أخبار العباس بن أحمد بن طولون
قال مؤلف هذا الكتاب: لمَّا ضبط أحمد بن طولون أطرافَ عمله، بلؤلؤ غلامه وابن جيغويه، ومَنْ ضمَّ إليهما من الرجال، أغذَّ السير من الثغر إلى الفسطاط ليبادر أمر العباس ابنه. وكان سبب خروج العباس إلى الغرب حمقه ونقصه، وإنما قدَّمه أبوه على سائر ولده لكبَرِ سنه، ولأنه كان أحظاهم عنده، ولهوًى كان له فيه من هوى الأبوة، ومن الناس مَنْ يعمى عن حظ نفسه وعَيب ولده لهواه فيه، وإن كان أبوه حازمًا لا يُطعن عليه، لكنه كما قال الشاعر:
فخانَه أملُه فيه وأتاه من المقدور ما ليس في خَلَده، وهذا لصغر الدنيا عند الله، عزَّ وجل، ولنزارة محلها، وليُنبِّه أولي الألباب على مقدارها، وأنها لا تدوم لأحد ولا تصفو له وإن حَسُن تدبيره، وصحَّ تمييزه، وقيل هو واحد زمانه.
ولم يزل أحمد بن طولون كذلك مستقيمة أموره كلها مصحَّحة أمانيه، يُعطَى سؤله وإرادتَه حتى بلغ الكتابُ أجله، فكان أول انحلال أمره وعكس قصته وتنقُّص الأمور عنه، أمر العباس ابنه، فانعكسَت العين على مَنْ آمن سبلَها وأعذب شِرْبها، وذلك ولده وقرة عينه، وأحب الأشياء كلها إلى قلبه، والمؤمَّل لسدِّ مكانه، و[أن] ينوب مَنابَه، فكان كما قال الشاعر:
وذلك أنه اشتملت على العباس ابنه طائفةُ سوءٍ من صنوفٍ شتى؛ فمنهم قُواد استخلصَهم، واستحجَب كثيرًا منهم، كانوا يخافون أباه ويحسدونه بالنعمة عليه، ويتمنَّون تلفَها وزوالَها، ودخول النقص عليها من أي وجه تهيَّأ له، فأشاروا على العباس بالخلاف على أبيه والانحراف عنه، واتفَق لهم أنه أُرجف بموته لمَّا طالت غيبتُه بالثغور والشامات.
وكتب الواسطي إلى أحمد بن طولون كتبًا بخطِّه، يذكر فيها ما يلحقه من سوء اعتراض العباس، ومنْعه له من استيفاء الرسوم السلطانية بمصر، وأنه مقبوض اليد، ويذكُر الطائفة التي استولَت عليها وتخطِّيها في البلد إلى ما ليس من عملها، وكان محبوب بن رجاء عدوَّ الواسطي، فكان كلما ورَد من الواسطي كتابٌ إلى أحمد بن طولون يُنفِذه إليه لموضع كتابته لأحمد بن طولون، وأخذه كل كتابٍ يرِد عليه، وكتَب عنه بما يأمره به، فكان ذلك مما يزيد في غيظ العباس على الواسطي ويُحقِدُه له.
ولجَّ العباس وجدَّ فيما اعتزم عليه، فلخوف الواسطي من سوء العاقبة، قال له بما جعلَه له أبوه من اليد في البلد: إن أضربتَ أيها الأميرُ عما قد حملتَ عليه وإلا منعتُكَ منه. فأجابه العباس بجوابٍ قبيح، وخاف الواسطي تأنيب أبيه في ستر الأمر عنه، وأن يُلزِمه أحمد بن طولون الذنب فيما يأتيه العباس، فكتب إليه يشرح له القصة، ولم يستُر عنه منها شيئًا، ويذكُر أن حيلتَه تعجز عن منعه، فأجابه يُوصِيه بالمداراة له إلى موافاته، فاستعمل معه ذلك حتى زاد أمره، وعجز عن مداراته، فاستتر في داره ولم يحتمل الامتهان، فركب إليه العباس وهجم عليه وأخرجه مكرَهًا، ووجد عنده الأجوبة من أبيه عن كُتبه كانت إليه في أمرها، فأخذها فلمَّا وقف عليها اشتدَّ خوفُه من أبيه وساء ظنُّه به، فقيَّد الواسطي وأيمن الأسود وكان من غلمان أبيه وثقاته؛ لأنه أشار عليه بما يُشير به الناصح.
وأظهر العباس لمَّا قوي في نفسه الخوف من أبيه أنه يريد الخروج إلى الإسكندرية، فقال له محمد بن أبَّا ونظراؤه من قُواد أبيه: ما يصنع الأمير بالإسكندرية؟ فقال: بلغني أن الروم تطرقُها وأحبُّ أنْ ألقاهم لعل الله، جلَّ اسمُه، أن يُظفِرني بهم. فقالوا له: بعضنا يكفيك هذا، والصواب ألا تفارق [ما جعلك] الأمير، أيَّدَه الله، عليه، والمرتبة التي رتَّبَك فيها؛ فأنت أيها الأمير العِوَض منه، ومقامه في دار مملكته، فلم يُصغِ إلى قولهم، واستخلف أخاه ربيعة على البلد وخرج، وكتب هؤلاء القُواد إلى أبيه يُبْلُون بينهم وبينه عذرًا، ويُعرِّفونه أنه قد غلبهم على رأيهم، ولم يتهيأ لهم منعه إلا على سبيل النصح، لقوة يده وما مكَّنه منه الأمير.
وأخذ العباس كل ما تهيَّأ له من المال والمتاع والسلاح والكُراع، وأخذ معه الواسطي وأيمن الأسود مقيَّدَين وخرج، فلمَّا صار إلى الإسكندرية أقام بها أيامًا ثم تجاوزها إلى بَرقة.
ووافى أحمد بن طولون إلى مصر فوجده قد أخذ من المال ألفَي ألف دينار، ولم يُقنِعه ذلك حتى استسلف من التجار ثلاثمائة ألف دينار، وأمر صاحب الخراج أن يضمَنَها لهم ويكتب لهم بها على المعاملين، ففعل ذلك خوفًا منه. وأحضر أحمد بن طولون أبا أيوب وقال له: لم يُقنِعك [ما أخذ] من المال حتى استسلفتَ له من التجار ثلاثمائة ألف دينار! فقال له: خِفْتُهُ، ولم يكن لي به طاقة. فلم يقبل ذلك منه، وألزمه غُرْمها للتجار من ماله، فبلغ ذلك منه مبلغًا كشَفه وأضرَّ به، فشكا ذلك إليه، فقال له: هذا جزاء مَنْ عاون عدُوي وقوَّى يده بمالي. فلمَّا انكشف له ما لحقه من ذلك علم أنه لو مَنعَه لأجرى عليه المكروه، فأزال ذلك عنه، وقَبِلَ عُذْره.
قال: وسعى إليه في ذلك الوقت المعروف بأبي مقاتل بن أبي ثابت بأبيه لمَّا رأى انحراف أبيه عنه، وبأخيه المعروف بأبي حفص، لتقديم أبيه أخاه عليه، فغلظ عليه سعايته بأبيه، فقبض عليه وعلى أخيه جميعًا وضربهما بالسوط فماتا، فأخذ ما كان لهما، وعطفه ذلك على أبيهما.
قال: وراسَلَ أحمد بن طولون العباس ابنه ولطف به، وأنْفَذَ إليه أبا بكرة بكار بن قتيبة والصابوني القاضيَين وأبا محمد مَعمر الجوهري وزيادًا المَعدَني مولى أشهب، وكان فصيح اللسان، حَسَن العبارة، قويَّ الفهم، وأمرهم بملاينته وملاطفته، ووعده في كتابه الصفحَ عما جناه، وألا يسوءه بمكروه، وحلف له على ذلك بأيمان مغلَّظة. وخرجوا فلمَّا وصلوا إليه رحَّب بهم وأكرمهم ورفع مجلسهم، فابتدأ زياد المعدني فقال: يا سيدي، سيدنا الأمير، أيَّدَه الله، يقرأ عليك السلام، ويقول لك: يا أقربَ الناس إليَّ، وأبرَّهم لديَّ، وأعزَّهم عليَّ، خفرتَ ظني بك [أقوى ما كان] أملي فيك، وأرجى ما كنتُ لك، عن غير إساءةٍ كانت مني إليك، ولا خطيئة ركِبْتُها فيك، ولم ترعَ حسن تربيتي لك، وعِظم إشفاقي عليك، وأني رشَّحتُك لمنزلتي، وقدَّرتُ بك حياةَ ذكري، وصيانةَ شملي؛ فأرضيتَ عدوِّي، وأسخطتَّ وليي، أيا سبحان الله! أما تخافُ العقوبة في العقوق وقانيها الله، جلَّ اسمُه، فيك، وثمرة المجازاة على الإساءة، صرفها الله بكرمه عنك؟ فإن رجعتَ إليَّ فكأنك لم تذنب، وإن تمادَى بك الاغترار شخصتُ إليك بنفسي، ولم أكن بأول من خسر سعيه وأخلَف تقديره. وبكى زياد وبكى معه مَنْ حضر، فتدمَّع العباس، وبلغ قولُه من قلبه.
فذكر زياد أنه انصرف مع الجماعة إلى دورٍ قد أُعدَّت لهم، وفرَّق فيما بينهم، وما يُخالجه شكٌّ في أنه يرجع معهم إلى أبيه، لما تبيَّنه من انعطافه وبلوغ كلامه من قلبه، فخَلَت به تلك الطائفةُ التي أغوَتْه حتى خرج، لخوفها من أبيه، فثنَتْه عن انعطافه. وقال له ابن حدار الكاتب: الله الله فينا وفي نفسك، انظر لنا ولك؛ فأنت تعرف أباك وغدره، فارحمنا وارحم نفسك؛ فأنت تعرف طَبْع أبيك وشدة غدره، فإنه يرى أن في استئصال شأفتك، وتقطيع قلبه عليك فيما يأتيه من أمرك وأمرنا بعدك، بما السياسة وتوطيد المملكة توجيه، فخف الله فينا وفيك.
وكان كلام زياد له يشبه معنى ما كاتبه [به] أبوه، وكن فيما ذكره في كتابه بعد دعاء الصدر: وراجع بك إلى الحال التي يحصُل لك عاجلُها، ويتوفَّر عليك ثواب آجلها، ولا حرمك ثواب برِّي وطاعتي، وصرف عنك وزر عقوقي ومعصيتي. ثم قال له فيه: أحين فقأَت النعمةُ فيك أعينَ الأعداء، وبلغَت الغاية القصوى من سرور الأولياء، وبلغتَ السنَّ التي يكون معها انتفاع الوالد بولَده، واستحكَمَت ثقتي بك، وحَسُن ظني بالأيام فيك، واستكفيت على كفايتك وعنايتك عني، أتيتَ ما لا يَحسُن بك، ولا يجمُلُ بمثلك، أستكفي الله، جلَّ اسمُه، مئونة مَنْ حملَك على ذلك، وغلَبك على رأيك، فقد سعى في دينك بما ثَلمَه، وعيشك بما كدَّره، ودنياك بما نقصَها، وآخرتكَ بما أفسدَها، ومروءتَك بما أزرى بها، ونعم الله، عزَّ وجل، عليكَ بما يدعو إلى تبديلها وما، أنا بآيسٍ من أن يُثيبه على عظيمِ ما ركِبه منك، وجليلِ ما جناه عليك في تضييعك حقي، وما ألبسك من ثوب معصيتي، وعرَّضك إليه من سخط الله، جلَّ ثناؤه، وغضبه في إسخاطي ومخالفتي، فإنكَ إذا ميَّزتَه وتبيَّنتَه لم تجدْه إلا أحدَ رجلَين؛ إما رجل أطعنا الله، عز وجل، فيه، فلزمنا أخذ جناية جناها منه، أو رجل طمع في مالِك فاغتنم شُغْلَ قلبك فقال: أفوز بحظٍّ من دنياه في هذا الرهج الساطع، فإن أحسستُ في أمره نقصًا لجأتُ به إلى حيث لا يعرف خبري ولا يدري أين أمري، فميِّز مَنْ شئتَ من خلصائك ونصحائك، فقد ترى أمرك، فإنك لا تجده يخرج من هذَين القسمَين، والله المستعان.
فلمَّا سمع أصحابه قول بكار، قالوا له: كيف رأيت؟ لو تحقَّق القاضي ما يثق به منه لَمَا قال هذا. فكتب لنا جوابًا للكتاب وشَرَط فيه شرائط مجحفة، وأغلظ في خطابه لأبيه بإنشاء ابن حدار الكاتب، وانصرفنا إلى أبيه وعرَّفناه ما جرى بيننا وبينه، ولم تزل بينهما مكاتبات ومراجعات.
وكانا ابن الأغلب قد أنفذ إلى محمد بن قَرْهب عامل طرابلس بخادمٍ له يُعْرَف ببلاغ في جمعٍ من أهل القيروان كثير، فالتقى مع العباس وكان القتال بينهم مناوشةً لا مناجزةً، فقاتل العباس فيها قتالًا شديدًا بنفسه، وكان مع نقص عقله من الرجال الفُتَّاك، وكان جيِّد الشعر [ومن شعره يفتخر]:
وشاع الخبَرُ بمصر أن العباس قُتِل، فتبيَّن الناس في وجه أحمد بن طولون كآبةً شديدة وغمًّا ظاهرًا؛ لأنه وقع بذلك بين شرَّين؛ منها فقْد ابنه إن صحَّ، وذهاب جميع ما كان معه، ومنها التِّرة التي تقع بينه وبين النفوسي وابن الأغلب، إن أمسَك عنها انحلَّت منزلتُه، وإن نهض إليها فبإنفاق الأموال الجليلة العظيمة التي لم تكن في حسابه، فلم يزل مغمومًا مهمومًا حتى صحَّت عنده سلامته، فحَمِدَ الله، جلَّ اسمُه، وتصدَّق بمالٍ كثير.
وكان مما أغاظ أحمد بن طولون من مكاتبات ابنه العباس إليه، حتى استخفَّه إلى الخروج إلى الإسكندرية بنفسه، قولُه في كتابه من إنشاء جعفر بن حدار: إلى الأمير أبي العباس أحمد بن طولون مولى أمير المؤمنين من عبد الله مولى الله، المتمسِّك بمناجي طاعة الله، المنحرف عن زيغِ ظُلَم المعصية إلى وضوح سر البصيرة، القابل من الله موعظتَه، والعامل بما أمر به؛ إذ يقول جل ثناؤه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ وقوله عز وجل: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ سلامٌ على الأمير، وعلى مَنِ استرجع وادَّكر، وفكَّر وازدجر، فأنا أحمَد إلى الأمير الله لا إله إلا هو، العاطف بي إلى أرفع سُنن الهداية، والعادل بي عن ظُلَم سنن الجهالة، وأسألُه صلاةً تامةً يخُص بها وليَّه وخيرتَه من صَفْوته ورسوله ﷺ.
أما بعد، وفَّق الله الأمير لمحالِّ رشده، وجنَّبه مقابح أمره، وسخَّر له الخلق عن غامض ذِكْره، فإن كتاب الأمير ورَد على الحائد منه عن سبيل العظة والتذكير، إلى سبيل التهديد والتحذير، فبعَّد وقرَّب، وآنس وهدَّد، وجمع وفرَّع، يبذل من نفسه باليسير فيها، ويدعو إلى الصلة ويُحدِث غيرها، ويعرض من ماله الأنفس، ويصيِّر من خطابه الأنزر، ويعدِّد من واجب حقه، ولازم مفترضه، ما أعترف به مصدقًا لمن اعترف بالطاعة محققًا، وأذعن به لمن أذعَن وحاد عن الشك، ووقفتُ منه على ما أطنب حاطا وحوف عاما ومهمه [؟] فإن استخذأتُ لاتباع موافقتك وتطامنت ترغبًا عَبْر محاورتك [؟] فلقد اضطرَّتْني الطاعة، وأنجذتني الحاجة، إلى إقامة عذر يتضح لك في استجلاب مرضاتك ما تجاوزت عما يدهمني، فهبتُ في جواب الأمير مقام الأمير.
إن فُهت ضاع دمي [؟] وإن سكتُّ فمثل النار في كبدي، وبالله أستعين على بلوغ طاعته، وإليه الرغبة، جلَّ اسمُه، في استصلاحك، وتحصينك من زيغ شيطانك، وأما ما قرعتَ بذكره ووبختَ موضعه في غير كتابٍ صدر منك في غير جوابٍ ورَد، من انحرافي عن سبيل طاعتك وحنقي عن موالاتك، والْتماسي ابتزازَ ملكك، فوالذي اضطرَّني إلى مجادلة مَنْ أوجب الله، عزَّ وجل، عليَّ حقه، فإن حججتُه أوحشتُه، وإن قصَّرتُ عن الحجة نقصتُ عنده، ما حلتُ عن مخايل ظنك، ولا كنتُ مذ نشأتُ إلا تحت طاعتك، لكنه اكتنفَني أمران واجبان مقرون حقُّهما بحق الله، جلَّ اسمُه، وحق رسوله ﷺ، وسمعتُ الله، جلَّ اسمُه وعلا، يقول: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ.
وأما تخويفك أيها الأمير إياي بخيلك ورَجلك وعَددك وعَتادك، فلو نظرتَ بعين النَّصَفة ونطقتَ بلسان المَعدلة؛ لانفرج عن لُبِّك رَينُ الشبهة، وانفتَح من سمعك ما استدَّ سمعه بالشهوة، فسمعتَ بعد وَقْر، وعرفتَ بعد نُكْر، أني لو آثرتُ ما إليه قصدت من مقاومتك، لدفعتُكَ عن محل عزِّك، وما انحرفتُ عن دار ذلِّك، ولأقمتُ بها مظهرًا الحق داعيًا إلى طاعة الله، عزَّ وجل، وفي جواري من يُجيب صريخ الحق إذا استصرختُه، ثم لو كشف لك عن قناعه، وحسر عن ذراعه، لتطامنَت لوطأتِه الليوثُ الغِضاب، ولتضَعضَعَت لروعته الصمُّ الصِّلاب، فلو لزمت ما بدر إليه ظنك لغوَّرتُ مشاربك، ولَدَثَرتُ مسالكك، ولاستصعَب على الراكب مركبه، ولحيل بينهم وبين ما يشتهون، لكني آثرتُ الله، عز وجل، وما لدَيه، فألقيتُ أزمَّة أمرك سخيًّا بها، وسوَّغتُكها مُطَّرحًا لها زاهدًا فيها، وانقطعتُ إلى ناحيتي هذه لقلة قدْرها وبُعْد محلِّها، لأُخفي شخصي بها لا لما شرطتَ القول فيه وأطلتَ الخطْب به، والله، جلَّ وعزَّ، يجزي الشاكرين.
وأما عَرضُك أمانك قبل انجذاذ الحبل، فإن الله تبارك وتعالى يقول: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ويقول جلَّ اسمُه: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ولقد مدَح خليلَه ﷺ في قطعه رحِمه فيما حصر دينه فقال: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ.
والكتاب طويل، وإنما اختصرنا منه هذا القول.
وسيَّر من الإسكندرية إليه العساكر، وهمَّ بالنفوذ إليه بعدهم، حتى وافاه الواسطي؛ لأنه تهيأَت له الحيلة عند انهزام العباس من النفوسي فتخلَّص بذلك، وعَمِل الحيلة حتى هرب منه إلى أبيه، فوافاه وقد تمَّ عزمه على اللحوق بالعسكر، فمنعه وقال له: حالُه أصغر من ذلك، وأنا أكفيك أمره مع بعض قُوادك، والصواب أن ترجع إلى بلدك ومقرِّ عزِّك، فقَبِلَ منه، وأنفذ الواسطي مع طبارجي وجماعة من وجوه أصحابه، وطبارجي مؤمَّر على الجيش، وعاد أحمد بن طولون إلى مصر، فلمَّا قرب طبارجي من العباس خرج إليه مُدلًّا بنفسه، ونسي هزيمتَه في أمسه، فلمَّا التقى العسكران استأمن إلى طبارجي جماعةٌ من وجوه أصحاب العباس فقَبِلَهم، وخلع عليهم، وقامت الحرب بينهم على ساق، وتعارك الفريقان، فصبَر أصحاب العباس الباقون هُنيهة، حتى دهمهم ما لا طاقة لهم به، ثم ولَّوا منهزمين لا يلْوون على شيء، فذكرتُ قول البحتري:
بسم الله الرحمن الرحيم، كتابي هذا وقتَ غروب الشمس، من يوم الإثنين لسبعٍ بقين من جُمادى الآخرة، وقد وضعَت الحربُ أوزارَها، وأظفَر الله، جلَّ اسمُه، عبد الأمير، وجمْعَ أوليائه، وأيَّدهم ونصرهم وأحسن معونتهم، ودمَّر على الملعون العاقِّ الشاقِّ الغادر العباس، وضرب وجهه، وقتل أكثر الفجرة الذين كانوا معه، وأمْكن من خلقٍ كثير منهم، والحمد لله الذي أجرى الأمير، أيَّدَه الله، على عوائده عنده، وجعل أولياءه المنصورين، وحزبه الغالبين، وأعداءه ومن عدل عن أمره المقهورين، حمدًا يكون قضاءً لحقه، وكفاءً لإحسانه، وامتراءً للمزيد من فضله، تبارك اسمُه وجلَّ ثناؤه.
وكنتُ عند نزولنا المنزل المعروف بدي حنى [؟] قد أكملتُ أمر المقدمة والساقة والميمنة والميسرة، وسرنا على تعبئة، حتى وافينا المنزل المعروف بدينار الذي كتبتُ كتابي هذا منه، وكان اللعين قد وافى هذا المنزل من أول النهار، مستعدًّا بجموعه وحشوده، فلمَّا توافت الفئتان تسرَّع إلينا مُدِلًّا بنفسه، متماديًا في غيِّه، فحملَت ميمنتُه على ميسرتنا، فأعان الله، جلَّ اسمُه وله الحمد، الأولياء على فلِّها، وحملَت ميسرتنا على ميمنته، وحملتُ أنا في أثَرها من القلب، محتسبين واثقين بنصر الله، عزَّ وجل، متوكِّلين عليه، فولَّى القوم منهزمين، قد ضرب الله وجوههم، ومنح أكتافهم، وقذف الرعب في قلوبهم، وأتبَعَتهم الأولياء يقتلون فيهم ويأسِرون منهم، وقبل ذلك ما استأمن إلينا جماعة من مشهوريهم، كتابي يرِد على الأمير، أيده الله، بأسمائهم، ولم يُصِبْ أحدًا من الأولياء بحمد الله شيءٌ يكرهه، ومضى اللعين على وجهه في نفرٍ يسير من غلمانه، فأتبعتُه بصيرًا وأنعج وكنجورًا وهم مُدْركوه بمشيئة الله وعونه، وفي غدٍ نكتُب إلى الأمير، أيَّدَه الله، بشرح القصة، وبادرتُ بكتابي بهذه الجملة ليتعجَّل الله، عزَّ وجل، إليه السرور بما منَّ الله، جلَّ اسمُه، ويحمده على ما أوْلى من إنعامه.
قال مؤلِّف هذا الكتاب: وورد الخبر بأن الطائفة التي أنفَذَها طبارجي خلف العباس لحقَتْه، فقُتِلَ من غلمانه جماعة وقبضوا عليه أسيرًا فأتَوا به طبارجي، فقيَّده وحملَه من وقته إلى أبيه، وأمر بصيرًا وأنعج وكنجورًا أن يتقدَّموا به إليه، وأنفذ كتابًا بالشرح، فلمَّا وصل إليه الكتاب حمد الله كثيرًا وتمثَّل، وما تمثَّل بشعر قط:
وأُدخل بصير وأنعج وكنجور وأصحابهم فخلع أبوه عليهم، وأحسن إليهم، وأُخرجوا بين يدَيه وهو يرى ما فعل بهم من الجميل، وهم مسرورون فرِحون، وأمر به إلى حجرة فاعتُقِل فيها، ولم يزل معتقلًا حتى وافى طبارجي.
فلمَّا وافى أمر أحمد بن طولون بإخراج الجيش لتلقِّيه، فخرج بأَسْره وتُلقِّي، ودخل ودخلوا بين يدَيه في أحسن زيٍّ وأجمل تعبية، والأسرى بين يدَيه والرءوس، فشقَّ البلد حتى وصل إلى الميدان، فلمَّا دخل إلى أحمد بن طولون خلع عليه خِلعًا حسانًا، وحمَل بين يدَيه أكياسًا كثيرة دنانير ودراهم، وحملَه على فرسٍ نادر بسَرْجه ولجامه، وخيلٍ تُقاد بين يدَيه، وانصرف إلى داره في أجلِّ حال.
وأمر أحمد بن طولون بالأسرى إلى الحبس، وبالرءوس أن تُنصب على القِسيِّ ليراها مَنْ لم يَرَها ويشاهدها، ويشاهَد منها كل معروف، فيأيس منه مِن أهله مَن خفي عنهم أمره. وأمر بأن تُبنى دكَّة عظيمة السَّمْك عالية خارج الميدان، فبُنيَت فلما فُرغ منها ركِب إليها وصَعِد من سُلَّمٍ عُمل لها [من] حجارةٍ عظيمة، ففُرش له عليها، وجلس عليها وحده، منفردًا من سائر أصحابه إلا خواص غلمانه.
فلمَّا تفرق الجمع أمر به فبُطِحَ وضربه بيده مائة مقرعة، فكان يضربه ودموعه تنحدر، كأنه [هو] المضروب، وأمر باعتقاله في داره!
قال مؤلف هذا الكتاب: وغلَب الحسن بن مهاجر على أحمد بن طولون، فحسَّن له جمع الأموال، ومنعه من سماحته وجريه على عاداتٍ كانت له جميلة؛ فقَبِل رأيه وتغيَّرت سماحتُه، واستقصى ابن مهاجر على الناس، ومنع كل مَنْ كان يبسط عليه عائدته، ويشمله معروفه وفائدته، وظهر ذلك فانحرفت عنه القلوب، وتغيَّرت له النفوس كما قالت الحكماء: تركُ العادات ذنبٌ محسوب.
حدَّث أحمد بن محمد الواسطي أحمد بن إبراهيم الأطروش بعد وفاة أحمد بن طولون، وقد اجتمعا فتفاوضا أخباره فقال: فارقتُ أحمد بن طولون، رحمه الله، وقتَ رجوعه إلى مصر من الإسكندرية، ورجوعي إلى برقة مع طبارجي للقاء العباس، وهو أميرٌ نبيل سمْح واسع الصدر في العطاء والبذل في أبواب الخير على حسب ما رأيتم منه، وعُدتُ من برقة مع طبارجي إليه وهو أميرٌ ممسك ضيِّق الصدر بخيل مطَّرح لما جرت به عادته، فتطيَّرتُ يشهد الله له بذلك؛ لأني ما رأيتُ سمحًا قط ولا تُحدِّث به انتقل عن سماحته، ودقَّ نظره في توفير ماله، إلا عند حضور منيَّته.
فلمَّا خلا قلبه من ابنه العباس، واطمأن بالظَّفَر، وأمِنَ ما كان يتخوفُه، تحدَّرت عليه الغِيَر من جهةٍ أخرى، فتنكَّر عليه لؤلؤ غلامه الذي كان أقربهم إلى قلبه محلًّا، وأشدَّهم مكانًا وزُلْفى! ربَّاه صغيرًا، ومدَّه كبيرًا وكهلًا، وعلى حسب ذلك سدَّ به الثُّلْمة التي خاف منها، وجعله المحاميَ والذابَّ عنها، فكان دخول الخلَل عليه من أوكد احتياطه، وانحلال مُبْرَمه من أوثَقِ رباطه.
نفقت لي دابَّة، فاستأذنت لؤلؤًا في الدخول إلى الفسطاط لأعتاض منها، فأذن لي، فأخذتُ كتابه إلى أحمد بن طولون مولاه، ودخلتُ ليلًا، فإني لسائرٌ إذ تعثَّر فرسي بشيء، فنزلتُ أنظر، فأصبتُ كيسًا فأخذتُه وركبت، ووافيتُ منزلي فنظرتُ الكيس فإذا به مملوءٌ دنانير، وكانت لي امرأةٌ صالحة، فحدَّثتُها بخبره فأحضَرَت الميزانَ فوزنَت الدنانير، فكانت سبعمائة دينار، فقالت لي: يا هذا لا تَشْرَه نفسُك إليه، فلعلَّه لمن لا يملك غيره، ولكن عرِّف به وخذ جُعلك منه حلالًا موفَّرًا، يجعل الله لك فيه البركة، فسكنتُ إلى قولها، فلمَّا أصبحتُ أخفيتُ شخصي من أن يراني أحد، فيعرِّف أحمد بن طولون خبري، فأحتاج أن أقيم الحجة في دخولي، فوجَّهت إلى صديقٍ لي في ابتياع دابة عِوضًا من دابتي.
فبينا أنا كذلك إذ سمعتُ النداء: «مَنْ دلَّنا على كيس فيه دنانير جُعْله مائة دينار حلالًا طيبًا وأجره على الله.» فقالت لي زوجتي: كيف ترى؟ مائة دينار حلالٌ خير من سبعمائة حرام. فقلتُ للغلام: أدخل المنادي. فدخل ومعه إنسانٌ من التجار سيماه تدُل على أنه خشِن الطبع، فقلت للمنادي: أين صاحب الكيس؟ فقال: هذا هو. فقال لي: الكيس عندك؟ قلتُ: نعم، وجدتُه في الطريق بموضع كذا وكذا. قال: هاته. فأخرجتُه إليه، فلمَّا رآه لطم وجهه، وقال: ذهب مالي. وصاح: أنا بالله وبالأمير. ثم قال لي: الأمير بيني وبينك. فخشيتُ أن يسمع أصحاب الأخبار، فيذهبوا بي إلى أحمد بن طولون، فبادرتُ بالخروج معه اضطرارًا، وقلت لزوجتي: رضيتِ؟ هذا رأيكِ الحسن ومشورتكِ الجميلة، ولكن ليس العجب إلا مني حيث قبلتُ منكِ. فقالت لي: لا تخف فإن الله، عزَّ وجل، معك.
قال مؤلِّف هذا الكتاب: كان أحمد بن طولون إذا أنكر على لؤلؤ شيئًا أوقع بكاتبه محمد بن سليمان، وقال: هذا منك ليس منه. فحمل محمدَ بن سليمان الخوفُ من أحمد بن طولون على أن حسَّن للؤلؤ حَمْل جُملةٍ من المال في الأعمال، والاستئمان إلى الموفَّق، فمنع عاملُ الخَراج لؤلؤًا من المال، واستخف برأي محمد بن سليمان، حتى أخذ جميع ما أراد من أموال الأعمال، فلمَّا حصل له المال قال له محمد بن سليمان: قد علمتَ ما فعَل بابنه العباس، وهو أعزُّ الناس عليه، وقد تخلَّصنا منه، فإن لم تبادر وإلا لم نأمنه. فأجابه إلى ما أشار به عليه.
فكتب محمد بن سليمان إلى الموفَّق عن لؤلؤ كتابًا يُعرِّفه رغبتَه في المصير إليه، والتصرُّف تحت أمره ونهيه، والدخول في طاعته، فاستَبشَر الموفَّق لذلك، لما في نفسه من مولاه أحمد بن طولون، وابتهج له، ورأى أن ذلك إحدى الفرص التي ينتهزها ويبادر إليها، فأجابه بأحسن جواب وأنفذ إليه خِلَعًا وحُملانًا.
وكانت مع لؤلؤ طائفةٌ من خواصِّ أحمد بن طولون، فقدَّر فيهم أنهم يساعدونه على ما اختاره، فلمَّا تبيَّنوا حالَه أنكَروا ذلك ولم يساعدوه، فكان أكثر ما قدَروا عليه، لما خرج الأمر من أيديهم، أن تركوه وانصرفوا عنه إلى مولاه بجملة خبره، فلمَّا وردوا عليه وشرحوا له حاله، وما هو عليه، تكدَّر عليه مشربه الذي كان يشربه فيه، ومرَّ مذاقه الذي كان يستحليه، لنكد الدنيا وأيامها، كما قال ابن الرومي:
وظن أحمد بن طولون أن المخادعة تمكنه من لؤلؤ والملاطفة تَثْنيه، ولم يعلم أن سبب زوال ملكه يكون على يدَي محمد بن سليمان لِمَا حقده عليه من أفعاله به وحقَّقه منه.
فكاتَب أحمد بن طولون لؤلؤًا [وأرسل إليه] كتابًا يلاينه فيه، ويذكِّره تربيته له، وما يجب من حقه، وكان من بعض ألفاظه في مكاتبته له: «وفَّقَك الله لطاعته، وراجع بك إلى ما هو أعوَدُ عليك دينًا ودنيا برحمته، إنه ليس شيءٌ يبلغه والدٌ شفيق، ومستصلحٌ رفيق، من مواصلةِ وعظ، وتنبيهٍ على حظ، أو دلالةٍ على رشد، وحضٍّ على سلوكِ قَصْد، إلا وقد بلغنا أقصى نهايته [معك] وأبعد غايته فيك، ضنًّا بك وشُحًّا عليك، وتأميلًا لمراجعتك، وما تركنا شيئًا ظننَّاه يؤنس وحشتك، ويرفع محلَّك، ويتجاوز به حق حرمتك، إلا وقد أتينا منه، على ما نرجو أن يكون لروعتك مُسكنًا، ولنفسك مؤنِسًا ومُطيبًا، ولك من كل خوف موقِّيًا.
وليس يمنعنا ذلك من تكرير القول عليك، رجاءَ أن تُصادِف مواعظُنا إياك إصغاءً إليها وإصاخة لها، لينفعك الله، عزَّ وجل، بها نفعًا كبيرًا، ويصرف بها عنك شينًا كثيرًا، وقد تبيَّنتَ بما كان من مفارقتك لنا ما قارفتَه من معصية الله، جلَّ اسمُه، فينا، وتعرُّضك لما تعرضتَه من سخطه بانحرافك عن طاعتنا، واختيارك لنفسك ما كنتَ عنه غنيًّا، وعليه ثقة أمينًا، فانظر هل نِلْتَ بذلك فيما بلغتَ عاجل دنيا؟ أو آجل صلاحٍ وجزيل [أجر]؟ بل قد سعيتَ في فسادهما، ثم تأمل الحال التي أنت عليها، والحال التي انتقلتَ عنها، في أيهما كنتَ أرخى بالًا وآمن سِرْبًا وأَروَح بدنًا وقلبًا، لتعلم أنك لم تُوفَّق في ذلك، ولم تُسدَّد في اختيارك؛ لأن الله، عزَّ وجل، وكَلَك إلى نفسك، فاستفزَّك الشيطان وأضلَّك.
وقد كتبتُ إلى أمير المؤمنين وإلى مَنْ لعلَّك تقصده، أُعلِمُهم أن المال الذي اختزلتَه من أعمالنا هو مما أمرتُك بحمله إلى باب السلطان، أعزَّه الله، ومبلغُه ألفُ ألف دينار، فأي حجةٍ أبلغ لهم من كتابنا إليهم أن المال لهم ومحمولٌ إليهم؟ فهل تكون بعد استنضاف ما معك إلا بين أمرَين؛ إما أن يردُّوك علينا متقرِّبين بك إلينا، أو نبذل لهم في ردِّك إلينا مالًا يرونك عِوضًا منه؟ فيكون مصيرك إلينا على جهة القهر والأَسْر ما الموت أيسر منه، أفهذه المنزلة خيرٌ لك أو مراجعتك الواجب عليك؟ وإنابتك إلى ما هو أوْلى بك، مما تختاره ويرجع إلى محصول، ويئول إلى معقول، فيكون مصيرك إلينا بوجهٍ مُسفِر غير كاسف، وقلبٍ مطمئنٍّ غير خائف.»
والرسالة طويلة، وإنما اقتصرنا على هذا منها.
وكان أحمد بن طولون بإقباله [يصيب] فيما يتخوَّفه من ظن يظنُّه وحَدسٍ يحدُسه مما قدَّمنا ذكره بالمعنى فيه، المنبه على صلاحه، حتى إذا بلغ الكتاب أجله انقلبَت العين، وتتابعَت المِحَن.
قد منعني الطعامَ والشرابَ والنومَ خوفي على أمير المؤمنين من مكروه يلحقه، مع ما له في عنقي من الأيمان المؤكَّدة، وقد اجتمع عندي مائة ألف عنان أنجاد، وأنا أرى لسيدي أمير المؤمنين الانجذاب إلى مصر، فإن أمره يرجعُ بعد الامتهان إلى نهاية العز، ولا يتهيأ لأخيه فيه شيءٌ مما يخافه عليه منه في كل لحظة، فإن رأى أمير المؤمنين، أيَّدَه الله، ذلك صوابًا قدَّمه إن شاء الله، وأظهر الخروج لهذه القَصَبة.
فقال له: «دعوتك لأستشيرك في أمرٍ أردتُ أن أفعله، لعلمي بجودة رأيك وصحة فهمك. فقال له: أين الرأي مني اليوم، أيها الأمير، وهذه حالي؟ فقال له: أنت أوفَى رأيًا، وأذكى قلبًا، من أن يختلَّ عليك ما الْتمستُهُ منك، أو يَعتريَك ما يعتري ذوي النقص. فقال: يقول الأمير، أيَّدَه الله، ما شاء، والله، جلَّ اسمه، الموفِّق. فقال له: إن أبا أحمد الموفَّق قد احتوى على أخيه أمير المؤمنين المعتمد بالله، ونفذ أمرُه في كل ما يريد، وتمكَّن من إعناته بمَن ضمَّ إليه أمير المؤمنين مِن الرجال والجيش الذي استدعاه منه لقتال البصري، فلمَّا حصل ذلك له صارت له عدَّة على أمير المؤمنين، وقد خِفْتُ حنثي في يميني التي له في عنقي، إن قعدتُ عنه، وقد عزمتُ على الخروج إليه بنفسي وجميع جيشي، حتى أنصر دعوتَه، وأنقلَه إليَّ، فما ترى؟»
أرأيتَ أيها الأمير لو انتقل إليك، وتمَّت للأمير حمايتُه من أخيه، وأجابك إلى ما دعوتَه إليه، أكان له في قصرك دارٌ يسكنها غير دارك؟ فأول ما يستعجل الأمير أن ينتقل عن هذه الدار إلى ما لا يقاربها ولا يدانيها، بل يضيق بمن يحوطُه، بل لا يسع بعضهم، ثم يكون الأمير إذا دخلها كبعض الزوار.
وأقلُّ ما في هذا الباب الثاني أنه إذا دخل الأمير للسلام يكون قائمًا، وذلك النديم أو المُلهِي جالسًا، لموضعه منه، ومنبسطًا إليه. ولعل هذا إذا شاهدَه الأمير أخرجه إلى أكثر مما خرج إليه أخوه الموفَّق فيه، ثُمَّ لا يأمن الأميرُ أن يسألَه بعض غلمانه في ضَيعة من ضياعه أو عملٍ فيه أخصُّ غلمان الأمير، فلا تُمكِنه مخالفتُه في كل ما يستدعي منه، ثم اعتراضات حاشيته في البلد وأصحابه، وكذلك في الأعمال، وطلبهم ما يشقُّ على الأمير ويعظُم، فلا يتهيَّأ له منعهم، فإن منع أغضَب أمير المؤمنين، ثم الأمير بعد هذا غيرُ آمنٍ من أن تحمله المحافظة لمن يسألُه استنزالك عن موضعك فيجيبه، ليكافئه على حالٍ قد تقدَّمت له عنده إلى محبته، ولا يُخالف إرادته.
وحسبُك أيها الأمير أن تستدعيَ رجلًا إلى بلدك وملكك، فإذا بلَّغتَه الغاية القصوى، وسوَّغتَه كل ما كدَحْتَ فيه دهرك، رأى أن ذلك كله له ومن حاله، وأن الذي قد بقي معك مما تتجمَّل به بين يدَيه له دونك، وأن إبقاءه لك تفضُّل عليك.
فقال له أحمد بن طولون: حسبُك حسبُك. وأمر بردِّه إلى محبسه.
قال أحمد بن محمد الواسطي لأحمد بن طولون: أيها الأمير، أكان جزاء هذا الرجل على هذا الرأي السديد الصحيح الذي قال فيه الحق ومَحضَ النصيحة أن يُرَدَّ إلى محبسه؟! قال: نعم، إني تأمَّلتُ أمره فوجدتُه قد نصحني في دنياي وغشَّني في ديني وآخرتي، ثم تأمَّلتُ رأيه وجوْدَته وصحتَه وما حضَره منه بغير فكرٍ ولا استعدادٍ وهو على هذه الحال الصعبة القبيحة المفنية للْحِس فضلًا عن غيره، فكيف لو رأى نفسه مُطلقةً وهو نافذ الأمر والنهي يأكل طيبًا ويلبس لينًا ويشمُّ عطرًا؟ [إذن] لاستدَّ رأيُه، ولبَعُدَ غوره، وتمكَّن من عدُوه، بقوة حيلته، وحزْم رأيه. إن أجهل الأمراء من أعطى مقادتَه للكُتَّاب العقلاء؛ لأنهم أسدُّ الناس رأيًا وأقلُّهم دينًا، بل يقبل رأيهم من غير أن يُظهِر لهم فيه استصابة!
قال أحمد بن محمد الواسطي: فعجبتُ من قوله، وازددتُّ حذرًا له وخوفًا منه، وكان ابن عمار البائس قد ظن بإخراجه إياه إليه، ومشاورته له وما مَحضَه من النصيحة في مشورته، أن في ذلك فرجَه وخلاصَه وانحلالَ عقدته، فلمَّا ردَّه إلى الحبس أيس مما كان يتوقَّعه من الفرج، وصدَع قلبَه الغمُّ فمات.
فلمَّا قرأ أحمد بن طولون كتابه بذلك، أحضر شيوخ كُتَّابه وقُوَّاده وشيوخ البلد، وأحضَر ابنه أبا الجيش فاستخلَفه على البلد، وخلَّف معه جماعةً من شيوخ قُوَّاده منهم محمد بن أبَّا وغيره، ووصَّاه باتباع أمرهم ووصَّاهم به، وأكَّد على الجماعة في مراعاة البلد والرعية، والمحافظة على ما يكون منه تمامُ السياسة واستقامة الحال وحُسن الأُحدوثة، وحذَّر ابنه من التشاغُل بلهو أو بشيءٍ غير ما قلَّده إياه، وخرج إلى الشام وحمل معه ابنه العباس مقيَّدًا في قُبَّة، وهو يُظْهِر في قوله وفعله أن خروجه لنصرة المعتمد، والكامنُ في صدره لؤلؤ غلامه، وهو يودُّ أن الأرض طُويَت له إليه، أو قذفَتْه بين يدَيه، وهو على غاية من الكآبة والغمِّ بأمره، وكان قد استقر عنده أن الموفَّق قد أنفذ إليه الخِلَع، وأنها قد وصلَت إليه، ولم يتحقَّق وصوله هو إليه، فلمَّا بلغ الرملة صَحَّ عنده دخولُ لؤلؤ العراق، وذلك في آخر سنة ثمانٍ وستين ومائتَين.
قال مؤلِّف هذا الكتاب: فلمَّا بلغ أحمد بن طولون إلى دمشق، وشاع الخبر بحركة المعتمد إلى مصر، أقام أحمد بن طولون بدمشق مترقِّبًا له، حتى وافاه خبر المعتمد مع رسوله النافذ كان إليه بالمال، يخبره بحركته إليه، وقد فَصَل من الحضرة، وأنه يسلك على طريق البرِّية إلى مصر بمن خفَّ معه من ثقاته، فاضطرب أحمد بن طولون لذلك، وتندَّم على مكاتبته بما حرَّكه على المسير إليه، وتبيَّن كلَّ ما ذكره له ابن عمار أنه يكون كله، فقَلِق لذلك وتصبَّر له، حتى أتى من إقباله ما لم يكن في حسبانه، وبما جرت به عادة الله، جلَّ اسمُه، عنده.
فلمَّا أمسى الليل بعث ابنه محمدًا وبابنَي أخيه في جماعة ليحفظوا المعتمد، فلمَّا أصبح دخل على المعتمد فسلَّم عليه وقال له: يا أمير المؤمنين، الأمر مضطرب بناحية أخيك لانزعاجك عن مستقرك، وما مقام مولاي ها هنا معنا؟ فقال له: احلف لي أنك تنحدر معي ولا تسلِّمني. فحلف له وانحدر به إلى سُرَّ مَنْ رأى، فقال المعتمد في ذلك:
وكتب عبد الحميد: يقول عبد الحميد بن عبد العزيز القاضي بدمشق والأردن وفلسطين: قد قُرئ عليَّ هذا الكتاب وهو قولي، والحق عندي، وهو الذي أفتيتُ به، وقد صح عندي غَدْر الناكث المعروف بأبي أحمد، وتعدِّيه وخروجه عن طاعة أمير المؤمنين، أيَّدَه الله، وأنه قد استوجب بما كان منه إسقاطَ اسمه وخلعَه، وكتب بخطه.
وكتب أحمد بن أبي العلاء قاضي ديار مصر بمثل ما كتب صاحباه حرفًا بحرف.
وتوقَّف بكار بن قتيبة في شهادته، فغضب أحمد بن طولون لأنه لم يشرح كما شرحوا، ولا شهد كما شهدوا، وتوقُّفُه كان لموضعه من الورع والدين، فكتب: شهِدَ بكار بن قتيبة القاضي بمصر والإسكندرية ونواحيهما على ما سُمي ووُصف في الكُتب من أولها إلى آخرها من إحسان أمير المؤمنين، أيَّدَه الله، إلى الناكث أبي أحمد بن جعفر المتوكل على الله وتفضُّله عليه، وبما كان من تعدِّيه على أمير المؤمنين، وأن الناكث أبا أحمد قد استحق بما كان منه خلعَه وتركَ الدعاء له. وكتب بكار بن قتيبة بيده.
وكان أحمد بن طولون لمَّا أسقط اسمه والدعوة له على المنابر، أمر أن يمحُوا اسمه عن الطُّرُز التي قد كُتِبَت قبل ذلك، ولا تُكتب فيما يُستأنف، فلم يبقَ بمصر ولا بنواحيها ثوبٌ على طرازه اسم الموفق إلا نُقِض، فلَحِق الناس في ذلك مشقة.
وعمل شعراء الشام في حضرة الخليفة أشعارًا كثيرة، فمن ذلك ما قاله إسحاق بن طريف المخزومي في شعرٍ له طويل:
وقال عبد الرحمن بن سلامة الشيباني:
وقال منصف بن خليفة الهُذَلي في شعرٍ طويل له:
وقال النابلسي الضرير من شعرٍ له طويلٍ يُخاطب فيه أحمد بن طولون:
يعني أبا أحمد الموفَّق لمَّا نفاه المهتدي فردَّه المعتمد:
يعني اعتصامه بيازمان الخادم.
يعني إسحاق بن كنداج في معاضدَته له على المعتمد.
وقال محمد بن بشر العنسي:
قال مؤلِّف هذا الكتاب: وتواتَرَت الأخبار من الحضرة إلى أحمد بن طولون ظهر أبي أحمد الموفَّق على الناجم البصري، وأنه قد شارفَ القبضَ عليه في آخر سنة تسعٍ وستين ومائتَين، فخزلَه ذلك وأقلَقه، وكان الموفق قد أراد لما كان فيه من الفضل والعقل، وجودة التحصيل، أن يستشفَّ أمر لؤلؤ في مولاه أحمد بن طولون، فقال له: تخرج إليه لتقاتله. فأسرع الإجابة إلى ذلك فنقَصه ذلك عنده ووضَعه من عينه؛ لأن جميع ما كان يفعله الموفَّق بأحمد بن طولون إنما كان غيرةً عليه ألا يكون له كما هو لأخيه، وكان يقف على فضلِه ومحلِّه فيتأسَّف ألا يكون له ومعه.
فتقدَّم الموفق بأن يكتب جريدةً بأسماء مَنْ شَخَص مع لؤلؤ، وأن تكون عِدَّتهم مائة ألف رجلٍ فارس وراجل. وتقدَّم سرًّا إلى الكُتَّاب بأن يدافعوا عن ذلك، فظنَّ لؤلؤ أن الأمر حقٌّ؛ فجدَّد آلته واستبدَل بدوابِّه وزاد منها في عِدَّتها، وشمَّر ذيلَه لمحاربة مولاه، والموفَّق يتأمل من حاله في كل وقتٍ ما قد عَمِي لؤلؤ عنه، ويُقدِّر أنه لا ينتقد عليه قُبْح ما قد عَمِل على أن يَحمِل نفسه عليه.
حدَّثنا عبد الله بن الفتح عن ابن الداية، وكانت له من أبي أحمد الموفَّق منزلة، قال: لمَّا تأمَّل الموفَّق أمر لؤلؤ وما عزم عليه في أمر مولاه؛ نغَّصه بعد سروره كان لمجيئه إليه، فتوقَّف عن إنفاذه، وأمر كاتبه صاعد بن مخلد وجماعةً من خاصته بمكاتبة أحمد بن طولون، وتوبيخه على المبادرة بخلعه، وإسقاط اسمه، ويقولون: إنه إنما كان يجب أن تفعل ذلك لو رأيتَ بالخليفة حادثًا، فأما ولم يجرِ إلا منع أمير المؤمنين من فعل شيء آثَرَه لو بلغَه لعاد عليه وعلى مملكته ضرَر، فذلك غيرُ منكرٍ يُوجِب ما تسرَّعت إليه؛ لأنه ليس قادحًا في يمين، ولا مُخْرجًا عن بيعة، ولا عادلًا عن طاعة، وأنت تعلم أن خواصَّ الملوك يردُّون أمرهم في كثيرٍ مما يُحبونه احتياطًا لهم وعليهم، ولا يخرجون به عن طاعة، ولا يحنثون في بيعة، وأنه قد كان يجب عليك أن تصونَ نفسَك عن سوء الظن بنا، في أننا نستجيز أن نحدِث في أمير المؤمنين حادثةً نبرأ إلى الله الكريم منها، ويحلفون أن اللعن الذي خرج عن غير إرادةٍ مني ولا محبة ولا اختبار، وأني لكارهٌ لما جرى من ذلك، ويُشيرون عليه بأن يكاتبني بما يُزيل به ما قد وقع بيننا وبينه.
قال: وكتب بما أمرهم به إليه عن أنفسهم، وحلَفوا له على كراهية الموفَّق لما جرى من اللعن وغيره، ويقولون في كتبهم إليه إن الأحسنَ بك والأجمل، لما خصَّك الله به من الفضل، والمحل الجليل، والمروءة المقرونة بالدين، أن تكتب إليه تذكُر فيه ما أنت مؤثِرٌ له من طاعته، وما تُوجِبه من حقه ورعايته، وما يُشاكِل ذلك مما أنت، بجميل فعلك ووافر تحصيلك، أهدى إليه إن شاء الله.
وضُمِّنَت الكُتب ما لا زيادة عليه من استعطافه، وما يبعثه على إجابتهم إلى ما حبُّوه وأُنْفِذَت إليه بذلك، فلما وصلَت إلى أحمد بن طولون الكُتبُ علم أنهم لم يكتبوا إلا بما اختاره الموفَّق وأمرهم به؛ فسرَّه ذلك وأجاب جماعتهم يقول: إن الموفَّق أحد مواليه، وإنه إنما انحرف عنه لحصره الخليفة وأسْره إياه، وأنه لو خلَّاه مع اختياره، وأزال عنه الموانع التي ألزمَه إياها، ولم يَحُلْ بينه وبين أمره ونَهيه، وامتثل أمره على رسمه كان، ولم ينحرف عن طاعته، ولا عَدَلَ عن محبته وإرادته، لكان كبعض خدَمه، وإن جميع ما في يده من مال عمله محفوظٌ للخليفة، وإن أقام على ما هو عليه من حَصْره إياه في يده وتوكيله به، حاربتُ عنه ولو لم يبقَ معي أحد، فإني أرجو أن أُرْزَقَ الشهادة على حُسن الطاعة.
وكانت الكتب قد وردَت عليه سرًّا فأنفَذ الجواب عنها سرًّا، فلمَّا وصلَت إلى الموفَّق ووقف عليها سَرَّه ما تضمَّنَته، واستحسَن هذا الفعل من أحمد بن طولون، وأن ذلك منه إنما هو عن إرادةٍ قوية في طاعتهم، ونيةٍ صحيحة في موالاتهم، وكان الموفَّق كامل العقل، متمكِّنًا من نفسه، حَسَن المعرفة، ذكي الروح، فسكَّن ذلك منه ما كان في نفسه على أحمد بن طولون، وأمال قلبه إليه في كليته، وأيس من أن أحمد بن طولون يتخلَّى عن القيام بأمر المعتمد، ففَعل للمعتمد كل ما اختاره، ونقَله إلى قصره، وبلَّغ له كل ما يُحبه، وأزال الموكَّلين عنه والتشديد عليه، فأضرب عن كل ما قد عزَم عليه في أمره، كل ذلك [رعايةً] لأحمد بن طولون، ولكبره في نفسه وحاله وقوة يده، وفضله في قلبه، وامتثل كل ما رسمَه في كُتبه وزيادةً عليه رضًا له، وراسَل الموفَّق المعتمد يقول له ما اختار لعنه وإنه لنادمٌ عليه، وعلى كل ما جرى في أمره، وشَكَر له حسن محافظته عليه، وحسن طاعته له، وسأله مكاتبتَه بما يزول به ما بينهما، فسَرَّ المعتمدَ هذا من أخيه الموفَّق.
وكتب إلى أحمد بن طولون كتابًا بخطه يسأله الرجوع عما هو عليه لأبي أحمد الموفَّق، ويعرِّفه ما جرى في أمره، وما فعله ورجع عنه، ويشكُره على ما كان منه حتى عاد له الأمر كما أحبَّ، ويسأله أن يردَّ الدعوة له على المنابر، وإعادة اسمِه إلى الطرز، ويعود إلى ما كان عليه من استقامة الحال، وأنفَذ الكتاب إليه مع الحسن بن عطاف، وأنفَذ معه كتاب الموفق بخطِّه بإسقاط اللعن عن أحمد بن طولون، فلمَّا بلغ الحسن بن عطاف الرقَّة بَلَغَتْه وفاة أحمد بن طولون فرجع إلى الحضرة.
وكان قد اتصل بلؤلؤٍ غلامِه أن مولاه قد باع نساءه وأولاده في سوق الرقيق بمصر، وقبض على جميعِ ما كان له في داره، فبلَغ ذلك منه كلَّ مبلغ، وأقبل إلى الموفق فبكى بين يدَيه وقبَّل الأرض وعرَّفه ما بلغه عن حَرَمِه وأولاده، وسأله إنفاذ الجيوش معه على ما كان عزَم عليه، وضَمِن له أنه المجهود في طاعته، حتى يأخذ له البلد، وبسط لسانه في مولاه، ولم يَدَعْ شيئًا يُغْري به الموفَّق ويوحِش به قلبَه على مولاه حتى نقلَه، فوعده الموفَّق بإنفاذ الجيوش معه وخلَع عليه، وحُمِل على دابَّة من دوابِّه، وتقدَّم إلى الكُتَّاب بتجريد الجيوش معه، كل ذلك سخريةً به ومدافعةً، إلى أن يَرِدَ الجواب مع الحسن بن عطاف، فيقبض حينئذٍ على لؤلؤ رضًا لأحمد بن طولون لما شاهده من انحرافه عن مولاه، وقُبْح فعله بمن ربَّاه وأحسن إليه، وكان هذا الفعل من الموفَّق لما فيه من العقل والرياسة والمروءة، وعَمِل على أن يوُكِّل به ويرُدَّه إلى أحمد بن طولون عند ورود جوابه عليه.
قال المنصور للربيع حاجبه ومولاه، وإنما ملَكَه كبيرًا وقدَّمه واصطفاه رجلًا: يا ربيع، سَلْ حاجتك؛ فلقد سَكتَّ حتى نطقْت، وخففتَ حتى ثقلْت، وقلَّلتَ حتى كثَّرت. فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أرهبُ بخلك، ولا أستقصرُ عمرك، ولا أغتنمُ مالك، وإن يومي بفضلك عليَّ لأحسنُ من أمسي، وغدي في تأميلك أحسنُ من يومي، فلو جاز أن يشكرك شاكرٌ بعين الخدمة والمناصحة لَمَا سبقني إلى ذلك أحد. فقال له: صدقت، علمي بذلك أحلَّك مني هذا المحل، فسَلْ حاجتك؛ فإني أُقسِم عليك لتفعلنَّ. فسأله أشياء، فوقَّع له بها، وبجائزة حسنة.
وما يُشَكُّ في أن لؤلؤًا قد وصل إليه من مال صاحبه أكثر مما وصل إلى الربيع؛ لأن المنصور كان رجلًا متقلِّلًا قنوعًا، فكان في عطائه على قَدْر ذلك، ثم ازدادت حال الربيع حتى قلَّده وزارتَه بلزومِه مناصحتَه.
ولَعَهدي بلؤلؤ في آخر أيام هارون بن أبي الجيش خُمارويه، وقد دخل إلى الفسطاط فما رأوه إنسانًا، ولا أوْلوْه إحسانًا، ومنعوه أن يلبَس سيفًا ومِنْطَقة، فكان يركب بدُرَّاعة وغلامٌ واحد بين يدَيه، كأنه من بعض وكلاء الريف، فكان ما نزل به ثمرة العقل السخيف والفعل القبيح.
وليت شِعْري على من تُهوِّل بالجنود وتُمخرِق بذكر الجيوش، ومَنْ هؤلاء المسخَّرون لك، الباذلون دماءهم وأموالهم وأديانهم دونك؟ دون رزقٍ ترزقهم إياه، ولا عطاء تُدِرُّه عليهم، فقد علمتَ، إن كان لك تمييز أو عندك تحصيل، كيف كانت حالك في الوقْعة التي كانت بناحية أطرابلس، وكيف خذلك أولياؤك والمرتزقة معك حتى هُزِمْتَ؟ فكيف تغترُّ بمن معك من الجنود الذين لا اسم لهم معك، ولا رزق يُجرى لهم على يدك؟ فإن كان يدعوهم إلى نصرتك هيبتُك والمداراةُ لك والخوفُ من سلطانك، فإنهم ليجذبُهم أضعافُ ذلك منا، ووجودهم من البذل الكثير، والعطاء الجليل، عندنا ما لا يجدونه عندك، وإنهم لأحْرى بخذلك والميل إلينا دونك، ولو كانوا جميعًا معك ومقيمين على نُصرتك، لرجونا أن يمكِّن الله منك ومنهم، ويجعل دائرة السَّوْء عليك وعليهم، ويُجرينا من عادته في النصر، وإعزاز الأمر، على ما لم يزل يتفضَّل علينا بأمثاله، ويتطوَّل بأشباهه، فما دعاني إلى …
فلمَّا تهيأ من إنفاذ لؤلؤ إلى الشام ما تهيأ نهضتُ معه، وتخلَّف عنه كُتابه، لما علموا من تغيُّر حاله عند صاحبه، فأدناني وقرَّبني وأجرى عليَّ عشرة دنانير في كل شهر، وحملَني على دابَّة، فلزمتُ خدمتَه ولقيتُه واستحمدتُ إليه فزادني من برِّه. ولم ينتبَّه أحمد بن طولون من استيحاش لؤلؤ، فكتَب له بالرجوع إلى مصر، فشاورَني فأشرتُ عليه بالانحدار إلى نواحي ديار مضر، وأخْذ كل ما استخفَّ نقلَه من المال، ولم أترك غايةً إلا أتيتُها في تضريبه وتأليبه، حتى أوردتُه مدينة السلام.
ثم تقلَّبت بي الأحوال في خدمة السلطان وخدمة الدول، وتُوفي أحمد بن طولون وحُبس ابنه وقُتل أبو الجيش، وتولَّى بعده هارون بن خمارويه بن أحمد، وضم إليَّ القُواد والرجال، وكان فيهم لؤلؤ صاحبي، وكان أصغرهم حالًا، فلم أُقصِّر في صلاح حاله والإحسان إليه ومعرفة حقه، فلم أدنُ من الشام حتى تلقَّاني بدر الحمامي مطيعًا، وتلاه طغج بن جف مسرعًا، وصرتُ إلى مصر فلمَّا شارفتُها وثب شيبان بن أحمد بن طولون ومن معه من جند مصر، فقتلوا هارون، وتولَّى شيبانُ الأمر أيامًا، وانثال إليَّ القواد في الأمان، ولحق بهم شيبان، وتخلَّف الرجَّالة وقطعةٌ من الفرسان، وأظهروا الخلاف، فأوقعتُ بهم وأفنيتُهم قتلًا وأَسْرًا، ودخلتُ الفسطاط عَنوةً وحَويتُ النعَم والمُهَج، وأشخصتُ الطولونية من البلد إلى الحضرة، حتى لم يبقَ فيها منهم أحد، وصحَّ بذلك منام أحمد بن طولون، فسبحان الذي ما شاء فعل وإياه نسأل خيرَ ما تجري به أقداره، وأن يختم لنا بخير رحمته. ا.ﻫ.
قلنا: وقد كان لمحمد بن سليمان الكاتب هذا أثرٌ عظيم في القضاء على الدولة الطولونية، ذكر القلقشندي أنه سار بالعساكر من العراق من قِبَل المُستكفِي بالله، ودخل إلى مصر في سنة اثنتَين وتسعين ومائتَين، وقد ولَّى الطولونية عليهم ربيعة بن أحمد بن طولون، فتسلَّم البلد منه، وخرَّب القطائع وهدم القصر، قصر بني طولون، وقلَع أساسه وخرَّب موضعه حتى لم يبقَ له أثَر.
قلنا: وهما لعهدنا عامرتان زاهرتان.