سبب موت أحمد بن طولون: ولكل أجل كتاب
وأصبح أحداث طرسوس في حوا [؟] إلى ما غرق من الآلات التي ندَّ عنها أهلها لما غرقت بالماء فنهَبوها.
وانصرف أحمد بن طولون عن يازمان، بغيظٍ عظيم، قد تمكن في قلبه منه، إن شفاه أهلك ثغور المسلمين وبلغ مُنْيته، فرأى أن كظمه وتحمُّل غيظه لما كان فيه من الدين والخير أعْوَدُ عليه في آخرته.
وطال مقامه بأذنة، وكان ذلك في عنفوان اشتداد البرد كما ذكرنا متقدِّمًا، فمات من سُودانه خلقٌ كثير؛ لأنهم بقُوا بطُول مُقامهم عراةً في البرد. وتساقَط من الدواب مثل ذلك من كثرة الثلوج، فلمَّا زاد الأمر عليه رحل إلى المصيصة، فاجتمع إليه وجوه قُواده وكبار أصحابه، فقالوا له: لا تبرح أو يزولَ هذا البَرْد، وتعُود إلى يازمان ويُمكِّنك الله، جلَّ اسمُه، منه. فقال لهم: والله لا يراني الله، عزَّ وجل، وأنا أُجهِّز جيشًا لمحاربة طرسوس إذ كانت سكن الإسلام.
فأقام بالمصيصة ثلاثة أيام، وقد نالَتْه علَّة من البرد، فلم يبلُغ أنطاكية حتى زادت علَّته، وكان بَدْؤها هيضة؛ أكل لبن جواميس، فاعتراه بعد الهيضة قذفٌ فأعقبه قيءٌ كثير، فكان بدؤه سببًا صغيرًا كما قال ابن الربعي:
وكان ابن أبي الساج قد كاتَبَه، وعزم على أن يوجِّه إليه ابنه يكون عنده رهينة بالوفاء، وإظهار الدعاء له في أعماله بالجزيرة، فظنَّ أحمد بن طولون أن رأيه فيما أظهره صحيح، فأنفَذ إليه عبد الله بن الفتح وطبارجي ومعهما الخِلَع والجوائز والخيل، على أنه إن وفَّى بما ذكره ودخل في طاعته سلَّما إليه المال والخِلَع وما حمل إليه، وثبَّتا اسم أحمد بن طولون على الجزيرة وأعمالها.
ولمَّا قرُب طبارجي من ابن أبي الساج خشِي أن يكون ذلك حيلةً عليه، وكان أحمد بن طولون قد تقدَّم إليهما بالقبض عليه فولَّى هاربًا، فرجع طبارجي وابن الفتح إليه فعرَّفاه بما فعل، فعَجِب من ذلك.
وتفرَّغ [أحمد بن طولون] لأشياءَ كانت في نفسه، فمنها هرثمة صاحب دار هرثمة، أوقع به واصطفاه جميع ما ملكه وحبسه؛ لأنه كان رُفِع إليه أنه قال: توهمنا أنَّا نخدم إمارة، ولم ندرِ أنها خلافة، إلا إنها خلافةٌ وَسِخة مخوفة العاقبة.
وأنه اجتاز ببكار بن قتيبة وقد أُقيم للناس فقال له: عزَّ عليَّ، كفانا الله وإياك، فما هذا مقامك. فحبَسَه في المُطبِق حتى مات فيه.
فقال لي: والله ما خدمتي له إلا كخدمة الفأر للسنُّور، والسَّخْلة للذئب، وحذَري منه كحذَرهنَّ، وإن قتلي لأحب إليَّ من صحبته؛ لأنه ينكِرُ عليَّ ما لا يُنْكَر، ويُخالف من علاجه ما ينفعه، ويسارع إلى ما أُحذِّره منه وأنهاه عنه، فإذا حدَث ما يكرهُه نسبَني إلى أني قصَّرتُ في علاجه وجعل الذنب لي. فقلتُ له: فأنت على هذا مرحوم، أعانك الله بلطفه.
وأضرَّ بأحمد بن طولون مقامُه في مَضْربه لكثرة الهواء، فدخل إلى داره وعلَّته تزيد، فأحضَر الحسن بن زيرك الطبيب، فشكا إليه سعيد بن توفيل طبيبه. وكان ابن زيرك هذا حاذقًا أيضًا في صناعته مقدَّمًا فيها، وذكر له تَوانيَه في علاجه، فسهَّل عليه علَّته، ووعده بالسلامة منها عن قرب، فأنِس إلى هذا القول منه وفرح به، وخفَّ عليه بالراحة في داره والطمأنينة، وبملاطفة النساء له بالغمز مرة، وبالهدوء أخرى. ورفقُ النساء بالعليل يُحدِثُ راحة، وكذلك محادثةُ الصديق المحب أو الصاحب المخلص، واستماعُ الأخبار والأحاديث من جدٍّ وهَزْل تُحدِث سلامةً وراحةً قوية ومرحًا في القلب، فهذا أَجلُّ ما استعمله العليل.
وضاق صدر ابن زيرك من خطابه له، فقال: يحتاج الأمير، أيَّدَه الله، إلى إحضار جماعة أطباء البلد كلهم، في غداة كل يوم، حتى يجتمعوا على المشاورة، ويتفقوا في أمره على ما يَسْقونه، فلا يتناول إلا ما أشارت به الجماعة واتفقَت فيه آراؤهم. فضيَّق هذا القول صدر أحمد بن طولون، فقال: والله لئن لم ينجع فيَّ دواؤكم وتدبيركم لأضربنَّ أعناقكُم بأَسْركم، فما أنتم إلا مُمخرِقون، وعلى الأعلَّاء مُتَجنُّون، لا يحصل العليل منكم على شيء في الحقيقة.
فانصَرفَ الحسن بن زيرك من بين يدَيه وهو قلِقٌ بكلامه، [قد فعل] الخوفُ منه في قلبه وعَمِل فيه الفكر، وكان شيخًا كبيرًا فحميَتْ كبدُه عليه من الغمِّ الشديد، وقَوِي عليه الفكر فاختلط عقله، فبقي يومَه وليلتَه يَهْذي بعلة أحمد بن طولون، ويُورِد كلامه له وما توعَّد به الجماعة، فمات من الغد، وطلبه أحمد بن طولون فعرف موتَه فازداد غمُّه وقلقُه، وأمر بجمع الأطباء، فجُمِع له أطباء البلد الموصوفون في التقدُّم في الصناعة والحذْق، وكانوا إذ ذاك متوافرين، فكانوا يحضرون في كل يوم بين يدَيه، ويحضُر طبيبه سعيد بن توفيل خشيةَ ما جعلَه ابن زيرك في نفسه، فيتشاورون في أمره، فإذا اتفقوا على صفةٍ لا يَشُكُّون فيها جميعًا عُمِلَت شربة فيها شربتان، فيشرب أحدهم نصفها بين يدَيه ويُسقى النصف الآخر؛ كل هذا حتى يزول الشك عنده فيهم، فكان مَنْ يشرب منهم ما لا يحتاج إليه جسمه ضرَّه وأعقبه علَّة، فكانوا يحتملون من ذلك أمرًا عظيمًا طُول علَّته.
حدَّث جُرَيج بن الطباخ المتطبب قال: لقي سعيد بن توفيل [عمر] بن صخر الطبيب، فقال له [عمر]: ما الذي نصبتَ هاشمًا له؟ فقال: لخدمة الحرم؛ لأن الأمير طلب مني طبيبًا مقبَّحًا. فقال له: قد كان في أبناء الأطباء قبيح قد حسُنَت تربيتُه وطاب مَغرِسُه يصلُح لهذه الحال، ولكنك استرخصتَ الصنيعة، والله يا أبا عثمان، لئن قويَت يدُ هاشم ليرجعنَّ فيك إلى دناءة مَنصِبه وخساسة مَحْتِدِه. فتضاحَكَ سعيد من قوله وقدَّر أن ذلك لا يكون.
فتبارك الله الخالق البارئ المتفرِّد بالكمال والبقاء، بينما كان له العقل الصحيح والرأي السديد والفراسة المضيئة والحدْس الصادق الذي ما كان يُخطِئ في أيام إقباله، وما كان يُلِزمه نفسه ويتفقَّده منها ومن غيرها، وشدة حذَره وتوقِّيه … حتى انقلبَت العينُ في هذا كله دفعةً واحدة، وصار هو عدوَّ نفسه يُطعِمها سِرًّا من طبيبه السمك القريص، مع ما يعلَمه الناس كلهم فيه، والعصيدة الثقيلة المتخمة المؤذية في حال الصحة فكيف مع العلَّة؟ ثم يخادع نفسه ويسخر منها ويكتُم طبيبَه وغيرَه حاله في ذلك، حتى [كأن] له في معدته بسوء فعله عدوًّا قاتلًا، ويفضِّل مثل هاشم على مثل طبيبِه سعيد بن توفيل وغيرِه من حُذَّاق الأطباء إلا أنه إذا أراد الله، عزَّ وجل، أمرًا سلَب كل ذي لُبٍّ لُبَّه حتى تتمَّ مشيئته.
قال مؤلِّف هذا الكتاب: وكان أحمد بن طولون يحذِّر سعيدًا قديمًا من قتله له، وكان قد وقع له لتتمَّ المشيئة في سعيد أيضًا أنه قد أغفل علاجه في بدء العلَّة حتى تزايدَت عليه وعظُم أمرها، ولم يكن الأمر كما ظنه أحمد بن طولون به، ولا كان الخطأ إلا منه على نفسه، والذنب له دون غيره. وكان سعيد بن توفيل من يوم أكل السمك قد أَيِس منه، وعرَّف نسيمًا الخادم بذلك، وكان غلامًا عاقلًا محصِّلًا.
حدَّث نسيم الخادم أن مولاه أحمد بن طولون طلب سعيد بن توفيل يومًا من الأيام، فقيل له: مضى يستعرض ضَيعة ذُكِرَت له يشتريها. فأمسك، فلمَّا حضر قال له: ويلك يا سعيد! اجعل صحبتي ضيعتَك التي تشتريها لتستغلَّها، وواصِل مراعاة خدمتي، واحرص على صحتي ولا تُغفِل ذلك، واعلم أنك تسبقني إلى الموت إن كان موتي على فراشي، وأني لا أُمكِّنك من الاستمتاع بالحياة بعدي. فقال بعض العلماء حين سمع هذا القول: ما سمعتُ حثًّا لمتطبِّب على مبالغة في نصحٍ أشدَّ من هذا.
قال مؤلِّف هذا الكتاب: وفي إفاقته من علته أطلق محبوب بن رجاء من محبسه، وردَّ إليه جميعَ ما كان أخذ منه، فوجد محبوب ماله مختومًا بخاتمه بحاله … دنانير، ما عرض له ولا نظر إليه.
فلمَّا رأى أحمد بن طولون اشتداد العلَّة أحضر خواصَّه من وجوه قُواده وابن مهاجر والواسطي، وقال لهم: استهدُوا لنا الدعاء من الناس كافة، وسلوهم الخروج إلى الجبل والتضرُّع إلى الله، جلَّ اسمُه، بالمسألة له في عافيته لنا. فشاع هذا القول منه في الناس، فخرج المسلمون بالمصاحف إلى سَفْح الجبل، وتضرَّعوا إلى الله في أمره بنياتٍ خالصة لمحبتهم له، وشُكرِهم لجميل أفعاله، وكثرة معروفه وإحسانه، وصيانتهم عن كل حال يكرهونها منه، أو من أحدٍ من حاشيته، مع أَمَنَتهم ورخص أسعارهم، بمراعاة ذلك وحرصه عليه ومحبته له.
فلمَّا رأى اليهود والنصارى ذلك من المسلمين خرج الفريقان؛ النصارى معهم الإنجيل، واليهود معهم التوراة، وفي أيديهم حزَم الآس، وفي أيدي شمامستهم البخور، يبخرون ببخورهم الذي يتبركون به، واجتمعَت الجماعة كلها في سفح الجبل، واعتزل كلُّ فريقٍ منهم على حِدَة يدعون الله، عزَّ وجل، ويتضرَّعون إليه في أن يمُنَّ عليه بعافيته، فكان يومًا عظيمًا، وارتفعت لهم ضجَّة عظيمة هائلة حتى سمعها في قصره، فبكى لذلك، وتضرَّع معهم إلى الله، جلَّ اسمُه، والمنية قد قرُبَت، كما قال بعضهم:
قال: ومن شيَم النصارى أن يتضرَّعوا بمثل هذا الفعل في الاجتماع والخروج، إذا قدم البلدَ والٍ جديد، وكذلك رأيناهم قد عَمِلوا في قدوم بولس إلى البلد، خرج النصارى إليه وفي أيدي شمامستهم الزبور وغيره … ومعهم المجامر يُبخِّرون من باب المدينة إلى أن دخل إلى داره، وخرجَت إليه، أيضًا، اليهود، وفي أيدي أحبارهم وشيوخهم الآس، وفي أيدي بعضهم كتبهم يقرءونها بين يدَيه، فكان لهم ذلك اليومَ ضجيجٌ في البلد.
وحدَّث نسيم الخادم قال: دعاني مولاي، وقد مضت قطعة من الليل، قبل وفاته بشهرٍ واحد، فقال لي: ادخل إلى بكار بن قتيبة فإن أصبْتَه يصلِّي فانتظر فراغه من ركوعه وسجوده، فإذا سلَّم فقل له عني: أنت تعلم ميلي إليك قديمًا وإكرامي لك مبتدئًا، وإنه لم يُفسِد محلَّك عندي إلا أمرُ الخَلع وأن شهادتَكَ فيه كانت مباينةً لشهادة غيرك مخالفةً لها. وقد شاع في عسكري أنك نقمتَ هذا الخلع عليَّ، ووالله ما انحرفتُ عن الناكث لإساءةٍ كانت منه إليَّ اعتدتُها له، ولا أردتُ بخلعه إلا الله، عزَّ وجل؛ لأنه أَسَرَ الخليفة ومنعه ما يجري له. والصواب أن تحضُر مجلسي في جمعٍ من أوليائي وأولياء أمير المؤمنين، فتتبرَّأ من الناكث براءةً تدلُّ على صدق نيتك لأمير المؤمنين، وترجعَ إلى عملك، ونرجع لك إلى ما كنا عليه من الإكرام والموالاة والحال التي كانت بيننا، وإن امتنعتَ من هذا فلا لومَ علينا فيما أتيناه في أمرك، مما لم نؤثِره ولا نختاره والله فيك.
قال نسيم الخادم: ففتحتُ باب الحجرة التي كان فيها بكار معتقلًا، ودخلتُ فوجدتُه قائمًا يصلي، فقلتُ من حيث يسمع: رسول الأمير. لأنه كان ثقيلَ السمع، فوالله ما حرَّكه ذلك ولا فكَّر فيه ولا أوجز من صلاته، ولم يزل يقرأ حتى فرغ من حزبه، ثم ركع وسجد وجلس قليلًا، وقام وقرأ طويلًا، ثم ركع وسجد وجلس يسيرًا، ثم سلَّم، فقلتُ له: ر[سول الأمير]. فقال: وما يريد الأمير؟ فقصصتُ عليه الرسالة، فقال: قل له: يعزُّ عليَّ أن يكون حرصك على ما تفارقُه أكثر من ميلك إلى ما لا بدَّ لك منه، وقد أعنتَّني وآذيتَني؛ لأنك تكلِّفني الشهادة بالبلاغات التي لا يُعدِّلها الحكام، فخَف الله في أمري فإني شيخٌ فانٍ وأنت عليلٌ مدنَف، ولعل التقاءنا بين يدَي الله، عزَّ وجل، قريب، وقد والله نصحتُ لك والسلام. وقام إلى صلاته.
قال نسيم: فخرجتُ من عنده وقد أبكى قلبي وأبكى عيني، فدخلتُ إلى مولاي فأعدتُ عليه قوله، فبكى وبقي يقول: شيخ فانٍ وعليل مُدنَف، ولعل التقاءنا بين يدَي الله، عزَّ وجل، قريب. وأقبل يكرِّر ذلك، ثم قال لي: انظر أعْرف المضمومين إليك، فوكِّله به في دار تكتريها له، وأطلِقْ له دخول ابنَي أخته إليه ومَنْ أحبَّ. فاكتريتُ له دارًا في نواحي الموقف، ووكَّلتُ به رشيقًا أخا سعد الفرغاني؛ لأنه كان شيخًا فيه دين وخير، فلم يزل معتقلًا فيها إلى أن مات مولاي، فأطلقه أبو الجيش يومَ موته واستحلَّه لأبيه، فكانت هذه الفعلة من أبي الجيش أحد أفعاله الحِسَان، فأقام بعد مولاي عشرين يومًا ومات فلحق به.
حدَّث شعيب بن صالح قال: أرجف الناس بوفاة أحمد بن طولون قبل أن يموت بشهور، وعِللُ الخوف، أبدًا، تطولُ على أصحابها، فدخل إليه يومًا جماعة من أصحاب أخباره، ومعهم رجل من أهل المدائن فقالوا له: هذا صاحبُ خبر الموفق. فقال له أحمد بن طولون: ليس [ينجيك] مني ولا يخلِّصك غيرُ صدقك إياي، فاصدقني تنجُ. فقال له: نعم، أنا صاحب الموفق، أنفذَني إليك قاصدًا لأعرف له صحةَ أمركَ في علتك لا غير، لما أُرْجِف بك عنده. فقال: [لقد سلَّم] الله روحي وجسمي، وأنا صحيح العقل والتمييز لم أمُت، بمنِّ الله وطَوْله، وأوليائي متمسكون بطاعتي، والدليل على ذلك إتيانهم إياي بك، ارجع إليه فقد أمَّنَك الله، جلَّ اسمُه، وعرِّفه ذلك، وقل له: إني لم أنحرف عنك وأخلعك وأخالف عليك كرهًا لك، ولا كان ذلك مني إلا طاعةً لأمير المؤمنين وما أكَّدَته عليَّ بيعتُه، فإن رجعتَ عما أتيتَه في أمره كنتُ لك كما أنا له متصرفًا بين أمركما ونهيكما وطاعتكما. واحذَر أن تقيم. ووكَّل به حتى أُخرج عن البلد من وقته.
قال مؤلِّف هذا الكتاب: فورد علينا الخبر أنه لمَّا وصل إلى الموفَّق رسولُه هذا، فأدى إليه رسالة أحمد بن طولون، بكى غمًّا منه بعلَّته، وقال: صدق والله في قوله. ونذَر لله، عزَّ وجل، في عافيته نذرًا من قيام وصدقات.
قال: وكان أحمد بن طولون كثير الاستقصاء في مال الجيش، فلمَّا اشتدَّت علَّته تقدَّم إلى ابن مهاجر في إطلاق رزق سنة للجيش في بيعة أبي الجيش بعده، فظنَّ ابن مهاجر أن ذلك من اختلاط العلَّة فأهمل العمل به، فلمَّا كان من غدِ يومه سأله عما صنع في ذلك، فقال له: ما خرج الحساب من أيدي الكُتَّاب بعدُ، فقال له: أظننتَ، ويحك، تخليطًا بي من العلَّة؟ ما أنا كذلك، والحمد لله كثيرًا، بل أنا بضدِّه، وإنما لمثل هذا الوقت جمعتُ الأموال، وإنما أردتُ أن يعلم الجيش أنه قد حصل لهم ما لا يسمح ببعضه مَنْ يحاربهم ويكاثرهم، فتكون أيديهم وقلوبهم قوية. فسكَن ابن مهاجر إلى هذا القول، وأطلق المال للرجال، فعظُمَت منَّته عندهم، وكثُر شُكرهم.
قال مؤلِّف هذا الكتاب: فلمَّا اشتدَّت بأحمد بن طولون علَّتُه دعا بأحمد بن محمد الواسطي، وقال له: يا بنيَّ لمثل هذا اليوم وهذه الحال ربَّيتُك واصطفيتُك، وقد علمتَ حسن موقعك مني، وأني فضَّلتُك على الولد وكل أحد، فلا تُخفِر الظن بك، واعلم أن الوفاء أحسنُ لباس وأفضل معقل، والله يشكُره، عزَّ وجل، لمن استعمله، حرمي هنَّ أمهاتك وأخواتك، قال: والواسطي يلطم وجهه ويبكي، وأحمد بن طولون يبكي معه، وهو يحلف له أنه لو تعرَّض للقتل لَمَا قصَّر فيما عاد بمصلحة شمله، ويقول: وأرجو أن يهب الله للأمير العافية ولا يُريَنا فيه سوءًا أبدًا ويقدِّمنا جميعًا بين يدَيه. وكل ذلك [وهو] يعجُّ بالبكاء.
فحدَّث نسيم الخادم، [قال: فلما خرج] الواسطي من حضرة مولاي، قال لي: يا نسيم، والله ما أخاف على حرمي إلا منه وعلى جميع مخلَّفيَّ؛ لأنه قوي الحيلة فاسد الدين، ولولا أنه وقتُ استكانة إلى الله، عزَّ وجل، وخضوع، ما كنتُ آمَنُ على مخلَّفيَّ منه. قال: فلمَّا كان من غَدْر الواسطي بأبي الجيش ما كان، وذَهابِه إلى المعتضد ومعاونته إياه على أبي الجيش، ذكرتُ قول مولاي، رحمه الله، وفراستَه فيه، فما ضرَّ الله، عزَّ وجل، أبا الجيش بغَدْره، وبقي شريدًا طريدًا مُطَّرحًا بأنطاكية، مذمومَ الأثَر والسيرة، فذكَر إحسانَ مولاي إليه ولم يُكافِئه على جميل فِعلِه به، وكل أوزارٍ احتقَبها فيه، فتصوَّره الناس بالغَدر وقلَّة الوفاء. ومات بعد مولاي بيسير.
قال نسيم: فلمَّا كنا من غَدِ خطاب مولاي للواسطي وما وصَّاه به، أحضَره وأحضر محمد بن أبَّا وطبارجي وجماعةً من وجوه خاصته وقواده ووجوه دولته وكُتَّابه، فأحضر أبا الجيش فقال له: يا بني إني لم أدفع الحنث في يمين البيعة إلا بما كنتُ أحمله إلى أمير المؤمنين المعتمد خاصة، وهو مائة ألف دينار في كل سنة، ذكر لي فيما كاتبَني به أنها تكفيه، فكان حملي هذا المال يقينَا الحنث في يمين البيعة بيعته، فلا تؤخِّرها عنه ولا تقْطَعها، ولو أعيتك الحروب وواصلتك فلا تُغفِل حملها وما يقاومها، فإنك تدفع بها حنثَ هذا الجيش بأَسْره في يمين البيعة، وتشرح بها صدورهم في قتال مَنْ قصَدَك، ممن قهر الخليفة ومنعَه أمرَه وتصرُّفَه في إنفاذ حكمه، وجميع أمره، والله بكرمه يكفيه.
[قال أبو جعفر] محمد بن عبد كان: إن أبا الجيش لم يزل يحمل هذا المال إلى المعتمد حتى تقلَّد إسماعيل بن بلبل الوزارة، فأوقع الصلح بينه وبين الموفَّق.
قال: فلمَّا فرغ أحمد بن طولون من وصية ابنه في حمل المال إلى المعتمد أقبل على وجوه قُواده وغلمانه فقال لهم: قد وطَّأتُ لكم المهاد بهذه الدولة، وخلَّفتُ لكم من عدَّتها ما يكفيكم، فاطَّرحوا الأحقاد بينكم، وأسقِطوا التحاسُد، واتركوا الاستئثار، ولتكن كلمتكم واحدة، وجماعتكم كرجلٍ واحد، ولا تغترُّوا بمخاريق أهل العراق، ومواعيد من يطلب سيئاتكم، فليس برأسكم أبدًا مثلي، ولا أحنى مني ومن ولدي عليكم، فلا تُخفروا ذمتي، واحفظوا صحبتي وتربيتي لأكثركم، وإيثاري وإحساني وتفضيلي لجماعتكم، وهم يحلفون له ويبكون بأجمعهم.
ثم عطف على أبي الجيش فقال له: يا بنيَّ، لا تعدلَن عن مشورتي عليك، فلن تجد، أبدًا، أنصح لك مني، قد خلَّفتُ دخل بلدك يزيد على ما ينوبك بجيشك وسائر مئونتك، فلا تُطلِقن فيه يدًا بجَوْر، فيختل أمرك بخرابه، ولا تقبل بنصيحة مَنْ يتنصحُ لك بما يئول إلى خراب بلدك، والإجحاف بمعامليك فيه؛ فإنه عدوٌّ مبين من حيث لا تعلم، فانبذه عنك، ولا تقرِّبه منك، وقد خلَّفتُ لك رعيتك لا يطلبون منك إلا لين الجانب والأمن من المخاوف، ولم أكن أمنعُهم لين جانبي بخلًا به عليهم، ولكني آثرتُك على نفسي بمنعي لهم لينَ جانبي والأمنَ من مخافتي، فاستعمِلْ أنت ذلك معهم فتملك قلوبهم، ويبادروا إلى طاعتك، ويهشُّوا إلى التصرُّف بين أمرك ونهيك، في صغير أمرك وكبيره، ولم أترك لك عدوًّ أخافه عليك، واعلم يا بنيَّ أن كلَّ سَرَف يئول إلى اختلال وتلف، فاقصد في ا … مهمَّاتك، ولا تمدَّ يدَك إلى المال المخزون عند خيرٍ الخادم [واجعله] ذخيرةً لمملكتك، وأَقِمْه مقام جارحةٍ من جوارحك لا تبذلها إلا في شدة تخاف معها ساد سائر جسدك، أو عندما تقدِّر بإخراجها صلاحَ سائرِ جسدك، وكان خير الخادم هذا خادم المتوكل.
ثم قال له: واسلك يا بني سبيلي واقتفِ آثاري في سائر مَنْ خلَّفتُ يأنسوا بناحيتك، ويُحسنوا طاعتك، ولا يميلوا إلى عدوٍّ يُخالفك، ولا تقبلن مقال السُّعاة فيما تقوى به سوقُهم عندك، فكل شرٍّ وسوء يئول إلى اضمحلال وزوال، ويهلِك في ذلك من سلَكَه.
فلمَّا اشتغل بهذه الوصية لهم انقطع عنه الإسهال، فأمَل أصحابُه عافيتَه وبُرءَه، وذو المعرفة أيِس منه.
حدَّثت نعت أم أبي العشائر ابنه قالت:
«يا رب ارحم من جهِل مقدار نفسه فأبطَره حلمُك عنه.»
ثم تشهَّد أحسن شهادة وأتمَّها، وقضى في آخر تشهُّده، وإن ذلك بعد ذهاب [طائفة] من ليلة الأحد، لعشر ليالٍ خلَون من ذي القعدة، سنة سبعين ومائتَين، فحوَّلت وجهه إلى القِبْلة، وأخذنا في أمره.
قال مؤلف هذا الكتاب: حدَّثنا شيخ من صالحي أهل المعافر، قال: جاءني بعض إخواني من كبار المتزهدين الأخيار يُعرف بالرمامي، وكان من أحسن الصوفية، فقال: لا تتخلف عن جنازة هذا الرجل. فقلتُ له: وما في ذاك من الفائدة؟ فقال لي: كلُّ الفائدة. قلتُ: ما هي؟ قال: ترى انحلال ما عقدَته الدنيا من الأمور الجسيمة وتبدُّدَه، فيهونُ عليك ما عاصاك منها، ويزول عنك التهيُّب لما انساق منها، ويصغُر في عينك ما اكتنَزه المغرور ورحل عنه، وتعلَم أن جميع أحوالها إلى زوال، فقلتُ: نعم، صدَقتَ.
ومضيتُ فرأيتُ جمعًا عظيمًا هائلًا، وحالًا كبيرة تَعجِز الصفة عن ذكرها حتى ظننتُ أنه ما بقي في البلد أحدٌ من رجل ولا امرأة، وكلٌّ فِرقٌ شتى، كل فرقةٍ على حِدَتها رجالًا ونساءً، فتأمَّلتُ فإذا كل صنفٍ من غلمانه أيضًا فِرق، وقواده فِرق، وكُتَّابه فِرق، وسائر أصحابه ومَنْ يلوذ به ويخدمه فِرقٌ فِرق، ومَنْ كان فضلُه عليه وجراياتُه وصدقاتُه فِرقٌ فِرق، وقد تميَّز أيضًا النساء من حاشيته وهنَّ أيضًا فرق فرق، حرمُه منفردٌ في خلقٍ عظيم، لا يخالطهنَّ أحد من حشَمهنَّ، وحشَمهنَّ ناحية لا يخالطهنَّ غيرهنَّ، ونساء قُواده ونساء غلمانه ونساء كُتَّابه ونساء أصحابه كلُّ صنف منهنَّ على حِدَة لا يخالطهنَّ غيرهنَّ، ونساءُ القطائع فِرق فِرق، وكل الجماعة عليهم من الكآبة أمرٌ عظيم، وكلٌّ منهم مسلِّم لأمر الله، عزَّ وجل.
ثم أقبل من النساء السُّودانيات، اللائي كان فضلُه عليهنَّ، وجراياته القمح والدراهم في كل شهر، خلقٌ عظيم لا يُحصيه [ولا] يقوم بمعرفة مبلغه إلا الله جلَّ اسمُه، صائحات صارخات، فارتجَّت الأرض لهنَّ، وعظُمَت الحال في قلوب مَنْ شاهدَهنَّ، ثم أقبل بعدهنَّ [من] صالحي مَنْ يسكن المعافر ممن فيه الدين والورع والخير نساءٌ ورجالٌ قد كان له في جماعتهم المعروف الواسع. ولو لم يكن إلا العين، الماء، التي صارت حياةً لهم، وصيانةً ومرفقًا إلى اليوم وإلى القيامة، إن أراد الله، جلَّ اسمُه، ذلك ووقاها من الغِيَر، فأقبلوا مبتهلين إلى الله، جلَّ اسمُه، يسألونه الرحمة له والمغفرة والتجاوز عنه، بخشوع وتضرُّع واستكانة وبكاء.
فشاهدتُ من ذلك ما هالني، وذكر جميع مَنْ حضر أنه ما رأى مثلَه لموت خليفة من الخلفاء ولا غيره ممن عظُمَ قدره، ثم أقبلوا به مفردًا على سرير، مُدرجًا في ثوب وشي سعيدي كافوري، وأبو الجيش خلفه وحده راكب، لموضع خلافته والإمارة، والعالم من صغير وكبير وشريف وقاضٍ وعدل، وكل مَنْ في البلد يمشون، وبين يدَيه من غلمانه، وخلفه من كل صنف، ومن قُواده وسائر مَنْ بقي من أصحابه ما لا يحصيه إلا الله، جلَّ وعز، فأتوا به إلى المصلَّى الذي كان بناه، فتقدَّم ابنه أبو الجيش فصلَّى عليه، وصلَّى الناس بأجمعهم، وعدلوا به إلى قبره ووارَوْه في لحْدِه، وخلَّوه وحيدًا فريدًا، أقرب الناس منه وأحبهم إليه مَنْ حثا عليه التراب، وانصرف عنه كل ذلك الجمع العظيم، وذهبوا حتى كأنه لم يكن منهم أحد، فتبارك الله أحسن الخالقين ومالك يوم الدين، [سبحانه لا يموت ولا يزول و]كل نفس ذائقة الموت.
فما سمعتُ والله أحرَّ منه ولا آلمَ للقلب ولا أشجى من أصواتهن به، حتى أبكينني بكاءً عظيمًا، وانصرفتُ من عندها حزينًا كئيبًا، فلمَّا كان بعد أيامٍ صرتُ إليها لأعرف خبرها فأصبتُها بحالِ حزنٍ عظيمة، فسلَّيتُها وعزَّيتُها، فجعلَت تحدِّثني بأحاديث أحمد بن طولون، وتصف لي أحواله، وتشكو وجْدها به إلى أن قالت لي:
اعلم أنه لمَّا جرى على المعتمد من الموفَّق ما جرى، من سوء الاعتراض والقدح في السلطان، بلغ ذلك منه مبلغًا عظيمًا، فألَّف كلامًا بالتركية، وقال لي: أريد أن أُلقيه على [إحدى] جواريك، وتلحِّنيه أنتِ لها، وتغنِّيه حتى أسمعه منها، فأحضرتُ جواريَّ فاختارَ منهنَّ رويعة فألقاه عليها، فوالله ما سمعتُ أرقَّ منه ولا أشجى، فلحَّنتُه لها فكان صوته عليها إلى أن اعتلَّ، وتعلَّمه أيضًا جواريه، فما كان يسمعُه أحدٌ إلا أبكاه وأوجع قلبه، فسألتُها أن تُسمعَنيه، وكانت فصيحةً بالتركية فقالت لي: ليس تفهمه لأنه كلام بالتركية مؤلَّف، ولكني إذا أنت سمعتَه فسَّرتُه لك بالعربية، ثم أحضَرَت رويعة جاريتها فغنَّته بلحنٍ شجيٍّ وإيقاعٍ حسن، فأبكاني وآلم قلبي، وما سمعتُ [صوتًا] من المناحات أحرقَ منه للقلوب، وفسَّرَته لي فكان:
ثم قالت لي: قد سمعتَ حُسنه بالتركية، وهو بالعربية فيه كلام — كما رأيت — غير مستحسن إلا عند مَنْ يعرفه بالتركية. فودَّعتُهَا وانصرفتُ.
وقرأتُ الرقعة الأخرى فإذا فيها رءوس أربعة أصوات، كان يقترحُها على مَنْ يغنِّيه، لا يختار من الأغاني غيرها.
أحدها:
والصوت الثاني:
والصوت الثالث:
والصوت الرابع:
فبكيتُ وبكت ساعة، وجلستُ عندها طويلًا، فلمَّا أردتُ الانصراف قالت لي: أنا آنسُ بمحادثتك، لعلمي بغمِّك على الماضي، رحمه الله، فأُحبُّ ألا تُغِبَّني. فكنتُ أصير إليها في كل وقت.
قال: وخلَّف من الولد ثلاثةً وثلاثين ولدًا، منهم سبعةَ عشر ذكرًا وست عشرةَ أنثى، فأما الذكور فأبو الفضل العباس، وهو أكبر ولده، وأبو الجيش خُمارويه بعده، وأبو العشائر مُضَر، وأبو المكرَّم ربيعة، وأبو المقانب شيبان، وأبو ناهض عياض، وأبو معد عدنان، وأبو الكراديس خزرج، وأبو حبشون عدي، وأبو شجاع كِنْدة، وأبو منصور أغلب، وأبو لهجة ميسرة، وأبو البقاء هدًى، وأبو المفوَّض غسان، وأبو الفرج مبارك، وأبو عبد الله محمد، وأبو الفتح مظفَّر.
والبنات: فاطمة، ولميس، وتعلب [؟]، وصفية، وخديجة، وميمونة، ومريم، وعائشة، وأم الهدى، ومؤمنة، وعزيزة، وزينب، وسمانة، وسارة، وغريرة.
وخلَّف من المال العين ما قد ذكرناه متقدِّمًا، ومن الغلمان أربعةً وعشرين ألف غلام، وأطبقَت جريدة مواليه على سبعة آلاف رجل، وخلَّف من الخيل الميدانية سبعة آلاف رأس، ومن الجمال ثلاثة آلاف جمل، ومن البغال ألف بغل، ومن الخيل لركابه ثلاثمائة وخمسين فرسًا، وخلف من المراكب الحربية مائتَي مركبٍ حربي كبار بآلتها.
وخلَّف من الأمتعة والفُرُش والآلة والأواني وآلات السفر ما لا يُحصى كثرةً ولا يُعَدُّ ولا يُحَد، ولا يُدرَك كثرةً واتساعًا.
فأما نفقاتُه المشهورة المعروفة فما رأينا ولا رأى أحدٌ قبلها مثلها لأحدٍ قبله، ولا يُرى بعده، كل ذلك كان منه طلبًا للثواب والجزاء من الله جلَّ اسمُه.
وكانت لذَّتُه وشهوتُه كلها فيما يصنع في كل جمعة من الأطعمة الواسعة العظيمة لكل صنفٍ من الحلواء، وتُنصَب الموائد ويحضُر الناس من كل نوعٍ من فقير ومستور ومتجمِّل ومحتاج، ومَنْ يتقرَّب إليه بأن يراه وقد أكل طعامه، فيقرِّبه ذلك من قلبه، وهو جالسٌ مستشرفٌ له ينظر إليهم، ويفرح بما يراه منهم، فساعةً يسجُد شكرًا لله وساعةً يقف فيصلي ركعتَين، وساعةً يدعو الله، وساعةً يبكي ويطالب الناس بأن يزلُّوا، ولا يخرج أحدٌ إلا ومعه الزلَّة الكبيرة العظيمة، فإذا انصرفوا حمِدَ الله وشكره.
قال: حدثنا محمد بن الحسن اليماني، وكان من الصالحين شديد التقشُّف، وقد جرى ذكر أحمد بن طولون بعد وفاته وقال: رأيتُ أحمد بن طولون في منامي وكأنه في روضةٍ خضراء وعليه لبسةٌ حسنة رائعة، وقد حسُنَت صورتُه وهو جالس يدُه تحت خدِّه، وعليه [حُلَّة] عظيمة، فقلتُ: [ما فعل الله] بك؟ فقال لي: إنه لمَّا فارقَت روحي جسدي ساقني سائقٌ عنيف في موضعٍ لا أعرفه فاجتزتُ بجهنَّم، وقد فغَرَتْ فاها وخَرجَ لسانها، فعَدَلتُ عن الطريق التي يسوقُني السائق فيها خوفًا أن تحرقني، فابتدَرَت إليَّ امرأةٌ حسنةُ الوجه عظيمة الخلق، فقالت: لا بأس عليك يا أحمد، قد وهبَكَ ربك لي، ثم مشت بيني وبين النار، فكنتُ أخاف من عظيم النار أن تسُلَّني وإياها فتحرقنا جميعًا، إلا أني قد أمِنْتُ على نفسي بها، ثم بدَرَت إليَّ امرأةٌ أخرى مثلها في حُسنها وعِظَم خلقها، فقالت لي: أبْشِرْ يا أحمد برضا ربك عنك، وصاحت هي وصاحبتُها على النار فخمدَت وانقطعَ لسانها وبعدتُ عنا، فقلت للامرأة الأولى: مَنْ أنتِ؟ فقالت لي: أنا أم الجهاد بطرسوس، الشاكر لمبرَّتِك لنا في الشدائد، وعفوِك عن أهل الثغور في الجرائم، فقلتُ للأخرى: مَنْ أنتِ؟ فقالت: أنا الصدقاتُ التي كنتَ تبذلُها يمينًا وشمالًا وصباحًا ومساءً. وانصرفتا عني وهما تقولان لي: لا تنسَ شهادة أنْ لا إله إلا الله محمد رسول الله ﷺ، ثم نُودي بالسائق: أدخِله من باب المغفرة. فأُدخِلتُ إلى هذا الموضع. فقلتُ له: فما هذه الكآبة التي أراها بك؟ فقال: استحياء من الله ربي، عزَّ وجل، لما اقترفتُهُ من الآثام وارتكبتُهُ من الأمور العِظَام … فانتبهتُ من نومي وأنا أترحَّم عليه، ولكأنه بين يدي يخاطبني لما شاهدتُه منه وما تداخل قلبي من خطابه.
وحدَّث محبوب بن رجاء قال: رأيتُ أحمد بن طولون في منامي بحالٍ حسنة، فسألتُه عما لقي، فقال لي: غُفِر لي. فقلتُ له: مع عظيم ما ارتكبتَ؟ فقال: خفَّف ذلك عني أن أكثر مَنْ أسأتُ إليه كان مستحقًّا من ربه ما نزَل به مني، فكنتُ عقوبةً بعثها الله، عزَّ وجل، مني عليه. ثم قال: إنما البلاءُ ظلم مَنْ لا ذنب له ولا ناصر. فقلتُ له: فمستقرُّك في الجنة؟ فقال: ما استقر بعدُ أحدٌ في جنة ولا نار، ولكنه تلوح لنا دلالاتُ المغفرة من طيب النفس وأَمْن السِّرْب.
قال مؤلِّف هذا الكتاب: وبهذا الخبر صحَّت رؤيا محبوب بن رجاء في قوله إنه لمَّا رآه في منامه قال له: خفَّف عني أن أكثر مَنْ أسأتُ إليه كان مستحقًّا ذلك من ربه، فجعلني عقوبةً له، بعثها الله، عزَّ وجل، عليه مني. قال: وكان بين قتل سعيد الغلام وبين مسيره [إلى ابن طولون والا]قتصاص منه، فكان الوقت الذي بلغ الكتاب فيه أجله.
وحدَّث عبد الله بن الفتح — وكان من أصحاب سيما الطويل — قال: رأيتُ في منامي كأن سيما الطويل متعلق بأحمد بن طولون على باب المسجد الجامع الذي بناه بمصر، وهو يصيح بأعلى صوته: يا رسول الله! أعنِّي على أحمد بن طولون فإنه قتلني، واصطفى مالي، واستباح أهلي وولدي. فتأمَّلتُ فإذا رسول الله ﷺ مقبلٌ إلى المسجد فصاح به: يا سيما! كذبتَ ما قتلك أحمد بن طولون، قتلَكَ عجيج سهل التاجر الذي قدَّرتَ أن عنده مالًا وجِدَة، فضربتَه حتى كاد أن يموت، ثم دخَّنتَ عليه حتى مات من التدخين، وأنت وأحمد خاطئان أقل أحدكما وزرًا أحسنُكما سيرة، وأكثركما معروفًا أقربكما من الله ومغفرته.
وحدَّث أحمد بن دعيم، وكان من قُواد أحمد بن طولون، وترك الديوان وحسُنَت طريقته في الخير، قال: رأيت أحمد بن طولون فيما يرى النائم وهو بحالٍ حسنة، فسألتُه عما فعل الله به؟ فقال لي: يا دعيم، ما ينبغي لمن سكن الدنيا أن يحتقر حسنةً يعملها ولا سيئةً يأتيها، عُدِل بي إلى الجنة بتثبُّتي على رجلٍ متظلم إليَّ، وكان عيَّ اللسان بعيدَ البيان منقطعَ الحُجَّة ضعيفَ الجسم، وقد ارتاع مني مع ذلك واضطَرب، فوقفتُ عليه وسكَّنته حتى سكن رُوعُه، وصبرتُ عليه في خطابه حتى قامت حجتُه بتثبُّتي، فتقدَّمتُ بإنصافه، فانصرف وقد أثَّر فيه السرور.
قال مؤلِّف هذا الكتاب: [كان أحمد بن طولون] يقول كثيرًا: ينبغي للرئيس أن يجعل اقتصاده على نفسه وتسمُّحه على شمله وقاصديه، فإنه يملكُهم بذلك ملكًا لا يزول به عن قلوبهم، ولا تفسد معه سرائرُهم في نصحه وموالاته وحسن طاعته. وهذه كانت صورته، رحمه الله.
فلمَّا مات وحزن عليه وامتنع من الشرب وأقام كذلك مدةً طويلة لم يزل ندماؤه يتلطَّفون له ويخاطبونه بما يسلِّيه، ويسهِّل أمره عليه، ويعاونهم على ذلك أقربُ الناس منه، وعيالُه وولدُه وخاصتُه حتى نصب مجلسه، فلمَّا فقد صينية أحمد بن طولون من مجلسه، كانت على رسمها فيه، عاود البكاء عليه والنحيب، وخرج إلى أكثر مما كان خرج إليه في الابتداء، ورفع المجلس والنبيذ بين يدَيه، ولم يزل على ذلك أيضًا مدةً طويلة، ورثاه فقال:
وحدَّث علي بن يحيى بن أبي منصور، وكان خاصًّا بالموفق ومقدَّمًا عنده، قال: رأيتُ الموفَّق في الساعة التي ورَد عليه فيها وفاةُ أحمد بن طولون، وقد استرجَع ووجِمَ، وظهر منه عليه كآبةٌ لم أرَها ظهرَت منه قَط لموت قريبٍ ولا وليٍّ حميمٍ مخلص، فقلتُ له: ما توهَّمتُ أنه يرد عليك شيء أسرُّ من نعي أحمد بن طولون! فما هذا الغم العظيم الذي قد جرى، وجرى في غير موقعه؟ فقال لي: دعنا من هذا وافهم عني ما أقوله لك: كان هذا الرجل مخالفي، والخلاف يزيد وينقص، وأعظمه خلاف استباح فيه مخالفتي ما أيسر فيه [؟] وغلبني عليه، وأسهله خلاف أحسن فيه مخالفتي بتدبير ما احتازه منه فأدى إلى عمارته، وكان خلاف أحمد بن طولون لي أحب من طاعة مَنْ يطيعني ويستبيح أموالي ويخرِّب بلداني، فخلاف مَنْ يُحسِن تدبير ما في يدَيه أحبُّ إليَّ من موالاة مَنْ يحتوي على مَنْ وكلتُه إليه وتُذَم العاقبة فيه بسوء تدبيره وقُبح أفعاله. وكان هذا الرجل، رحمه الله، يدبِّر ما قُلِّده كما يدبِّر المالك ملكه، ويحوطه حياطتَه لنفسه، ثم لم يخرج عن طاعة ولا أجرى عن حالٍ مذمومة؛ رعيَّته شاكرون ومعاملوه حامدون، وبه متبركون، وأعماله عامرة، وأموالها على يدَيه راخية، وأصحابه مغتبطون به، حَسَن السياسة، جميل الفعل، كثير المعروف، فلمَّا قلَّده أخي نواحيه؛ خراجها ومعاونها، ضبط جميع ذلك ضبْط جَزلٍ محتاط، فتزايدت أفعاله الجميلة فيها، على ما كان منه متقدِّمًا، ثم أقدمني أخي من مكة على كُرْه مني لذلك، وكان مقامي بها أحبَّ إليَّ وأرْوَح لنفسي … هذا لما عاينتُه وما كابدتُه، فلمَّا قدمتُ إليه رأيت أمو[ر الدولة] مضطربةً على غايةٍ من الاضطراب والانحلال، حتى إنه كاد الأمر أن يخرج عن أيدينا بقلة ضبطه لأمر دولته، وسلوكه ما لا يُحبُّ فيها، فاجتهدتُ في جمْع شَتَاتِ هذه الدولة، ورأيتُ أمير المؤمنين أخي المؤكِّد لي البيعة رجلًا لاهيًا، مقبلًا على لذاته، مشتغلًا بأفراحه، لا يشغلُه عن ذلك شيءٌ من أمر دولته ولا يفكِّر فيه، قد ألقى أموره إلى من استبدَّ بها دونه، واجترأ عليها واشتغل بمصالح نفسه وما عاد لمحبيه، ولا يفكِّر في عاقبة ولا يتخوَّف من حادثة.
ولأحمد بن طولون، رحمه الله، أولاد عداد، وموالٍ وعدد جم، لم يَرَوا غير رياستهم، ولم يكن في جماعتهم مَن قلبه ممتلئ من هيبتنا غيره؛ لأنه رُبِّي في خدمتنا، وشاهد قوة أمرنا وأحوالنا، فامتلأ من ذلك قلبُه، وكبرَت سطوتُنا في عينه، وخلَّف الآن أموالًا جمَّة عظيمة، لا يحوط جميعَها من قليلٍ وكثيرٍ إحصاء مُحصٍ، ولا ضبطُ محتاط مَكْفي، وإذا اجتمع لمن يقوم مقامه من ولده قلةُ التهيُّب لنا، إذ لم يشاهد من أحوالنا ما قدَّمنا ذكره من مشاهدة أبيه من أمرِنا، مع كثرة المال والأعراض والعُدَّة الجليلة العظيمة والعِدة الكثيرة الوافرة القوية، بالحال الجليلة والجمال والمال والشجاعة والإقدام، حسب ما اختصَّهم أبوهم، وانتخبهم واختارهم، وملأ أعينهم بما لا نتسمَّح نحن بمثله لكثير من أصحابنا فكيف غيره؟! فهم على ولده بذلك يحتاطون وفي … بحالين؛ أحدهما المحافظة لما أتاه أبوهم فيهم من الجميل و… عليه من عظم الأحوال، وثانيه لأنهم تيقَّنوا أنهم لا يجدون مثله ولا مثل ولده أبدًا؛ فلهذه الأحوال تعظُم علينا نكايتهم معها، ويبعُد علينا في ذلك مرامهم ويطرأ علينا منهم ما لعلنا أن نقصُر عنه، وعن بلوغ المراد به؛ لأن الأنصار مع المال حيث كان، ولا سيما أنصار من أنصار، فإن بأيدينا مَنْ يقوم منهم كان خليقًا بالغلبة، وإذا كان النصر لهم قدحَت فينا عليه لنا قدحًا عظيمًا وهدَّت منا ركنًا كبيرًا، وكنا مع ذلك قد اضطررناه إلى إتلاف الأموال التي تحتاج إليها المملكة المجاهدة عدوًّا إن تحرَّك، فإن كان انصر لنا عليه لم نجد بُدًّا من أن نستخلف على بلدنا ونواحيه مَنْ هم كانوا لنا وللأعمال أصلحَ وأجودَ وأوثقَ وأحسنَ تدبيرًا وأجمل حالًا وسياسةً فيما تقلَّده.
وكان بُغية المتقلِّد بعد أحمد بن طولون، رحمه الله، وبعد تركته تحصيل الأموال وجمعها لنفسه واستئثاره بها وبجميع ما تنبسط يده إليه دوننا، ثم بعد ذلك تخريبه بلداننا، وإطلاقه نهبها وإخافة سرب أهلها، ودون فائدة للسلطان، ولا عائدة علينا، إلا ما تُبسَط به الألسن بالدعاء علينا والوزر لعلم في أعناقنا، وهو غير مفكِّر في ذلك وليس وكده إلا ما عاد لمحبيه، ثم أقبل يترحَّم على أحمد بن طولون ويبكي على فقْده.
فقال علي بن يحيى بن أبي منصور: فقلت للموفَّق: ثبَّت الله عزم سيدي وسدَّد رأيه، وعوَّضه منه وحرس له ما منحه به، فهذا والله الرأي السديد والفهم الرشيد ولولا ما خصه … قد قام الآن سيدي، أيَّدَه الله، عندما تبيَّنتُه مما بيَّنه لي الأمير، أيَّدَه الله، وشَرحَه من حال هذا الرجل، رحمه الله، وكشَف منه ما كان عني مغطًّى وعن سائر الناس الذين لا يعلمون مقدار ما علمه الأمير، مدَّ الله في عمره وبلَّغه أفضل آماله في دنياه وآخرته، والله بكرمه يهنِّيه ما خوَّله، ومنَّ به من رياسته ويجعله عمادًا لها بمنِّه وقدرته.
قال: وكانت نفقات أحمد بن طولون، رحمه الله، جدًّا لا هزْلًا، كلها فيما قرَّبه من الله، عز وجل، [و]من صالحي كل بلدٍ تقلَّده، يرغَب في دعائهم ويستجلبُه بكل نوع، ويحنو على رعيته ويستجلب به دعاءهم، وكان وكدُه وشغلُه واهتمامُه بإسعاد بلده وسائر ما بعُدَ من بلدانه، يسعى فيما يرخِّص الله، جلَّ اسمُه، به أسعارهم، وجميع ما يُباع في بلده وسائر بلدانه، فكان الرُّخص به عامًّا في كل بلد من سائر الأطعمة. وكان السبيل به آمنًا، والأرزاق ببركته دارَّة، والنعمة من الله، جلَّ وعلا، منه إرادته [؟]، جلَّ اسمُه، على سائر الناس مترادفة متكانفة.