفرَّج
إليه،
وأثق بمودته ممن يصحبني، قد خالَطَني
١٣٥ بنفسي؛ لأن الإنسان الكامل يتفرَّج إلى صاحبه بما لا يتفرَّج به إلى أخيه ولا
ولده ولا خاصَّته وإن كانت حظيَّة عنده.
وكنتُ قد ألزمتُه المبيت عندي، وكان انصرفي وقد مضى هزيعٌ من الليل، فدخلتُ وأنا مقطِّبٌ
مشغول القلب، فتأمَّل ذلك مني، وقال لي: أطلتَ عند الأمير الليلة جدًّا، وأراك قد جئتَ
وعلى
قلبك همٌّ، فما الخبر؟ فلم يكن بي فضلٌ لجوابه، وبقيت بثيابي وخُفَّيَّ جالسًا، فقال
لي:
استَخِر الله يا سيدي، وادخل إلى الحرم، واخلع ثيابك، ونَمْ تهدأ أعضاؤك بما تعطيه نفسَك
من
الراحة. فقلت له: دعني من هذا فقد حيَّرني أمرٌ هذا الرجل الذي أخدمُه وأدهشَني، وما
أشبِّه
موارد أموره ومصادرها إلا بالآخرة، فلي والله في الفكر فيها ما يشغلُني عن الراحة والمطعم
والمشرب التي لا بدَّ منها.
فقال لي: قد استعجلتُ أنا الساعة الحيرة فخبِّرني ما السبب؟ فقلتُ له: كنتُ بين يدَي
الأمير واقفًا أعرض عليه الأعمال، فلم أزل كذلك إلى أن جاء نصف الليل، فرأيتُه وقد تشاغَل
عني بشيءٍ آثَر الانفراد به، فتأخَّرتُ ومِلْتُ تعبًا إلى طَرَف الزُّقاق، فطرحتُ نفسي
أَغتنِم استراحة، وكان موضعًا مظلمًا لا يبين مَنْ فيه لكثرة ضوء الشمع، فرأيت غلامي
فلانًا، وهو كما تعلم أكبرهم وأوثقهم عندي، وهو عُدَّتي وعليه مُعوَّلي، وقد وقف بإزائه
لمَّا لم يَرَني، وظنَّ الأمير أني قد خرجتُ من الدار، فاستدناه فدنا منه، فلم يزالا
في
سِرارٍ متصلٍ أكثر من ساعة، ثم خرج من عنده مبتسمًا، لما لَقِيه به من محبوبه، فما ظنُّكَ
بمن أبرُّ غلمانِه عنده صاحب خبر عليه؟ أيُّ عيشٍ يطيب له؟ أو أي راحة تنفعُه؟
ومن ذلك ما حدَّث به أحمد بن أيمن قال: قال لي أحمد بن طولون يومًا: اطلُب لي رجلًا
زكي
الروح، صادق اللهجة، صحيح التمييز، لمهم لي أريده، فوعدتُّه بذلك، وقد كان في جواري فتًى
من
أولاد الكُتَّاب فيه ما وصَفَه لي، فعرضتُّ عليه ما ذكره لي الأمير فقَبِلَه، فأدخلتُه
إليه، وقلتُ له: هذا الرجلُ الذي طلَبه مني الأمير. فتأمَّلَه ثم استدناه فدنا منه، وأسرَّ
إليه ما لم أقف عليه، فدعا بالسياط والعُقابين، فشُقَّ عن الفتى وضُرِب عشرين سوطًا،
وأمر
به للمُطبِق فلم أستَجِز أسأله عن أمره، فانصرفتُ مهمومًا مغمومًا، وسألني بعض أسبابه
١٣٦ عن حاله فقلتُ: أنفَذَه الأميرُ في مهمٍّ له من وقته، وأمر له بصِلة، وقد أنفَذ
إليكم هذا منها، ودفعتُ إليهم من عندي خمسين دينارًا، واستَتَر عني خبرُه شهرًا، فلمَّا
انقضى رأيتُه يومًا قد دخل وأنا بين يدَيه، وقد اتسخَت ثيابُه وطال شَعَره، فاستبشرتُ
لرؤيته، وعجبتُ من حاله.
فدنا من الأمير فخاطبه ساعة، ثم استدعى أيضًا السياط فضَربَه عشرين سَوطًا، وأَمَر
به إلى
المُطبِق، فازددتُ حيرةً وتعجُّبًا وغمًّا، فلما كان بعد شهر قال لي أحمد بن طولون:
يا أحمد. فقمتُ قائمًا فقلتُ: لبَّيكَ أيها الأمير. قال لي: قد وافى ذلك الفتى من الموضع
الذي كنا أنفذناه إليه، والساعة يدخل فاخرج للقائه، فبادرتُ مسرورًا بذلك، فلقيتُه بعين
شمس
وهو راكب على بغلٍ فارِهٍ بسَرجٍ ثقيل، وجنيبة
١٣٧ تُجنب له، ومعه ثلاثة أبغُلٍ تُقلُّ مَحملَه إليه، فسلَّمتُ عليه، وبدأني فقال:
إني لأعلَم تعلُّق قلبِك بأمري. فقلت له: ما أُحسِن أَصِف ذلك فعرِّفني حالك، فقال لي:
لما
نظر إليَّ عند دخولي إليه واستدناني قال لي: إن قلبي متعلِّق بما يجري من المعتقلين في
المُطبِق، وقد ندبتُك لذلك، وقد عَمِلتُ على أني أُظهِر سخطًا عليكَ وآمُر بكَ إلى
المُطبِق، فإذا حصَلتَ فيه فأثبِتْ ما يجري من واحدٍ واحدٍ ساعةً بساعة، فإني أُنفِذ
إليكَ
رجلًا خَفِيَّ الشخصِ يجلس إليك تُنفِذ إليَّ معه ما يجري يومًا بيوم. فقلتُ له لما
تُوجِبُه هذه الحال: فإن ضربني الأمير ولو ضربًا يسيرًا كان أَصحَّ لخبري، فقال: لله
درك!
فما أخطأَت فراستي فيك. فأمَر بضربي كما شاهَدتَ، وأقمتُ في المُطبِق شهرًا أُنفِذ إليه
كل
يومٍ مجملًا بما يجري مع شيخٍ يأتي كالمُسلِّم عليَّ، وأهل المُطبِق يسألونني عن حالي
فأقول: لا أدري مَن سعَى بي بما لا أعلَمه.
ثم أُخرِجتُ من المُطبِق فقال لي: قد قبضتُ على قومٍ أُخَّر، وأنا أريد إنفاذهم إلى
المُطبِق، فتعود إليه على رسمك، وتُثبِت ما يكون منهم أيضًا، وتطالعني به. ففعلت، فأنفَذ
عشرةَ أنفُسٍ ما بين قائدٍ وعاملٍ وكاتب، فجريتُ على شاكِلَتي فيهم، وأُخرجتُ أمسِ إليه،
فقال لي: بارك الله عليك وفيك. وأمَر لي بألفَي دينار وعشرة آلاف درهم، وما ترى من الحُملان
١٣٨ وثيابٍ كثيرة، وتقدَّم إلى نسيم بأن يُسفرَني هذا السفر ويُنفِذني إلى عين شمس،
لأعود منها كالمسافر، فركبتُ معه فصِرتُ معه إلى منزله وقد سُرِرتُ بسلامته، وكثُر تعجُّبي
من أفعال أحمد بن طولون، وازداد خوفي ووجلي منه.
ومن ذلك ما رواه رهبان دَيْر القصير
١٣٩ قالوا: كان كثيرًا ما يطرقُنا الأمير أحمد بن طولون ويخلو في بعض قلالينا
١٤٠ يفكِّر، وكان يأنس براهبٍ منا يُقال له أندونة، فشكونا إليه يومًا أَمْر
ابن مدبر صاحب الخراج بمصر، وقلنا له: إنه يطالبنا بجزية رءوسنا وقد أُسقِطَت عن أمثالنا
على مر السنين. فوقَّع إليه بخطِّه توقيعًا وقال لنا: احذَروا أن تجعلوا توقيعي هذا كالسيف
الذي يصُول به صاحبه، ولكن استعملوا الاستكانة عند إيصالكم إياه إليه، والمسألة وحُسن
التلطُّف. فعجبنا من قوله، وصِرنا إلى ابن مدبر وإذا به قد بلَغه خبر التوقيع، واستعملنا
ما
أَمَرنا به الأمير، فأخذ التوقيع منا وبلغ لنا فوق ما نُحبه.
ومن ذلك ما حدَّث به الفارسي، وكان من ثقات أصحاب أخباره، وخَصِيصًا به جدًّا قال:
دعاني
أحمد بن طولون يومًا فقال لي: ويحك! قد خفي عني أَمْر فلان، رجل كان من أصحابه الأتراك،
وقال لي: من العجَب أن يضبط نفسه، ولا يُظهِر شيئًا من أمره، فابحث لي عن حاله، والْطُف
في
ذلك. فمضيت إلى داره، فجلستُ ناحية، وسألتُ من قرُب من جواره عنه، فعرفت أنه يركب في
كل
يوم، ويُغلَق باب داره فلا يُفتَح، ولا يقربُه أحدٌ إلى موافاته، فإذا وافى ونزل أُغلق
فلم
يخرُج منه أحد ولم يدخل إليه أحد إلى غد يومه، فإذا ركب كانت تلك سبيلَه على هذا
دائمًا.
فاكتريتُ دارًا رأيتُها مشرفةً على داره وانصرفتُ، فلمَّا كان غد يومي صرتُ إليها
ومعي
حمَّال، معه ما أجلس عليه وآكُله وأشربُه ليومي، فدخلتُ الدار وغلَّقتُ عليَّ بابها،
وصَعِدتُ إلى سَطحِها فتأملتُه وإذا فيه موضعٌ أُشرِف منه فأرى قاعة التركي وبعض مجلسه،
ولم
أسمع له حِسًّا فعلمتُ ركوبه، فلم أزل أتوقَّع عودتَه حتى عاد من ركوبه، فلمَّا سمعتُ
حركتَه أشرفتُ، فرأيتُه وقد دخل مجلسَه، وأقبلتُ أُراعي أمره حتى رأيتُ الطعام يُنقل
إليه
إلى أن فَرَغ من أكله، وأُدْخِلَ إليه الطَّستُ والغسل، ولم أسمع بعد ذلك له حركة، فعلمتُ
أنه لمَّا أكل نام، فلم أزل أنتظر ما يكون، وكان ذلك الوقت صيفًا.
فرأيت الفَرَّاش بعد العصر، وقد كنَس القاعة ورشَّها، وأخرج حُصرًا حسانًا ففَرشَها،
وجعل
له مَطرَحًا
١٤١ طبريًّا ومِسوَرتَين
١٤٢ وأربع مخادَّ ومقعد سامان [؟] مبطَّن عن يمينه ومخادَّ بلا مساور، وخرج
الفرَّاش فخرجَت جارية فعلَّقت باب القاعة بينهم وبين الغلمان، وخرج التركي فجلَس على
المَطرَح وخرجَت معه جارية في نهاية الحسن والجمال فجلست على المقعد السامان [؟] وجاءتها
جاريتُها بعُودها فوضعَتْه بين يدَيها.
وقدَّم بين يدَيه صينيةً فيها ثلاثُ خرداديات
١٤٣ وكوز ماء، وقدح نصف، وجعل بين يدَي الجارية صينيةً فيها خردادي وقدح لطيف وكوز
ماء ومغسل، وأخذَت العود فغنَّت أحسنَ غناءٍ وأطيبَه وأحذَقه، وشرب حتى استوفى الثلاث
خرداديات، وشربَت الجارية الخردادي الذي بين يدَيها، فأُتي بثلاثة أُخر وملئ خردادي
الجارية، وغنَّت وشرب وشربَت واستوفاهما، وفي كل واحدٍ منهما نحو الرطلَين؛ لأني رأيتُهما
كبارًا وملئوا له، وقد خَلطَ في كلامه، فاستدعى الرطل فملأه، وغنَّت وشرب، فلمَّا شربه
قال
لها: ويحكِ الساعة حصَلنا على أن يملِكَ أحمد بن طولون لعاصي لمولاه أميرِ المؤمنين
الموفَّق هذا البلدَ الذي ليس في الدنيا أجمل منه، ونحن بين يدَيه يُديرنا كما يشاء،
ويأمُر
فينا بما يُحب، والله لا صبَرتُ له على هذا. فقالت له الجارية: أيضًا قد عدتَ إلى هذا؟
دَعْ
عنكَ ما لا نحتاج إلى ذِكْره واشرب حتى أغنِّيك صوتًا ما سمعتَ مني مثلَه قَط. فقال لها:
هاتي. فغنَّت صوتًا جوَّدَت فيه وأحسنَت كلَّ الإحسان، وشرب فما ضبط نفسه فقال لها: ما
أدري
أي قِتلةٍ أقتُل هذا العاصي الملعون؟ فقالت له: املأ قدحَكَ حتى أغنِّيكَ صوتًا أحسن
من كل
ما غنَّيتُه. فلما غنَّت وشرب زاد الأمرُ عليه، فقال لها: ويحكِ والله لا صبرتُ عن هذا
العاصي، ولأدخُلنَّ إليه غدًا وآخُذ سيفي هذا. ثم جرَّد سيفه ووقف واقفًا وقال: ولا أزال
أضربه هكذا وهكذا. وأقبل يضرب به المِسوَرة، ويقول: أشتفي منه قلبي هكذا. حتى قطعها قطعةً
قطعةً، فلم تزل ترفُق به حتى أخذَت السيف منه، وأقبلَت تغنِّيه وتسقيه حتى سَكِر ونام
ونمتُ
موضعي.
ولمَّا كان في السَّحَر بكَّرتُ إلى أحمد بن طولون وعرَّفته ما جرى، وتبيَّنتُ الغيظَ
في
وجهه، وقال لي: امضِ، وأَمسِك حتى دخل إليه في جملة المسلِّمين من غدٍ، فلمَّا أراد
الانصراف أَمرَه بالجلوس، فلمَّا لم يَبقَ أحدٌ من المسلِّمين استدناه إليه ثم قال: يا
هذا
أسأتُ إليكَ قط؟ قال: لا، أيها الأمير. قال: أليس أنا أُدرُّ عليك أرزاقَك وجِراياتك
وأرزاقَ مَنْ معك؟ قال: بلى، أيها الأمير، قال: ولا أُخلِّيك في الأوقات من صِلة وجائزة؟
قال: بلى. قال: فبأيِّ حالٍ استوجبتُ منك أن تفعل كذا وكذا. وعرَّفه بما عرَّفتْهُ، فقام
التركي قائمًا، ورفَع رأسه إلى السماء، وقال: رفعتَه علينا فصبرنا، وملَّكته رقابنا
وأرزاقنا فأطعنا، وأعطيتَه الدنيا كلَّها فلم نُبالِ، ما قنعتَ له بهذا كله حتى صِرتَ
له
صاحب خيرٍ علينا، فرفعتَ إليه ما تُخرجه حماقة النبيذ من الناس إذا هم شربوا؛ كل هذا
تتقرَّب من قلبه. فضحك أحمد بن طولون حتى استلقى على شدَّة تزمُّته،
١٤٤ ثم أمره بالانصراف، وأتبعه بخادمٍ معه خمسمائة دينار، وأمره أن يدفعَها إلى
الجارية ويقول لها: قد أحسنتِ في تأديبه فالزمي ذلك. ثم أخرجه بعد شهرٍ إلى طرسوس، وكتَب
له
بأرزاقه هناك، ووصَلَه بخمسمائة دينار، ولم يحتمل أن يكون معه في بلده وبحيث تراه عينُه
ويحمل منه ما شَقَّ عليه تحمُّله، ولم يَرَ في مروءته أن يُسيءَ إليه لجميل فعل جاريته
وما
أصلحَتْه من خطابه، ورميه بطَرْفه إلى السماء.
وأما فراسته وصحة إزكانه،
١٤٥ فما رواه أبو العباس المعروف بالطرسوسي صاحب خبره، قال: ما رأيتُ أصَحَّ
إزكانًا من أحمد بن طولون ولا أقوى فراسةً منه، نظَر يومًا شيخًا في جملة من ينظر إليه،
وهو
راكبٌ سائر في جيشه، فقال لبعض حُجَّابه: دونَك ذلك الشيخ. فقَبض عليه، فلمَّا صار في
داره
أحضره، فإذا به رجلٌ خراساني شديد العُجْمة، فسأله عن أمره فاعتَرف أنه صاحبُ خبرٍ عليه
للموفَّق، وأن معه كتبًا إلى جماعةٍ من قُوَّاده وأصحابه، وأحضر الكتب فأخذها، وأمَر
به إلى
المُطبِق، فقال له: أيها الأمير، أما وقد أخذتَني بحسن فراستك، فقد لزِمَني نصحك؛ لِمَا
مَلَك قلبي من ذكاء عقلِك واقتصارِك بي على الحبس، وعفوك عن عقوبةٍ كنتُ أتوقَّع التلف
معها، فقال له: قل يا مبارك. قال: معي صاحبُ خبرٍ آخر، فإن أردتَّ أن تحتاط فاحبسنا جميعًا
إن رأيتَ ذاك، أيها الأمير، صوابًا. فقال له: بارك الله عليك، وأين يكون؟ قال: في موضعٍ
نجتمع فيه من ليل إلى ليل. قال: فخذ معك مَنْ تُرِيه إياه حتى يأتيَني به. قال: أفعل.
فأنْفَذ معه بعض حُجابه ومضى معه، ولم يزل يترقَّب موافاة صاحبه حتى وافى في آخر النهار،
فعرَّفه معرفةَ أحمد بن طولون به وقبْضَه عليه، فسمعه الحاجب وهو يقول: فما الذي قلتَ
له؟
فقال: اعترفتُ بالصدق، فقال له: جوَّدتَ، الصدقُ أحمد عاقبةً وإن سألني صدقتُه، وأحسبُكَ
ذكرت له مكاني معك، فوجَّه هذا الرجل معك ليُحضِرني إليه، قال: نعم. قال: سمعًا وطاعة،
امضِ
بنا. ووافيا والحاجب معهما إلى أحمد بن طولون، فعرَّفه الحاجب بما سمعه منه فأعجَبه ذلك،
وسأله عن خبره فصدَقه، فقال لهما: قد نجوتُما مني وتخلَّصتُما بصدقكما، فارجعا الآن إليه
وعرِّفاه بمعرفتنا بكما، وأخْذِنا الكتب التي كانت معكما، وإطلاقي لكما. ووصلَهما ووجَّه
معهما من يقيهما.
قال أبو العباس: فتحيَّرنا مما شاهدنا منه، وقلنا: هذا وحي. وفطِنَ لما خامر قلوبَنَا
من
ذلك، فقال لنا: قد علمتُ ما اختلج بأسراركم، ما هو وحي ولكنه إزكانٌ صحيح وذكاءٌ قوي
بحمد
الله ومنِّه. إني رأيت هذا الرجل في وسط الناس وهو مشغولٌ بالنظر إليَّ والتأمُّل لي،
لا
يطرفُ عني بنظرٍ إلى جليس ولا غيره؛ فارتبتُ به فكان كما ظنَنتُ. فقلت له: وفَّق الله
الأمير وكفاه.
قال: وانصرف يومًا من الصيد فاجتاز على شارع الحمراء، فتأمل دارًا تُبنى هناك، فوقعَت
عينُه على بعض الرقَّاصين،
١٤٦ فأمَر بأخذه فقُبض عليه، ووافَوا به إلى الميدان، فلمَّا جلس أمَر بإحضاره،
فلمَّا حضَر أمر بإحضار السياط والعُقابين، فلمَّا شُدَّ صاح: أيها الأمير، لا تعجَل
عليَّ
من قبل أن تسألَني وتعلَم ما عندي. فقال: صدق، حلُّوه. فلمَّا حُلَّ؟ قال له: ادنُ. فلمَّا
دنا، قال له: عرِّفني خبرك واصدقني تنجُ مني. قال: نعم، أيها الأمير، أنا جاسوسٌ للموفَّق،
وكانت معي كتبٌ ففرَّقتُها على أصحابها، فوعدوني بكتْبِ الجواب عنها، فعملتُ رقَّاصًا
ليستتر أمري، وأسمع وأنا في أوساط الناس من أحوال البلد وأخبار الأمير ما أحفظُه، حتى
أذكُره عند عودتي لمن أنفَذَني، كما يلزم من نُصب لهذا المنصب. فقال له: صدقتَ فعرِّفني
مَنْ أصحاب الكتب. فعرَّفه بهم واحدًا واحدًا، ووكَّل به مَنْ أخرجَه عن البلد من وقته،
وقال له: قل له قد أطلَعنا الله، عزَّ وجل، على ما سَترتَه وأردتَ أذيتَنا به وأظفَرنا
ونصَرنا، ولم يضُرَّنا فعلُك، والحمد لله على ذلك. فلمَّا كان في الليل قبَضَ على أولئك
القوم أصحابِ الكُتب كلهم؛ فمنهم مَنْ غرَّقه، ومنهم مَنْ طمَّ عليه الحُفَر.
فقال له موسى بن طونيق وكان خصيصًا به: أيها الأمير، كيف علمتَ أن هذا الرقَّاص جاسوس؟
قال: لمحتُه على الإسقالة
١٤٧ وعلى كتفه قَصْرية
١٤٨ الطين، ورأيت تكَّة أرمني، فأنكرتُ ذلك وقلتُ: رقَّاصٌ لا تكون تكتُه إلا خيطًا
أو كِتَّانًا. فقبضتُ عليه وكان ما شاهدتَ منه. قال له: أحسن الله توفيق الأمير.
وحدَّث موسى بن طونيق قال: رأيت أحمد بن طولون يومًا وقد أمَر بالقبض على رجل دخل
إليه في
جملة الأولياء للسلام، ثم أحضَر له السياط والعُقابين وقال له: اصدقني ويلك مَنْ أرسلك
إليَّ، فخبرُكَ عندي منذ البارحة؟ فقال له: صدق الأمير، أيَّدَه الله، أنا صاحب خبرٍ
لأبي أحمد الموفَّق فأمَر به إلى المُطبِق.
قال موسى فقلتُ له: أيها الأمير، هذا وحي لا شك فيه. فضحك وقال لي: ويحك لا تكفُر
بالله،
مات رسول الله
ﷺ وارتفع الوحي، ولكن اعلم أنه إذا كان العقل صحيحًا قلَّ ما يخطئ
وإلا فما منزلتي منزلةَ مَنْ يوحى إليه ولكني أزْكُن وأستَدلُّ فقلَّ ما أُخطئ، ومع هذا
فإني رأيتُ البارحة في النوم هذا الشخصَ بعينه وكأنه يروم الدخول إليَّ فيُمنَع من ذلك،
فكأنه يتسلق إلى طاق
١٤٩ في مجلسي ليرى ما أعمل. فكانت عبارة هذه الرؤيا تدُل على أنه صاحب خبرٍ
لتسلُّقه عليَّ وتجسُّسه، وكان ما قدَّرتُه.
ومن ذلك ما رواه تركان بن عبد الله بن الإمام، قال: جلس أحمد بن طولون يومًا في
مُستَشْرَف له على بعض بساتينه، وأحضر الطعام ومن يؤاكله من خاصَّته، فرأى من بعيد سائلًا
في ثوبٍ خَلَق وحالٍ سيئة، وهو جالس يتأمل المستشرَف ومَنْ فيه، فأخذ رغيفًا وكان خبز
الطولونية في الرغيف رطلَين زائدَين، فجعل عليه دجاجة وفرخًا وفرُّوجًا وشواء لحم وقطع
فالوذج كبيرة، ومن جميع ما كان بين يدَيه، وغطَّاه برغيفٍ آخر، وجعل فوقه لوزينجًا مع
الفالوذج وغطَّاه برُقاقتَين، ودفع إلى بعض الغلمان، وأراه إياه، وقال له: امضِ سلِّمه
إليه، وأقبل يُراعي الغلامَ في دفعِه إياه إليه وما يكون منه، إلى أنْ دفعه إليه، وعاد
فعرَّفه ذلك، فلم يزل يتأمَّل السائل ساعةً ثم أمر بإحضاره، فلمَّا مثَلَ بين يدَيه
استنطَقه فأحسن الجواب ولم يضطرب من هيبته، فقال له: الكُتب التي معك هاتِها، واصدُقني
صدقًا يُنجيكَ من ضرب السَّوط؛ فقد توسَّمتُ فيك بحسن عبارتك وثبوت قلبك وصحة عقلك. فاعتَرف
له أنه صاحبُ خبر، وأن الكُتب معه ما أوصلها ليُدبِّر أَمْره في إيصالها، فوكَّل به حتى
مضى
وأُحضرت الكتب.
قال تركان الإمام: فقال له طبارجي [وكان ذا دالَّة عليهٍ وذا موقعٍ منه]: أيها الأمير،
إن
لم يكن هذا وحيًا فهو سحر، فقال له: لا والله يا هذا، ما هو وحي ولا سحر، ولكنه قياسٌ
صحيح،
وتوفيقٌ من الله، جل اسمُه، وتفضُّل منه عليَّ؛ رأيتُ هذا الرجل على ما هو عليه من سوء
الحال فأشفقتُ
١٥٠ عليه، وعلمتُ أن مثله لا يصل إلى مثل ما بين أيدينا من الطعام، وأنه يرى في
الأسواق ويشُمُّ من الروائح ما لا يصل إليه وتتعلَّق نفسه به، فأردتُّ أن أسُرَّه بما
أنفذتُه إليه، فوجَّهتُ إليه بما تَشْرَه إليه نفسُ الشبعان الواجد فكيف الفقير؟ فما
هشَّ
له ولا مدَّ يدًا إليه، ولا رأيتُ من حُسن القبول له والشهوة ما قدَّرتُه، فنَفر قلبي
منه،
وقلتُ: هذا عينُه ملأى وفي غِنًى عن هذا، هذا جاسوسٌ لا شك فيه. فأحضرتُه فكان من أمره
ما
قد شاهدتموه من صحة خطابه واستيفاء جوابه، فازداد إنكاري لأمره لقوة قلبه واجتماع لُبِّه،
وأنه ليس عليه من شواهد الفقر ما يدُل على فَقْره، وبعثَه عقلُه على أن اعترف بأنه صاحبُ
خبر، وصدَقَني عن أمره، ولا أسيء إليه وأثأثره وأطلقه، ففعل ذلك بعد ثلاثة أيام.
١٥١
وحدَّث تركان بن الإمام عن أبيه قال: قال لي أبي: ركِبتُ مع الأمير أحمد بن طولون
يومًا
في السَّحَر، وكان من عادته أن يركب سَحرًا في نفر من أصحابه، ويجتاز بالمواضعِ الشَّعْثة
يُطالِع منها جناياتِ أهل الشر في الليل، فمَنْ ظَفِر به منهم أمَر بضربِ عُنقِه، فلقينا
في
الطريق صوائح، فوجَّه معهنَّ مَنْ يخفرهُن إلى حيث يقصِدن، إلى أن لقينا صوائح أُخر،
فقال
لصندل المزاحمي: انزل إلى هؤلاء الصوائح ففتِّشهنَّ واحدةً واحدة، فأخرج من وسطهنَّ رجلَين،
وأمَر بهما إلى المُطبِق وكانا ممن قد جدَّ في طلبهما فلم يَقدِر عليهما، فقال له طبارجي:
كيف تبيَّنتَ، أيها الأمير، هذا من هؤلاء، خاصة وقد لقينا غيرهنَّ ولم تفعل هذا بهنَّ؟
فقال
له: نعم، أولئك اللائي لقيناهنَّ كان صياحهنَّ بجدٍّ وحُرقة وعلى غير تصنُّع، وكان صياح
هؤلاء بتشاجٍ وتصنُّع فعلمتُ أن معهنَّ رجلًا؛ لأن من شأن النساء التصنُّع للرجل، فكان
ما
ظننتُ.
وحدَّث شعيب بن صالح قال: كان لأحمد بن طولون رجلٌ يثق به على كثيرٍ من أسراره،
١٥٢ يُطالِعه بها وما غاب عنه منها، فعَرفَه جماعةٌ من الناس بذلك، فكانوا
يُهادُونه استكفافًا لشرِّه وبسط يده للارتفاق
١٥٣ إلى أن كسب مالًا عظيمًا، وانكشف أمره لأحمد بن طولون، وعلم أن قصده الارتفاق
في النصيحة، فلمَّا وقف الرجل على عِلم أحمد بن طولون به هرب منه خوفًا على نفسه، فشَقَّ
ذلك على أحمد بن طولون جدًّا، لاشتماله على ما عندَه من أسراره، فرأى أحمد بن طولون في
منامه كأنه حفَر قبرًا واستخرج منه ثعبانًا عظيمًا، فقبض عليه بعُنقه، وأخرجه من القبر،
وجعله في جَرَّةٍ عظيمة، وسدَّ رأسها، ثم أصبح فركِب على رسمه مُغلِّسًا إلى العين التي
بناها بالمعافر، فرأى جنازة امرأة وخلفها نحوٌ من عشرة أنفس، وقد أُخرجَت في ذلك الوقت،
فاستراب بها، فقال لمن يحملها: أين حفرتم لهذه الامرأة؟ فاضطَرب الجماعة، وحطَّها وكشَف
الغطاء، فوجد الرجل الهارب منه، وقد رامَ الخروج عن البلد فأعجَزه ذلك وضاقت به الحِيَل،
فصنع هذا حتى يصل إلى الصحراء، فيذهب متنكِّرًا في زي العُبَّاد، ويأخذ طريق الجبل، الصحراء
الصحراء، إلى أن يتخلَّص، فأمر به إلى المُطبِق، واستصفى جميعَ مالِه، وصحَّت رؤياه التي
رآها، وزال غمُّه بها.
وحدَّث شعيب بن صالح قال: كنتُ مع أحمد بن طولون يومًا في الصحراء فرأى حمَّالًا وهو
يحمل
شيئًا قد أثقله، وهو تحته يضطرب اضطرابًا شديدًا، فقال: لو كان اضطراب هذا الحمَّال من
ثِقل
الحملة، مع ما أرى فيه، لغاص رأسُه في عنقه، وما هذا منه إلا من رعبٍ مما يحملُه، فأوقفَه
وأمر بحطِّ الحملة عنه، فحُطَّت وفُتِّشَت، فإذا معه جارية قد قُتِلَت وفُصلَت، فاستخبر
الحمَّال عن القصة فقال له: أربعة نفر في دار دفعوا إليَّ هذه الحملة، وأعطَوني دينارًا
فشَرهَت نفسي، لسوء حالي، إلى الدينار، فتحمَّلتُ من حملِها ما لا أُطيقه. فقال له: فحضرتَ
قتلها؟ قال: لا والله. قال له: أرِني الموضع. وعاد مع الحمَّال إلى أن أراه الموضع الذي
حمَل منه، ووجد القوم بحالهم لم يهربوا بعدُ، فقبَض عليهم وأمر بضرب أعناقهم، وضرب الحمَّال
مائة مقرعةٍ وأطلَقه، وقال له: لو كنتَ حضَرتَ قتلَها لقتلتُك.
وحدَّث حمَّاد بن علي الأزدي، وكان أحمد بن طولون قد جعل إليه منع مَنْ هرب منه والتفتيش
عنه، قال: تغيَّر أحمد بن طولون على نعيم المعروف بأبي الذيب، فهرب منه، فأمر بطلبه وقال
لي: لا تطلُبه في داره بالفسطاط ولا في ضيعته سبراساط،
١٥٤ ولا عند أحدٍ من إخوانه؛ فإنه أضعفُ قلبًا ودينًا من أن يقيم في هذه الأماكن،
ولكن اطلُبه في الديارات وعند النصارى فإنك تجدُه في زي راهب وقد دخل في جُملتِهم؛ لأنه
حاذقٌ بالقبطية فصيحٌ بها. قال حمَّاد: وطلَبتُه هناك فوجدتُه كما وصف، فقبَضتُ عليه،
وجئتُه به على هيئته، فلما رآه قال له: إيش هذا الزي؟ أرتدادٌ عن الإسلام؟ السيفَ والنِّطع.
فقال: لا والله، أيها الأمير، ما ارتددتُ عن الإسلام وإنما تستَّرتُ بهذا الزي لأخفَى،
ولكن
أين يتهيَّأ لي استتارٌ منك ولغيري؟ وأنتَ كما قال النابغة الذبياني:
فإنكَ كالليل الذي هو مُدرِكي
وإن خِلْتُ أن المُنتأَى عنكَ واسعُ
فأوقفَه هذا القول من أن يُجري عليه من المكروه ما كان معتقدًا له فيه، لِمَا كان
فيه من
الكرم والحياء لمن صَدَقه واستكان بين يدَيه، وأخذ خطَّه بمائة ألف دينار، وسلَّم الخط
إلى
محبوب بن رجاء كاتبه، وكان [في] محبوب شَرَهٌ ومحبة لأخذ المرافق، فوعدَه بخمسة آلاف
دينار،
وكتب له خطَّه بها، فسأله أن ينجِّم
١٥٥ عليه المال ليُؤدِّيَه قليلًا قليلًا على حسب ما يتهيأ له وتتَّسِع به حيلته،
فكان كلما أحضَر ما يؤدِّيه لم يأخذ به براءة، واستدعى خطه فحطَّ منه وكتب بباقيه، وكلما
كتب خطه بالباقي صغَّر الخط ولطَّفه إلى أن حصل له من الأداء ثلاثون ألف دينار، وكتَب
الخط
بسبعين في رقعةٍ صغيرة، وأقام أيامًا وهو يذكُر اضطرابَه واحتيالَه بما يؤدِّيه، ثم ذكَر
أنه أحضَر ما يُؤدِّيه، واستدعى من محبوب خطَّه ليحُطَّ منه على الرسم، فدفَعه إليه محبوب
على الاسترسال والثقة والعادة التي قد جرت، ولارتفاقه منه بخمسة آلاف دينار، فلما حصل
الخط
في يده أكلَه وقال: ما بقي عليَّ من مصادرتي درهمٌ واحد إلا الخمسة آلاف المرفَق التي
خطِّي
معك بها. فقامت على محبوب القيامة. ورُفِعَ الخبر إلى أحمد بن طولون فأمر بإحضارهما،
فلمَّا
حضرا قال نعيم: قد أديتُ، أيَّدَ الله الأمير، جميع المال الذي أُخِذ به خطي إلا خمسة
آلاف
دينار. فذكر له محبوب حيلتَه وأكلَه للخط، فقال أحمد بن طولون لنعيم: احلف برأسي أنك
قد
أدَّيتَ المال، ولم يَبقَ عليك منه إلا ما ذكَرْت، وأن الذي ادَّعاه محبوب باطلٌ ونحن
نُصدِّقك ونُزيل المطالبة عنك. فقال: قد أدَّيتُ جميعَ ما أُخذ به خطي وسُلِّم إليَّ
خطي
وحرقتُه، وإنما لمَّا طُولبتُ بخمسة آلاف دينار مرفقًا خطي بها مع محبوب ولم يتهيأ لي
أداؤها، ادَّعى عليَّ بما ادَّعاه. فقال له أحمد بن طولون: يمكن أن يكون الأمر كما ذكَرْتَ،
ولكن احلف برأسي على ما حكيتَ وقد برئتَ من المال، فقال: يُعفيني الأمير، أيَّدَه الله،
من
هذه اليمين؛ فإني لستُ أحلفُ بها بوجهٍ ولا بسبب، فقال له: لستُ أُعفيك منها إلا بالصدق.
فقال: إذا لم يُعفِني الأمير، أيَّدَه الله، فأنا أُجِلُّ رأسَه أن أحلفَ به إلا صادقًا،
والأمر كما حكاه محبوب، وما فعلتُ ما فعلتُ وحملتُ نفسي عليه إلا من إضافةٍ شديدة غليظة،
وأنه لم يَبقَ لي شيءٌ أرجع إليه فيما أدَّيتُه، وقد كشَفتُ حالي للأمير، أيَّدَه الله،
فيرى في عبده ما يشبه كرمَه ورياستَه، فثَنَاه هذا الفعل عنه، ورقَّ قلبه له؛ لأنه كان
إذا
صُدِق لان وانعطف وأنعم، وبُلغ منه فوق المحبوب، فأمَر بإطلاقه، وحَطِّ ما كان بقي عليه،
ورَدِّ ما أُخذ منه، وردَّ إليه عملًا يتصرَّف فيه.
وحدَّث شعيب بن صالح قال: ركب أحمد بن طولون يومًا فسلك شارع الحمراء يريد الجيزة،
فلمَّا
توسَّطه وقف ودعا بطخشي فأراه دارًا هناك، وقال له: قف على هذه الدار توكَّل بها، واحذَر
أن
يفوتك أحدٌ ممن فيها، حتى تتصفَّح وجوههم واحدًا واحدًا، فإنك تجد شيخًا صفته كذا وكذا،
رأيتُه الساعة يتطلَّع من طاق في عُقر
١٥٦ هذه الدار، فلمَّا رآني أغلق الطاق فخُذه وامضِ به إلى الدار إلى أن أعود إن
شاء الله.
قال طخشي: وسار الأمير ووقفتُ على الدار، وأطفتُ بها الخيل والرجال، وأنزلُ إلى جميع
مَنْ
فيها وأتصفح وجوههم واحدًا واحدًا، فوجدتُ الشيخ على الصفة التي وصفَها لي، فقبضتُ عليه،
وصرتُ به إلى الميدان، ورجَع الأمير فحين نزَل دعا بالشيخ، فلمَّا مثَلَ بين يدَيه قال
له:
من أين الرجل؟ قال: من بغداد، قال: وما جاء بك إلى ها هنا؟ قال: صاحب خبرٍ عليك، قال
له:
عليَّ، قال: نعم، عليك. قال: ومَنْ أنفذك متخبِّرًا
١٥٧ عليَّ؟ قال: الأمير أبو أحمد الموفَّق. قال: وبمن تُعْرَف يا شيخ؟ قال: بالقطان
الطالقاني. قال: فضحك أحمد بن طولون، لما أعجبه من صِدقه، وقلة جزعه، وانحلَّ غيظه، وقال
له: اجلس. فجلس، فقال له: أبو مَنْ؟ قال: أبو جعفر، فقال له: قد سمعتُ بك يا أيا جعفر
وكُتِبَ إليَّ بخبرك، وقد سَررتَني بصدقك إياي، وحرستَ نفسك بذلك مني، فمذ كم وردتَ البلد؟
قال: منذ سنة. قال له: ويحك! ولك هذه المدة منذ دخلتَ البلد وأمرُكَ مستترٌ عني؟ قال:
نعم.
قال: فكيف تقف على أخباري وهذه حالُك في الاستتار؟ فقال: معي عشرة يدورون في البلد، ويرفعون
إليَّ أخبارك، وأكتُب بها. فقال له: وكيف قدَرتَ على الدخول إلى البلد مع ضبطي طُرقَه؟
فقال: ركبتُ البحر من أنطاكية إلى تنيس
١٥٨ ومنها إلى مصر. فقال: صدَقت، أما هذا فما ضبطناه ولكن من الآن.
ثم قال له: يا أبا جعفر، إنك هو ذا تُحسِن وتُجمِل إليَّ وإلى نفسك في صدقك إياي،
وقد
أمَّنَك الله، عزَّ وجل، وأزال خوفك، فاصدُقني أيضًا عما أسألُكَ عنه ولا تُنافِقني متقربًا
إليَّ، هل ترى في سيرتي شيئًا تُنكِره أو في تدبيري سياستي ما تذُم؟ مع تأمُّلكَ لذلك
منذ
سنة، قال: لا، والله الذي لا إله إلا هو، وبالله إني لأكتُب بذلك وبما هو لكَ لا عليك،
وإني
لأعلم أنه يسوء مَنْ أُكاتبه به، ولكن الصدق يبعثُني عليه رَضِي به مَنْ رضي، أو سَخِط
من
سَخِط؛ لأني ما أقول فيما أكتُب به إلا حقًّا؛ لأن أفعالَكَ كلها حسنةٌ جميلة، مضبوطةٌ
محفوظة مستقيمة، فإن الذي أكتُب به من ذلك لَمِما يزيد به حالكَ في قلوبهم خوفًا وهيبتكَ
في
نفوسهم عظمًا وجزعًا وذعرًا. فقال له: حسبي يا أبا جعفر، أحسن الله إليك.
ولكن يا أبا جعفر، كُتِبَ إليَّ عنك بسترٍ ودينٍ وصِدق لهجة وغنًى عما حملتَ نفسك
عليه،
فلِمَ رضيتَ لنفسك بخدمتهم في هذه الحال العظيمة التي يركَب صاحبُها فيها خطةً لا يدري
ما
عقباها؟ وهذا أيضًا مع بُعد الطريق وتكلُّف المشقة العظيمة فيها وعِظَم المخاطرة. فقال:
أيها الأمير، أُجبرتُ وخُوِّفتُ، فسمعتُ وأطعتُ، ولم يمكنِّي الخلاف؛ لأن لي في بلدهم
عَقَارًا وعيالًا وأهلًا وتجارات، ولولا ذلك لاخترتُ، لما نُدبتُ له، الهربَ من بلدهم،
ولَما استجَبت، إلا أني اشترطتُ عليهم أني إن وقعتُ في يدك، وسألتَني عن شيء، صدقتُك
فيه،
وقدَّرتُ أني أدفَع بذلك عني ما دُعيتُ له، فلم يَثنِهم ذلك، وأَذِنوا لي فيما شرطتُه
عليهم
من صِدقكَ عما تسألُني عنه من قليل وكثير، فحمدتُّ الله، عزَّ وجل، على ما ابتلاني به
من
ذلك، وصبَرتُ عليه، وعمِلتُ على أنها مصيبة من المصائب التي تلحقُ الناس لا يمكنُهم دفعَها
عنهم، وعمِلتُ على أنك، أيها الأمير، إذا وجدتَني لم تستَبقِني، فما خرجتُ حتى أوصيتُ
كما
يُوصي مَنْ تحضُره الوفاة؛ إذ كنتُ لم أجد بُدًّا من ذلك، وقد أخلَف الله، جلَّ اسمه،
ظني،
وأزال خوفي، بكرم طباع الأمير، أيَّدَه الله، ورأفته؛ فلولا ذكاء الأمير، أيَّدَه الله،
وحِدَّة خاطره، وقوة حسِّه، وصحَّة ذكائه، بما وهَبه الله الكريم له من ذلك، لَما فطِنَ
لي
وقد رآني أتطلَّع من طاق، وما أنكَر عند ردِّي بابَ الطاق حين رأيتُه، فكان ما ظنَّه
ووقع
له فيَّ حقًّا. فقال له الأمير: والله يا أبا جعفر كذاك، ما أنكرتُ غير ردِّك باب الطاق
حين
رأيتَني، وإن فِطنتَك يا أبا جعفر لحسَنة، ولولا ما فيك من الفضل والذكاء والعقل لَمَا
علمتَ بذلك، فهل لك إلى ما أدعوك إليه؟ فقال: يأمر الأمير، أيَّدَه الله، بما أمتثلُه،
إن
شاء الله. فقال له: أدعوك إلى خدمتي كما خدمتَهم مع مجانبة الخلاف عليَّ. فقال له: قبيحٌ
أيها الأمير أن أدعَ قومًا سبقوك إليَّ وخلَطوني بأنفسهم ووَثِقوا بي، فلا يجوز أن أكون
عليهم بعد أن كنتُ لهم ومعهم، وإذا لم أصلُح لصاحبي الأول لم أصلُح للثاني.
فاجتهد به أحمد بن طولون فلم تُجْدِ فيه في ذلك حيلة، مع ما فيه من البذل والعطاء،
وقال
له: لأن يقتُلني الوفاء أيها الأمير أَحَبُّ إليَّ من أن يُحييَني الغَدْر، فزاد بذلك
في
محله عنده، فقال له: إذا كنتَ يا أبا جعفر قد أبيتَ فاختَر، إن أحببتَ المُقام عندي من
غير
خدمة تكرهُها ولا تختار التصرُّف فيها فبالرحب والسعة، وإن أحببتَ الرجوع إلى صاحبك
أطلقتُكَ. فقال له: إذا كان الأمير، أيَّدَه الله، قد خيَّرني بكرمه فالرجوع إلى الأهل
والوطن آثَر عندي مما أوثِره من التصرُّف بين أمره ونهيه، وإن كانت المروءة هي أوجبت
عليَّ
حسن الوفاء لمن وَثِق بي فلن أكون بعد مُنصرَفي عن الأمير، أيَّدَه الله، إلا مُتصرِّفًا
بين أمره ونهيه هناك، مجازاةً لجميله، أيَّدَه الله، الذي شمِلَني، وإحسانِه الذي قد
عمَّني. فقال له: أحسَن الله جزاءك يا أبا جعفر، وكثَّر في الناس مثلَك.
وأمَر سوارًا الخادم فأخذه إليه على حال تكرمة، فأقام في داره ثلاثة أيام، تُقام
له في كل
يوم مائدةٌ حسنة، ولا يزال أحمد بن طولون يتبعَّض
١٥٩ له وهو يأكل من كل ما يستطيبه، مما يُقدَّم إليه من طعام وحَلْواء وفاكهة،
ويستدعيه ليلًا، فلا يزال يحادثه ويسائله عن أخبار الموفَّق، وما يحتاج إلى علمه، ويؤانسه
إلى أن يمضي الليلُ إلا أقله، فلمَّا كان في اليوم الرابع أحضره فقال له: يا أبا جعفر،
الضيافة ثلاثة، ولا أشك في تعلُّق قلبك بمُخلَّفيك، ويعزُّ عليَّ والله مفارقتك إلا أني
لا
أحب أذيتك، وأختار مساعدتك، وأمر له بعشرة آلاف دينار وعشرة أسفاطٍ ثيابًا، وخمسة أرؤس
من
الدواب، وثلاثة غلمان وطِيبٍ كثير، فكن مقدار ذلك عشرة آلاف دينارٍ أُخر، فلم يقبل شيئًا
من
ذلك إلا سفطًا واحدًا من الثياب، وبغلًا واحدًا، ودينارًا واحدًا من المال، وقال: أيد
الله
الأمير، أنا والله من وراء نعمةٍ عظيمة واسعة، ولي مع ما كنتُ وصفتُه للأمير، أيَّدَه
الله،
ضيعةٌ تردُّ عليَّ في كل سنة عشرين ألف درهم، وفي أخذي من الأمير، أيَّدَه الله، ما أمر
لي
به تغنُّمٌ لا أستحسن فعله، ويقبُح بي وصفُه. وقد أخذتُ مما أمر به الأمير، أيَّدَه الله،
ما أتشرَّف بلبسي له، وأتجمَّل بركوبي بغلًا من بغاله، وأنفق يوم أدخل بلدي هذا الدينار،
والله لا أنفقتُ يومي غيره تشرفًا به، فإن رأى الأمير، أيَّدَه الله، أن يتمِّم سرور
عبده
ويدعَه وما اختاره، ولا ينقض عليَّ حملَه فعَلَ وأحسن بها إليَّ. فازداد بذلك أيضًا في
قلب
الأمير أحمد بن طولون جلالةً ورفعةً، ووصَّاه بما احتاج إليه وودَّعه، وأنفذ معه مَنْ
يشيِّعه، وكتب له جوازًا وكتبًا إلى سائر أعماله يأمر أصحابه بها بتلقِّيه وتشييعه وخدمته،
وخرج وأحمد بن طولون يتأسَّف ألا يكون مثلُه في خدمته، وقد ملأ قلبه وصدره بحسن وفائه
لصاحبه.
فلمَّا وصل القطان إلى الحضرة لم يدَع جميلًا ولا حالًا تُصْلح ما بين الموفق وأحمد
بن
طولون إلا بلغها، من حسن طاعته، وحسن سيرته، وضبْط أمره، وحزمه، وجودة تدبيره، وقوة أمره،
فثَنى ذلك الموفَّق إلى الرجوع له، ووقف طيفور خليفة أحمد بن طولون هناك على ذلك وعلى
انثناء الموفَّق له، فكتب إلى أحمد بن طولون بذلك ويقول: أحسن الله جزاء القطان، وكثَّر
في
الناس مثلَه؛ فلقد قَوِيَت يدي به منذ ورَد إلى الحضرة وبما جرى منه مع الموفَّق، ويقول
في
كتابه: ومن العَجَب أن يحضُر مثلُ هذا الرجل بحضرة الأمير فيُغفِل إلزامه قبول برِّه
بكل
حال. ولم يعلم طيفور بما عمله أحمد بن طولون معه، فلم تُجْدِ فيه حيلة. ويذكُر عظَم محله
عند الموفق، ونُبل منزلته منه، فكان أحمد بن طولون يقول: ما أسفتُ على شيء كتأسُّفي ألا
أكون ألزمتُ القطَّان قبول خمسين ألف دينار ومثلها أعراضًا ويقول: رزقي الله صاحبًا
مثله.
ولم يزل أحمد بن طولون يكاتبه في مهماته وحوائجه وما يحتاج إليه من مخاطبة الموفق،
فيبلغ
له في جميعه ما يُحبه إلى أن مات أحمد بن طولون، فلمَّا مات بلغ القطان موتُه فحزِنَ
عليه
واغتمَّ غمًّا عظيمًا، وبلغ الموفق ذلك عنه فلم ينكره عليه، وكان يُحضره في كل وقت ويسأله
إعادة أخباره عليه، فيذكر كل ما كان يُشاهِده منه ومن سيرته، وحسن سياسته في داره وحاشيته،
وحسن مملكته، وعظيم هيبته، وكثرة صدقاته ومعروفه، وتفقُّده المستورين وأولاد النعم، وإجرائه
عليهم الرزق، وما يعمل من الأطعمة في كل يوم جمعة، وحضور الضعفاء وغير الضعفاء من
المستورين، وإشرافه على ذلك بنفسه حتى يأكلوا، ويؤمرون ألا يخرج أحد أو يزُلَّ
١٦٠ معه ما يقدر على حمله، ينصرف به إلى عياله، وما كان يجد في ذلك من اللذة
والسرور والفرح، وأنه جعل ذلك عوضًا من القصف والشراب وسماع الغناء وما يستعمله مثله
من
ذلك. وكلما سمعه الموفق يذكر من هذا شيئًا يبكي ويترحَّم عليه، ويبكيان جميعًا؛ فلم يكن
للموفق أحد يعاضده على الغمِّ بأحمد بن طولون إلا القطان، ويستر ذلك الموفق عن الناس
كلهم
إلا القطان، فكان هذا الفعل من الموفق للفضل الذي كان في الموفق، فعرف به فضل أحمد بن
طولون؛ فإنه ليس لهم في مملكتهم أنصح منه ولا أوثق، ولا أضبط ولا آمَن، وإنما كان ذلك
الفعل
من الموفق من الانحراف عنه، غيرةً عليه ألا يكون ما يفعله للمعتمد له.
ولمَّا تواتَرت الأخبار بموت أحمد بن طولون وصحَّ ذلك عند سائر الناس؛ لأن الذي كان
قبل
كان بين مصدَّق ومكذَّب، كان من الموفق حينئذٍ ما نأتي به مشروحًا مبيَّنًا إن شاء
الله.
ومن إنصافه وحسن تأتِّيه، وبطلان كثير مما يُشنَّع عليه، وإقامته له العذر فيما يأتيه،
أن
وكيلًا له يُعرف بابن مفضل صحبه ولا شيء له، ففوَّض أمره كلَّه إليه، فاستولى عليه، وكان
من
بين الوكلاء حازمًا ذكي القلب شهمًا باذلًا كافيًا يُحسِن الخدمة، ولم يكن يقعُد به إلا
بخلٌ كان فيه، ولجاجٌ في الشيء إذا خُوطب فيه يملكه فلا ينحلُّ عنه، حتى إنه كان يتبع
ما
تضُرُّه اللجاجة فكان هذا عيبه، فوصل إليه من الارتفاق ما لم يصل إلى أحد من حاشية أحمد
بن
طولون ولا أُهدي إليه، وكَبرَت أحوالُ أحمد بن طولون، فكَبرَت مرافقُ ابن مفضل واتسعَت
أحواله.
وكانت نفقات مطابخ أحمد بن طولون وراتبه من ضياع إقطاعه، فتقدَّم إلى ابن مفضل في
وقتٍ
اختاره ألا يضع يدَه على شيءٍ من مال هذه الضِّياع، وذكر له أنه يريد مالها لطرسوس، فلمَّا
انقضى الشهر وافى نفيس الطباخ إلى ابن مفضل يستدعي منه إطلاق النفقات على الرسم للمطابخ،
فقال له: قد حظَر الأمير عليَّ الجهة التي كُنتُ أُطلِق لك مالَها، فقال له نفيس: فتحتال
لي
بما ننفقه اليوم، وتستأذن الأمير الليلة فيما يُستأنف. فقال له: ما عندي حيلة. فقال له:
إن
النهار يمضي. وقال: حدِّثنا في شيءٍ مما نحتاج إليه مما لا بدَّ للأمير منه. فقال له:
كذا
اختار إيش في يدي؟ قال: فأعطل؟ قال: ذلك إليك. قال: فأذكر هذا للأمير؟ قال: ذاك إليك،
افعل.
فدخل نفيس إلى أحمد بن طولون فعرَّفه الخبر، فأحضر ابن مفضل فقال له: ويحك ما كانت
لك
حيلةٌ في إقامة نفقات المطابخ يومًا واحدًا، إلى أن نُطلِق لك من جهةٍ نختارها ما تحتاج
إليه؟ فقال له: لو تهيَّأ لي ذلك لما توقَّفتُ عنه، وإنه لمتعذِّر عليَّ. ثم قال له:
احلف
بالله ثم برأسي أنك ما تملِكُ ذلك. فحلَف فدَعا سوارًا الخادم، وكان خادمًا جريئًا، صفيق
الوجه، قاسي القلب، فقال له: امضِ الساعة واقبض على كل ماله، واحمل إليَّ الساعة ما تجدُه
من العَيْن، واختم على ما سواه. فمضى سوار وقبَضَ على كل ما وجدَه له في داره، فوجد له
من
العَيْن ثمانين ألف دينار
١٦١ فحمَلَها إليه، وختَم على ما بقي، وعاد إليه فعرَّفه بجميعه، فأمره ببيعه كله،
فبِيع بعشرين ألفَ دينارٍ سِوى ما استُهلِك وتمزَّق وتفرَّق، وسُلِّم ابنُ مفضل إلى سوار
فكان آخر العهد به.
وحدَّث شعيب بن صالح قال: شَنِئَت نفسُ أحمد بن طولون استخدام الكُتَّاب، لمَّا وقف
على
حال ابن مفضل وقُبْح فِعله، وجُرأته على اليمين الكاذبة، وكان ذلك يشتد عليه جدًّا، واحتاج
إلى من ينوب منابه، فسنَح له ذِكر كاتبٍ كان يكتب لحسين الخادم المعروف بعَرَق الموت،
كان
لمَّا قدِمَ معه إلى مصر شاهدَه فخفَّ على قلبه وافتَرس فيه خيرًا فتتبَّعَته نفسه. وكان
هذا الخادم حَسَن العقل، راجحَ الوزن، يتقلَّد البريد بمصر، وكان أحمد بن طولون يعرفه
من
الحضرة، ويعلم منه حسن اختيار فيما هو بسبيله، فتيقَّن أنه لم يختَر من كُتابه إلا مختارًا،
وهو رجلٌ يُعرف بحسن بن مهاجر فمال إليه وسأل عنه، فأحضره وساءله عن بلده وسبب تعلُّقه
بحسين الخادم فقال: وُلدتُّ بالرَّقَّة وكان والدي يتوكَّل لحسين هذا في ضياعٍ هناك،
فاجتاز
به في مسيره إلى مصر، فطالع ما جرى على يدَيه فأحمَد أمره فيه، وتأمَّلَني وأنا بين يدَيه
أكتُب فمال إليَّ، فقال لوالدي: خرجتُ من الحضرة ولم أستصحب منها كاتبًا لمَا أعلمه منهم
من
الجرأة ولُطْف الحيلة، وأنهم للعامل الخائن أوفقُ منهم للناصح، وأُحب أن تُصحِبَني ولدَك
هذا وتُؤثِرني به فإني أقنع به وأرجو إن يحسُن تأديبي له أن يبلُغ ما تُقعِده عنه الحَداثة،
ويتخرَّج معي فأبرُّه وأُكرِمه عن غيره،
١٦٢ فشَقَّ ذلك على والدي لمفارقتي له، ولم يتهيَّأ له مخالفتُه، فسلَّمني إليه،
وألزم نفسه تأديبي وتقويمي، كما يتولاه الوالد من ولده، حتى إذا هو تبيَّن اضطلاعي بما
يُسنِده إليَّ سلَّم إليَّ ديوان البريد، وقال لي: يا بنيَّ احفظ ما أُوصيكَ به، احذَر
أن
أراك في دارٍ غير داري، ولا تسكُن إلى أحدٍ سكونَكَ إليَّ؛ فإن تفويضي إليكَ يُوجِب لي
ذلك
عليك، وليكن إيثارك لحسن الذكر أكثر منه لكسب المال، وطَلِبَتك للصواب أكثر منه لحُسن
الذكر، وإن شَقَّ عليكَ تحمُّله فإنه أحمدُ عاقبةً فيما تأتيه من غيره، مما لا مشقة عليك
فيه، ولا تنزعنَّ إلى إنفاقِ ما تكتسبه بابتياع الأعراض النفيسة والملابس الرائعة؛ فإنك
لا
تزيد بذلك إلا في عين ناقص الفهم والحال؛ لأن مَنْ قَوِي تمييزه إنما يُطالِع ما صدر
عنك من
فضل، واستَعرضَه فيك من طبع، فإذا غلَب عليك إيثارُ شيءٍ يحسُن به ظاهرك فطالِع يُمنه
في
حاصلك، واعلم أنه في يدك متى شئت من غير أن تُغرِي بك كل حاسد أو باغٍ، ولا تَذكُرنَّ
لأحدٍ
من حديثي ما يسهُل عليك إذاعتُه، فيجترئ بذلك على إذاعة ما يقف عليه من سري، واطوِ ما
تستعرضه مني طيَّ الصحيفة، واحذَر أن يسبقك أحدٌ إلى مطالعتي بما أتوكَّفه،
١٦٣ وقد أمرتُ لك بكذا وكذا دينارًا، لتتأمل بها زيادة عطيَّتي على عطية خيانتي
واشتَمِل على أمري، وقابل ما ابتدأتُك به بما يُقصِي عنك سوء الفيء لديك، وفَّقَك الله
وسدَّدَك.
فقال له أحمد بن طولون: فمَنْ خدمتَ بعده؟ فقال: ما استرحتُ إلى سواه، ومُعوَّلي فيما
يقيمني على جزءٍ مما أفادَنيه غَنيتُ به عن سواه، فأنا أستغلُّه مع قومٍ أثق بهم
وبمودَّاتهم وحُسن معاملاتهم، فأصرف الفضل فيما ينوبُني وأردُّ الأصل إلى موضعه. فقال
له:
وكم صرف إليك حسين الخادم؟ فقال: أربعة آلاف دينار وهي كانت أكثر ما كان في حاصله في
ذلك
الوقت، فقال له: فما أُحب من كاتبي إلا ما وصَّاك به صاحبُك لا زيادة عليه، وقد أمرتُ
لك
بمائة ألف دينار، فإذا جريتَ على ما وصَّاك به صاحبُك، فهذا المال قليلٌ من كثيرٍ لك
عندي.
وخلع عليه وحمَّله، وألزمه خدمته، فلم يُنكِر منه أحمد بن طولون إلا تحامُلَه على الناس
له
ليحظى بذلك عنده.
فقال له يومًا: قد صحَّت عندي نصيحتُك، وأنت غير محتاجٍ أن تتحامل على أحد لتزيد عندي،
وأنت تجني على نفسك بذلك من الآثام واستيحاش الناس مني أكثِر مما تحوزُه لي من الحظ،
واعلم
أنك تزرع في قلوب الناس بما تأتيه حقدًا لا تُفنِيه الأيام، بل تتوارثُه الأعقاب، فاطلُب
الشكر من الناس؛ فليس يكرهه إلا ناقص المعرفة، جاهل بما يُوجبه حسن السياسة، غير عالمٍ
بما
في باطن النصيحة، فميِّز الناس تمييزَ عادل؛ تلقَّ شِرارَهم بغِلظتك، وخيارَهم
برأفتك.
قال: فسألتُ نسيمًا الخادم عن المائة ألف دينار التي دفعَها إليه أحمد بن طولون، فقال:
هي
المائة ألف من المائة ألف التي أخذَها من ابن مفضل، تركها معزولةً بحالها ناحيةً حتى
يرى
فيها رأيه، فلمَّا استكتب ابن مهاجر أمرني بدفعها إليه.
قال صالح بن علي: جرى في مجلس لابن عبد كان ذكر محبوب بن رجاء وحسن بن مهاجر، فطعَن
عليهما أكثرُ الحاضرين، فقال ابن عبد كان: الصدقُ أجملُ ما يؤثَر، في كل واحدٍ منهما
فضلٌ
بيِّن، وإنهما لعلى أفضل طريقة؛ أما محبوب فسريع الجواب، حَسَن الانتزاع
١٦٤ حلو المكاتبة، وأما ابن مهاجر فوقور [النفس] مُستصغِر لنصيحة من ينصحه، بعيد
الغور، لا يُؤثِر على توفير مال صاحبه، وعلى ما زيَّن حالَه عنده شيئًا من أعراض الدنيا،
ولقد اجتمعا وقت المناظر وكل واحدٍ منهما مغيظٌ على صاحبه، فقال حسن لمحبوب: أمرني الأمير
أن أجلس في حلْقِك حتى تفصل ما أثبتَّه من الحساب الذي رفعتَه، فقال له محبوب من وقته:
لو
جلست في حَلْقي قذفتُك في المخرج، فأضحك جميعَ مَنْ حضر وانقطع ابن مهاجر ساعةً ثم تناظرا،
فقال محبوب لحسن: أنت شابٌّ حدَثٌ غِر، والصواب لك أن تستشعر خوف الأمير. فقال له حسن:
والله ما أخافُه. فقام بها محبوب وقعد، ورفعها أصحاب الأخبار إلى أحمد بن طولون، فدعا
بهما
وقال: ما هذا الكلام الذي جرى بينكما؟ فقال له محبوب: ذكَر حسن أنه لا يخاف الأمير. فقال
له
أحمد: هو ذا تسمع يا حسن، فقال: كذا قلتُ أيها الأمير؛ لأني قد استغرقتُ جهدي في نصيحتك،
وقد أمنتُ جَورَك وليس مع هذَين ما يخيفني منك. فقال له: صدَقْتَ، الأمر كما وصفتَ، بارك
الله عليك وفيك. وذهب حسن بن مهاجر إلى قول الأحوص في عمر بن عبد العزيز:
وأرى المدينةَ منذ صِرتَ أميرَهَا
أمِنَ البريء بها ونامَ الأعزَلُ
ولقد أحسَن ابن مهاجر في ذلك.
وشبيهٌ بهذا ما رُوي عن عمر بن الخطاب، رحمه الله، أنه اجتاز ببعض سِكَك المدينة فرأى
صبيانًا يلعبون، فيهم عبد الله بن الزبير، فهربوا جميعًا غير ابن الزبير، فقال له عمر:
ما
لك أنت لم تهرُبْ كما هرب أصحابُك؟ فقال: لم آتِ جرمًا فأخافَك، وما بالطريق من ضيقٍ
فأوسِّع لك. فأَعجب عُمرَ قولُه، ومضى وهو يقول: لله درُّك! وبارك الله عليك.
قال: وذُكر أيضًا محبوب بن رجاء في مجلس ابن عبد كان فقال قائل: إنما كان مقبلًا
بإقبال
صاحبه، فلمَّا مات أدبَر، فقال ابن عبد كان: دعُونا من هذا القول. لقد كان بيِّنَ الفضل.
لقد أمرني أحمد بن طولون يومًا بإنشاء كتابٍ يُقْرأ على المنبر فأنشأتُه، ودفعتُه إلى
محبوبٍ ليقرأه وكان فصيحًا، فدفعه محبوبٌ إلى غلامه صاحبِ دَواته ليحمله إلى الجامع،
وتَركَه الغلام في منديل العمل،
١٦٥ ورَكِب الأميرُ إلى الجامع، وحمَل الغلام ثُلثًا نقيًّا، وهو يُقدِّر أنه
الكتاب، فلمَّا صَعِد محبوبُ المنبر ناوَلَه الغلام الثلثَ النقي، فلمَّا نشره محبوب
علِمَ
أن الغلام غلط ونسِي، فاندفَع ومضى به يقرأ، وينشر الثلث ويطوي ليُوهِم مَنْ يراه أنه
يقرأ
منه، مثل ما كان في الثلث، وما شذَّ عنه منه شيء، بألفاظٍ عذبة حسنة المعنى في الذي قصَده،
وأتى على ما كان نفسه، فلولا أنني الذي أنشأتُه لشكَكتُ فيه، وما فطِن به أحدٌ غيري،
بل
تبيَّن منه الأمير بعض الاضطراب لذكائه وحدَّة خاطره وقوة حسِّه.
فلمَّا نزل عن المنبر أمَر أن يؤخذ منه الغلام فأُخذ، وما خاطَبه حتى صار إلى الدار
فأحضره وقال له: ويحك! إنك قد أتيتَ بمثل ما كان في الكتاب، ولولا ما فيك من الفضل
لافتُضِحت، فكيف جرى هذا؟ فعرَّفه غلَطَ الغلام فقال له: إن لم تؤدِّبه على هذا أدبًا
يمنَعه من تَركِه مراعاةَ أمرِك جرى عليك بعده أعظم منه، وأمر بإحضار الغلام فأُحضر،
فضُرب
بين يدَيه مائة مِقرعَة، وقال لمحبوب: إن اخترتَ أن تستبدل به فافعل، وإن علمتَ هذا الأدب
قد أصلَحه فدَعْه على رسمه. ثم قال ابن عبد كان: وإن كان الرجل يُقِبل بإقبال صاحبه كان،
فله فضلُ طبيعة وحُسنُ صناعة.
وعُدنا إلى أخباره الموجِبة له العُذرَ فيما يأتيه من العقوبة؛ فمنها خبر ابن شعرة،
وكان ابن شعرة
١٦٦ هذا يُضْحِك المتوكل على الله، وكان يغنِّي أيضًا، وكان قد انضوى إلى ابن مدبر
لصبابة خراجيات
١٦٧ كانت له بمصر، فكان لِما يعلَم من كره أحمد بن طولون لابن مدبَّر يذكُره عنده،
فأحضَره ونهاه عن ذلك، فكأنه إنما أغراه بنفسه ولم ينتهِ، فأقبل على حملته يتقرَّب إلى
ابن
مدبَّر بذِكرِه كل ما سمعه، يذكُر ثقل وطأته عليه، ويتبرَّم بمكانه معه في البلد، فبلَغه
أيضًا ذلك، فوجَّه إليه مَنْ نهاه فلم ينتهِ، وبلَغه عنه ما يُنفِّره مثل ذلك، فأحضَره
وقال
له: ويحك! انتهِ عما يبلُغني واحذَر مني ويلك، فلن يبلغني عنك بعد هذا شيءٌ أُنكِره إلا
أتيتُ على نفسك، فعاد إلى ابن مدبَّر بعد أن حلَف له أن جميع ما يبلُغه تحيُّف عليه،
فلمَّا
عاد إلى ابن مدبَّر دخل خزانة الكسوة، وليس منها مثل ما كان على أحمد بن طولون، وخرج
إلى
ابن مدبَّر فجلس مثل جلوس أحمد بن طولون وحاكاه، وأعاد ما خاطبه به، وأقبل ابن مدبَّر
يضحك
منه ويُعجِبه ذلك، وبلغ ذلك أحمد بن طولون. واتفق في الوقت أن السعر بلَغ، واضطَرب البلد
لذلك. على أن السعر كان إذا تحرَّك في أيامه كان خمسة أرادب بدينار وأربعة، وإلا فكان
من
العشرة إلى ما دونها مما ذكرناه، فرَكِب أحمد بن طولون ليُهدِّئ الناس، ويعاقب قومًا
من
القماحين والدقَّاقين، وينظُر فيما يُصلِح أمر الناس في البلد، فلمَّا بلغ إلى مسجد
عبد الله ازدحَم النساء من السطوح ينظُرن إليه، وأشرفنَ من كل دار، فاطَّلَعَت امرأةٌ
من
دار ابن شعر من أعلى سطحها من بين مِرْكنَي
١٦٨ ريحان، وجاءت أخرى لتنظُر معها، فازدحمتا، فرمَت إحداهما أحد المِركنَين
الريحان، فسقط للمقدور على كفل دابة أحمد بن طولون ولم يشعُر به، فوثَب الفرس ونتَره
من
سَرجه، ولولا ثُبوتُه في ظهره لرماه الأرض.
فسأل عن الدار لمن هي؟ فقيل: لحسن بن شعرة، فأحضره في الوقت، وشقَّ عنه، وضربه في
موضعه خمسمائة
١٦٩ سوط، وهُدِمَت دارُه، وطيف به البلدُ على جمل، فبلَغ ما كان في نفسه منه،
مكافأةً على قبيح أفعاله به مرةً بعد مرة، وهو يحذِّره فلا يحذَر.
وعاد وقد بلغ في أمر السعر ما أحبَّ وأحبَّ أهلُ البلد، وكثر الضجيج له بالدعاء على
ذلك،
وتصدَّق في ذلك اليوم بجملةٍ عظيمة شكرًا لله على كفايته.
ومن ذلك أنه كان له بسُرَّ مَنْ رأى صديقٌ من أولاد الموالي قد برع في الكتابة والأدب،
وحسن الافتنان في العلوم، وحلاوة الشاهد، فلمَّا استقلَّت أحوالُه بمصر وعظُمَت، كتب
إليه
يستزيره ويذكُر له أن الحال التي قد هيَّأها الله، جلَّ ذكره، لا تُهنِئه إلا بمشاركته
فيها، وأتى في ذلك ما يأتيه الكرام مع إخوانهم إذا رُزقوا حالًا استبدُّوا بها دونهم،
فأجابه أن السفر يشُقُّ عليه والبلد بلدٌ شاسع، لا يكاد يَعهَد السفر إليه، ويذكُر من
شَوقِه إليه أضعافَ ما ذكَره في كتابه، وأن اليسير الذي في يده يُقنِعه ويُغنِيه عما
سواه،
ويشكُر له فعله، فغمَّ ذلك أحمد بن طولون وساءه تأخُّره عنه، لِمَا كان بينه وبينه من
المودَّة والعِشْرة والأُخوَّة، فأراد الإفضال عليه والأنْس به.
فلمَّا سَرِفَت الحال بينه وبين الموفَّق ورَدَ كتابُه عليه يذكُر فيه أن شوقَه إليه
قد
تزايد، وأنه ل يطيق الصبر عن زيارته، وأنه قد سهُل عليه تحمُّل مشقة السفر، لما قد استولى
على قلبه من محبة النظر إليه ويستأذنه في الرحيل إليه.
فاستبشَر أحمد بن طولون بذلك، وأذن له فيه، إلا أن نفسه لقوة ذكائه نَفَرَتْ بعض النفور.
وكتَب إلى خليفته طيفور يأمُره أن يستَكشفَ له خبره، ويشرحُ له صورةَ أمره بالحضرة، وإلى
مَنْ ينقطع بها، فكتب إليه أنَّ حاله حسُنَت في دار السلطان، ومنزلته قد ظَهرَت، وأن
بينه
وبين الموفق صِلةً قوية، وله منه منزلة كبيرة.
ولم يمض إلا مُدَيْدةٌ يسيرة حتى وافاه خبره أنه قد قرُب من البلد، فأخرج إليه وجوه
أصحابه وقُوَّاده وتلقَّوه بالعباسة،
١٧٠ فلمَّا وصل بلغ منية مال الله
١٧١ أقام له الجيش سماطَين
١٧٢ في أحسن زيٍّ إلى الميدان، ومن الميدان إلى داره، وأوقف من باب قصره إلى مجلسه
الرومَ والتركَ والمستوقدات والعمد الحديد، ودخل الرجل يشُق هؤلاء كلهم حتى وصل إليه،
فكاد
عقله يطير مما رأى وشاهَد، مما لم يظُنَّه ولا قدَّره.
فلمَّا قرُب منه قام إليه أحمد بن طولون فتلقَّاه، وأجلسه معه، وأكبَّ عليه يُسائِله
عن
أحواله، وقد أعدَّ له حُجرة في قصره وفَرَشَ له فيها، وأعدَّ له جميعَ ما يحتاج إلى من
كل
شيءٍ حسَنٍ جليل له خَطَر وحُسْن من قليل وكثير، فلمَّا خَلَيا ساعة وتحدَّثا دعا بالمائدة
فأكلا، ولم يزالا في حديث ومؤانسةٍ إلى وقت العشاء الآخرة، فقال له أحمد بن طولون: أنتَ
قد
تعبتَ وتحتاج إلى راحة، فإن نشطتَ إلى أن تخلُو لذلك في دارك فعلتَ. فقام الرجل إلى تلك
الدار، وأتبعَه غلمانه وحَجَبُه يسبقونه إليها، فلم يمضِ من الليل إلا أيسرُه حتى أمر
خاقان
الطرسوسي بالقبض عليه، والاحتياط على جميع ما معه، حتى لا يفوته منه شيء.
وكان إذا جرى منه شيءٌ في هذا الباب كشف لأصحابه عن وجه الخبر فيه، ليزول عن قلوبهم
التعلُّق بما يجري منه، فلمَّا انقضى أمرُ الرجل ومضت له ثلاثةُ أيامٍ أقبَل على جماعةٍ
من
وجوه أصحابه وقُوَّاده، فقال: اسمعوا خبري مع هذا الرجل الذي استدعيتُه لأقضي حقه وحق
الصحبة التي كانت بيني وبينه والمودَّة، ولِمَا أعلمه من حاله ليشرَكَني في نعمة الله
عندنا، فأبى وامتنع عليَّ، واستبعد الطريق إلينا، فغمَّني ذلك.
ولمَّا كان في هذا الوقت كتَب يستَدْعي ويذكُر شوقَه إلينا، ويسأل الإذن له في مصيره
إلينا، فأذِنْتُ له في ذلك، وآثَرْتُ مشاهدتَه، وكتبتُ إلى خليفتي بالحضرة ليستكشف لي
حاله
هناك، فكتب يذكُر أن حالَه قد حسُنَت في دار السلطان، ومنزلته قد عظُمَت عنده، وخلْطَته
بالموفق قد ظَهرَت، فما قدَّرتُ إلا أن الموفق لما بلغه ما بيني وبينه من الإخاء والمودَّة
دسَّه إليَّ ليُحسِن التسديد بيني وبينه حتى يُصْلِحَ ما تشعَّث بيننا.
فلمَّا وافى واجتمعنا لم يَدَع للموفق مَثْلَبَة إلا نبشها، ولا قبيحًا إلا ذكَره،
ورأيتُ
صورتَه قد انقلبَت عما كنتُ أعهده عليه، فتلطَّفتُ بأن استحضَرتُ غلامَين له رأيتُهما
مشتملَين على أمره، فوعَدتُهما ورغَّبتهما، فأحضَراني سفطًا فيه ثمانون كتابًا من الموفق
إلى وجوه قُوادي وخواصِّ غلماني، يعِدهم فيها بأن مَنْ فتَكَ بي منهم قلَّده البلدان
الخطيرة، وأسنى له العطيَّة الجزيلة، أفأُلام على ما فعلتُه في أمره؟ فقالوا: لا والله،
أيَّد الله الأمير، والحمد لله على ما وفَّق الأميرَ له في أمره، والعذر للأمير، أيَّدَه
الله، والذنب لمن جنى على الأمير، ولم يحفَظ المودَّة ويَرْعَ الإخاء، وقد جازاه الله
بما
يستَوجبه.
ولمَّا مات يارجوخ في سنة ثمانٍ وخمسين خلَّفَ ستة بنين وبنتًا، كان يارجوخ قد زوَّجها
من
موسى بن بُغا، وبنو يارجوخ؛ عيسى وهو الأكبر، وجعفر طريده، والفتح طريده، وثلاثةٌ صغار؛
صالح ورجاء ونصر لم يبلغوا الحُلُم، وكان عيسى بن يارجوخ كثير الهبة شرِسَ الأخلاق كبيرَ
الهمة، فلمَّا مات أبوه لم يلزَم الركوب إلى دار السلطان، ولا واظَب على الخدمة، وقدَّر
أن
الأمر يجيئه على ما يُحبه وهو جالس في داره، فلمَّا ترك الخدمة ولزم منزله اقتصر على
رزقه
ولم يُقلَّد عملًا، ولا ارتفق بزيادة ولا جراية، فأغاظه ذلك، فحمل إخوته وأخته، وخرج
بهم
على طريق مكة. ووافى إلى أحمد بن طولون من الحضرة فقبِلَه بأحسن قَبول، ووفَّر عليه الرزق،
وأجرى على إخوته كلهم وأخته الأرزاق السَّنيَّة، وأقام لهم الوظائف، وزوَّج جعفر بن يارجوخ
من ابنته الكبرى فاطمة؛ لأن عيسى كانت له امرأة. ولم يزالوا عنده في أجلِّ حالٍ حتى دعت
عيسى شراسةُ أخلاقه إلى السُّكْر، وبلغه عنه مقالاتٌ قبيحة، ذكَر أنه صنيعة أبيه، فوجَّه
إليه يعذلُه على ما يبلُغه عنه.
فلمَّا علم عيسى أنه قد عَلِم بمقالاته فيه سأله أن يُطلِقه إلى طرسوس خوفًا منه وحياءً
من خطئه عليه، ففعل ووصلَه بمالٍ جزيل، وكتب له جوازًا، وحَفِظ فيه فِعل أبيه، ولم يؤاخذه،
ومنعه أن يأخذ معه إخوتَه، وأقرَّهم عنده على حالهم، حتى دعت جعفرًا أيضًا حماقتُه التي
كانت فيه، ولأنه كان بينه وبين العباس منادمة لمصاهرة بينهما إلى أن خرج معه إلى برقة،
فلمَّا كان من أمره ما كان عاقب الناسَ جميعًا، وقَتَل مَنْ قَتَل، وأعفى جعفرًا من ذلك،
غير أنه أمره بالخروج عن البلد.
وحدَّث محمد بن عبد الله الخراساني الدهَّان قال: نزل عندنا بِحارَة الخراسانيين
شابٌّ
حَسَن الوجه، فصيحُ اللسان، حافظٌ للقرآن وسنة النبي
ﷺ من أهل بلخ، فجَلَّ في
قلوبنا، وحلَّ منا محلًّا لطيفًا، فأمَّنا في مسجدنا في حارتَنا، وتوزَّعنا ما يكفيه
من
أموالنا، فكنا نجلس عنده في المسجد كلَّ عشية، ونأنس بحديثه، وحُسن فصاحته، وكثرة فوائده،
فإنا لجلوسٌ معه يومًا في عشية من العشايا، حتى طلَع علينا كهلٌ من الخراسانية عليه لبَّاد،
وفي يده خنجرٌ مشهور، فلمَّا رآه إمامنا قام مبادرًا هاربًا، فعدا صاحب اللبَّاد خلفَه
فلحِقَه، فلم يزل يتوجَّؤه
١٧٣ بخنجره حتى قتلَه، فقبَضْنا عليه وسُقناه إلى الشرطة وهو مقتادٌ معنا غير
متعاصٍ ولا منكر.
فأوقَفْنا صاحبَ الشرطة على أمره، فرفعنا بأجمعنا إلى أحمد بن طولون، فلمَّا حضَرنا
بين
يدَيه ووقف على صورة القضية، قال له: ما الذي حملَكَ على ما أتيتَ؟ فقال: أعزَّ الله
الأمير، كان هذا الرجل جاري ببخارى، وكان حَسَن المجاورة، ظاهر الستر، لا نعلم ما في
باطنه،
فألِفْتُه ومِلْتُ إلى عِشْرته، فدخلتُ يومًا من الأيام إلى منزلي على غفلة من أهلي،
فوجدتُه مفترشًا زوجتي، ففزعتُ إلى السيف، وإلى أن آخذه فهرب مني، فعُدتُ إلى الامرأة
فقتلتُها، واشتُهر أمري في الجوار، فأحضرني أهل الامرأة إلى السلطان فعرَّفته قصتي
فأطلَقني، وأمَرني بطلَب هذا الفاجر، وأباحني قتلَه، فطلبتُه فلم أجده، وأُخبرتُ بخروجه
عن
بخارى، فتركتُ شغلي ومعاشي وما أنا بسبيله ببلدي من تجارة وأهل، وخرجتُ خلفه.
وكنتُ لا أدخل بلدًا إلا قيل لي إذا سألتُ عنه إنه قد دخل إلينا ورحل، إلى أن بلغتُ
مصر،
ولي ها هنا مدةٌ أسأل عنه في كل يوم، وأدور عليه، وأصف صفته، إلى أن عرفتُ بالصفة، فعرفتُ
أنه يصلِّي بقومٍ في المسجد الذي وافيتُه فيه، فأخذتُ بطائلتي
١٧٤ وشفَيتُ ما في نفسي، فاصنع بي أيها الأمير الآن ما شئت، فقد سهُل عليَّ القتل
بعدما وصلتُ إليه.
فسألَنا أحمد بن طولون عن المقتول لما رآه ما الذي عمل؟ فقلنا: لمَّا نظر إليه قام
يعدو
هاربًا منه. فقال له أحمد بن طولون: كثَّر الله في الناس مثلَك، انصرِف مكلوءًا. فأقام
عندنا تلك العشيَّة وودَّعنا من غدٍ وخرج إلى بلده.
ومن ذلك أن صاحب الخبر رفَع إلى أحمد بن طولون أن رجلًا دعا صديقًا له إلى منزله
فقَتلَه،
فأمَر به فأُحضر إليه مع أولياء الميت، فسأل أولياءَ الميت عنه، فقالوا: دعاه هذا الرجل
إليه للصداقة بينهما، وجاءونا به مقتولًا من منزله، فلا نعلَم كيف كانت حالُه. فسألَه
عن
القصة، فقال: والله، أيد الله الأمير، ما عندي عِلمٌ مِن أَمْره، وإنه عندي لمثلُ ناظري،
وعزيزٌ عليَّ بما فُجِعتُ به منه، وإني عليه لثكلانُ مُوجَع. ولقد كان أخَصَّ خلقِ الله
عندي، وأحبَّهم إلى قلبي، وبحسب الأمير، أيَّدَه الله، أني أصلحتُ نبيذًا منذ سنتَين،
وأعوزَتْني الظروف فقيَّرتُ
١٧٥ ظروفًا كبارًا، وجعلتُها فيها، وتركتُ الجِرار في الشمس، ولي في السطح بُرجُ
حمامٍ فتهدَّم منه موضع، ولم يحضُرني في الوقت طوب، وخشيتُ على الفراخ من دخول شيءٍ إليها،
فأخذتُ جَرَّةً من تلك الجِرار الكبار فسددتُ بها ما انهدَم من البُرج وطيَّنتُها، وعَمِلتُ
على أن أطلب طوبًا فأجعلَه مكانها وأخذتها، ومضت الأيام ونسيتُها بالشغل والعوارض فما
ذكرتُها، وانقضى النبيذ وفرغ، واعتللتُ عِلَّة قطَعَتْني عن إصلاح غيره، فلمَّا وهب الله،
جلَّ اسمُه، العافية في هذا الوقت صَعِدتُ أفتقد الحَمَام، فرأيتُ بعض الطين قد انكشَف
عن
الجَرَّة النبيذ، فذكرتُها فأخرجتُها وجعلتُ عوضها طوبًا، وسُرِرتُ بها كلَّ السرور لأجتمع
أنا وأخي هذا على شُربها، فخرجتُ واشتريتُ لحمًا وما أحتاج إليه، وصفَّيتُها في [إنا]ئي،
فرأيتُ منظرًا ما رأيتُ أحسنَ منه، وعبَّيتُ
١٧٦ مجلسي كما يجب، ومضيتُ إلى أخي فحدَّثته حديث الجَرَّة، ففرح بها أيضًا، وسألته
الحضور وأن يُحضِر معه ثلاثة من إخواننا، وعُدتُ إلى منزلي، وتشاغَلتُ بالطبخ وما أحتاج
إليه.
فكان صديقي هذا وأخي أوَّل مَنْ وافاني من إخواني وأنا مشغولٌ ما فَرغْت، فنظر إلى
النبيذ
فاستَحسَنه جدًّا وأُعجب به، وحلف أنه ما رأى قَط مثلَه، وشرب منه قدحًا واحدًا، ووضع
رأسَه
فنام، فلمَّا فرغتُ من شُغلي وحضر إخواني أصلحتُ المائدة، وتقدَّمتُ إليه لأنبِّهه فوجدتُّه
ميتًا، فورَد عليَّ، أيَّد الله الأمير، من الأمر ما خشيتُ معه أن أُجَنَّ، وحِرْتُ وحار
القوم، وبقينا لا ندري ما نعمل، ولم أجد بُدًّا من حمله إلى منزله، فحملناه إليهم
وعرَّفناهم خبَره.
فقال أحمد بن طولون لأولياء الميت: تشكُّون في مودَّته كانت لميِّتكم؟ فقالوا: لا
والله،
أيد الله الأمير، لقد كان به عليه من الإشفاق والمحبة مثل ما نحن له عليه وأفضل، وما
نتَّهمُه في أمره بوجهٍ ولا سبب.
فقال له أحمد بن طولون: ما فعل النبيذ؟ فقال: هو بحاله، أيد الله الأمير، شغلَتنا
هذه
المصيبة عنه وعن كل حال. فقال له: أحضرني منه شيئًا. فوجَّه معه مَنْ أتاه منه بقنِّينة،
فنظر أحمد بن طولون إلى لونه وقال: حسن. فاستحضر كبد خروفٍ فأُتي به في غُضارة
١٧٧ صيني فملأ من النبيذ قدحًا وصبَّه على الكبد، وغطَّاها قليلًا، وكشف عنها
فأصابها قد تقطَّعت وتهرَّأت، ثم استدعى كبدًا أخرى فأُتي بها، فأخذ من النبيذ قدحًا
فجعل
نصفه نبيذًا ونصفه ماءً، وصبَّه عليها وغطَّاها أيضًا، وتركها قليلًا، ثم كشف عنها فوجدَها
تبرق مصقولةً حسنة، فقال للرجل: هكذا كان ينبغي أن يُشرب هذا النبيذ منصَّفًا. وقال لأولياء
الميت: مات ميِّتُكم بأجله وعلى حسب ما قضيت موتته، فشأنكم بميتكم فا[مضوا وادفنوه]،
يتولاه
الله، جلَّ اسمُه، برحمته، ثم قال لصاحب النبيذ: امضِ واحذَر أن تسقي أو تشرب من هذا
النبيذ
شيئًا صِرفًا فإنه قاتل. فقال: والله، أيد الله الأمير، لا شربتُ ولا أسقيتُ بعد [يومي]
نبيذًا أبدًا ما عشتُ. فقال له: جوَّدتَ، انصرِفْ مُسلمًا.
ومن ذلك أنه راح في يوم خطبة فلمَّا رقي الخاطب
١٧٨ المنبر وخطب دعا للمعتمد ولولده، ونسي أن يَدْعو لأحمد بن طولون، ونزل عن
المنبر مَرقاةً، فقال سوار الخادم: فأشار إليَّ أنْ إذا فرغ من صلاته وخرج فاضربه خمسمائة
سوط. فذَكَر الإمام وهو على المرقاة الثانية، فرجَع إلى أعلى المنبر، وقال: الحمد لله،
وصلى
الله على محمد
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ
وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا، اللهم وأصلِح الأمير أبا العباس أحمد بن طولون.
وزاد في الدعاء له ثم نزل عن المنبر، قال سوار: فنظر إليَّ مولاي وقال لي: اجعلها دنانير.
ووقف الخاطب على ما كان منه فحمِدَ الله، جلَّ اسمُه، على سلامته منه، وهنَّأه الناس
بالسلامة.
ومن ذلك أنه اعتلَّ معمر الجوهري فعاده أحمد بن طولون، وكانت بينه وبين معْمَر مودَّة
وخُلطة وميلٌ شديد ومحبة، فإنه لعنده جالس يتوجَّع له من علَّته ويذكُر له غمَّه به،
وشُغل
قلبه بأَمْره، ويدعو الله له بالعافية؛ إذ سمع صائحًا يقول: أنا بالله وبالأمير، فقال
للحاجب: ما هذا؟ فخرج وعاد فقال: امرأة. فقال: هاتِها. فدخلَت إليه عجوز؛ فلمَّا رأته
قال:
أنا بالله وبالأمير. فقال لها: ما قصَّتكِ وممن تتظلَّمين؟ فقالت: من هذا الذي أنت عنده
أيها الأمير. فقال لها، وما خبَركِ معه؟ فقالت: أنا امرأةٌ من أهل الستر، ولي نصفُ دارٍ
منها معيشتي، وفي بقائها عليَّ نعمتي، فاشترى هذا الرجل من شريكي، وكدَّني في أن أبيعه
النصف الذي لي لتَكمُل له الدار، فامتنعتُ لأن في بقائها ستري، وفي بيعها هتكي، فأنا
من
كدِّه لي ومطالبته إياي بالبيع، وتخويفي منه، في أمرٍ قد عذَّبني وحيَّرني، فردَّ أحمد
بن
طولون إلى معمر وجهًا مكفهرًّا لم يرَ مثلَه قط، تكاد أن تطير من عينَيه النار، وانقلب
في
الوقت عن تلك الحال التي كان عليها له إلى غيرها، كل ذلك مراعاةً لحق الله، عزَّ وجل،
ثم
قال له بعبسةٍ وانقباضٍ وجفاءِ خطاب: ما تقول فيما قالت هذه المرأة؟ قال معمر: جميع ما
أملِكُه صدقةٌ إن كنتُ أعرف شيئًا مما ذكَرَتْه. فقالت الامرأة: وكيلك فلان الذي يُعنتني
ويؤذيني. وطُلِبَ في الوقت فلم يُوجَد، فقام أحمد بن طولون وقال له: أنصِفْها ولا تُحوِجْها
إلى شكايةٍ بعدها. فبثَّ معمر الرسل يطلبون وكيله حتى أُحضر، فسألَه عما حكت الامرأة
قال:
نعم، صدقَت، النصف من الدار الفلانية اشتريناها من شريكها، وطلبتُ منها النصف الذي لها
لتكمُل الدار بأجمعها فامتنعَت. فأمره بإحضار الكتاب بشراء النصف فأحضره، فأقرَّ لها
في
ظهره أن الشراء لها دونَه ووهبَه لها ووصلَها بجملة دنانير، وقال لها: قد أبقى الله،
جلَّ
اسمُه، عليكِ النصف الذي لكِ وزادكِ النصف الذي لنا هبةً منا لكِ، فأُحبُ أن تمضي وتَلقي
الأمير وتعرِّفيه ما فعلتُه في أمركِ وتشكُريني عنده. فخرجَت إلى الميدان فلقيَت أحمد
بن
طولون فعرَّفَته ما كان من معْمَر، فحمد الله على ذلك.
١٧٩
ومن عجيب أخباره أنه لمَّا صرف أبا أيوب عن الخراج، وقلَّده أحمد بن إبراهيم الأطروش
جعل
يتجسَّس عنه فلا يجد له شاكيًا ولا به ساعيًا، وكان قد استكتب أبا الجيش علي بن أحمد
وسِنُّه يومئذٍ أربعون سنة، واستخلَفه على جميع أمره، وكان كل الكُتَّاب يومئذٍ يحلفون،
وهم
متوافرون، أنهم ما رأَوا ولا شاهدوا أحضر ذهنًا منه ولا أقوى حفظًا.
فبينا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الأطروش يومًا في الديوان يناظر المعاملين، إذ نظر
[إلى]
نصراني كان يُعرف بإسحاق كاتب جرجان، وكان معتقلًا شيخًا من المتقبلين يُعرف بابن جمهور،
فآدى
١٨٠ النصراني عليه، فاغتاظ ابن الأطروش من تسلُّط النصراني على الشيخ، فأمَر بردِّه
إلى حبسه، فصاح النصراني: نصيحة للأمير أحمد بن طولون. فما تمَّ كلامه حتى وافى صاحبُ
أحمد
بن طولون، فأخذ أحمد بن إبراهيم الأطروش والنصراني فأحضَرهما بين يدَي أحمد بن طولون،
فقال
لإسحاق النصراني: ما نصيحتُك؟ فقال: أخَذ أحمد بن إبراهيم الأطروش هذا من مال ضياع البلد
في
هذه الأيام أربعين ألف دينار. فقال لابن الأطروش: ما تقول فيما ذكَره؟ فأنكره وقال: هذا
نصرانيٌّ أحمقُ ما يدري ما يقول، وإنما لمَّا طالبتُهُ بما يجب عليه من الخراج عمل هذا
ليدفع به عن نفسه المطالبة. فاغتاظ أحمد بن طولون وقال له: أنا أسألك عن الحُجَّة فيما
ذكره
تُقيمُها تأتيني بخرافات! فبقي ابن الأطروش قد حار وسُقِطَ في يده.
١٨١
ورُفِعَ في الخبر إليه؛ لأن الأخبار ما كانت تُغِبُّه في كل ساعةٍ بكل ما يجري من
قليل
وكثير، فكان في الخبر أن بالباب كاتبًا لأحمد بن إبراهيم الأطروش، يسأل الحُجَّاب إدخاله
إلى الأمير، فأمر بإحضاره، فدخل على أحمد بن طولون، فكان أول ما ابتدأ به بعد السلام
على
الأمير أنْ قال: أيد الله الأمير، جميع ما وجب على صاحبي هذا أحمد بن إبراهيم الأطروش
فهو
عليَّ دونه بما فوَّضه إليَّ من أمره، فإن رأى الأمير، أيَّدَه الله، أن يُعفيَه من
المناظرة لهذا النصراني ويجعلها معي ويصغي الأمير، أيَّدَه الله، إلى ما يجري فعل. فعجب
أحمد بن طولون من تأكيده على نفسه فيما يتبرَّأ فيه الولد من والده، فقال له: شأنك
وإياه.
والْتَفَتَ إلى النصراني فقال له: ما نصيحتُك؟ فقال: أخذ صاحبك من مال ضياع البلد
أربعين
ألف دينار. فقال له علي بن أحمد: أخذها جملةً من حاصلِ مالٍ كان لها مفردًا، أو أخذها
مفرَّقًا من الضياع؟ فقال له النصراني: أخذها مفرَّقًا من الضياع. قال: فأحْضِرنا بها
عملًا
مفصَّلًا تبيِّن فيه ما ذكرتَ شيئًا شيئًا. فقال: ما عندي لها عملٌ بتفصيل، ولكن إذا
أحضر
الحساب للضياع أخرجتُ من عُرضِه ما اختزلَه ويثبت اقتطاعه له. فقال علي بن أحمد: الله
أكبر.
وأخرج من خُفِّه عملًا وناولَه الأمير وقال له: أيَّد الله الأمير، هذه نسخةُ ما حُمِلَ
إلى
بيت المال عن هذه الضياع دفعةً دفعة وأنا أحفظها ظاهرًا، وهو ذا أقرؤه وهو يسمَع، فمهما
عَرفَ منه هذا النصراني شيئًا فيذكُره. ثم اندفع يذكر ذلك ضيعةً ضيعة ودفعةً دفعة، وقد
أعجَب أحمد بن طولون ذلك منه، وأقبل عليه يستزيده حتى أتى على العمل، ثم استعاده إياه
ثانيةً إعجابًا منه واستحسانًا له، فأعاده على ترتيب لم يقدِّم حرفًا ولم يؤخِّر حرفًا،
ثم
قال للنصراني: أخبرني الآن ما الذي زاد على هذا حتى يكشَفه الأمير أيَّدَه الله؟ فإنْ
صحَّ
عَلِم صدقَك، وإن لم يصحَّ وقف على كذبك. فانقطع النصراني، وسكتَ سكوت منقطعٍ لا حُجَّة
معه، وارتعد بين يدَي أحمد بن طولون فقال له: يا كلب، أردتَّ أن تحملني على الإساءة لرجلٍ
ليس في خدمتي أعفُّ منه … لولا أن الإسلام يُهدِر ما قبله …
١٨٢ عبرة لغيرك، وأمر بانصرافه، ثم قال لعلي بن أحمد: بارك الله عليك … منك؛ فقد
جمعتَ بين الذكاء والوفاء، فلا يدخُلنَّ إليَّ صاحبك وقتًا إلا وأنت معه، وكان لباس علي
بن
أحمد الدُّرَّاعة فنهاه أحمد بن طولون عنها، وأمره بلباس الأقبية والسيف والمنطقة ولبس
السواد يوم السلام.
وحدَّث يحيى بن براقة الحاسب وكان صديق أبي يوسف يعقوب بن إسحاق كاتب أحمد بن طولون،
قال:
صار إليَّ غلام أبي يوسف الكاتب، بعد انصرف أحمد بن طولون من الإسكندرية إلى الفُسطاط،
يدْعوني إليه ويذكُر شوقه إليَّ، وكنتُ قبل نكبته مواصلًا له، فلمَّا حبسه أحمد بن طولون
[تهيَّبتُ] الذهاب إليه خوفًا على نفسي، فقلتُ له: ما تركتُ زيارتَه إلا خوفًا، فقال:
قد
علم عذرك، والآن فقد تقدَّم الأمير إلى الموكَّل بالمُطبِق أن يُفرِدَه من جملة المحبوسين،
ويُطلِق له دخول مَنْ قصَده للسلام عليه، من أصدقائه وأصحابه وحاشيته وذوي عنايته، وشوقُه
إليك شديد، وقد استبطأ تأخُّركَ عنه مع ما جرى من تسهيل أمره، فمضيتُ مع الغلام إليه
فوجدتُه في غرفةٍ واسعة نظيفة فسلَّم عليَّ وقال: يا أبا زكريا قد تفرَّغتُ الآن للعرض
عليك، والاقتباس منك، فالزمني فلزمتُه. فعمل زيج السندهند بأَسْره، وعَمِل صدرًا من أحكام
النجوم. وأقمتُ أنقطع إليه في محبسه خمس سنين وكسرًا حتى أُطلق، فحدَّث يحيى بن براقة
قال:
لمَّا دخلَت سنة أربع وستين ومائتَين
١٨٣ … المسلمين ويتضمن ديارهم ذكر ما ابره في الضيق منك، وقد سلكتُ في قصيدتي ذلك
المسلك، وكتب إلى أبي عبد الله الواسطي رقعةً يشكو بها حاله، ويسألُه التلطُّف في قراءة
القصيدة عليه في خلْوة، ويتبعُها بما يحسُن أن يأتيه وهي:
الشعر صعبٌ على المكروب والعانِي
وليس أعجبَ شيء فيضُ ملآنِ
ما للزمان لقد حالَت حوادثُه
بيني وبين حبيبٍ نازحٍ دانِ
إن قلتَ جاء أجاب الطَّرْفُ من كثَبٍ
ملَكْنَني بين أبوابٍ وحيطانِ
ودون عُرْب وعُجمٍ في مجالسهم
موكَّلين بنا تركٍ وسُودانِ
إذا تنحنَحتُ قالوا طار صاحبُنا
كأنما لِيَ في حَبْسي جناحانِ
لكنَّ طيفَك يأتيني برغمِهِمُ
يا حبَّذا طيفُ من أهوى ويهواني
طيفٌ لبيضاءَ تنقادُ القلوبُ لها
لو خاصمَت قمرًا جاءت ببُرهانِ
لولا خيالُكِ يا مولاةَ مالكِها
وأنه كلما نوَّمتُ يغشانِي
إذن لَمَا عشتُ من همٍّ أعالجُه
وأحرقَت كبدي نيرانُ أحزانِي
كيف البقاءُ على سجنٍ حُبستُ به
كأنه حَجرٌ من بين كُثبانِ
إذا مددتُ يدي مستلقيًا بلغَت
منه سماوتَه
١٨٤ شلَّت
١٨٥ يدُ الباني
وإن علا نفَسي نمَّت سَرائرُهُ
ثم استقلَّت بأحزانٍ وأشجانِ
وإن تروَّحتُ منه للخروجِ فلا
روحٌ سوى مخرجٍ مأوًى لشيطانِ
للجن فيه عزيفٌ كلُّ صاخبةٍ
تنوحُ فرعونَ أو تبكي لهامانِ
تجول فيه بنات الأُفعوان مع الـ
ـعقارِب [السود] من مَثنًى ووحدانِ
قال: فورَد جواب أحمد بن محمد الواسطي عليه يقول: قد قرأتُ القصيدة عليه، وهو منشرح
الصدر، فتدمَّع لبعضها وضحك لبعضها. فقلتُ: أيَّد الله الأمير، قد طال حبسُه، وبلغ به
غضب
الأمير حالًا رثى له عدُوُّه منها، فإن رأى الأمير، أيَّدَه الله، أن يمنَّ عليه بالرضا.
فقال: ما غضبتُ عليه، ولو غضبتُ لجرى مجرى غيره ممن اصطفيتُ ماله وأجريتُ عليه المكروه،
حتى
خَفِي خبره واستتر أثَره، وقد أطلقتُ له من يأنَس به وهو مشغولٌ بتعلُّم حساب النجوم
وقول
الشعر، وقد زال الآن عَتْبي عليه عن قلبي. فقلتُ له: الحمد لله، فما يمنع الأمير من
التطوُّل عليه بإطلاقه والرضا عنه؟ فقال: كلام ألقاه إليَّ وحدَّثني به عن أنوشروان،
وهو
أنه قال: الملِك المتمكِّن من نفسه لا يغضب سريعًا ولا يرضى سريعًا؛ لأن ذلك من أخلاق
النساء ومن قاربهن؛ فلذلك أطلتُ حبسَه. فأمسكتُ عن إعادة قولٍ عليه، فأنت يا أبا يوسف
في
حبس نفسك بما كنتَ غنيًّا عنه من هذا القول.
فلمَّا وصَل إليه الجواب من أبي عبد الله قال لمن حضَره من إخوانه، أمَا ترى إلى فظاظة
أبي عبد الله في خطابه لي، وأنا في مثل هذه الحال، وذمِّه إياي فيما كان يجب أن يمدَحَني
به؟ ولكن يا أخي المِحَن تقلبُ أعيانَ الحسنات إلى المساوئ.
فكاتَبَ أبا بكرة
١٨٦ القاضي وسألَه كلامَ أحمد بن طولون في أمره، ومسألتَه إطلاقه، فرَكِب إليه
القاضي، فأذكَره بحرمته عليه، وخدمته له، وطول صحبته له. واتفق له في تلك الساعة ورودُ
خبرٍ
عليه يسُره، فأمر بإطلاقه، وتخلية سبيله.
وكان وقت الحج فلما أطلقه [جاءه] مسلِّمًا عليه، فسأله الإذنَ له في الحج، وعرَّفه
أنه
اعتقد ذلك إذا منَّ الله، عزَّ وجل، عليه برضا الأمير، فأذِنَ له في ذلك، وأطلق له الذهاب
إلى منزله بسُرَّ مَنْ رأى، والاجتماع مع أهله وحَرَمه، وأطلق له جملةً كبيرة من المال
وخرج.
فلمَّا حجَّ ووصل إلى منزله كفَّ لسانه بالعتاب، فلم يذكُر أحمد بن طولون بكلمة تُكْرَه
ولا بقبيح، فزاد بذلك عند الموفَّق، وتقدَّم به عنده، وكتب طيفور خليفة أحمد بن طولون
إليه
بذلك، وأنه يُكثِر الشكر بذلك ويُطِيل الثناء عليه، فشكر له أحمد بن طولون ذلك، وصار
يُكاتِبه في مهمَّاته وحوائجه، ولا يقطع مواصلتَه بصِلاته.
قال مؤلِّف هذا الكتاب: حدَّث نسيم الخادم قال: كان أحمد بن طولون مولاي على غايةٍ
من
الميل والمحبَّة لمعمر الجوهري، فلمَّا مات مَعْمر الجوهري حزِنَ عليه أحمد بن طولون
حزنًا
عظيمًا، حتى ظهر ذلك منه للناس كلهم، فلم يتعزَّ به ولم يسلُ عنه؛ فلِحُزنه عليه كان
يُبكِّر كل يوم سَحَرًا إلى قبره وأنا معه فيترحَّم عليه ويقرأ قليلًا، ويعود إلى قصره
مع
الصبح، فكنا عند موافاتنا قبره نجد في كل يوم امرأةً قد سبقتنا إلى قَبرٍ مقابل قبر مَعْمر،
تبكي وتنتحب بحُرقةٍ موجعةٍ مؤلمة لقلب من يسمعها، فكانت تزيد في حزن أحمد بن طولون
وتُبكيه.
فلمَّا كثُر ذلك عليه منها قال لها يومًا: يا امرأة، أتبيتين ها هنا؟ فقالت: لا أيها
الأمير. فعلم أنها قد عَرفَته، فقالت: وكيف لي لو تهيأ لي المبيت حتى أَبيت ولا أفارق
هذا
القبر وأُدفن فيه مع صاحبه؟ ولكني أسهر ليلي لما أجد في قلبي، فإذا قرُب الفجر خرجتُ
وقد
شغَل الحزن قلبي عن الخوف من وحْشة الطريق. فقال لها أحمد بن طولون: وما هذه الحالُ العظيمة
التي استحق بها هذا الفعل منكِ؟ فقالت: أيها الأمير، إنها حالٌ عظيمة عندي، لا يجوز لي
أن
أذكُرها. فقال لها: لا بد أن تخبريني ذلك، أبْنُكِ هو؟ قالت: لا. قال: فأخوك؟ قالت: لا.
قال: فزوجكِ؟ قالت: نعم. قال: أقسمتُ عليكِ لتُخبرنِّي بما استوجَب به منكِ هذا الفعل.
فقالت: أيها الأمير، إني أحتشم من ذكره وأرفِّع الأمير عن كشفه. قال لها: إلزامي لكِ
ذكره
قد أزال حشمتكِ وأقام عذركِ.
فقالت: أزْوَجَني أبي لهذا الرجل وأنا صبيةٌ ما بلغتُ مبالغ النساء، فلمَّا عقد النكاح
سافر سفرًا طال مدةً أيِسنا منه معها، فخلا بي مِن النساء مَنْ لا خير فيه، وأنا مع أبي
وأمي، وأفسدوني واستولَوا على عقلي، وحملوني على أن ساعدتُهم فيما كُتب عليَّ، مما لم
يكن
لي منه محيص، وصبوتُ كما تصبو النساء وحمَلْت، فلمَّا تبين والداي جميعًا ذلك ورَد عليهما
ما يرِدُ مثلُه من المصائب، فبينما هما يركضان في الحَيْرة في أمري إذ قدِمَ هذا الرجل
من
سفره، فطالَبَ بإدخالي عليه، فدافَعه أبي وأمي بما يُحتاج إلى إصلاحه لي، رجاء أن يزول
ما
في جوفي، فلم يدَعَا شيئًا يُعمل في طرحه حتى عملاه، فما نفع ذلك لما قضى الله، جلَّ
اسمُه،
بكونه.
وقرُبَت ولادتي فوافانا هذا الرجل وقد طالت المدافعة له، فحلَف بالطلاق أنه يأخذني
بعد
ثلاثة أيام، فلم يجد أبي وأمي بُدًّا من إدخالي عليه فدُفِعْتُ إليه، وأنا على حالٍ قد
علمها الله، جلَّ اسمُه، غمًّا وقلقًا، وأبي وأمي في أعظمَ مما أنا فيه، فلمَّا أُدْخلتُ
عليه، وأُخليتُ معه، انصرفَت أمي وسائر أهلي، خوفًا من مشاهدة الفضيحة، فلمَّا حصلْتُ
معه
في الكِلَّة
١٨٧ ضَربَني الطلق، وزاد الأمر عليَّ، فوثبتُ من الكلَّة، أريد الخروج من البيت إلى
أمي وليس عندي أنها هَربَت، فما بلغتُ عتبة باب البيت حتى طرحتُ الولد من بين رِجليَّ
إلى
الأرض، وسقطتُ ولا عقل لي، فوثَب هذا الرجل يتأمل، فرأى طفلًا مطروحًا يبكي، فصاح بأخته،
فسمعتُه وأنا في كربي وغمِّي، يقول لها: يا أختي، اقضي كلَّ حق لي عليكِ، بما تأتيه في
أمر
هذه الامرأة. وانصرف عن البيت، وتركني مع أخته، فقامت بي أحسن قيام، وتولَّت أمري ما
لا
يتولى مثلَه أمي؛ برفق وإشفاق، وانبساط وجه، وحسن خُلق، ومزح ومداعبة، حتى كأن الولد
منهم،
وكل ذلك يزيدني خجلًا واحتشامًا، إلا أنه قد سكَن قلبي بعضَ السكون.
وبلغ أبي وأمي خبري فلم يقربني أحدٌ منهما حياءً واحتشامًا، وبتُّ ليلتي، فلما كان
من
الغد دخل إليَّ بوجهٍ منبسط طلْق ضاحك، فجلس عند رأسي، وساءلني عن خبري، وقال لي: ألكِ
حاجة؟ قلتُ ودموعي تجري: يبقيك الله. فبكى لبكائي، ومضى بنفسه إلى أبي وأمي، فحلف عليهما
حتى جاءني بهما، وقال لهما: لا مهرب من قضاء الله، عزَّ وجل، إني ليس في يدي ولا في أيديكما
ولا في يدي أحد من عبيده، جلَّ ذِكْره، منه غير الصبر والحمد له، تبارك وتعالى، على البأساء
والضرَّاء، والحمد لله الذي كان هذا من فيض [؟] الله جلَّ اسمُه، له الصبر عليه والستر
عليكم، واحمَدوا الله جلَّ اسمُه، فدَعَيا له وشَكَراه واستعبدَهما بذلك.
فكان كلَّ يومٍ يدخُل إليَّ بكرةً وبالعشي، يسألني عن حالي، ويسألني عن شيء أشتهيه
ويستحلفني على ذلك، فأبوس يدَيه وأدعو له حتى إذا مضى لي أربعون يومًا، وهي أيام النفاس،
ودخلتُ الحمَّام وصلحتُ له، دخل إليَّ مستبشرًا طيِّب النفس، فمازحني وجلس عندي، واستحضَر
أبي وأمي وأنفق نفقةً كبيرةً واسعةً حسنة، حتى كانت مقام عرسٍ ثانٍ، فلمَّا انقضى يومُنا
وبات عندي، وجرى بيني وبينه ما يجري بين الرجل وزوجته وأنا على غاية الاحتشام والحياء
منه،
وأصبح، وهب لي دنانيرَ كثيرة، وقطع لي ثيابًا حِسانًا، فما مضى إلا شهرٌ حتى حملتُ فولدتُّ
غلامًا فسُرَّ به غاية السرور، فكأني انبسطتُ قليلًا إليه، ودعا أيضًا أبي وأمي وحلف
عليهما
أن يلزماني ولا ينقطعا عني، وصاغ لي حُليًّا حسنًا، وما ترك شيئًا من إكرامي وسروري حتى
بلغه لي، وعاشرَتْني أخته ولأمي
١٨٨ أحسن عِشْرة، وفعلَت معنا أجمل فِعل، فكنا له ولها كالعبيد.
وما زلتُ معه على حالٍ ما فوقها مزيدٌ من الإحسان والمحبة، حتى مضت لي عشر سنين، وكبر
ابني وحَذقَ القرآن، وعلَّمه جميع الآداب، وأنجب، فعظم بذلك سروره وسروري، ثم اعتلَّ
عِلَّته هذه التي مات فيها، فلمَّا أيِسَ من نفسه كتب وصيَّته، وأحضر الشهود ليشهدوا
عليه
فيها فسمعتُهم يقرءون في الوصية: والذي خلَّفه من الولد ولَدان ذكَران، وهما فلان وفلان،
وزوجة، وهي فلانة ابنة فلان، يريدني، فلمَّا سمعتُ ذلك لحق قلبي ما يلحق قلوب النساء
من
الغَيرة، ثم فكَّرتُ في خيانتي وقُبْح فعلي وجميل فعلِه، فأمسكت، إلا أني لما خرج العدول
من
عنده، خرجتُ إليه من وراء مقطعٍ كنتُ جالسةً خلفه، فقبَّلتُ رأسه ويده، وقلتُ له: يا
سيدي،
لك عليَّ من الإحسان والإنعام وجميل الفِعل ما قد استعبدتَني به، حتى لو وقفتُ على أن
لكَ
ثلاثَ نسوة وعدَّة جوارٍ لحملتُهنَّ لك على رأسي، فكان ذلك أقلَّ واجبك عليَّ، فكيف يكون
لك
ولدٌ غير ولدي من امرأةٍ غيري أو جارية فلا تعرِّفني حتى أتولَّى خدمتَها بنفسي، وكان
ذلك
بعضَ ما تستحقُّه مني؟ فقال: كأنكِ أنكرتِ ما سمعتيه في وصيتي من ذِكري ولدَين ذَكَرين!
فقلتُ: نعم. فحوَّل وجهَه عني إلى الحائط فقال لي: ويحكِ هذا وذاك، وتشهَّد ومات.
فأحضرَتْني أختُه ذلك الطفل الذي كنت رميتُه، والله ما قدَّرتُه يعيش، ولا سألتُ
عنه ولا
فكَّرتُ فيه، فقالت له: يا بني، هذه أمك فبُسْ
١٨٩ رأسها، فانكبَّ على رأسي وبكيتُ وبكى وبكت أختُه، وإذا بها قد اشترت له دايةً
وأفردَتْه في موضعٍ معها، وكبر فعلَّمته مع ابنه القرآن وجميع ما علمه ابنه من الآداب
وأنجب
أيضًا، على أنه بعضُ ولد الجيران وأحضرت أخاه فقالت له: يا ابن أخي، هذا أخوك فتعانقا،
ووقف
كل واحدٍ منهما على صورة الأمر، واتفقَت الحال بينهما، فتسخَّمتُ
١٩٠ أنا وأخته عليه، وجزَزْنا شعورنا، ولزمنا الحزن عليه، فماتت أخته حزنًا وبقيتُ
أنا وابني وأخوه معي، وخلَّف له شيئًا يسدُّ حاجتنا،
١٩١ فأنا ألزَمُ قبره ولا أنسى جميل فعِله، ولا يزول مِن قلبي حزنُه. فقال لها أحمد
بن طولون: رحمه الله ورضي عنه، فما في الدنيا أكرم من هذا الرجل ولا أجمل فِعْلًا، وأحسن
الله جزاءكِ إذ عرفتِ له مقدار فِعلِه بكِ، وكثَّر الله في النساء مثلَكِ، فإن يكن لكِ
حاجة
أو نابتْكِ نائبة، فعرِّفيني فقد لزمني حقُّكِ، ووجب عليَّ حفظُكِ. فدعَت له، وانصرف
أحمد
بن طولون وقد أبكَتْه وأحزَنتْه.
قال: وحمل أبو الفتح محمد بن الفتح أخته خديجة إلى أحمد بن طولون في آخر سنة خمس
وستين
ومائتَين وكان المعتمد قد عقد بينهما نكاحًا، وكانت أختُه يومئذٍ تحت المعتمد بالله،
فقلَّد
أحمد بن طولون محمد بن الفتح ديار مُضَر. وكان الحسن بن مَخْلَد قد نفاه السلطان إلى
الرَّقَّة؛ لأنه أساء إلى الأولياء والكُتَّاب، فكتب إلى أحمد بن طولون يذكُر له رغبته
في
المقام عنده وفي كَنَفِه، فأنفَذ محمد بن الفتح كتابَه إليه بذلك، فأجابه أحمد بن طولون:
أنا وليُّك ومقام صنيعتك؛ لأنه كان الوزير، وصوَّب رأيه فيما انتواه فرحل إليه، فلمَّا
قارب
أعمال مصر منعه صاحب البذرقة
١٩٢ وكتب إلى أحمد بن طولون بخبره، وكتَب إليه أيضًا الحسن بن مخلد، فكتب أحمد بن
طولون إلى صاحب البذرقة يأمره بحمله مكرَّمًا فحُمِل إليه، فلمَّا وصل إلى أحمد بن طولون
أظهر إكرامه وإعزازه، والتجمُّل له والبِشْر به.
ولم يزل عنده على هذه الحال إلى أن تأمل أحمد بن طولون منه أنه يرى أن فِعلَه ذلك
به،
باستحقاقٍ له عليه، وأقبل يتبسَّط بين يدَيه تبسُّط المتبوع مع التابع، ولم يزده أيضًا
مهابة، ولا توفية حقه، فأحفظه ذلك عليه، وكان يُنادِمه فحضر يومًا محبوب بن رجاء معه
بحضرة
أحمد بن طولون فقال لمحبوب على جهة المداعبة:
يعرِّض بأن أم محبوب بن رجاء اسمها قاسم، وذهب عنه أن اسم أم أحمد بن طولون قاسم،
فقال له
محبوب بن رجاء؛ ليُنبِّه أحمد بن طولون عليه: أوَيذْكر لأمي وقد كانت مهابة [؟] أو يقال
فيها هذا؟ إنما المنكَر أن يكون الوزير أخيف
١٩٤ إحدى عينَيه زرقاء والأخرى سَوداء، وهذا في الدوابِّ مشئوم، فكيف في الوزراء؟
فأحفظ أحمد بن طولون قولُ الحسن بن مخلد وخبَّأ ذلك له، فلمَّا كان بعد أيام أحضَره أحمد
بن طولون لمنادمته على الرسم فغنَّى، وقد سَكِر، بالنبطية
١٩٥ وصفَّق بيدَيه، ثم زاد عليه السُّكْر ومَلَكَه فقال:
أيا ويحكَ كم تَصعَد
لقد جُزْتَ مدى الفرقدْ
ولو زلَّتْ بك النَّعْلا
نِ لاستوْبَأْتَ ما تَحْمَدْ
فاغتاظ أحمد بن طولون غيظًا شديدًا، وأمر به فجُرَّ برجله إلى الحبس، فما زال محبوسًا
حتى
خرج أحمد بن طولون إلى الشام، فحملَه معه مقيَّدًا فمات في الطريق، فدُفِنَ في قصر عيسى
بن
شيخ الخشاشي.
وكان ابن مخلد قد خبَّر ابن طولون عن أحمد بن محمد بن مدبَّر، بما كان يكتب به أحمد
بن
محمد بن مدبَّر في أمره إلى السلطان، ودفع إليه كتبًا منها ما يقول فيه بخطه: وإنه قد
عزم
على أن يقيم بمصر خليفة، ويصف غدره، ويذكُره بكل قبيح ويُشير بعزله، ويُخيف السلطان منه،
ويذكُر ما قد اختزلَه من الأموال، فكتب أحمد بن طولون من وقته إلى سعد الفرغاني، وكان
من
قُوَّاده وثقاته، وهو بالشام مقيم، أن يُشخِص إليه ابنَ مدبَّر فأشخَصَه، فحبَسَه في
حجرة
من داره مكرَّمًا، ولم يدر ابن مدبَّر ما عرَّفه به الحسن بن مخلد، وقرَّره له عنده،
فكتب
ابن مدبَّر إلى أحمد بن طولون رقعة، وليس عنده صورة الأمر فيما جرى في أمره، ولا أن له
ذنبًا، وضمَّن الرقعة أبياتًا منها:
أُريتُ
١٩٦ قُبَيلَ الصبحِ في النومِ أننا
جميعًا على سطحٍ ينيف بنا السطحُ
إذا فارسٌ يهوي إلى السطح معلنًا
أخو شِكَّة يُزْهَى به السيفُ والرُّمحُ
١٩٧
يلوِّح بالبشرى إليكَ مبادرًا
بنصرٍ وتمكينٍ أجدَّهما النصحُ
وعالوا بتبكيرٍ من الدار عدوةً
بعقب كتاب الفتح إذ قرئ الفتح
فلم أرَ حلمًا مثلَه صِدقَ وافدٍ
على سرعةٍ ما كان يسبقُها اللَّمحُ
فهنَّأتُ بالشكر العطية إنه
تدومُ مع الشكرِ العطيةُ والنصحُ
وقل لي فدَتك النفسُ من كل حادث
وإن كان للنفسِ الضَّنانة والشَّحُّ
إلى كم يكون العَتْب في غير معتبٍ
١٩٨
بتمويه واشٍ شأنُه القذفُ والقدْحُ
يُصرِّح بالبهتانِ تصريحَ مازحٍ
ويا رُبَّ حتفٍ ساقَه الهَزْل والمزْحُ
أما خلَّةٌ تُرْعى ولا طول عِشْرةٍ
ولا حُرمةُ الندمان تُقْضى ولا الملحُ
تبيَّنْ فإن الحَقَّ يجلو دُجى العمَى
وإن كنتَ في شكٍّ فقد بيَّن الصبحُ
وما لي ذنبٌ غير أني مُحسَّدٌ
وفي زمن تكدي الأمانة والنصح
فإن كان لي ذنب فحُلمك واسع
١٩٩
وحُكْم الكتاب العَفوُ والكَظمُ والصَّفحُ
فقد نالَني بالأمسِ ما مُلَّ سمعُه
فأجمِل فإن القَرْح ينكَؤه القَرحُ
وما كنتُ ذا شِعرٍ ولكن جراحةٌ
من الغَم في صدري وقد ثَعبَ الجرحُ
قال: وكان أحمد بن طولون قد حبس ابن مدبَّر في حُجرةٍ مفروشةٍ ومعه خادمان يخدمانه،
ويوجِّه إليه أحمد بن طولون في كل يومٍ مائدةً حسنةً عليها من كل شيء، فلما ورَدَ عليه
هذا
الشعر أغاظه فأحضَره إليه، وقال له: تفكُّكُكَ وتفكُّهكَ يدلَّان على أنك ما وقفتَ على
عِلمي بما قصدتَني به وكاتبتَ السلطانَ فيَّ مرةً بعد أخرى بسوء طبعك، وقُبْح كيدِكَ،
وجرأتك على ربِّك بأيمانك الكاذبة، هبْك ويحك تتوهَّم بخبثك أنه قد جاز أنها تجوز على
عالم
الغيب والشهادة، والله لقد أردتُّ قتلَكَ لولا اليمين التي حلفتُ بها لك، لما صحَّ عندي
من
سعيك في أذيتي، وقصدك مكروهي، وحيلتك في سفك دمي. فأنكر ذلك فقال: ويلك، تُنكر وهذه كُتبك
بخطِّك عندي؟ ثم أحضَره الكتب التي سلَّمها إليه الحسن بن مخلد ورماها إليه وقال له:
ويلك
هذه كتب مَنْ يؤمن بالله واليوم الآخر ويخاف عقوبته، عزَّ وجل، التي يخافها من بغى وأساء؟
والله لولا ما في قلبي من يميني لضربتُ عُنقَكَ الساعة، وضربتُكَ بالسوط حتى تموت. وأمر
به
فأُخرِجَ من بين يدَيه سحبًا. وعمل أحمد بن محمد الواسطي جوابًا لشعر ابن مدبَّر، ودخل
به
إلى أحمد بن طولون فقرأَه عليه فأعجبه وأمَره بإنفاذه إليه، وقيل: إنه لمحمد بن عبيد
الغفار.
٢٠٠
أأحمد كان السطح يا ابن محمد
مُنيفًا ولو عاليتَه خسف السطحُ
٢٠١
متى كنتَ في الأحلامِ لله صادقَا
فتصدُقَ في رؤياك إذ وضَح الصبحُ
[فكم ذبحَت كفَّاك من ربِّ نعمةٍ
بلا شفرة [أو] يُحتوى الملكُ والسَّرحُ
فأصبح مما خوَّل الله عاريًا
فلا جاهُهُ يبقى ولا المال والربحُ
ومن عَدْلنا أن قد زُويتَ مضيَّقًا
عليكَ فلا عفوٌ مرجًّى ولا صفحُ
فلو جاءنا الناعي بنعيك جاءنا
بأنْ جاء نصرُ الله للناسِ والفتحُ]
ولكنْ أدام الله عِزَّ أميرِنا
وتمَّت له البشرى ودام له النجحُ
فما زال ميمونَ النقيبةِ ماجدًا
أخا عزَماتٍ لا يطيشُ بها الجَمحُ
وما زال في الهيجاء أوَّل فارسٍ
له يضحكُ السيف المهنَّد والرمحُ
فاستجادَها أحمد بن طولون وأُنفِذَت إليه، فلمَّا قرأها ندمَ على ما كان من خطئه على
نفسه
حيث لم ينفعه، ولم يزل في حبس أحمد بن طولون حتى عمي ومات.
وكان قد أشرك بين علي بن الحسن بن شعيب المدايني وبين ابن الأطروش في الخراج، فوُجدَت
لعلي بن شعيب رقعةٌ إلى ابن مدبَّر يقول فيها بخطه: «قد علم الله، جلَّ اسمُه، زهدي في
العمل الذي أتقلَّده، وكراهتي له، وخوفي منه، وأسأل الله، جلَّ اسمُه، أن يكفيَك ما
أهمَّك.» فأمر به أحمد بن طولون إلى المُطبِق فما زال فيه حتى مات، وأفرد ابن الأطروش
بالخَراج.
وكان أحمد بن إسماعيل بن عمار المعروف بسبع شعرات قد قدم إلى أحمد بن طولون من الشام
فقلَّده الأملاك وما خرج عن الخَراج، وصَرفَ به الحسن بن سليمان بن ثابت، وتقدَّم إلى
أحمد
بن إسماعيل بمطالبة الحسن بما دفعَه عليٌّ ابنه، فطالَبه بذلك وضَربَه فمات في الضرب،
ونحن
نذكُر خبَره مفردًا إن شاء الله.
وكان أحمد بن إسماعيل هذا قد أشار على أحمد بن طولون بمشورة فتعدَّاها، فبسط لسانَه
فيه
على جهة الإشفاق عليه، وقال: ليس هو ممن تمرَّن في الرياسة وفيه لجاجٌ لا يؤمَن عليه
منه.
فبلغ ذلك أحمد بن طولون فحبَسه في المُطبِق، ومنَع مَنْ كان يبسط عليه عائدتَه حتى
مات.
وكل هذه الأحوال التي عدَدْنا فالعذر فيها كلِّها بيِّن لأحمد بن طولون، والذنب لمن
يبسُط
لسانَه في مثله ويتعدَّى إلى غير ما هو أهله.
وكان قد بقِيَت لأحمد بن طولون بقيةٌ كبيرة من خَراج البلد على بعض المتقبلين ذهب
عني
اسمُه فاستَتر، وكان قبل استتاره قد عمَد إلى رَبعٍ له نفيسٍ يفي بما عليه من الخَراج،
وفضَّل حبسَه على ولده وخرج عن البلد، ورُفِع خبره إلى أحمد بن طولون فطُلِب، فقيل له:
قد
هرب وفات وخرج عن البلد. فأحضر بكار بن قتيبة القاضي وقال له: صاحبك يقول بحلِّ الحُبُس
في
الدين فتَحلُّ حُبُس هذا الهارب منا حتى نأخذ مال السلطان منه؟ فقال له بكار: لا تفعل
ولا
تستنَّ سنةً يُستنُّ بها فيك؛ لأن لك أوقافًا على وجوه فإن حلَلتَ حلُّوا عنك. فتوقَّف
عن
ذلك وكفَّ عنه وشكر لبكار مشورتَه عليه.
٢٠٢
وأما رغبتُه كانت في أبواب البرِّ التي كانت له فكانت ظاهرةً بينة واضحة، بشهوةٍ
شديدة
ونيةٍ صحيحة؛ فمن ذلك بناء الجامع والبيمارستان
٢٠٣ وما ضمَّنَه خزائنَه من العقاقير النفسية الخطيرة والدرياقات المعروفة التي
ليست إلا في خزائن الملوك والخلفاء، فلم يكن يُعدَم في بيمارستانه شيءٌ من الأدوية ولا
العقاقير الرئيسة؛ مثل دواء المسك وغيره مما لا يُوجد مثلُه. واشترى له المستغَلَّات
النفسية التي يفي بعضها بجميع حوائجه إذا أبقى الله، جلَّ اسمُه، مَنْ يتولَّاها.
ثم العين التي بالمعافر بناها بنيَّةٍ صحيحة، ورغبةٍ قوية جميلة، حتى إنها ليس لها
نظير،
ولقد اجتهد الماذرائيون
٢٠٤ وأنفقوا الأموال الخطيرة ليَحْكوها فأعجزَهم ذلك؛ لأنها وقعَت في موضعٍ جيرانُه
كلهم محتاجون إليها، وهي مفتوحةٌ طُول النهار لمن كشَف وجهَه للأخذ منها، ولمن كان له
غلام
أو جارية، والليل كله للضعفاء والمستورين والمستورات، فهي لهم حياة ومعونة. واتخذ لها
المُستغَل الذي فيه فضلٌ عن الكفاية.
حدَّث ابن قراطغان أن الذي تولَّى لأحمد بن طولون بناء هذه العين رجلٌ نصراني حَسَن
الهندسة حاذقٌ فيها
٢٠٥ وأنه دخل إلى أحمد بن طولون عشيةً من العشايا فقال له: فرغتُ مما تحتاج إليه
فيها لنركب إليها نراها. فقال له: يركب الأمير، أيَّدَه الله، في غدٍ، فقد فَرغْت. فركِب
وتقدَّم النصراني فتأمل منها موضعًا يحتاج إلى قصرية
٢٠٦ جير وأربع طوبات
٢٠٧ فبادَر فعمل ذلك. وأقبل أحمد بن طولون يتأمل العين، واستحسن جميع ما شاهَدَه
منها، ثم أقبل إلى الموضع الذي فيه قصرية الجير ليقف، فلرطوبة الجير لمَّا وضَع الفرس
يده
على الموضع غاصت فيه، وكبا بأحمد بن طولون فرسُه، فلسوء ظنِّه قدَّر أن ذلك لمكروهٍ أراده
النصراني به، فأمر به وشُقَّ عنه وضربه خمسمائة سوط وأمر به إلى المُطبِق، وكان المسكين
يتوقَّع الجائزة فأنفق له إنفاق سوء، وانصرف أحمد بن طولون.
وأقام النصراني في المطبق إلى أن أراد أحمد بن طولون بناء الجامع، فقدَّر له ثلاثمائة
عمود، وقيل له: ما تجدها أو تنفذ إلى الكنائس في الأرياف وفي الضياع الخراب فتحمل إليه
فأنكره ولم يختره وتعذَّب قلبه بالفكر في أمره، وبلغ النصراني وهو في المُطبق الخبر فكتب
إليه يقول: أنا أبنيه للأمير، أيَّدَه الله، كما يحب ويختار بلا عمود إلا عمودَي القِبْلة،
وأحضره فأُدْخل إليه وقد طال شعره حتى سقط على وجهه، فقال له: ما تقول ويحك في بناء الجامع؟
فقال له: أنا أصوره للأمير حتى يراه عيانًا بلا عمود إلا عمودَي القبلة، فأمر بأن تُحْضَرَ
له الجلود
٢٠٨ فأُحضرت، وصوَّره له فأُعجب به واستحسنه فأطلقه وخلع عليه وأطلق له النفقة عليه
مائة ألف دينار، فقال له: أنفِقْ وما احتجت إليه بعد ذلك أطلقناه لك، فوضع النصراني يده
في
البناء في الموضع الذي هو فيه وهو جبل يَشْكُر،
٢٠٩ فكان ينشر منه ويسطح ويعمله جيرًا ويبني إلى أن فرغ من جميعه وبيَّضه وخلَّقه
وفرش في الحصر، وعلَّق القناديل والسلاسل الطوال الغلاظ الحِسَان، وحمل إليه صناديق المصاحف
ونقل إليه الفقهاء والقراء، وتصدَّق في ذلك اليوم صدقاتٍ عظيمة فيه وعمل طعامًا واسعًا
كبيرًا، وحُمل إليه فأطعم سائر مَنْ حضر، وكان يومًا عظيمًا نبيلًا جليلًا.
وراح أحمد بن طولون ونزل في الدار التي عملها فيه للإمارة وقد فُرشَت، وعُلِّق فيها
الستور وحُمل إلى خزائنها الآلات والأواني التي يحتاج إليها، وصناديق الشراب فيها من
كل
نوعٍ من الأشربة وما شاكلها، فنزَل فيها أحمد بن طولون وجدَّد طُهْره وأبدل ثيابه وتبخَّر،
وخرج من بابها إلى المقصورة، فركع وسجد شكرًا لله على ما أعانه عليه من ذلك ويسَّره له،
فلمَّا أراد الانصراف خرج من المقصورة حتى أشرف على الفوَّارة وخرج إلى باب الريح، فصَعِد
النصراني المنارة ووقف إلى جانب المِرْكَن النحاس، وصاح بأحمد بن طولون: أيها الأمير،
عبدك
يريد الجائزة، ويسأل الأمان ألا يجري عليه مثل ما جرى في المرة الأولى. فقال له أحمد
بن
طولون: انزل ويلك يا كافر. فقال: وحق رأس الأمير لا نزلتُ أو تؤمِّنني. فقال له: انزل
فقد
أمَّنَك الله ولك الجائزة. فنزل وأمر له بعشرة آلافِ دينار، وخلع عليه، وأجرى عليه رزقًا
واسعًا.
قال: ومن أفعاله الجميلة ما كان يحملُه إلى طرسوس وغيرها من الثغور من المال العَيْن
والسلاح والكُراع والثياب ما لم يحمله إليها أحدٌ قط، ولم يغيِّره على أهل طرسوس شيءٌ
مما
أنكره من فِعلِهم، فيقصر عن ذلك مجازاةً لهم؛ لأنه كان يقصد بفِعلِه الله وحدَه جلَّ
اسمُه.
ومن ذلك بناؤه حصن يافا؛ لأنها لم يكن لها حصن، ومات قبل الفراغ منه، وأتمَّه من
بعدَه
ابنُه أبو الجيش.
٢١٠
ومنها ما كان يحمله إلى الحرمَين من المال والعين والحِنْطة و[الشَّفوف] والثياب
وكلِّ ما
يحتاج إليه أهلوها.
٢١١
ومنها تفقُّد أهل الستر والمتجمِّلين وضعفاءِ النواحي ممن يلزَم المساجد، ويسأل عن
النساء
المستورات في منازلهنَّ ومحالِّهن، فيُجريهنَّ مجرى الرجال من معروفه ويُفضلُهن.
٢١٢
وحدَّث أبو جعفر المروزي، قال: دعاني أحمد بن طولون يومًا ودفع إليَّ رقعةً وقال لي:
سَلْ
عمَّن فيها فهم سَجَنَة حبس القاضي، وانظر الدارج الحال منهم المستقل، وأَثْبِتْ لي أسماءهم
وأحوالهم وأسماء خصومهم، قال: فمضيتُ فسألتُ عنهم، وأثبتُّ أسماءهم وأحوالهم وخصومهم،
وذكر
الموجد منهم والمعدم، وأحضرتُه العمل بذلك، فأحضَر وكيله ابن مفضل فقال له: اجتَمِعْ
مع أبي
جعفر المروزي حتى تنظر في أمرِ هؤلاء القوم، وتُحضروا خصومهم وتُرضوهم عنهم، وتُثبِتا
مبلغ
ذلك وتُعرِّفاني به. فاجتمعنا وعرضناهم وأرضيناهم عنهم بمصالحةٍ لواحد، وأن يدفع إلى
آخر
ماله كله لتشدُّده أو لاختلال حاله أيضًا حتى فرغنا من جميعهم، فكان مبلغُ ما لزمه من
ذلك
عشرين ألف دينار، وجئناه بالعمال فأطلق المال باستبشار وفرح وسرور وطيب نفس، وحمِدَ الله،
عز وجل، وأمَر بأن ينصرف جميع المُحْبَسين إلى منازلهم، فمضَينا ودفعنا المال إلى أربابه،
فأكثروا له الدعاء والشكر، وأطلَقْنا الجماعة من حبس القاضي وهم مبتهلون إلى الله، جلَّ
اسمُه، بالدعاء له، فعُدنا إليه فعرَّفناه ذلك فقال لنا: مَنْ أنا لولا توفيق الله، عزَّ
وجل، إياي؟ وإنه جلَّ اسمُه ليُلهِمني أن أحنُوَ على الضعيف وأسطُوَ على العنيف، وهكذا
وصَف
الله، عزَّ وجل، خُلَّصه
٢١٣ فقال:
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ
بَيْنَهُمْ فالحمد لله على ما منَّ به عليَّ من ذلك.
قال مؤلِّف هذا الكتاب: وللحجاج بن يوسف حكايةٌ مثل هذه، إلا أن الحجاج زكَّى نفسه،
وأحمد
بن طولون استكان لربه.
حدَّث الحسن بن القاسم الأنباري أن امرأةً عارضَت الحجاج بن يوسف فقالت له:
تَقِ الله يا حجَّاجُ فينا فإنَّنا
بقية شَولٍ
٢١٤ غاب عنها فُحُولُها
وإلا تداركنا ابنَ يوسفَ رحمةً
بكفَّيكَ أمسى صعْبُها وذَلُولُها
فقال لها: ما خطبكِ؟ فقالت: غرَّبت زوجي مع ابن أبي بكرة، وقد طالت غيبتُه وخِفْنا
بعده
الضَّيعة والعار، فأمر بالكتاب إلى ابن أبي بكرة بإقفال زوجها وكل مَنْ خرج معه، فولَّت
تقول:
شَكَونا إلى الحجَّاج ما قد أصابَنَا
فكان كريمًا عالمًا بالنوائبِ
بصيرًا بما يأتي حليمًا عن العِدَى
غيورًا على البِيض الحِسَان الكواعبِ
فقال لها الحجاج: صدقتِ وكذبتِ، أنا كريم عالم بالنوائب، بصير بما يأتي، غيور على
البيض
الحِسَان، ولستُ بحليمٍ على العِدَى، أنا كما قال حميد الأرقط:
خُلقتُ ثُكلًا للعدوِّ الجاحدِ
أضربُ منه موضعَ القلائدِ
بالسيف ضربَ الهندِكيِّ الحاقدِ
٢١٥
وحدَّث أبو جعفر المروزي قال: كان أحمد بن طولون من حُفَّاظ القرآن، [المتقنين] حفظه
ومن
الدارسين الحُذَّاق، فكان يحب حُفَّاظ القرآن ويُكثر [مواصَلَتهم] بصِلاته، ويطرقُهم
سرًّا
في مواضعهم حتى يسمع قراءتهم، فيتبيَّن منزلة واحدٍ واحد في حفظه، ويصلِّي خلفه إما الصبح
وإما العَتَمَة، يركب حمارًا ومعه غلامٌ واحد، متنكِّرًا لا يعلم به أحد، ولا يعرفه مَنْ
يراه، حتى يصلِّي خلفه، ويعود في السَّحَر إن كان صبحًا أو بعد عتمة، ولا يقطع بِرَّهم
في
كل وقت.
فدعاني يومًا وقال لي: أتعرف إمامًا يُصلِّي بالمنامة
٢١٦ في موضع كذا وكذا؟ فقلت له: نعم، أنا أعرف المسجد، وما أعرف الرجل. فقال لي:
إنه حَسَنُ الصوت جيِّد الحفظ، فخذ معك خمسين
٢١٧ دينارًا وامضِ إليه، فإني لا أشُك أنه في ضِيقة، فصلِّ خلفَه، فإذا فرغ وخلا
فَوانِسْه حتى يَنبسِطَ إليك، والْطُفْ به حتى يأنسَ بك، فإذا أنِسَ فادفع هذه الدنانير
إليه، وسلْه عن دَيْنٍ إن كان عليه، فإن ذكَره لك فاقضِه عنه، وعرِّفني ما يكون منك في
أمره
فإني أُراعيه.
قال أبو جعفر: فعجبتُ من تغلغُله في معرفة هؤلاء القوم واحدًا واحدًا، وهم في أطراف
البلد، وفي مواضعَ متفرِّقة لا يكاد يَعرف أكثَرَها أهلُ البلد، ثم علمتُ أن دينه ورغبته
في
الخير حملاه على ذلك، مع توفيق الله، عزَّ وجل، له، ولن يوفِّق، جلَّ اسمُه، من عبيده
لما
يرضاه إلا من يختاره، وله عنده منزلة.
فبكَّرت في السَّحَر إلى المسجد، وصليتُ خلف الرجل، فسمعتُ إمامًا طيبًا حسن الصوت،
فلمَّا فرغ من الصلاة وانصرف الناس جلستُ أحادثه، فلم أزال أوانسه وأذكر له أخبار الصالحين،
وما يصلُح أن أحدِّثه لمثله حتى أنِس وانبسط، وسألني عن حديثي وعن حالي، وقال: قد آنستني
فأُحبُّ ألا تقطع مؤانستك فقد سُررت بك. فسألتُه عن أحواله وعن تصرُّف الزمان به، فشكا
إضاقة وقال: أغلَظُ ما حلَّ بي أني وقفتُ في المحراب أمس أُصلِّي فغلطتُ في قراءتي وما
جرى
عليَّ هذا [قبلًا]. فقلتُ: هذا يدُل على شغل قلبٍ وغمٍّ. فقال لي: نعم، منزلي خلف قِبْلة
هذا المسجد، فجئت إلى الصلاة وزوجتي تُطْلَق، فلمَّا وقفتُ في المحراب سمعتُ صياحها من
شدة
الطَّلْق، ففكَّرتُ أنه ليس لها في البيت دقيق ولا خبز ولا زيت ولا معي شيءٌ أُنفِقه
عليها
فغلِطتُ. فقلتُ: موضع يا سيدي ما تُلام على ذلك. فأخرجتُ إليه الدنانير وقلتُ له: هذه
الدنانيرُ من جهةٍ صالحة ترضاها، فخذها وتفرَّج بها. فتوقَّف عن أخذها، فحلفتُ له أنها
من
جهةٍ مَرْضية، ليس عليه فيها تَبِعة، فأخذَها وحمِد الله، جلَّ اسمُه، وأثنَى عليه، وانبسَط
وجهُه بعدما كان كالناعس وأنا أحدِّثه، وكأنه في موضعٍ آخر مشغول القلب والفكر، ثم سألتُهُ
عن دَيْنٍ إن كان عليه، فقال: نعم، عليَّ دَيْن، وكان أيضًا قلبي به متعلِّقًا لتأخيره
عن
أصحابه، والساعة أبتدئ بقضائه. فقلتُ له: كم هو؟ فقال: خمسة عشر دينارًا. فدفعتُها إليه
وقلتُ له: اقضها ولا تَثلَم هذه الدنانير، واتَّسِع أنت وعيالُك بها. فزاد في حمد الله،
عزَّ وجل، وشَكَرني، وسألني: من أي جهة هي؟ فلم أذكرها له، كما أمرني أحمد بن طولون.
وعدتُ إليه لأُعرِّفه ما كان، فما وصلتُ إليه يومي، فلمَّا كان من غدٍ صرتُ إليه
فخبَّرتُه بما جرى بيننا، فقال لي: صدق. ولقد وقفتُ خلفه مِرارًا فما سمعتُ منه غلطًا
إلا
أوَّل أمس، فإني ردَدتُ عليه في ثلاثة مواضع، وصليتُ اليوم خلفه فقرأ القراءة التي أعرفها
منه، فحمدتُ الله، جلَّ اسمُه، على ما وفَّقني له في أمره. ثم أمرني بإثبات اسمه في الدفتر
الذي فيه أسماء المستورين والمستورات الذين يُجري عليهم في كل شهر خمسة دنانير على كل
رجل
وامرأة، وأجرى عليه مثلهم.
ومن ذلك ما حدَّث به سعد الفرغاني قال: ركب أحمد بن طولون يومًا إلى الجيزة، وكان
رسمه
إذا قرُب من الجسر أُخلي له، فلمَّا بلغ إليه أُمِر الناس بان يسرعوا المجيء عليه وأُعجلوا،
فلم يَبقَ عليه إلا شيخٌ ضعيف على حمارٍ هزيل ومعه صبيٌّ له، وقد أقبل من بعض نواحي الجيزة،
فلمَّا أعجل الناس وهبَّ ليعجَل معهم لم يكن له نهضةٌ ولا لحماره، فسقط عن الحمار، فأقبل
أحمد بن طولون ينظُر إليه وإلى الصبي معه قد سقطا جميعًا، فقال لي: امنعهم من إزعاج هذا
الشيخ، وقِفْ عليه وارفُق به حتى يركَب حماره والحقني به، فما أشُك أنه مظلوم وقد وافانا
يريد التظلُّم وسائلْه في طريقك معه إليَّ عن خبره، وسبب دخوله إلى مصر، فإن ذكر ظُلامتَه
فاسأله ممن يتظلم؟
قال سعد: فوقفتُ عليه حتى عبَر أحمد بن طولون وعبَرتُ مع الشيخ وقد ردَدتُه معي،
فلخوفه
انقاد معي ولم يسألني عن ردِّه، وأقبلتُ أسير معه قليلًا قليلًا، على قَدْر سَير حماره،
وساءلتُه عن خبره وسبب دخوله الفسطاط، فقال: ما ترك لي وكيل ابن دشومة بذات
٢١٨ الساحل شيئًا أرجع إليه، وكنتُ مستورًا فهتكَني، وكنتُ غنيًّا فأفقَرني، حتى
صرتُ بين المزارعين مرحومًا فقيرًا، بعد أن كنتُ موجِدًا موسِرًا، فدخلتُ مستغيثًا إلى
الأمير، أيَّدَه الله، وكان ابن دشومة يومئذٍ أمينًا على أبي أيوب
٢١٩ في الخَراج، فلما لحِقْنا أحمد بن طولون وكلتُ بالشيخ، ودخلتُ إليه في مَضْربه،
فعرَّفتُهُ جميع ما عرَّفني به الشيخ، فوجَّه من ساعته بمن أحضَر إليه ابن دشومة من مصر
إلى
الجيزة، ولم يصبر إلى أن يعود، لقوة رغبته في الثواب والخير، فأُحضِر فقال له: ويحك،
إن
الضياع تشبه البستان والمزارعون شجرة، فإن رُفِقَ بهم وأُحْسِنَ القيام بأمرهم ورُعُوا
بإصلاحهم؛ طلعَت الثمرة ونمَت وزكَت، وإن لم يفعل ذلك هلكَت الشجرة وذهَب ثمرُها، فأحضِر
كاتبك الساعة الساعة ومختار الناحية إلى ها هنا، ولا تبرحا حتى تُنصِف هذا الشيخ من ظُلامته
وتبلغ له ما يُحبه وتعرِّفني، فإني ها هنا أُراعي ما يكون منك في أمره.
فطار عقل ابن دشومة، وجعل يتوقَّع مكروه أحمد بن طولون، ووجَّه بمن أحضَر صاحبه والمختار
بالناحية، وابن دشومة كالمعتقل، حتى جمع بينهما وبين الشيخ، وذكَر ما جرى عليه، فحطُّوا
عنه
ما كانوا يُطالِبونه به، وأسقطوا عنه ما شكاه من الغبن عليه، وبلغوا له فوق ما يُحبه،
وأحمد
بن طولون يطالعهم برُسُله من حيث لا يعلمون، حتى عرف جميع ما جرى بينهم وبينه، وأقبل
في
خلال ذلك يُنفِذ إلى ابن دشومة خادمًا بعد خادمٍ يقول له: أنصِفِ الشيخ، ابلُغ له فوق
ما
يُحبه. ويُكدُّهم في الفراغ من أمره، ويعرِّفهم أن مقامه بالجيزة بسببه، إلى أن يُنصَف
فيعود إلى الفسطاط، فلمَّا فرغوا من أمر الرجل دخل إليه ابن دشومة فعرَّفه أنه قد بلَغ
له
ما أحب، فأمر بإحضاره، فلمَّا حضر قال لابن دشومة: اشرح لي قصتَه وكيف ظُلِمَ وما عملتَ
في
أمره؟ فكان ابن دشومة يُعيد عليه أمره، وهو يُرْعَد خوفًا من بادرة تلْحَقه منه، والشيخ
واقف يسمع كل ما يجري في أمره.
فلمَّا فرغ من شرح ذلك، قال له: يا شيخ، الأمر كما حكى؟ قال: نعم، أيها الأمير، جعل
الله
عليك واقيةً وسَتَرك في الدنيا والآخرة. فلمَّا سمِعَ ابن طولون قوله: «والآخرة» بكى
وخرَّ
ساجدًا لله، ثم قال له: زال عنك ما كرِهتَ وبلغتَ ما أحبَبت؟ قال: نعم، أيها الأمير،
أحسَن
الله إليك كما أحسنتَ إليَّ. فقال: ما شاء الله فعل بك، ذاك بمنِّه وكرمه. فقال له؟ كم
عمارتك؟
٢٢٠ فقال: خمسون دينارًا، قال له: فتُطيقها؟ قال: لا. قال: فكم تُطيق؟ قال: ثلاثين
دينارًا، فأمر بأن تُجعل عمارتُه عشرين دينارًا، ووهب له خمسين فدانًا يزرعها ما أحب
بعماط
[؟] وتقوية
٢٢١ في كل سنة ولا تُؤخَذ منه التقوية ولا تُسْتَرجع، وجعل ذلك كالصدقة، وقال له:
يا شيخ، لولا أن حَطَّ العمارة عنك يحُطُّ من منزلتك في بلدك لحططتُها. فدعا له، فقال:
ما
فعله الأمير، أيَّدَه الله، في أمري فهو أكثر من الحطيطة، وجميعُه صدقة عليَّ وعلى ولدي
وعيالي، فأجاب الله منا فيك صالح الدعاء. فأمَر بأن نَهَبَ له عشرين دينارًا، وقال له:
خذ
هذه الدنانير فاشترِ بها حمارًا فارهًا لا يرميك على الجسر ولا يقف بك إذا عبَر الأمير
عليك. وضحك أحمد بن طولون، وانكبَّ الشيخ ليقبِّل الأرض، فمنَعه من ذلك وقال له: احذَر
ثم
احذَر أن تفعل هذا بأحد من المخلوقين؛ فإنه لا يُؤثِره إلا كل جبارٍ عنيد، والسجود لله
وحده، عزَّ وجل. فانصرف الشيخ إلى غاية من السرور، بما تمَّ له من إزالة الظلم والمسامحة
في
العُمارة، والإفضال عليه، وهبة الدنانير، وممازحة أحمد بن طولون له في الحمار، فرأيتُه
في
انصرافه يبكي فرحًا، ويدعو لأحمد بن طولون بنيةٍ خالصة، وحصل له بذلك جاهٌ في بلده ووطنه
ومحله، ومنزلةٌ وسطوة.
وحدَّث نسيم الخادم قال: ركب مولاي في غداةٍ باردة إلى المقس
٢٢٢ فأصاب بشاطئ النيل صيَّادًا عليه خَلَقٌ لا يواريه منه شيء، ومعه صبي له في مثل
حاله، وقد ألقى شبكتَه في البحر، فرآه مولاي فرقَّ له، وقال لي: يا نسيم، ادفع إلى هذا
الصيَّاد ثلاثين
٢٢٣ دينارًا، فتأخَّرتُ حتى دفعتُها إليه، ولحقتُ به فلم يبعُد حتى رجع، فوجدنا
الصيَّاد ميتًا مُلقًى والصبي يبكي ويصيح، فظنَّ مولاي أن بعض سُودانه قتلَه وأخذ الدنانير
منه، فوقف بنفسه عليه، وسأل هذا الصبي عن أبيه فقال له: هذا الغلام، وأشار إليَّ، دفع
إلى
أبي شيئًا، فلم يزل يبوسُه حتى وقع ميتًا.
فقال لي مولاي: فتِّشْه. فنزلتُ وفتَّشْتُه، فوجدتُ الدنانير معه بحالها، فحرَّضنا
الصبي
أن يأخذها فأبى، وقال: هذه قتلَت أبي وإن أخذتُها قتلَتني. فأحضَر مولاي قاضيَ المقس
وشيوخَه، وأمرهم بأن يشتروا للصبي دارًا بخمسمائة دينار يكون لها غَلَّة
٢٢٤ فاشتُرِيَت وحُبِسَت عليه، وكُتب اسمه في جملة من كان يُجري عليه جرايته في كل
شهر، وقال لي: يا نسيم نحن قتلناه، الغنى يحتاج إلى تدبير، وإلا قتَل صاحبَه، كان يحب
أن
يُدفع إليه دينارٌ بعد دينار حتى تحصُل له هذه الدنانير ولا تُدفع إليه جملة.
وحدَّث طاهر الكبير قال: كان لمولاي بُرجُ حمامٍ هيتي
٢٢٥ فصَعِد إليه يومًا وجلس على كرسي بين يدَي البرج يستعرضها، فأخرجتُ إليه ما كان
عندي من الفراخ، فنظر إليها وسرَّحها تَدرجُ بين يدَيه، وكان عددُها ثمانية، ثم أمرني
بردِّها فرددتُّ سبعة وإذا بالثامن قد درج فصار خلفه، فقال لي: قد بقي واحد. فقلتُ: هو
خلف
مولاي. فقال لي: خذه. فمددتُ يدي إليه لآخذه فارتعدتُ هيبةً له أن أمدَّ يدي خلفه، فتبيَّن
ذلك مني، فقال لي: تنحَّ. فتنحَّيتُ فوضع خدَّه على التراب، في الموضع الذي كانت قدَمي
عليه، وبكى وأقبل يُمرِّغ خدَّيه ولحيته في التراب ويتضرَّع إلى الله، جلَّ اسمُه، ويسأله
العفو عنه وإلهامه الشكر على نعمه عنده.
وحدَّث نسيم الخادم قال: ركِب مولاي يومًا إلى الأهرام، فأتاه الحُجَّاب بقومٍ عليهم
ثياب
صوف وفي أيديهم مَساحٍ ومَعاوِل، فسألهم عما يعملون، فقالوا: نحن نقوم نطلُب المطالب،
٢٢٦ فقال لهم: لا تخرجوا بعد هذا الوقت إلا بمنشور
٢٢٧ ورجل من قِبَلي يكون معكم. فقالوا له: سمعًا وطاعةً للأمير، أيَّدَه الله.
فسألهم عما رُفِعَ إليهم من الصفات، فذكروا له أن في سمْتِ الأهرام
٢٢٨ مطلبًا قد عجزوا عنه؛ لأنهم يحتاجون في إثارته إلى جَمْعٍ كبير ونفقاتٍ واسعة؛
فإن فيه مالًا عظيمًا. فنظر مولاي إلى شيخٍ من أصحابه يُعرف بالرافقي من أهل الثغر فضمَّه
إليهم، وتقدَّم إلى عامل معونة الجيزة في دفْعِ جميعِ ما يحتاجون إليه من الرجال والنفقات.
وانصرف مولاي فأقام القومُ مدةً يعملون حتى ظَهرَت لهم العلامات، فوافانا الرافقي وأعلم
مولاي بذلك، وأنَّ أمْرَه قد قَرُب، فرَكِب وسِرنا معه حتى وقف على الموضع، فلمَّا رآه
الناس جدُّوا في الحفر، فكشفوا عن حوضٍ كبيرٍ عظيم مملوء دنانير، وعليه غطاءٌ مكتوب عليه
بالبزنطية،
٢٢٩ فأحضروا مَنْ قرأَه فكان: أنا فلان بن فلان الملك الذي ميَّز الذهب من شئونه
وغشه وأدناسه، فمَنْ أراد أن يعلم فَضْل مُلكي على مُلكِه فلينظر إلى فَضْل عيار ديناري
على
عيار ديناره، فإن مُخلِّص الذهب من الغش مُخْلِصٌ في محياه وبعد مماته. فقال مولاي: الحمد
لله، يا نسيم ما نبَّهَتْنِي عليه هذه الكتابة أحبُّ إليَّ من المال. ثم أمر لكل رجلٍ
كان
يعمل فيه بمائة دينار ووفَّى الصُّنَّاع أجرتهم، ووهب لكل رجلٍ منهم خمسةَ دنانير، ودفع
إلى
الرافقي منه ثلاثمائة دينار، وقال لي: يا نسيم، خذ لنفسِك منه ما شئت، فقلتُ: ما يأمرني
به
مولاي. فقال لي: خذ منه ملء كفَّيك جميعًا، وخذ من غيره من بيت المال مثل ذلك مرتَين،
فإني
أشحُّ على هذا. فبسَطتُ كفَّيَّ فملأهما، فحصل لي منه ألف دينار، وكان عيار الدينار منه
أجودَ من عيار السندي بن شاهك ومن عيار المعتصم، ولم يكن يُرى أجودُ منهما، فتَشدَّد
مولاي
من ذلك اليوم في العيار، حتى لحِق دينارُه بالعيار المعروف به، وهو الأحمَدي الذي لا
يُطلى
بأجودَ منه.
٢٣٠
قال: وأما صدَقاته فكانت مشهورةً متواترة على أهل الضعف والمسكنة والمستورين
والمتجمِّلين، وكان راتبها في كل شهر ألفَي دينار، سوى ما يطرأ عليه من نذْرٍ ينذرُه
أو
شكرٍ على تجديد نعمة لله، عزَّ وجل، عنده، أو على خبر يسُرُّه، فيقابل ذلك بالصدقات
الكبيرة، فيزيد ذلك على راتبه زيادةً عظيمة، سوى مطابخه التي يُقام بها في كل يومٍ للصدقات،
في داره وغير داره، يذبح فيها البقر الكثير والكباش العِدَاد، ويطعم الناس ويفرِّق على
كل
مَنْ يأخذ في القدور الفخَّار مع الخبز على المساكين أربعةَ أرغفة مع كل قِدْر، في رغيفَين
منها فالوذج، وكان من شهوته لذلك، وصحة نيته فيه، ورغبته في الثواب عليه، يعمل الطعام
في
داره، ويُنادى مَنْ أحبَّ أن يحضُر طعام الأمير فليحضُر، وتُفتح الأبواب ويدخُل الناس
إلى
الميدان، ويجلس هو في المجلس الذي ذكرنا مُقدَّمًا أنه كان يجلس فيه، يُشرِف على مَنْ
يدخل
داره ويخرج منها، وينظُر إلى المساكين، ويتأمَّل فرحهم مما يأكلون، فيفرح بذلك ويحمَد
الله
عليه.
فنظر يومًا إلى شيخٍ مستور وقد زلَّ
٢٣١ في خِرْقة معه زلَّة، وزاد فيها حتى لم يكن في الخرقة موضع، فلمَّا قام لشدة
الزحمة وقعَت من يده لضعفه، فغمَز بعضُ الحُجَّاب بعضَ الغلمان أن يأخذها، تماجنًا لا
قصدًا، وتُردَّ عليه. وتأمَّل أحمد بن طولون ذلك فأغاظه، فأمر بردِّ الشيخ وإحضار الحاجب،
وقال له: ويحكَ، ما الذي حملَك على ما صنعتَ بهذا الشيخ الضعيف؟ فقال: والله أيها الأمير
ما
أردتُ إلا مداعبتَه. فقال له: والله العظيم لا حمَلَها له إلى منزله غيرك. وأَمر فأُصلح
للشيخ مائدةٌ عظيمة، فيها من كل شيءٍ حارٍّ وبارد وحلو، وأحضره، فقال له: يا شيخ كم سنُّك؟
قال: ثمانون سنة. قال له: لك عيال؟ قال: نعم، خمس بناتٍ عواتق وثلاثة غلمان وأمهم ومَنْ
يخدمنا، ومَن يقرب منا نواسيه بما أمكننا. فقال: ففي أي شيء تتَّجر؟ قال: في المثلث،
٢٣٢ قال: وكم بضاعتك منه؟ قال: عشرة دنانير. قال له: فلِمَ لا تزوِّج بناتك؟ فقال:
لا يُرغب فيهنَّ إلا لشيء وما لنا شيء. فأمر له بمائة دينار بضاعةً له، وأحضر معمر الجوهري
فتقدَّم إليه بأن يجهِّز بناته بما يصلُح لهنَّ من الجهاز والتجمُّل ويزوِّجهنَّ، ودفع
إلى
الذكور من ولده لكل واحدٍ خمسين دينارًا، وأثبت أسماء الجميع في دفتر الجرايات، فذكَر
معمر
الجوهري أنه جهَّزهم بألف دينار، فعرَّفه ذلك وسَرَّه، وأطلَق المالَ له، وحمل الحاجب
مع
الشيخ تلك الزلَّة بين يدَيه على سرجه، حتى بلغ إلى منزله، ووهب له عشرةَ دنانير تكرُّمًا
ورغبةً في الثواب.
وحدَّث إبراهيم بن قراطغان، وكان على صدقات أحمد بن طولون، قال: قلتُ للأمير: أيَّدَ
الله
الأمير، إنا نقف في المواضع التي جرت العادة بصدقة الأمير على مَنْ فيها من المستورين
والمستورات فتخرج إلينا الكَفُّ الناعمة المخضوبة نقشًا أو تظاريف والمِعْصم الرائع وفي
الإصبع الخاتم الذهب والسوار والفنَك
٢٣٣ والثوب الرطبة [؟] فقال لي: يا هذا كل من مدَّ يده إليك فأعطِه؛ فهذي هي الطبقة
المستورة التي ذكَرها الله، عزَّ وجل، في كتابه، فقال:
يَحْسَبُهُمُ
الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ
النَّاسَ إِلْحَافًا فاحذَر أن ترُدَّ يدًا امتدَّت إليك، وأعطِ كل من طلَب
منك.
قال: ومن حسن أفعاله أنه بلغه عن علي بن طَباطَبا أنه قد حُبِسَ في مالٍ بقي عليه
من
ضِياعه وعَجَز عن أدائه، فقال: وكم مقداره؟ فقيل له: عشرون ألف دينار. فأمَر صاحب الخَراج
بإسقاطها عنه، وكتب له بالعشرين ألف دينار براءة، ووجَّه إليه، فأحضره إليه وعرَّفه بإسقاط
ما عليه وصرَفَه إلى منزله، فأكثَر الدعاءَ والشكر. ولم يزل وسائر أهله وجيرته يدْعون
له
طُول حياتهم.
قال: وأما إشفاقه على أهل مصر فكان يزيد على كل إشفاق، حتى إنه كان يجوزُ إشفاقَ الوالد
على ولده، يحوطُهم ويُراعي أحوالَهم ومصالحهم، ويدفَع كلَّ مكروه عنهم.
حدَّث سوار الخادم، قال: قلتُ لمولاي ليلةً وقد بات في قُبَّة الهواء خاليًا مفكِّرًا،
وكانت ليلةً قمراء، وهذه القُبَّة بُنيَت للمأمون وقتَ موافاته البلد، ويُقال: إن العلاء
الطائي بناها على قريةٍ من جبل المقطم، وكانت تُشرِف على داره وعلى جميع البلد: أيها
الأمير، قد مضى أكثر الليل ومولاي مُنتصِب، فلو أعطى نفسه حظَّها من الراحة كان ذلك أعْوَد
عليه. فقال: يا بني! إنا كُلِّفنا من القيام بأمرِ هذه البلدةِ ما كُلِّفناه، فإن نحن
أعطينا أنفسنا حظَّها من النوم والراحة، وأهملنا الفكر في تدبير أحوالها، والشغلِ بما
يعودُ
به صلاحُ أمورها، وصيانةُ أهلها، ليأمنوا في سِربهم، ويسكُنوا في تقلُّبهم ضاعوا، فأرى
أن
أتعَب ويناموا أَصْلَح من أن أستريح ويخافوا فيسهَروا. فأمسكتُ عنه.
قال: ولقد أصلح منجنيقات، لما كان في نفسه من المسير إلى حصن أنطاكية، فأراد امتحانها
فنُصِبَت في الموضع المعروف إلى اليوم بالمنجنيقات، على شاطئ البركة، وفوق الجبل الذي
يُعرف
بجبل يَشْكُر وهو المعروف بالكبش، ولم يكن بين يدَيه إلى النيل شيء، وإنما كان جرفًا
٢٣٤ يُشرِف به على الكبش، فركب مولاي ليجرَّب بين يدَيه، فنُصِب في أحدهما حبال
ووُضِع فيه حجر، ووقف الرجال على الحبال وجذَبوها، فمرَّ الحجَر إلى البستان المعروف
ببستان
عرق الذي على خليج أمير المؤمنين، وإنما سُمي هذا الخليج بأمير المؤمنين؛ لأن عمر بن
الخطاب، رحمه الله، أمر عمرو بن العاص بحفر خليجٍ يتصل من النيل إلى القُلزُم، وتُحمل
فيه
المِيرة إلى الحرمَين، فحفَروه، وكان متصلًا بالقلزم فسُمي بذلك؛ لأن عمر، رحمه الله،
أوَّل
من سُمي بأمير المؤمنين
٢٣٥ ثم حذف منجنيقًا آخر أيضًا، وزادوا في رجاله وحباله، وجعل فيه حجرًا، وزادوا في
جذبه، فلمَّا استَوفَوا جرَّه انقطَعَت الكفَّة وطارت في الهواء.
فلقد رأيتُ مولاي ولم يتكل على حاجب ولا غلام يتقدَّم، وإنه يصيح بنفسه إلى الناس
الذين
ينظرون، ويشير مع صياحه إليهم بكمه إلى الموضع الذي يُقدِّر أن الكفَّة وقعَت فيه بنَجْوة
٢٣٦ بصياحٍ شديد؛ كل هذا إشفاقًا منه على أهل البلد ورأفةً بهم.
وحدَّث نسيم قال: خرج مولاي ليلةً إلى قبة الهواء، فسمع في أطراف المعافر كلبًا ينبح
فرابه ذلك، فقال للغلمان وهم قيام بين يدَيه: اركَبوا الساعة وامضُوا ركضًا نحو هذا الكلب
فانظروا على أي شيء يصيح، فإن وجدتُم أحدًا فجيئوني به. فمضى الغلمان نحو صوت الكلب حتى
أدركوه، فوجَدوا رجلًا قد كان عند صديقٍ له من جيرانه، وقد انصرف من عنده يريد منزله،
فوجد
بابه مغلقًا، وهو قائم عليه يدُق، وقد منع أهلَه غلبةُ النوم عن أن يسمعوا دقَّه، وكلَّما
دقَّ الرجل نبح الكلب عليه، فأخذوه وأردفَه أحدُهم خلفه، وأقبلوا به ركضًا، فلمَّا رأى
الرجل ما حلَّ به طار النبيذُ من رأسه، وأقبل يستعين بالله، فلمَّا أوقفوه بين يدَيه
كاد
عقله يذهَب، حتى ثبَّته الله، عزَّ وجل، فعرَّفه الغلمان صورةَ الأمر، فقال له أحمد بن
طولون: ما الذي حملَكَ على الخروج في مثل هذا الوقت؟ فقال له: أنا أُحدِّث عنه الأمير،
أيَّدَه الله، كنتُ عند صديقٍ لي من جيرتي، وتمادَى بنا الحديثُ إلى هذا الوقت، وكنا
نستعمل
الحذَر والتحفُّظ، قبل أيام الأمير، أيَّدَه الله، فلما وَلِيَنا واشتدَّت وطأتُه على
أهل
الدعارة والفساد، انقمَعوا
٢٣٧ من هَيبتِه وخوفًا من سَطوتِه، فأمِنَّا لذلك، وصِرْنا نخرج في مثل هذا الوقت
وقبلَه وبعدَه آمنين ببركة الأمير، أيَّدَه الله. فاستحيا منه أحمد بن طولون لحُسن عبارته
وبيان قوله، وتوقَّف عما كان قد عزَم عليه من التأديب له في الخروج في مثل هذا الوقت،
فقال
له: قد كنا على تأديبك على مخاطرتك بنفسك في مثل هذا الوقت، فأزال ذلك عنا جميلُ عذرك،
وحُسنُ عبارتك عن نفسك، وفصاحةُ لسان، وعلمنا أن ذلك لا يكون إلا في عاقل، وكفى بالعقل
واعظًا، وقد جعلتُ العِوضَ من ذلك سرعة ردِّك إلى منزلك؛ فلستُ أشُك بأن أهلَك لمَّا
علموا
بأخذنا لك قد قلقوا لذلك. ثم قال لبعض الغلمان: أَردِفْه خلفك ورُدَّه إلى منزله. وقام
هو
فأخذ مَضجعَه وقد مضى أكثر الليل.
وحدَّث نسيم الخادم قال: بينا نحن وقوفٌ ليلةً بين يدَي مولاي، وقد طال سهَره وفكره،
وكان
إذا لحِقَه مثل هذا وطال وقوفُنا بين يدَيه يقول: تفرَّقوا واقعدوا. لعلمه بما ينالنا
من
التعب، ونعانيه من غلَبة السهَر والنوم، فنَغتنِم هذا القول منه ونتفرَّق، فنستلقي في
المواضع التي يبعُد نظره عنها.
فبينا نحن ليلةً وقد نِمْنا، إلا وبه قائم على رءوسنا ولم نشعُر به، فقمنا مبادرين،
فقال
لنا: ما سمعتم هذا الصياح؟ وتأملنا فإذا صوتٌ عالٍ يقول: يا أحمد بن طولون يا أخا عاد.
فقال
للغلمان: اركبوا واطلبوا صاحب هذا الصوت حيث كان، حتى تجيئوني به الساعة. وكان كلامه
يجيء
من ناحية الجبل من بين المقابر هناك، فمضى الغلمان وأبطَئوا ثم عادوا فقالوا: ما أبقينا
موضعًا، فما رأينا أحدًا، ولا عرفنا خبرًا. وإذا بالصوت ثانيةً: يا أحمد بن طولون يا
أخا
عاد. فحرد فقال: ويحكم! اخرجوا فاطلبوه حيث كان. فخرجوا كخَرجَتهم الأولى وأبطئوا وعادوا،
فقالوا: والله ما أبقينا موضعًا، ولا تركنا مكانًا، حتى طلبناه فما وجدنا أحدًا. فقال
لهم:
ارجعوا قليلًا قليلًا، وأَخْفوا سَيركُم، واكمُنوا بين المقابر، فلا بد من الصياح المرة
الثالثة، فلقُربكم منه تقفون على موضعه فتأخذونه، فمَضَوا وعَمِلوا كما أمرهم، فلم يشعُروا
به إلا وقد خرج فنادى: يا أحمد بن طولون يا أخا فرعون. فلقُربهم منه عرفوا مكانه فقصدوه
فوجدوه، وقبضوا عليه، فإذا به مجنونٌ كان في أيام أحمد بن طولون يُكنى أبا نصر، وكان
إذا
هاج خلط، وإذا سكن تكلَّم بكلامٍ بليغ، فأتوه به وعرَّفوه أنه أبو نصر المجنون، فسكن
غيظه،
وقال: يا أبا نصر، ما حملَكَ على أنْ خاطبتَنا بمثل هذا الخطاب، وهتفتَ بنا في مثل هذا
الوقت؟ فقال له: لأنك تعظَّمتَ وتكبَّرتَ وتجبَّرتَ ونسيتَ خلقكَ من ترابٍ، ثم من نطفة،
ثم
من علقة، ثم من مُضغة، ثم جُعلَت المضغة عظامًا ثم كُسيَت لحمًا، ثم سوَّاك رجلًا كاملًا.
فبكى أحمد بن طولون بكاءً كثيرًا، ثم قال له: ما أحسبُكَ يا أبا نصر إلا متنطِّعًا
٢٣٨ علينا؟ ومع هذا فأتوهَّمك جائعًا فتأكل شيئًا؟ فقال له: ما تُطعمني شيئًا ولا
أنتفع بك. فقال له: ما تغشانا يا أبا نصر ولا تأتينا. فضحك وقال: حتى أجيئك؟ لُعن المعروف
إن لم يكن ابتداءً. ثم قال:
ما اعتاضَ باذلُ وجهِه بسؤالِهِ
عِوَضًا ولو نال الغِنى بسُؤالِ
فقال له: صدقتَ يا أبا نصر، هاتوا له شيئًا يأكل، فأُتي له بطبق فيه ألوانٌ كثيرة
وفَضْلة
من جَدْي ودجاج وفراخ وفالوذج، فأقبل يأكل من كل شيء، وأمعن في الفالوذج فثقلَت معدته
فنام،
ووضع يده تحت رأسه، وتمدَّد بين يدَي أحمد بن طولون، فذهب به النوم وهو يتأمَّله، حتى
علم
أنه قد استثقل في نومه، فقام وقال: دعوه لا تنبِّهوه. ووكَّل به خادمًا يُراعي أمره،
وقال
له: لا تُكرِهه على شيء يريده، فإن طلب ماءً أو غيره فأعطِه. فمضى أحمد بن طولون فنام،
وانتبه قبل انتباه المجنون، وقت ركوبه، فسأل عنه فخُبِّر بنومه، فركب على رسمه ووصَّى
به،
وقال: إن أراد الانصراف فلا يُكلَّم ولا يُخاطب، ويُترك يذهب كيف شاء. فلمَّا انتبه قام
مبادرًا نحو الباب فلم يُكلَّم وخرج فمضى، فلما عاد أحمد بن طولون سأل عنه فخُبِّر بذَهابه
فتصدَّق في ذلك اليوم بصدقاتٍ كثيرة. وكان يتعاهده في كل وقتٍ بالطعام والكسوة
والبِر.
وحدَّث نسيم الخادم قال: قلَّد مولاي الشرطة السفلانية قائدًا من قُواده، وقال له:
ارفق
بالرعية، وانشر العدل عليهم، واقض حوائجهم، وأَظْهِر إكرامهم وصيانتهم، وتفقَّد مصالحهم،
فإني أسير بالليل في محالِّهم فكل موضعٍ أمرُّ به لا يخلو من قارئ أو متهجِّد أو داعٍ
أو
ذاكرٍ لله، عزَّ وجل، فوفِّر علينا دعاءَهم لنا، واحرسنا من أن يكون دعاؤهم علينا.
ويقول لمن يقلِّده الشرطة الفوقانية: تشدَّد عليهم وأرْهبهم منك، ولا تَلِنْ لهم واغلُظْ
عليهم، فإني أسير في محالِّهم فما أمرُّ بموضعٍ فأسمع فيه إلا غناءً أو سكرانَ أو معربدًا،
قد أخرجَتْه عربدتُه إلى الوثوب والكفر.
وكان لا يقلِّد شرطة أسفل إلا الثقات من وجوه قُوَّاده. وأما تشدُّده على قُوَّاده
وغِلمانه فمشهور.
حدَّث ابن قراطغان قال: وجَّه أحمد بن طولون بقائدٍ من جملة قُوَّاده إلى بعض الأرياف
في
حملِ مال، وإصلاحِ حال، فلمَّا أقام القائد بالناحية التي نزلها وفرغ مما يحتاج إليه
أقبل
إليه بعض أقباط الضيعة فسعى إليه براهب في الضيعة لشيءٍ كان يحقده عليه، فأراد التشفِّي
منه، والقبط لا يحسنون أكثَر من سعاية بعضِهم ببعض، قال له: إن ها هنا راهبًا قد وجد
كنزًا
عظيمًا مملوءًا مالًا. فحمل القائدَ الشَّرهُ والطمعُ على أن أحضر الراهبَ فأرهَبه وهدَّده
وأخافه، فأخذ منه خمسمائة دينار، وانصرف القائد من الضيعة، فبلغ ذلك من الراهب مبلغًا
كسَفَه وأتى عليه، فجعل يبكي ليلَه ونهاره، فرآه بعض مَنْ وافى الضيعة فسأل عن حاله فخبَّره
فرحِمَه، وقال له: ولِمَ تبكي ولنا أميرٌ عادلٌ منصف؟! ادخل إلى الفسطاط واكتب قصة
٢٣٩ فإذا رَكِب أحمد بن طولون فادفَعْها إليه، فإنه يأمر لمَّا يقرؤها بردِّ مالك
عليك، وجسَّره على ذلك وسهَّله عليه.
فشَخَص إلى الفسطاط وكتب قصته وأقبل بها إلى الميدان، فوقف على بعض أبوابه يلتمس ركوب
أحمد بن طولون، فبصُر به حاجبُ ذلك الباب، فدعا به وسأله عن خبره فشرح له قصته، وأنه
ينتظر
ركوب الأمير ليُوصلَ إليه قصته، وكان الحاجب صديق القائد الذي يتظلَّم منه الراهب، فقال
له:
بينك وبينه شيء غير هذا؟ فقال: لا. قال: فأنا أدفع إليك الخمسمائة دينار، فامضِ في حفظ
الله، والرجل صديق لي وأنا أسترجعها منه أو أتركها لها، وأصونه عن الوقيعة به. ففرح الراهب
وقال: ما أطلُب يا سيدي غير هذا. فأحضر الحاجب خمسمائة دينار ودفعها إليه، فأخذها ومضى
وهو
لا يصدِّق، وجاء فخرج من ساعته وعاد إلى ضَيعته.
فوقف بعضُ أصحابِ الأخبار على ما جرى، فكتب به إلى أحمد بن طولون، فأحضر الحاجب فسألَه
عن
الخبر فلم يُمكِنه ستره، فأحضر القائدَ واعتقلَه، وأنفَذ الحاجبَ خلف الراهب إلى ضَيعته
حتى
أحضَره، فلمَّا حضر جمع بينه وبين القائد، وسألَه عن الحال كيف جرت، فخبَّره بما كان،
فقال
له أحمد بن طولون: كان سبيلُك، ويلك، أن تدَّعي عليه بثلاثة آلاف دينار حتى آخذَها لك
منه،
وأجعل ذلك تأديبًا له ولغيره. ثم قال للحاجب: والله لولا أنها مكرُمة سارعتَ إليها، وجميلٌ
رغبتَ فيه، وقال الله عزَّ من قائل: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا
الْإِحْسَانُ لعَمرتُ بك المُطبِق، ولكن احذَر أن تُعاوِد مثلها، ولا
تستبدَّنَّ بأمر تأتيه دون أن تُعرِّفنا به، ولا تَطوِ عنا خبرًا ولا سرًّا ولا قصة تُرفع.
فقال له: أقِلْني أيها الأمير أقالَك الله، فوالله لا أعُود إلى مثلها أبدًا. قال: فانصَرِف
إلى موضعك.
ثم أقبل على القائد فقال له: أفي رزقك تقصيرٌ عن مؤنتك؟ قال: لا. قال: فأُخِّر عنك
استحقاقُك تأخيرًا يضطرُّك إلى ما أتيتَه؟ قال: لا. قال: فبأي حالٍ استحلَلتَ أن تأخذ
من
هذا البائس الضعيف ما تقطع به قلبه وتُبكي عينه، وتُفقِره وأهله؟ ألك حاجةٌ أوجَبَت ذلك
عليك أو ضرورةٌ دعتْك إليه؟ المُطبِق. فأُخرج من بين يدَيه إلى المُطبِق على موضِعه منه،
ومحلِّه في نفسه، فخرج وهو آيِسٌ من الحياة، وأمَر الراهبَ بالانصراف.
وحدَّث أبو كامل شجاع بن أسلم الحاجب، قال: لمَّا أطلقَني أحمد بن طولون ألزمَني
دار الصناعة،
٢٤٠ فدعاني يومًا فقال لي: كل ما تعمل [لي من العدة] يُكتفى فيه بالقليل، مع
[تقدُّم] هيبتي في صدور الناس إلا المراكب؛ فإن البحر لا يهابُني، ولا يخاف سَوْرَتي،
وليس
يعمل في البحر إلا الوثاقة، والجودة في الصَّنْعة، وتقديم الإحسان، فقدِّم الحزم في
الاحتياط، والاستزادة في الإنفاق على المراكب، لتسلم بعون الله، عزَّ وجل، وتوفيقه من
مَعرَّة البحر.
وحدَّث قال: دخلت أمُّ عقبة الأعرابية يومًا إلى أحمد بن طولون ومعها ابنها عقبة،
وكان
كثيرًا ما يأنس بها، ويحبُّ محادثتها لفصاحتها وحسن كلامها، وكان يُكِثر برَّها في كل
وقت،
فسألَتْه التقدُّم في تصريف
٢٤١ ابنها فيما يعُود عليه نفعُه، فقال لابن مهاجر، وهو بين يدَيه: انظُر له في شغل
يعود عليه فيه خيرٌ يَبينُ عليه. وكان البريد إليه، فقلَّده ابن مهاجر بريدَ ناحيةٍ من
النواحي، وأجرى عليه من الرزق عشرة دنانير في كل شهر، فحدَّث ابن مهاجر قال: إني لقاعدٌ
بين
يدَي أحمد بن طولون بعد ثلاث، حتى دخلَت أم عقبة على الأمير فقالت: أنا شاكرةٌ للأمير،
أيَّدَه الله، ذامَّةٌ لهذا الرجل، تريدني، فقال لها: ولمَ ذاك؟ فقالت: أمرتَه في إشغال
ولدي فيما يعُود عليه نفعُه فشغله فيما لا يُرْحَض
٢٤٢ عن رءوسنا عاره وشَناره، والجوع الكريم أنفعُ من الشبع اللئيم، فقال لها: وما
ذاك؟ قالت: وكَلَه بالنميمة يُحصيها على المسترسل، ويهتك بها المُستتِر، فقد تحاماه الناس
وتناذروه
٢٤٣ فإذا لم يكن غير هذا تركتُه، ولم أتعرَّض لما فيه مقتُ الله، عزَّ وجل، وسبُّ
عباده. فضحك أحمد بن طولون، وأمرني أن أُجرِي العشرة دنانير في كل شهر، وأُعفيَه من البريد
ففعَلْت، فشَكرَت ودَعَت وقالت: هذا الأشبه بكَ أيها الأمير. وانصرفَت.
وحدَّث نسيم الخادم قال: ما خَلَت دار مولاي قَط من كاتبٍ خفيِّ الشخص، موثَّق عنده،
يُعرف بكاتب السر، يرتصد في سائر يومه مناظرتَه لمن ناظَره، فيكتُب الابتداءَ والجوابَ
في
كل ما يجري، فإذا انقضى يومُه أنفَذ جميع ما يُثبِته مع خاصة يثق به فيقرأ ذلك ويتدبَّره،
فإن كان فيه شيء يحتاج إلى مداركته بتغيير أو زيادة تقدَّم في ذلك بما يُمتثَل.
وحدَّث نسيم الخادم أيضًا قال: كان لمولاي في مقرنس
٢٤٤ سقف مجلس بين يديه ألف بدرة،
٢٤٥ قد أُحكمَت مواضعُها واستُوثقَت منها بالخشب الغليظ والنخل الصُّلْب والعمل
المُحكَم. وكانت بين يدَيه يراها ولا يراها غيره ممن يكون بين يدَيه، إذا دخل وباب المجلس
مفتوح، ولم يكن يعلم بذلك، فلا يُراعيه غيره وغيري قط. وكان قد أكَّد عليَّ في مراعاته
وجعلتُه اهتمامي. قال: وكان في الدار غُرابٌ شديد الأُنْس، وكان مولاي يُعجَب بصياحه،
وما
كان يمضي يومٌ إلا ومولاي يدخل ذلك المجلس يتأمَّل البِدَر، فدخل يومًا فرأى بَدْرةً
مخلخلة، فتقدَّم بإنزالها فأُنزلَت، فأمرني بفتحها ووزنها، فنقصَت عما كان فيها أربعين
٢٤٦ دينارًا، فقال لي: يا نسيم مَنْ تظن أنه أخذها؟ فقلتُ: ما يدخل هذا المجلس
غيرنا أنا ومولاي، ولكني أُراعي هذه الحال. فقال لي: افعل. وشَغل ذلك قلبي، فبينا أنا
أُراعيه يومًا إذ نظرتُ ذلك الغراب قد دخل البيت فنَقر البَدْرة من خياطتها فأخرج منها
دينارًا واحدًا، فمضى به، فمشَيتُ خلفه حتى أتى به إلى شق بين بلاطتَين فألقاه فيه، فدخلتُ
إلى مولاي فخبَّرتُه بذلك فعجب منه، وقام فأتى الموضع، ودعا بالمبلِّطين فقلعوا تَينِك
البلاطتَين، فوجدنا الدنانير التي نقصَت والدينار الآخر، لم يذهب من ذلك شيء، فضحك مولاي
وقال لي: يا بُني، لو كانت هذه الدنانير لمسكينٍ أو متجمِّل ما وجدها، ولكن يا بُنيَّ
المقبل محروس. وتصدَّق في ذلك اليوم صدقةً كبيرة.
وحدَّثَت نعت أم ولد أحمد بن طولون قالت: كانت لمولاي زوجة من بنات الموالي تزوَّجها
بمصر، وكانت من أحسن النساء وأجملِهنَّ وجهًا وخَلْقًا، يُقال لها: أسماء، قالت: فقلتُ
له
يومًا: يا مولاي ليست خلْوتُها معك على قدْر محلِّها منك، وما يقتضيه حسنُها وجمالُها
ومحلها أيضًا. فقال لي: ويحكِ هي صغيرة الكَف قصِدة الخلق، وأكره أن يكون هذا في ولدي
منها؛
فلهذا أتوقَّف عنها كثيرًا.
وحدَّث أحمد بن القاسم أخو عبد الله بن القاسم كاتب العباس بن أحمد بن طولون قال:
حدَّثني
أخي عبد الله قال: بعث إليَّ أحمد بن طولون بعد أن مضى من الليل نصفُه، فوافيتُه وأنا
منه
خائفٌ مذعور، فدخل الحاجب بين يديَّ وأنا في أثَره، حتى أدخلَني إلى بيتٍ مُظلِم فقال
لي:
سلِّم على الأمير. فقلت: السلام على الأمير ورحمة الله وبركاته. فقال لي من داخل البيت
وهو
في الظلام: وعليك السلام، لأي شيء يصلُح هذا البيت؟ فقلتُ: للفكر. فقال: ولِمَ؟ فقلتُ:
لأنه
ليس فيه شيء يشغل الطَّرْف بالنظر فيه. فقال لي: أحسنتَ بارك الله عليك، امض إلى العباس
فقل
له: يقول لك الأمير اغدُ عليَّ، وامنعه من أن يأكل شيئًا من الطعام، إلى أن يجيئني فيأكل
معي، واحذَر ذلك. فقلتُ: السمعُ والطاعةُ لأمر الأمير، أيَّدَه الله. وانصرفتُ ففعلتُ
ما
أمرني به ومنعتُه من أن يأكل شيئًا.
وكان العباس قليل الصبر على الجوع، فرام أن يأكل شيئًا يسيرًا قبل ذهابه إلى أبيه،
فمنعتُه فركب إليه، وكان يوم خميس، فجلَس بين يدَيه، وأطال أحمد بن طولون عمدًا حتى علم
أن
العباس قد اشتد جوعه، فأُحضِرَت المائدة ولم يُقدَّم عليها إلا سُمانَى
٢٤٧ زيرباجًا
٢٤٨ فانهمَك العباس في أكلها لشدة جوعه، وامتدَّت يده إلى صغار ما كان من البوارد
٢٤٩ على المائدة فشبع من ذلك الطعام، وأبوه متوقف عن الانبساط في الأكل، فلمَّا علم
بأنه قد امتلأ من ذلك الطعام أمرهم بنقل الطعام، فأُحضر كل لونٍ طيِّب، لا يخلو من أن
يكون
دجاجًا ثقيلًا وفراخًا مسمَّنة، ثم لبن بالبطة السمينة والجَدْي الرضيع والخروف النادر
وما
شاكل ذلك [مما] يؤكَل من جميع الحيوان مشويًّا، فانبسَط أبوه في جميع ذلك فأكل، وأقبل
يضع
بين يدَي ابنه منه، فلا يرى فيه حيلة لأكله وشبعه.
فقال له: إنني أردتُ تأديبك في يومك هذا بما امتحنتُك به، لا تُلقِ بهمَّتك على صغار
الأمور بأن تسهِّل على نفسك تناوُل يسيرها، فيمنعك ذلك عن كبارها، ولا تشتغل بما يقلُّ
قدْره فلا يكون فيك فضلٌ لما يعظُم قدْره، وهذا يا بني نظير تشاغلك بالسُّمانى وهو من
صغار
الطير، ولم تتوقَّف عما تعلم أنه يحضُر مائدة أبيك مما هو أجلُّ من السُّمانى وأطيب وأمتع،
فلمَّا حضر لم يكن فيك لشيء منه فضل وقد تتَبَّعَته نفسك فما قَدرَت عليه.
وليس يتصل بي أنكَ أخذتَ من رجلٍ على حاجةٍ تقضيها له أقلَّ من خمسمائة دينار، لا
يجد
صاحبها مسًّا معها، ولا إجحافًا فيها، إلا غضبتُ عليك، ونلتُ كاتبك بغليظ العقوبة، ولا
تستدعِ البرَّ على الحوائج، ولكن أقِمه مقام الهدية التي تفيدها إذا جاءت عفوًا، واحذَر
أن
تقتضيها إن تأخَّرَت عنك، وكافئ على الهدية بأحسنَ منها، فإن أعظم الفقر فقرُك إلى رعيتك،
وقد جعلتُ بما عملتُه معك اليوم تأديبًا ومعاتبة وتنبيهًا لك على ما فيه رشدُك، وفَّقك
الله
وسدَّدك، ولا ساءني فيك. فقبَّل يده، وقبِلَ منه، وامتثل أمره.
وحدَّث هارون بن ملُّول قال: وقف بعض مَنْ ينتحل التصوُّف من المصريين لأحمد بن طولون،
وقد انصرف يومًا من صلاة الجمعة، فقال له: أيها الأمير على رسْلِك. فوقف، فقال له: اتقِّ
الله الذي إليه معادُك وراقِبْه؛ فقد أرعبتَ الناس وأخفتَهم خوفًا قد منعَهم من صِدقِك
عن
كل ما يجري مما يكرهُه الله، عزَّ وجل، ولا يرضاه، وأنا لسانُ جماعتِهم إليك. فأمر بالقبض
عليه، فلما نزل أحضر إليه شيوخ البلد ووجوهه، وكان الناس إذ ذاك متوافرين.
فلمَّا اجتمعوا وافى صاحب خبر السرِّ الذي يكتُب كل ما يجري، فدفع إليه رقعةً فيما
خاطبه
به الصوفي، فأمر كاتبه أحمد بن أيمن بقراءتها على الشيوخ فقرأها عليهم، وسألهم عما أنكروه
من أمره حتى بعثَهم إلى إيفاد الصوفي إليه، فحلَفوا له بالله، عزَّ وجل، وبالطلاق والصدَقة
أنهم ما بعثوا إليه أحدًا، ولا أنكروا له فعلًا، فأحضر الصوفيَّ وقال له: زعمتَ أن أهل
البلد نَصبُوك للقول فيما أنكَروه، فقال: نَصبَني لهذا المظلومُ والمقهورُ ممن لَحِقه
جَوْر
أصحابك. فقال له: لستُ أعْجل عليك، أخبرْني: ما الذي اتضح عندكَ حتى دعاك إليَّ؟ فقال:
بعضُ
أصحابِك منذ ثلاثة أيام أنا أتلطَّف وأبحث عما قد رابني منه، حتى وقفتُ على أن امرأةً
طبَّالة لا سبيل له عليها تدخل إليه وتبيتُ عنده كل ليلة، واشترى رجلٌ من أصحابك أيضًا
غلامًا أمرد فنصَب له طرة وقرطقه
٢٥٠ بأشياء لا يسمح بها إلا قلب فاسق.
فقال له أحمد بن طولون: أنت الآن في العاجل قد دلَلتَنا على عورتك، وأعلمتَنا أن التجسُّس
المنهي عنه، والظنَّ السيئ المكروه استعماله، وقد نُهي عنه أيضًا، من شيمتك، ولله، عزَّ
وجل، سترٌ على عباده لا ينتهك بما الْتَمستَه، فأنا أرى أنك إلى التأديب أحوَج منك إلى
التأنيب. ولعل دخائلك الرديَّة أوضحُ مِن دخائل مَنْ فسَّقتَه ورميتَه بما لا يجوز في
الدين
أن يُقطع مثلُه على مسلمٍ في الحكم.
قال هارون بن ملُّول: فقال رجل ممن حضر: أيَّدَ الله الأمير، هذا الرجل أعرفه وقلبي
يكرهه؛ لأن قصده أن يترأس لدنيا يصيبها بالكذب على الناس، وأنا أشهد وجماعةُ مَنْ حضر
أن
مسكنه الذي ينزله غصب، وأن طُعْمته
٢٥١ إخافة المستورين. فقال جميع مَنْ حضر من الشيوخ: صدَق، أيَّدَ الله الأمير.
فأمر به فضُرِبَ مائة سوط وطِيفَ به البلدُ على جمل، ونُودي عليه بما قيل فيه، وحُبِسَ
في المُطبِق.
٢٥٢
وحدَّث أحمد بن أيمن قال: كان لأحمد بن طولون ساعٍ يسعى بالكُتَّاب والمعاملين إليه،
وكان
من أبناء قبط مصر يُعرف بأبي الذؤيب، حَسَن الموضع منه، وكان قد أجرى عليه وأحسن إليه
بنُصحه له، وكان ربما أكل معه، وربما جلس ينادمه بين يديه. قال: فاجتمعنا يومًا عند أحمد
بن
طولون، فقال أحمد بن طولون لكُنيز المغني: أنا أشتهي صوتًا ما سمعتُه منذ خرجتُ من سُرَّ
مَنْ رأى. فقال له: وما هو أيها الأمير؟ فقال:
ألا سقَيتُم بني حَزْمٍ أسيرَكُمُ
نفسي فداؤكَ من ذي غُلَّة صادِ
فقال له: ما أعرفه يا سيدي، وما استهواني من تقريب أحمد بن طولون لي وإيناسه لي [دعاني]
إلى أن قلتُ: أنا أُحسِنه. ففرح بذلك فاندفعتُ، لِما تبيَّنتُه من سروره، أغنِّيه إياه،
وكان أحمد بن أيمن هذا حَسَن الصوت، فطرب أحمد بن طولون طربًا شديدًا، حتى صفَّق بيدَيه،
قال أحمد: فحمَلَني سخَف الطرب لما رأيتُه من سرور الأمير إلى أن قمتُ فرقَصتُ على إيقاع
اللحن، فزاد سرور أحمد بن طولون بذلك، وغمزَني على أبي الذؤيب الساعي أن أسقُط عليه،
فتزالقتُ
٢٥٣ على البساط وألقيتُ نفسي عليه، فأظهر أنه ألِمَ لذلك، فأخذ يبكي كما يبكي
الصبي، لعاميته وسوء أدبه، فصاح عليه أحمد بن طولون، فقال له: لم يُوجِعني ما وقع عليَّ،
أيَّدَ الله الأمير، من جسمِه وعظمِ جثَّته، وإنما آلمني ما على ظهره من البِدَر التي
اختانها وحصَّلها من مال الأمير، أيَّدَه الله. فقال له أحمد بن طولون: أمْسِكْ، وارفع
هذا
إلى الصحو، ولا تخلط الجِدَّ بالهزل. فتبيَّنتُ غلَطي بفَرْط الانبساط، فما مضت إلا
مُدَيدَة حتى قبض عليَّ أحمد بن طولون، وحبسني، وأخذ جميع ما كان لي، وما خَرجتُ من حبسه
إلا بعد وفاته، أطلقني ابنُه أبو الجيش.
وحدَّث العجيفي
٢٥٤ وكان يتولَّى شرطة أسفل: أن رجلًا من التجَّار يُعرف بالستر والسلامة، ابتاع
خادمًا مما أُبيع من تركة وكيل أحمد بن طولون الذي قبض عليه، المعروف بابن مفضل، بمائتَي
دينار، وأنه أخذ جوازًا وخرج بالغلام إلى الشام، يؤمِّل في بيعه هناك ربحًا، فلمَّا بلغ
العريش، وكان بها والٍ يُعرف بحبيب المعرفي قد نَصبَه أحمد بن طولون ليتأمل ما يرِد من
الكتب ونفيس الأمتعة إلى الفسطاط، فقرأ الجواز وقال: قد كان يجب أن يُحكى في هذا الجواز
حِلْية هذا الخادم. فقال الرجل: أنا أشتريتُه من الواسطي. فقال: لست أُطلِقه إلا بعد
الاستئمار
٢٥٥ فيه، فكتب إلى أحمد بن طولون بخبره، فكتب إليه يأمره بإشخاصه إليه، فأُشخص
التاجر والغلام، فلمَّا وافى وأُدخل مع الغلام إليه، قال له: من أين لك هذا الخادم؟ قال:
ابتعتُه من الواسطي كاتبك مما باعه من ترِكة ابن مفضل. فقال له: أين كنتَ عازمًا به؟
قال:
أستقري به البلدان حتى أجد فيه ما أؤمِّله من الربح. فقال: اكتبوا له جوازًا وحَلُّوا
فيه
الخادم، وأطلِقوا سبيله. فقال: أيها الأمير، فعلى مَنْ نفقتي في مجيئي ورجوعي بغير ذنب
ولا
جناية وجبَت عليَّ حتى أُشخصتُ؟ فقد علم الله، جلَّ اسمُه، ما داخَلَ قلبي من ذلك من
الغم
والجزع وأتكلَّف نفقةً ثانية؟ فقال له أحمد بن طولون: لا، ما نُكلِّفك نفقة، كم كانت
نفقتك
في خروجك ورجوعك؟ قال: عشرة دنانير. فأمَر بدفعها إليه، وتحقَّق بذلك منه أنه من أهل
السلامة، فخرج ولم يدعُ له، فكتب صاحب الخزانة بما سمِعَه تكلَّم لما لَحِقه من التعَب
والمشقَّة في دخوله ورجوعه بما أنكره أحمد بن طولون، فأمر به إلى المُطبِق، فلمَّا دخلَه
وجد فيه جماعةً من غرمائه الكُتَّاب والُقواد الذين كان قد أيس أن يرى أحدًا منهم أبدًا،
فسُرَّ بهم وسُرِّي
٢٥٦ عنه بنظره إليهم وسُرُّوا أيضًا هم به، وأنِس بهم وأنِسوا به، وقضَوه جملةً
كبيرة مما كان له عليهم، واستأنف معاملةً ثانية لهم، وباع رجلًا منهم الخادم بربحٍ جيد،
فوجَّه به إلى مَنْ باعه له بدون ذلك لحاجته إلى الثمن، وأسلَف قومًا من المُحبسين دنانيرَ
كثيرةً وابتاع في المُطبِق رحالات
٢٥٧ أُبيعَت يستغلُّها، وأقام مع غُرمائه مقامَ مُستوطنٍ طيب النفس، حامدٍ لله،
عزَّ وجل، على ما قضاه عليه، فذكَره أحمد بن طولون يومًا بعد سنة وشهور فأمَر
بإطلاقه.
فحدَّث يعقوب غلام العجيفي قال: دخلتُ إلى الرجل وأنا مسرور بإطلاقه، فبشَّرتُهُ
بذلك،
وقلتُ له: قم انصرف في حفظ الله، قد أمَر الأمير بإطلاقك. فقال لي: وكيف أخرج من موضعٍ
أكثرُ مالي فيه، بل جميع ملكي؟ ومع هذا فلي فيه مُستغَل وأسلافٌ على جماعة وديون،
فزَبَرْتُه وأنكرتُ قولَه، فصاح وبكى، وأقبلنا نُجاذِبه على الخروج وهو يُجاذِبنا على
المقام، فرُفِعَ خَبرُه إلى أحمد بن طولون فعجب منه وأمر بإحضاره، وقال له: ويحك تختار
المقام في المُطبِق على إطلاق السِّرب.
٢٥٨ فقال له: أيها الأمير، لما صار جميع ملكي في حبسك، وحصل لي فيه معاملون، اخترتُ
ذلك، فإن كان لا بد من إخراجي فاتركني حتى أستَنظِفَ مالي وأبيع مُستغلِّي. فقال له:
وكم
تحب أن تقيم كذلك؟ قال: ثلاثة أشهر. فقال له: ويحك أمجنونٌ أنت؟ قال: لا والله، إلا صحيح
بحمد الله، ولكن ما تسمح نفسي بتَركِ مالي فيه، مع ما اتفَق لي من المعاش مع مَن فيه.
فقال
له: فما تُشفِق على نفسك من شدة الحر فيه والازدحام والضيق؟ فقال له: أيها الأمير،
القيسارية إذا ازدحَم الناس فيها كانت أشدَّ حرًّا منه، ويهُون ذلك لكثرة الفائدة ولذَّة
الربح، لا سيما ومعامليَّ فيه ثقات، وأحسنُ معاملةً من التجار وأكرمُ وأوسعُ صدرًا، وإنه
لتسوءُني مفارقتُهم. فأمَر أحمد بن طولون بردِّه إلى المُطبِق، فلم يزل فيه حتى مات،
فكان
أَمرُه من العجائب.
قال: ووقف رجل ليوسف بن إبراهيم يومًا على باب داره حتى أقبل من الميدان، فلمَّا
همَّ
بالنزول صاح به: أنا عائذ بالله وبك، ومستجير من رجلٍ في حاشيتك قريبٍ من قلبك، أثير
٢٥٩ عندك، فقال له: ومَنْ هو؟ قال: أذكُره لك في سرٍّ، وأُنهي إليك من خبره ما لا
يسعُك له الصبر عليه. فأدخله معه الدار وخلا به، ففتح كمَّه فأراه كتابًا من موسى بن
بُغا
إليه، وقال له: بعث بي إليك قاصدًا وحدك بهذا الكتاب. فصاح به يوسف بن إبراهيم ليسمع
من
حضره: يا هذا، إن جميع ما ادَّعيتَ به، وذكَرتَ أنه ظلمكَ فيه مائة دينار، ونحن نُعطيك
إياها، ونُزيل ظُلامتك. وأمر فأُحْضِرَت الدنانير فدفعها إليه، وقال له: امضِ في حفظ
الله،
فلم يبقَ بينك وبينه شيء بعد هذه المائة الدنانير من المطالبات، وأعفِنا من تظلُّمك
وتكثُّرك. فأخذ الرجل المائة الدنانير وخرج، ولم يأخذ منه يوسف بن إبراهيم الكتاب، توقِّيًا
وخوفًا، ورغبةً في السلامة.
فأحضر أحمد بن طولون يوسف بن إبراهيم فقال له: ما الذي كان في كتاب موسى بن بغا إليك؟
فقال له: والله ما قرأتُ كتابًا قَط، والذي يجب عليَّ من حق طاعتك فقد عملتُه. فقال له:
فلِمَ لمْ تقبِض على الرجل وتَجِئني به؟ فقال له: لم يَستكفِني الأمير، أيَّدَه الله،
هذا
فأكفيه وأمتثل أمره فيه، ومن أتى شيئًا من غير أن يُندَب إليه فساعٍ يُتوقَّع من شَرِّه
أكثر مما يُطلب من خيره. فاعتقله أيامًا ثم صرفه إلى داره مكرَّمًا.
وحدَّث نسيم الخادم قال: أهدى علي بن ماجور إلى أحمد بن طولون ثلاثة خدم كانوا لأبيه،
فأما أحدُهم فما خلا من طرفه في وقت من الأوقات، من شدة ملازمته لخدمته، فقال له يومًا:
أي
البلدان أحبُّ إليك أن تكون فيه؟ فقال له: بلدٌ فيه مولاي الأمير. فقال له: ويحك في داري
ثلاثمائة خادم، وقد تقدَّمتَ عليهم تقدُّمًا قصَّر بجماعتهم في عيني، فأنا أخاف عليك
أن
تحدُث بك حادثةٌ منهم فأغتَم بك ولا يمكنني أن أستدركَ أمرك، فاختر لنفسك بلدًا تكون
فيه
آمَن عليك من حالٍ تلحقُك. فقال له: إذا كان الأمر على ما ذكَره مولاي الأمير فطرسوس.
فوصَلَه بجملة دنانيرَ كثيرة، وأمر له بخيلٍ وبغالٍ وآلةٍ كثيرة، وأجرى له رزقًا واسعًا،
وأنفذَه إليها.
وأما الثاني فكان من أحسن الناس وجهًا وخلقًا، فرآه يومًا في خلعةٍ رائعة حسنة وقد
زاد
حُسنه وجمالُه فيها، فقال له وهو خالٍ: لو لحقتَني في شرخ شبابي لما أُفلتَّ مني. فقال
له:
لو كان مولاي الأمير يستأهلُني لما أُفلتُّ منه. فضحك وقال: يا نسيم، ابعث بهذا الخادم
إلى
محمد بن أخي، فإني لا أرغب في هَزْله، فهو يُفسِده أمرٌ قريبٌ يومه. وكان محمد هذا ابن
أخيه
موسى عفيف الفرج، ولمَّا بعث به إليه ورآه حسنًا بضًّا
٢٦٠ وهبَه للسيدة بنت أحمد بن طولون زوجته، وكان يخدمهما جميعًا.
وأما الثالث فإنه سلَّم إليه رجلًا آثَر الراحة منه وقال له: إن هذا عدُوي وعدُوكم،
وقدَّر عليه أنه سيقتُله، ثم سأله عنه بعد أيام، فقال له: هو محبوس. فقال له: لو كنتَ
تُحبني لقتلتَه. فقال له: يا مولاي، لو كنتُ لك وحدك لقتلتُه، ولكني لك ولخالقي وخالقك،
وما
أقدر أن أُرضيَك بسخطه؛ لأنه أقدرُ عليَّ منك. فنفاه إلى أذَنة ولم يقطَع رزقه عنه.
وحدَّث نسيم أيضًا قال: كان أصحاب الأخبار يرفعون إلى مولاي رِقاعًا في أقوامٍ تكون
سببًا
لاصطفائهِم وقتلهِم، وكنتُ حربًا لأصحاب الأخبار باغضًا لهم، وكنتُ إذا لقيتُ الرجل منهم
لعنتُه في وجهه جهرًا، وكان مولاي إذا رُفعَت إليه رُقعَة حفِظَ معناها، وأمر بقتل صاحبها،
ودفعها إليَّ وأمرني بتحريقها، ولم يثق بغيري في ذلك.
فسعى أصحاب الأخبار في إفساد حالي عنده، فكانوا إذا رفعوا إليه واحدةً وعلموا أني
قد
حرَّقتُها رُفعَت أخرى إلى مولاي وقالوا له: كيف بقِيَت هذه الرقعة لم تُحرق؟ فيوهموه
أني
قد أغفلتُ أمرها، أو أخذتُها لأعلم ما فيها ومَن رُفعَت فيه، فأعلمني مولاي بذلك، فحلفتُ
عليه أني ما أغفلتُ قَط تحريقَ رقعةٍ دفعها إليَّ، ولكن هؤلاء القوم لمَّا علموا ببغضي
لهم،
احتالوا في إسقاط منزلتي من مولاي. فقال لي: صدقتَ، قد علمتُ ذلك، وأنها حيلةٌ منهم عليك
في
الرِّقاع التي آمرك بتحريقها؛ لأن لي فيها علامة، وهي إدخال سبابة يميني حتى يتحيَّف
فيها
اسمٌ أعرفُه من الرقاع التي يُعيدونها إليَّ سليمةً من علامتي، وهذه يا بُني صناعٌ رديئة
ليس يصلُح لها غير الشرار ومَن ليس فيه خير.
وحدَّث
٢٦١ سعد الفرغاني قال: ركب أحمد بن طولون يومًا، فبينا هو سائر فإذا هو برقاصٍ يعمل
في دار، فقال: اقبِضوا عليه وامضُوا به إلى الدار. فقُبِض عليه ومُضي به إلى الميدان.
٢٦٢
فبقي جماعة أصحاب أحمد بن طولون في حَيرة من ذلك، لا يدرون على ما يُنزِلون أمر الرقاص.
ولمَّا عاد إلى داره أحضره وأحضر السياط والعُقابين فاعترف أنه جاسوس للموفَّق، وأنه
أنفَذ
معه كتبًا إلى جماعةٍ من القُواد، قد أوصَل بعضَها وبقي بعضُها، وأنه عمل رقَّاصًا ليُخفيَ
أمره ويختلط بالناس، ويسمع منهم الأخبار، ويسأل عما يحتاج إليه، فوكل به حتى مضى، وأحضَره
ما بقي من الكتب، فقبض على الجميع وأتى عليهم، وأطلق الجاسوس وقال له: عُدْ إليه وعرِّفه
أنَّا قد وقفنا، والحمد لله، على ما عَمِله، ولم يضُرَّنا الله جلَّ اسمُه به، بل كشف
لنا
عن نيَّات أعدائنا، فاستأصلنا شأفتهم بما مكَّننا الله عز وجل به فيهم. ووكل به حتى خرج
من
العريش.
فقال له طبارجي: أيها الأمير، كيف علمتَ بهذا الرقَّاص؟ فقال له: يا هذا، إني لمحتُ
تكَّته وهو يحمل قَصْريَّة الطين على كتفه [فرأيتها تكَّة] أرمني، فقلت: رقَّاص بتكة
أرمني
لا يكون. فعلمتُ أنه جاسوس، فكان من أمره ما قد رأيتُم.
وحدَّث أحمد بن محمد الكاتب، وكان من عُقلاء الناس وفُهمائهم، وكان فيه دينٌ وخيرٌ
كثير،
[قال]: أتاني رسول أحمد بن طولون و[قد] مضى من الليل أكثَره، وأنا نائم في فراشي، فقرع
بابي
قرعًا عنيفًا فأشرفَت عليهم عيالي، فإذا جماعةٌ من الغلمان بالشمع والمشاعل، فراعهم ذلك
وعرَّفوني فأشرفت عليهم، فعلمتُ أنه لم يستدعِ حضوري في ذلك الوقت لخير، فأيِسْتُ من
الحياة، فدخلتُ المستراح وتطهَّرتُ وتطيَّبتُ طيب من يفارق الدنيا، ولبِستُ ثيابًا نظافًا،
وقلتُ: تكون [مشيئة الله] وودَّعتُ أهلي، وقد كثُر بكاؤهم وضجيجُهم، ونزلتُ إليهم فركبتُ
معهم، فمضَوا بي حتى دخلتُ إلى أحمد بن طولون.
فرأيتُ قاعة الدار كلها شمعًا يتَّقِد، حتى خِلْتُ أنه نهار، وسِرتُ فيها حتى بلغتُ
المجلس الذي هو فيه، وبين يدَيه شمعتان عظيمتان في كل واحدةٍ منهما قنطار، وهما بعيدتان
منه، فسلَّمتُ وأنا أُرْعَد خوفًا، فردَّ عليَّ السلام، فسَكَن بذلك بعضُ رُوعي، واستدناني
فدنَوتُ، فقال لي: أنت غدًا في دعوة فلان، ومعك في الدعوة فلانٌ وفلان، إلى أنْ أَسْمى
لي
جميع مَنْ كان وقع الاتفاقُ على حضوره. فقلتُ: نعم، أيَّدَ الله الأمير. فقال لي: امضِ
واحذَر أن يفوتك شيءٌ مما يجري حتى تبيِّنَه وتنصرفَ به إليَّ تعرِّفنيه. فقلتُ: السمعُ
والطاعةُ لأمير الأمير، أيَّدَه الله. فقال لي: انصرف راشدًا. فانصرفتُ وقد حِرْتُ في
أمري،
فقلتُ: أبعدَ هذه السن أركبُ الآثام وما تقبُح به الأُحدوثة، أسعى بقومٍ بيني وبينهم
مودَّة
وعِشْرة وأُخوَّة، وأكونُ السبب في قتلهِم وإتلافِ نعمهِم؟! إنا لله وإنا إليه
راجعون.
وتأمَّلتُ الحال فإذا بي إن خالفتُ أمره قتلَني، وأيْتمتُ ولدي وأرملتُ زوجتي، فعَمِلتُ
على تحمُّل ذلك ويعلَم الله، جلَّ اسمُه، كُرهي له، وأني غير مختار لما لا أُوثِره، وأني
صابرٌ على ضيق الحال طلبًا للصيانة، وتجنُّبًا للدخول فيما فيه المأثم، ثم فكَّرتُ في
وقوفه
على الدعوة وعلى حالها، ومعرفة من يحضُرها، فازداد خوفي منه وحذَري، وحَيْرتي في أمري،
وعُدتُ إلى منزلي، وقد يئسوا مني، فلمَّا رأَوني تباشَروا بي وحمِدوا الله، عز وجل، على
ذلك، ورأَوني قد رجعتُ إليهم من الآخرة، وأنه، جلَّ اسمُه، قد تصدَّق بي عليهم، ووهَبَني
لهم هبةً جديدة.
فلمَّا أصبحتُ وتعالى النهار، جاءتني رقعةُ صديقي صاحبِ الدعوة، يسألُني أن أُقدِّم
الوقتَ في المصير إليه، ففعلتُ، وأظهرتُ أن بي عُسر البول وأخذتُ معي مكتبًا أكتُب فيه
كل
ما يجري، وحضَرَت الجماعة التي أسماهم لي أحمد بن طولون، فكنتُ كلما سمعتُ شيئًا يجب
أن
أُثبتَه أُريهم أني أقوم إلى المستراح، فإذا حصلتُ فيه كتبتُ كل ما جرى وتهيأ، لما أحبَّ
الله، عزَّ وجل، إمضاءه، أنه لم يكن للقوم مذ وقتِ حضورِهم إلى وقت انصرافهم حديثٌ إلا
ذكر
أحمد بن طولون بكل قبيحةٍ وعظيمة، والابتهال إلى الله، جلَّ اسمُه، بالدعاء عليه، وتمكين
الموفَّق منه، كل ذلك لأَمْنِ بعضهم من بعض والثقة بهم، ولما في قلب كل واحدٍ منهم منه،
فلم أزل أكتُب كل ما يقوله واحدٌ واحد، وفي قلبي من ذلك ما قد علمه الله، عزَّ وجل، إلى
بعد
العتَمة.
وانصَرفَت الجماعة وكنتُ أنا آخر مَن انصرف، فجئتُ من توِّي إلى أحمد بن طولون كما
أمرني،
فأُدخلتُ إليه فأَصبتُه على تلك الحال، وهو كالمنتظر لي، فلمَّا سلَّمتُ ردَّ عليَّ السلام،
وقال لي: الساعةَ انصرفتَ؟ قلتُ: نعم أيها الأمير، أنا آخر منِ انصرف. فقال لي: جوَّدتَ،
هاتِ ما معك. فقلتُ: هو في مكتب، فإن أمَر الأميرُ بنقلِه نقلتُه، فأمَر لي بدواة وبياض،
فتنحَّيتُ ناحيةً، ونقلتُ جميعَه في رُقعة، وقمتُ فدفعتُها إليه فقرأها، فلمَّا استوفى
قراءتَها، قال لي: بارك الله عليك خُذ ما تحت المُصلَّى،
٢٦٣ فمددتُ يدي، وأنا أُرْعَد وأُقدِّر أنها أفعى، قد أعدَّها لي تضرب يدي فتأتي
على نفسي، فأصبتُ رقعة، فقال لي: اقرأها. فقرأتُها، فإذا فيها جميعُ ما كتبتُه، ما غادَرَت
منه حرفًا واحدًا، وإذا به قد استظهر عليَّ، بأن جعل معي واحدًا من القوم الذين كانوا
معنا
في الدعوة لا أعرفه، فعرفتُ بعد ذلك أنه كان بعض أصحاب صديقي، وأراد أحمد بن طولون [أن
يعرف] أيُّنا أصدقُ وأنصحُ فيما يرويه له فكانت نسختنا واحدة، فحَمِدتُ الله، جلَّ اسمُه،
إذ لم أَدَعْ شيئًا قلَّ ولا جلَّ حتى كتبتُه، وتيقَّنتُ أني لو تركتُ شيئًا لاستحلَّ
قتلي،
فلمَّا قرأتُها قال لي: دَعْها وامضِ مُصاحَبًا. وأمَر لي بألف دينار فأخذتُها وانصرفتُ،
وليس لي فكرٌ ولا عقلٌ إلا في أصدقائي، وما يكونُ منهم، وما أتخوَّفُه عليهم.
فلمَّا كان من غدٍ ركبتُ إلى صديقي صاحب الدعوة لأعرف خبَره، فلمَّا صرتُ إلى السكَّة
التي يسكُن فيها، لم أرَ للدار التي كان فيها أثرًا، ورأيتُ موضعها رحْبةً مكنوسة مرشوشة
واسعة نظيفة، لا أعرفُها ولا رأيتُها قَط، وأقبلتُ أطلُب الدار فلا أراها بوجه ولا سبب،
فتحيَّرتُ ووقفتُ أتأمَّل الرحبة والموضع، فرآني بعضُ شيوخ الناحية فتقدَّم إليَّ وقال
لي:
أُراك، أعزَّك الله، متحيِّرًا، فقلتُ له: نعم، أعزَّك الله، أنا أطلب دارَ صديقٍ وما
أراها، ولولا معرفتي بهذا الموضع لقلتُ غلطتُ موضعها، فقد حِرْتُ من ذلك. فأخذ بعنان
لجامي
وقدَّمني ناحيةً وخلا بي، وقال لي: امضِ يا حبيبي في حفظ الله، فرحم الله صديقك، فقد
كان
حَسَنَ المجاورة لنا، وقاضيًا لحوائجنا وحقوقنا. فقلتُ له: عرِّفني ما وقفتَ عليه لأَعلَمه
وفرِّج عني. فقال: أما خبره فما أدري كيف جرى، إلا أنه سُعي به إلى أحمد بن طولون، وبجماعة
كانوا عنده البارحة في دعوة، فلمَّا كان في أول الليل وافى إلى ها هنا أكثر من خمسمائة
رقاص،
٢٦٤ وأكثر من ثلاثمائة بغل عليها المزابل،
٢٦٥ فأُنزلَت الدار إلى الأرض بأَسْرها، ونُقِلَ جميعها إلى البحر،
٢٦٦ فما أصبح الصباح حتى صارت رحْبةً كما ترى مكنوسةً مرشوشة، كأنه ما كانت ها هنا
قَط دار، وغُرِّق صاحبُها والجماعةُ الذين كانوا معه عنده؛ لأنه بلغَني من جارٍ لبعضهم
أن
رُسُل أحمد بن طولون كانوا يُخرجون واحدًا من منزله فيُغرَّق وتُؤخَذ نعمته بأَسْرها،
فاذهَب في حفظ الله. فزاد غمِّي وقلَقي، وعظُمَت مصيبتي وحزني، وما انتفعتُ بنفسي
بعدهم.
وحدَّث
٢٦٧ أحمد بن دعيم، وكان من خاصة قُوَّاد أحمد بن طولون، وكان حديثه لي بعد أن ترك
الديوان، وحسُنَ انقطاعه إلى الله، جلَّ اسمُه، قال: قلَّدني أحمد بن طولون الصعيد الأوسط
في وقتَ خروج عبد الرحمن العمري
٢٦٨ عليه بالصعيد، فكتب إليَّ يستخبرُني عما أقفُ عليه من حاله، فكتبتُ إليه
أعرِّفه ضعفَ يده، وانتشارَ أمره، وقلةَ المال، وقبضتُ على رئيسٍ من رؤساء الأعراب اتهمتُه
بمكاتبته، وأنهيتُ خبره إليه، فكتَب إليَّ يأمُرني بحمله إليه، وابتياعِ ما قدَرتُ عليه
من
النُّجُب، والشخوص [إليه] لأشرح له أمره مشافهة، فامتثلتُ أمره، فما سِرتُ إلا مرحلةً
حتى
لحقني وجوهُ تجار العمل، ومعهم أعرابيٌّ شاب، وقالوا لي: جئناك في أمر هذا الأعرابي المحمول
معك إلى الأمير، أيَّدَه الله، ومعنا مَنْ يبذلُ في إطلاقه خمسمائة دينار. فقلتُ لهم:
قد
أنهيتُ خبَره إلى الأمير. فقال الأعرابي الذي معهم: خذ الخمسمائة دينار واجعلني أنا مكانه،
وأَطلِقه فيحصُل لك المال والرجل؛ إذ
٢٦٩ لا يعرف الأمير أيهما كتبتَ بذِكره. فقلتُ: أَفعَل.
وكان الأعرابي المحمول من عشيرتي، وكنتُ مغمومًا بأمره، إلا أني لم أجد بُدًّا من
تعريف
أحمد بن طولون ما كان منه، لما كان في قلوب جماعتنا من الخوف منه، فأحضرتُ الأعرابي
وعرَّفتُه ما جرى، وقلتُ له: قد سرَّني الله بخلاصك. فقال: بماذا؟ فعرَّفتُهُ ما جرى،
فقال:
بأن تجعل هذا مكاني وتحمِلَه عوضًا مني، ليجري عليه المكروه دوني؟ والله لا كان هذا أبدًا.
ثم قال الأعرابي للشاب الأعرابي: امضِ لشأنك، أحسن الله جزاءك. والْتَفَت إليَّ فقال
لي:
يحسُن بشيخ مثلي [أن] يتربَّح
٢٧٠ في المعروف؟ هذا رجلٌ لقيتُه وقد أكبَّت عليه خيل
٢٧١ لتسلبه نفسه وما كان معه، فطردتُها عنه حتى تخلَّص، فلمَّا رآني في هذا الوقت
وما نزل بي، أراد أن يخلِّصني بحصوله في موضع إن سَلِمَت روحُه لا يخرجُ منه آخر الليالي،
ثم يُغرَّم مالًا لعله يُثقِل عليه ويُجحِف به، ليكون له الفضل عليَّ، والله لا فعلتُ،
ثم
أقبل إليه فقال: انصرف في حفظ الله، فلن يضيع عندي فعلك، وقد حصلَت لك قِبَلي مكرمة.
فقلت
له: قد قضيتَ يا أخي ما يجب عليك، كثَّر الله في الناس مثلَك، فانصرف مصاحَبًا، فقد وثق
الرجل بالله، عز وجل، في أمره، وهو، جلَّ اسمُه، يخلِّصه بجميل هذا الفعل.
فقال لي: لستُ أفعل، وعزمتُ
٢٧٢ على الأول في القَبول منه وقلتُ له: فلستُ آخذ منه شيئًا وأعينه في خلاصك، ولن
أدع حالًا أبلُغ بها خلاصَه أيضًا إلا بلغتُ. فامتنع وقال: والله لئن خالفتَني وأخذتَه
وحصلتُ بحضرة الأمير لأُعرِّفنَّه، فاصرف الرجل ولا تعرِّضه للهلكة. فبقيتُ قد تحيَّرت
ودهِشتُ من كرمهما جميعًا. فقال له الشاب: إذا كان الأمرُ على هذا فما أصنعُ في عارفتك
التي
في عنقي؟ أنشُدُك الله إلا قبلتَ المال وأزلتَ عني العار؛ فأنت تعلَم أنه عارٌ على الكريم
أن يموت وعليه دَين من ديون المعروف. فامتنَع من قَبول المال أيضًا وقال له: إذا رأيتَ
رجلًا قد أحاطت به خيلٌ تريد تسلبه فذُبَّها عنه، فإذا فَعلتَ ذلك فقد كافأتَ عارفتي،
انصرِف في كلاءة الله، عزَّ وجل.
٢٧٣ فانصَرفَ الأعرابي باكيًا متأسفًا على قد فاته، مما بذلَه من نفسه وماله،
ولم يزل يُقبِّل رأس الأعرابي ويدَيه ورجلَيه ويبكي ويُعْوِل، ويسأله قَبول المال وهو
ممتنع
من ذلك، حتى أبكى جماعتَنا، فلمَّا لم يجِد فيه حيلةً انصَرف.
فلمَّا دخلتُ إلى أحمد بن طولون وشافهتُه بخبر العمري، وذكرتُ له منه ما سَرَّه، وعَرضتُّ
عليه النُّجُب واستحسَنها، قلتُ له: بقي أيها الأمير ما هو أحسنُ منها. قال: ما هو؟ قلتُ:
الأعرابي الذي كتبتُ بخبره إلى الأمير، أيَّدَه الله، فأمرتَ بإشخاصه، قال: نعم، وما
الذي
فعَل، وأردتَ بقولك إنه أحسن مما جئتَنا به؟ قلتُ: كان من خبره كذا وكذا، وشرحتُ له جميع
ما
جرى من أوله إلى آخره، وخبَر المال الذي بذل لي، ومشورتي عليه بأن يفعل، وصَدَقْتُه عن
جميعه، فأعجَبه صِدقي، واستحسن فعلَهما، وأمرني بإحضار الأعرابي فأحضرتُه، فلمَّا رآه
قال
له: يا أعرابي، قد كنا عزمنا في أمرك على ما يسوءُك ولا يسرُّك، حتى وقفنا على ما جرى
بينك
وبين مَنْ أراد مكافأتَك على جميلك عنده، وقد قمنا عن ذلك الأعرابي بحق عارفتك عنده بإطلاق
سبيلك والإحسان إليك. وأمر أن يُخلع عليه وأثبتَه في ديوانه وأسنَى له الرزق، وأمرني
بإيفاد
رسولٍ قاصد في حمل الأعرابي إليه ففعلتُ، فلمَّا وافى أدخلتُه إليه، فقال له: كثَّر الله
في
الناس مثلَك يا أعرابي وقد قمنا عنك بحق عارفتك، بما أتيناه في أمر صاحبك، وبك نجَّاه
الله،
عزَّ وجل، وبجميل فعلك من مكروهنا. وأمر فخُلع عليه وأثبتَه في ديوانه وأجرى له رزقًا
واسعًا. ولم يزالا في خاصته ولا يُخلِّيهما في كل عيد من صِلةٍ واسعة إلى أن مات.
وحدَّث نسيم الخادم
٢٧٤ قال: كان مولاي يُراعي أمر المحبوس حتى تمضي له سنة فإذا جازها نَسِيَه ولم
يذكُره، وكان يقول لي سرًّا: إذا تبيَّنتَ من رجلٍ براءةَ ساحته فسهِّل عليَّ أمره
واستأمرني فيه، فإني أستعمل التشديد للضرورة والقلوب بيد الله، عز وجل.
قال نسيم: فقال لي موسى بن صالح، وكان من الثقات عنده وكان على الشرطتَين جميعًا:
إن في
الحبس رجلًا قد زاد على سنتَين وهو منقطع إلى الله، عزَّ وجل، لا يسألنا شيئًا من أمره،
وقد
أكبَّ على العبادة، وقد جرى في أمره شيء، وهو ذا أشرحه لك فيما بيني وبينك، لثقتي بك
وبدينك
ومحبتك للخير؛ ولأستعين بك في أمره، حتى يخلِّصه الله، عزَّ وجل، على يدَيك، فيحصُل لك
بذلك
ثوابٌ من الله الكريم جزيل. فقلتُ له: قل. فقال لي: لما رأيتُ هذا الرجل على هذه الحال،
قلتُ له: يا هذا، إن الناس يضطَربون في أمرهم ويسألون الخلاص مما يقاسونه، بكتْبِ رقعة
بشفاعة مَنْ يعتني بأمرهم، وأراك خارجًا عن جملتهم. فجزَّاني خيرًا.
فرقَّ له قلبي وكبرَ في نفسي فخلوتُ به وقلت له: إني لو استجزتُ إطلاقك بغير إذنٍ
لفعلتُ،
ولكن أستَعِن في أمركَ بمن يضطرب
٢٧٥ في خلاصك، فقال لي: ما أعرف في هذا البلد غير أبي طالب الخليج
٢٧٦ ولو تهيأ الاجتماعُ معه لخاطبتُه بما لا تبلُغه الرسالة. فقلتُ له: والله
لأخاطرنَّ فيك بنفسي، أنا أُطلِقك سرًّا على أن توثقني بأيمانٍ مُحرَّجة أنك تعُود إليَّ
ولا تُخفِرْني،
٢٧٧ فقال لي: إذا كنتُ عندك بمنزلة مَنْ تشُك فيه حتى تتوثَّق منه بيمين، فلا حاجةَ
لي في إطلاقكَ إياي. فقلتُ: والله لا استحلفتُكَ ثقةً بك، فامضِ في حفظ الله، وأحكِمْ
معه
ما تريد.
وكان ذلك ليلة الجمعة، وفارقتُه على أن يصير إلى محبسه ليلة الإثنين، فلَّما كان في
سَحَر
يوم السبت وافاني لمَّا فتحتُ السجن، فلمَّا دخل حمِد الله، جلَّ وعزَّ، وأثنى عليه،
وسجد
شكرًا له جلَّ اسمُه، ثم قال لي، وقد حِرْتُ من أمره: بعثتُ إلى أبي طالب الخليج امرأةً
من
أهلنا فهِمة، وطويتُ عنه إطلاقي، وسألتُه أن يلطُف في أمري فوَعَد بذلك، وقال: أدخُلُ
إلى
الأمير وأسأله في أمره، فاجلسي إلى أن أعود إليكِ أُعرِّفُكِ ما يجري، وأرجو أن يمُنَّ
الله
الكريم بإطلاقه.
ورَكِب عشيةَ الجمعةِ أمسِ، فأقام عند الأمير إلى قريبٍ من العتَمة، وانصَرفَت إليَّ
الامرأة فقالت: وافى أبو طالبٍ وهو مغمومٌ فقال لي: كلَّمتُ الأمير في أمره، فقال لي:
لقد
أذكَرتَني رجلًا يحتاج إلى عقوبة. ثم تقدَّم إلى رجل من أصحابه في المصير به إليه في
غدٍ
عند جلوسه اليوم، وقال للمرأة: قولي له ارجع يا أخي إلى الله، عزَّ وجل، فليتني ما تكلَّمتُ
في أمرك. وطال عليَّ بقية ليلي قلقًا بأمرك أن يجيئكَ رسولٌ في إحضاري، فبكَّرتُ إليك
في
هذا الوقت، خوفًا من حالٍ تلحقُك فتغمَّني فيك، ورأيتُ والله جميعَ ما يُوعِدني به من
المكروه أسهلَ عليَّ من أن أَخفِرَ بك وأُبطلَ ظنَّك.
فما استوفى كلامه حتى وافاني رسولُ الأمير، فتسلَّمه مني ومضى به إليه فلحقتُه، فرأيتُ
الأمير وقد شُغِل الساعة عنه، فقال: أنا أسألُك أن تدخُل الساعة إليه من قبلِ أن يفرغ
شغلُه
فتدعو به حتى تشرح له قصته وتسأله في أمره. فبادرتُ معه ودخلنا إلى مولاي، وإذ به قد
دعا
بالرجل وهو بين يدَيه، وقد ذكَر له جنايتَه فاعترفَ بها واعتذَر إليه منها عذرًا قَبِلَه
منه، فتأمَّلناه فإذا به قد لحقَتْه عليه رقةٌ ورحمةٌ ورأفة ضدَّ ما قدَّرناه فيه، فعلمنا
أن العناية من الله، جلَّ اسمُه، قد سبقَت عنايتنا، فغَنِينا عن سؤاله في أمره، وأَمَر
بإطلاقه، وأمَرَ له بجائزة.
قال نسيم: ثم قال لي مولاي: تسلَّمه يا نسيم مكرَّمًا. فأخذتُه إليَّ وقد لحقني من
السرور
بإطلاقه ما عَلِمه الله، جلَّ اسمُه، وكذلك موسى بن صالح، فوصلتُه بدنانيرَ كثيرةٍ سوى
ما
وصل إليه من مولاي، وصرفتُه مع موسى بن صالح؛ لأنه اختار انصرافَه معه ليبلغ أيضًا في
أمره
ما يُحبه، مما تُوصل به المثوبة من الله جلَّ ثناؤه.
فلمَّا خلوتُ بمولاي حدَّثتُه بقصته من أولها إلى آخرها، فأحضَر موسى بن صالح وقال
له:
لله درُّك فيما أتيته في أمر الرجل، فأحضرنيه. فأحضرتُه، فلمَّا رآه أكرمه وأدنى مجلسه،
وجعله أخص أصحابه عنده، ولم يزل يوُاصِله ببرِّه إلى أن مات مولاي، رحمه الله.
وحدَّث نسيم الخادم
٢٧٨ قال: حبس مولاي يوسف بن إبراهيم في موضعٍ في داره لشيءٍ أنكَره منه، وكان إذا
حبس رجلًا في داره أُيِس منه. وكان ليوسف بن إبراهيم على جماعة من أهل الستر معروفٌ كبير
وتحمُّل لمؤنهم، فاجتمعوا وكانوا نحوًا من مائة رجل،
٢٧٩ لكل رجلٍ منهم محلٌّ في نفسه وقديمه وستره ودينه، ووافَوا إلى باب الجبل،
فاستأذنوا على أحمد بن طولون، فأذِنَ لهم فدخلوا إليه، وعنده محمد بن عبد الله بن الحكم،
وجماعةٌ من شيوخ البلد.
فابتدءوا الكلام بعد السلام بأن قالوا: قد اتفَق لنا، أيَّدَ الله الأمير، من حضور
هذه
الجماعة مجلسَه ما رجونا أن يكون ذريعةً لنا إلى ما نأمُلُه، ونحن نرغب إلى مولاي الأمير،
أيَّدَه الله، في أن يسألها عنا ليقف على منازلنا، فسألهم عنهم فقالوا: نعرفهم بالستر
والصيانة والدين والقديم النبيل، وقد عُرضَت على جماعةٍ منهم العدالة فامتنع صيانةً
وتواضعًا.
فأمرهم بالجلوس فلما جلسوا سألهم تعريفه ما قصدوا له فقالوا: ليس لنا أن نسأل الأمير،
أيَّدَه الله، مخالفةَ ما آثَره في يوسف بن إبراهيم؛ لأنه أهْدى إلى الصواب فيه، لكنا
نسأله، أيَّدَه الله، أن يقدِّمنا قبله فيما لعلَّه قد اعتزم عليه في أمره من قتلٍ أو
مكروه، وهو في حِلٍّ وسَعَة، وأن يفعل في أمره بعد ذاك ما أحب، وقد قضينا حق عارفَتِه
عندنا، وكافَينا معروفَه لدينا، بتحمُّل المكروه فيه، كما كان يُبادِر بمعروفه إلينا.
فقال
لهم: وكيف ذاك؟ فقالوا: ما أحوَجَنا أن نُفكِّر معه في شيءٍ نبتاعه لسنتنا من مئونة وكسوة
وقليل وكثير، ولا وقفنا بباب غيره لمَّا غنينا به عمن سواه، وما نُؤثِر، أيَّدَ الله
الأمير، البقاء بعده، ولا السلامة من شيء قد وقع فيه. وعجُّوا بالبكاء بين يدَيه، فبَكَت
الجماعة الحُضور لبُكائهم، ورقَّ قلبُ أحمد بن طولون حتى تدمع
٢٨٠ معهم وقال لهم: بارك الله عليكم وأحسن جزاءكم فقد كافأتم إحسانه إليكم، وجازيتم
إفضاله عليكم. ثم قال: يوسف بن إبراهيم. فأُحضِر فقال لهم: خذوا بيد صاحبكم وانصرفوا
به
معكم؛ فقد وهَبتُ جنايتَه لكم. فأخذوا بيده وخرجوا من عنده، شاكرين داعين إلى الله، جلَّ
اسمُه، في إطالة بقائه ودوام عزِّه.
ولم يزالوا حول يوسف بن إبراهيم حتى أوصلوه إلى داره، فشَكَر لهم فِعلَهم، وانصرفوا
فرِحِين بما سهَّله الله بكرمه لهم من المحنة في أمره. وكان ذلك سبَبَ رضا أحمد بن طولون
عن
يوسف بن إبراهيم.
٢٨١
قال مؤلِّف هذا الكتاب: اتصَل بأحمد بن طولون عن القاسم بن شعبة شيءٌ أنكَره منه،
فقبض
عليه وحبَسَه في داره، ووكل به مَنْ يمنع أحدًا يدخل إليه، فلا يخرج من عنده إلا غلامٌ
يقضي
من حوائجه وحوائج حرمه ما لا بدَّ منه في منزله، ولم يمتهِنه بحبسٍ في مُطْبِق ولا غيره،
وتركه في داره موكلًا به، وكان ذلك من جميل أفعال أحمد بن طولون محافظةً لأبيه. وكان
يصحبه
ويتقلَّب في نعمته رجلٌ يُعرف بابن أخت بن الزنق، وكان له عمٌّ من الشيوخ الأوَّلين الذين
فيهم السلامة والدين، فلمَّا قبض عليه أحمد بن طولون فزع ابن أخت بن الزنق من مكروهٍ
يلحقُه
من أحمد بن طولون، وخافه وانقطَع عنه، فبلغ عمَّه ذلك فأنكَره عليه وحثَّه على المضيِّ
إليه، والتوصُّل إلى قضاء حاجة إن كانت له، فاحتَج بأنه لا يصل إليه لمنع الموكلين لمن
يجيئه، فقال له: [لَأَن] يقف على مصيرِك إليه ومنعهِم لك أحسنُ من وقوفه على انقطاعك
عنه،
فقال له: أنا أخاف من مكروهٍ يلحقُني، فقال له: كما كنتَ يا بُني تتقلَّب في نعمته، تصبر
على ما يلحقُك في محنته، فلا تفضَحْنا بالقعود عن رجلٍ أحسَن إليك، فلم تُكافِئه على
جميله
عندك. فقال له: ما أجْسُرُ على ذلك. فلمَّا أَيِس منه قال له: قبَّحَك الله، سَرقتَ معروف
الرجل، وتركتَه يقارعُ محنتَه. فلم ينجَح فيه قولُه.
وركب الشيخ حماره، وصار إلى دار القاسم بن شعبة، وجيرانه يناشدونه الله ألا يتعرض
لأحمد
بن طولون فلَم يقبَل، وقال: والله لا تحمَّلتُ عارًا حمَّلنيه هذا الرجل الجاهل القبيح
الفِعل. فلمَّا وقف بباب القاسم بن شعبة وعليها الموكلون، وقومٌ من أصحاب الأخبار، سلَّم
عليهم، فقال: كيف حال القائد أبي محمد، أيَّدَه الله؟ فقالوا له: امضِ يا شيخُ في حفظ
الله.
فقال: ما أمضي حتى أقضيَ من حقه ما يَلزمُني؛ إذ كان قد بعُدَ عنه من يَلزمُه أمره، ممن
كان
في جملته من أهلي.
فرُفِع خبره إلى أحمد بن طولون فأحضره فقال له: ما كنتَ يا شيخ تعمله للقاسم بن شعبة؟
فقال: والله ما عملتُ له قَط عملًا، ولا تصرَّفتُ له في حالٍ من الأحوال، ولا دخلت له
دارًا، ولا سلَّمتُ عليه قَط، ولا أعرفه ولا يعرفني، ولكنَّه أوْلاني جميلًا في بعض أقاربي،
فتوقَّفتُ عن معاضدته في محنته، وقضاء حقه على ما أولاه، توقِّيًا وخوفًا، فلم تُطِق
نفسي
الصبرَ على تركِ مكافأة جميلِه عنه، فانتصبتُ الساعة لذلك، والأمير، أيَّدَه الله، أحق
وأَوْلى بحسن مكافأة أبيه فيه، والصفح له عن ابنه في غلطةٍ إن كان غلطَها أو زلَّةٍ إن
كان
زلَّها؛ فقد كان أبوه مشهورًا بحسن الموالاة للأمير، أيَّدَه الله، جميل النصح له طُول
حياته. فقال أحمد بن طولون: يا شيخ ما في هذا المجلس أحدٌ يقول فيما اهتديتَ إليه من
إذكاركَ إياي حقَّ أبيه، ولَعمري إنه ليقضي عطفي على ولده، وصفحي عن زلَلِه والتجاوز
له عن
خطئه، فأحسن الله جزاءك يا شيخ على جميل فِعْلِك، وكثَّر في الناس مثلَك؛ فقد نبَّهتَني
على
قضاء حق أبيه، رحمه الله.
ثم أمر بإحضاره، فلما حضر خَلع عليه خِلع الرضا وأجازه، وردَّه إلى منزلته التي كانت
عنده، وقال للشيخ: تسلَّمه يا شيخ بارك الله عليك، وأحسن إليك. فسبقه الشيخ إلى داره
فنزَلها، ولم يمضِ إلى منزله ولم يدخل داره معه، وحَرَص به واجتهَد فما فعل، وقال له:
إنما
أردتُّ قضاءَ حقك والقيامَ فيه بما قعَد عنه ابنُ أخي خوفًا وجزعًا من الأمير، أيَّدَه
الله، فلله الحمد على ما سهَّله لي من ذلك ويسَّره، وأستودعك الله. وانصرف إلى منزله،
فلمَّا كان من غدٍ ركب إليه القاسم بن شعبة يشكُر فِعله، وعاد إلى أفضلِ ما كان عليه
لابن
أخيه إكرامًا للشيخ على ما أتاه في أمره.
وحدَّث نسيم الخادم قال: صار إليَّ ثابت بن سليمان — وكان سليمان هذا يكتب لشقير الخادم،
ثم خدم بعدُ مولاي — ومعه رقعةٌ وسألَني أن أُوصلَها إلى مولاي، فأخذتُها منه وقرأتُها،
فإذا فيها يذكُر أن شقيرًا الخادم أودَع أباه أربعمائة ألف دينار، فأوصلتُها إلى مولاي،
وعجبتُ من سعايته بأبيه، فلمَّا قرأها استحضَره وقال له: قد قرأتُ رقعتك، فالأمر على
ما
ذكرتَه من حصول المال عند أبيك؟ قال: نعم، أيَّد الله الأمير، وإنما خشيتُ أن تمتدَّ
يدُ
أخي إليه، ويتَّصلَ خبره للأمير بعد وقت، فيلحقَني مكروهه، فقال له: أمسِكِ الآن عن هذا
واطوِهِ عن الناس كلهم، ولا يعلم أبوك بمجيئك إليَّ، حتى أُدَبِّر الأمر في ذلك فيما
أراه
فيه، وانصرف مكلوءًا. قال نسيم: فكثُر تعجُّبي من إمساك مولاي عن هذه الجملة العظيمة
التي
لا يغفُل عن مثلها.
فلمَّا مضت سنة مات سليمان فأظهر مولاي غمًّا به، وتفجُّعًا عليه، ثم دعا بابنه الرافع
لتلك الرقعة، فردَّ إليه ما كان في يد أبيه من أملاكه، وضمَّ إليه من الرجال منْ تَقْوى
بهم
يدُه، وتركَه شهرًا، ثم دعا به يومًا وأنا قائم بين يده، فقال له: كيف حال مُخَلَّفي
أبيك
معك بعد أبيك؟ فقال: الحال صالحة، وما أدع حالًا تؤدِّي إلى مصلحتهم إلا بلغتُها ببقاء
الأمير، أيَّدَه الله، وقد أعزَّ الله، جلَّ اسمُه، جانبي به أدام الله عِزَّه. فقال
له:
احمل إليَّ تلك الأربعمائة ألف دينار التي لشقير الخادم عندكم. فتلجلج ولم يمكن أن يرُدَّ
جوابًا، فأمرني بتسليمه إلى أحمد بن إسماعيل بن عمار، وأن آمره بمطالبته بها بالسوط،
فامتثلتُ ذلك، وطالبه فبلَّح
٢٨٢ فضربه خمسمائة
٢٨٣ سوط، وأخذ جميع ملكِه وما خلَّفه أبوه، فلم يُوجَد عنده بعضُ ما تَقوَّله على
أبيه، فأعاد مطالبتَه ثانيةً، وضربه فمات تحت الضرب، فعرف مولاي خبَره فقال: ذلك أردتُ
لسعايته كانت بأبيه — رحمه الله — إليَّ، فلا رَحِمَه الله.
٢٨٤