الفصل الخامس عشر
حين وصَل فلوري إلى النادي وجد آل لاكرستين في حالة غير مُعتادة من الكآبة. كانت السيدة لاكرستين جالسة، كدأبها، في أفضل موضع أسفل المروحة، تقرأ القائمة المدنية [قائمة بالمرتبات والمعاشات التي تمنحها الحكومة البريطانية للموظفين التابعين لها في مُستعمراتها]، التي تعدُّ بمثابة «دليل ديبريت» في بورما. كانت مستاءة من زوجها، الذي عَصاها بطلب «مقدار كبير من الشراب» بمجرَّد أن وصل إلى النادي، بل وأمعن في عصيانها بقراءة مجلة «بينكان». أما إليزابيث فكانت بمُفردها في المكتبة الصغيرة ذات الجو الخانق، تُقلب صفحات عدد قديم من مجلة «بلاكوودز».
بعد افتراقها عن فلوري، مرت إليزابيث بمُغامَرة بغيضة للغاية. كانت قد خرجت من حمَّامها، وترتدي ملابسها استعدادًا للعشاء حين ظهر عمها بغتةً في حجرتها. الحُجة: معرفة المزيد عما حدث أثناء رحلة الصيد. وراح يقرص ساقها بطريقة لا يُمكن أن يُساء فهمها على الإطلاق. أصاب إليزابيث الرَّوع، فقد كانت هذه أول مرة تعرف أن بعض الرجال لديهم القدرة على مُعاشَرة بنات إخوانهم. لكنَّنا نعيش ونتعلَّم. حاول السيد لاكرستين الاستمرار في الأمر على سبيل المزاح، لكنَّه كان أشد لخمة ويكاد يكون أشد سكرًا من أن ينجح في ذلك. ولحُسن الحظ أن زوجته كانت بعيدةً عن مجال السمع، وإلا ربما كانت أثارت فضيحةً من الطراز الأول.
بعد ما حدث، ساد العشاء جوٌّ من الحرج. فقد كان السيد لاكرستين عابسًا، مُتعجِّبًا، أي هراء هذا؟ الطريقة التي يتعالى بها هؤلاء النساء ويمنعنك من قضاء وقتٍ مُمتع! اللعنة، فقد كانت الفتاة على قدر من الجمال يكفي لتذكيره بالصور التي في مجلة «لا في باريزيان»! أوَليس هو من يدفع نفقات معيشتِها؟ يا للعار! أما من ناحية إليزابيث فقد كان الوضع خطيرًا جدًّا؛ إذ كانت مُفلِسة وليس لديها ملجأ إلا منزل عمِّها. فقد سافرت ثمانية آلاف ميل لتُقيم هنا. سيكون من الرهيب أن يصير منزل عمِّها غير صالح للإقامة بعد أسبوعين فقط.
بناءً على ذلك، صار شيء واحد مؤكدًا في ذهنِها أكثر مما كان؛ وهو أنها ستُوافِق إذا طلب منها فلوري الزواج (وسوف يفعل، فليس هناك شكٌّ كبير في ذلك). في وقتٍ آخر كان ثمَّة احتمال صغير أن تتَّخذ قرارًا مُغايرًا. كانت في عصر ذلك اليوم، تحت تأثير تلك المغامرة الرائعة المُثيرة «الجميلة» للغاية، قد اقتربت من أن تحبَّ فلوري؛ بقدر ما استطاعت من القرب نظرًا لحالته الخاصة. لكن ربما تُعاودها شكوكها حتى بعد ذلك؛ فطالما كان ثمة شيء مريب بشأن فلوري؛ سنُّه ووحمته وأسلوبه الغريب النَّزِق في الحديث، كلام «الثقافة الرفيعة» ذلك الذي كان مُبهَمًا ومربكًا في الوقت ذاته. مرَّت عليها أيام بلغ بها الأمر أن كرهته. أما الحين فقد حسم تصرف عمها المسألة. مهما يكن من أمر عليها أن تهرب من منزل عمها، وعلى جناح السرعة. أجل، لا شك أنها ستتزوج فلوري حين يطلب يدها للزواج!
استطاع أن يرى الإجابة في وجهها حين دخل المكتبة. بدا مظهرها أرقًا، أكثر استكانة مما عرفه. وكانت ترتدي نفس الفستان البنفسجي الفاتح الذي كانت ترتديه في ذلك الصباح الذي الْتقى بها فيه أول مرة، وقد منحتْه رؤية الفستان المألوف الشجاعة. بدا كأنه أدناها منه، مزيحًا الغرابة والأناقة التي كانت تُوهن عزيمته أحيانًا.
التقط المجلة التي كانت تقرؤها وقال ملحوظة ما؛ شرعا يُثرثران لبرهة من الوقت نفس الثرثرة التافهة التي نادرًا ما استطاعا تحاشيها. إنه لعجيب أن تستديم عادات الحديث التافه في كل اللحظات تقريبًا. لكن بينما هما يُثرثران وجدا نفسَيهما مُنساقَين إلى الباب ثم إلى الخارج، وبعد قليل إلى شجرة الياسمين الهندي الكبيرة لدى ملعب التنس. كانت ليلة اكتمال القمر. كان القمر متوهجًا مثل عملة مشتعلة، ساطعًا جدًّا حتى ليُوجع ضَوءُه العيون، وهو يسبح عاليًا في سماء في زُرقة الدخان، انسابت في أنحائها خطوط قليلة من الغيم الأصفر. وكانت النجوم كلها خافية. أما شجيرات الكروتون، التي تبدو بَشِعة نهارًا مثل أشجار غار أصابتها الصفراء، فقد حوَّلها القمر إلى أشكال مُتداخلة بالأبيض والأسود مثل صور مُذهِلة مطبوعة من قوالب خشبية. عند سور المَجمع كان ثمة عاملان درافيديان يسيران على الطريق، غير واضحَي التفاصيل، فيما راحت أسمالهما البيضاء تشعُّ وميضًا. كانت شجرة الياسمين الهندي ترسل في الهواء الدافئ رائحة قوية.
قال فلوري: «فلتنظُري إلى القمر، انظري إليه فحسب! كأنه شمس بيضاء. أشد ضوءًا من النهار الشتوي الإنجليزي.»
رفعت إليزابيث ناظرَيها عبر فروع شجرة الياسمين الهندي، التي بدَت كأن القمر قد حوَّلها إلى قُضبان من الفضة. انتشر الضوء سميكًا، كأنه قابل للمس، على كل شيء، فكسا الأرض ولحاء الأشجار الخَشن بقشرة مثل ملحٍ برَّاق، وبدت كل ورقة من أوراق الأشجار كأنها تحمل عبئًا من الضوء المَلموس، شبيه بالثلج. حتى إليزابيث، التي كانت لا تأبه لتلك الأشياء، كانت مَبهورة.
«إنه رائع! لا نرى ضوء القمر هكذا في الوطن مُطلقًا. إنه في غاية … غاية …» لما لم يواتِها نعتٌ سوى «ساطع»، لاذت بالصمت. كان من عاداتها أن تترك جُمَلها دون أن تُتمَّها، مثل روزا دارتل، وإن كان لسبب مُختلِف.
«أجل، القمر العجوز يُقدِّم أفضل ما عنده في هذا البلد. تلك الشجرة الكريهة الرائحة للغاية، أليس كذلك؟ شجرة مَدارية بشعة! أُبغض الشجرة التي تظلُّ وارفة طوال العام، ألستِ كذلك؟»
كان يتحدَّث شارد الذهن إلى حدٍّ ما، ليملأ الوقت حتى يغيب العاملان عن مرمى البصر. وبمجرد اختفائهما وضع ذراعه حول كتفِ إليزابيث، ولما لم تجفل أو تنطق، أدارها وضمها إليه. صار رأسها مُواجهًا لصدره وشعرها القصير ملامسًا لشفتيه. وضع يده أسفل ذقنها ورفع وجهَها ليُقابل وجهه. لم تكن هي ترتدي نظارتها.
«هل تُمانعين؟»
«لا.»
«أقصد ألا تُبالين … بهذا الشيء لدي؟» وهزَّ رأسه قليلًا ليُشير إلى الوحمة. لم يستطع تقبيلها دون أن يسأل هذا السؤال أولًا.
«لا، لا. بالطبع لا.»
بعد لحظة من تلاقي ثغرَيهما شعر بذراعَيها العاريتين تستقران بخفَّة حول رقبته. وقفا متعانقَين، وقد استندا إلى جذع شجرة الياسمين الهندي الناعم، جسدُه مُلاصِق لجسدها، وشفتاه ملاصقتان لشفتيها، طوال دقيقة أو أكثر. امتزجَت رائحة الشجرة المُثيرة للغثيان مع رائحة شعر إليزابيث. وقد أعطته الرائحة شعورًا بالغَفلة، بالبُعد عن إليزابيث، مع أنها كانت بين ذراعَيه. كل ما كانت تلك الشجرة الغريبة تُمثِّله له؛ منفاه، السر، السنوات الضائعة. كانت مثل هُوَّة لا سبيل لعبورها. كيف يُمكنه يومًا أن يجعلها تفهم ذلك الذي يُريدُه منها؟ انفصل عنها ودفَع بكتفَيها برفقٍ إلى الشجرة، وهو ينظر إلى وجهها، الذي استطاع رؤيته بوضوح شديد رغم أن القمر كان خلفها.
قال فلوري: «لا جدوى من أن أحاول إخباركِ ماذا أنتِ بالنِّسبة إليَّ. ماذا أنتِ بالنسبة إليَّ! هذه العبارات التي فقَدَت وقعها! إنكِ لا تعلمين، ولا يُمكن أن تُدرِكي، كم أُحبكِ. لكن يجب أن أحاولَ إخباركِ. هناك أشياء كثيرة جدًّا يجب أن أخبركِ بها. هل من الأفضل أن نعود إلى النادي؟ ربما يأتون للبحث عنَّا. يُمكننا أن نتحدَّث في الشرفة.»
قالت هي: «هل تبعثَرَ شَعري؟»
«إنه جميل.»
«لكن هل صار مُبعثرًا. هلا هذَّبته لي أرجوك؟»
حنَت رأسها إليه، فسوى خصلات شعرها القصير الرطب بيده. منحتْه الطريقة التي حنَت بها رأسها له شعورًا غريبًا بالقُرب، أقوى كثيرًا من القبلة، كما لو كان زوجها بالفعل. آه، لا بد أن تصير له، كان هذا مؤكدًا! فقط بالزواج منها من الممكن إنقاذ حياته. سيسألها في الحال. سارا على مهَل بين شجيرات الكروتون عائدَين إلى النادي، وذراعه ما زالت تُحيط بكتفِها.
قال مجددًا: «يُمكننا أن نتحدَّث في الشرفة. لسبب ما لم يتسنَّ لنا، أنا وأنتِ، أن نتحدَّث بحقٍّ قط. يا إلهي، لكَم اشتقت طوال هذه السنوات لشخص أتحدَّث معه! كم أودُّ الحديث معكِ بلا توقُّف، بلا توقف! يبدو هذا مملًّا. أخشى أنني سأكون مملًّا. لا بدَّ أن أرجوكِ أن تصبري على الأمر قليلًا.»
صدر منها صوت ينمُّ عن اعتراضها على كلمة «مُمل».
«لا، إنه مُمل. أعلم ذلك. نحن الإنجليزَ المقيمين في الهند دائمًا ما نُرى أشخاصًا مُملِّين. وإننا مُملُّون. لكن لا يدَ لنا في هذا. فالأمر وما فيه أن هناك … ما الكلمة المُناسِبة؟ … شيطان بداخلنا يدفعنا للكلام. إننا نتحدَّث تحت وطأة عبء من الذكريات التي نتلهَّف لمشاركتها ولا نستطيع أبدًا لسبب ما. إنه الثمن الذي ندفعه نظير قدومنا إلى هذا البلد.»
كانا في مأمن من المقاطعة في طرف الشرفة؛ إذ لم يكن ثمة باب يؤدي إليها مباشرةً. كانت إليزابيث قد جلست باسطة ذراعيها على المنضدة الخوص الصغيرة، أما فلوري فظلَّ يتمشَّى جيئةً وذهابًا، واضعًا يديه في جيوب معطفه، ذاهبًا إلى ضوء القمر المُنسكِب أسفل الحواف الشرقية لسقف الشرفة، وعائدًا إلى الظل.
«لقد قلت للتو إنني أحبكِ. الحب! لقد استُهلكت الكلمة حتى صارت بلا معنى. لكن دعيني أحاول التفسير. هذا العصر حين كنتِ هناك تصطادين معي، شعرت، يا إلهي! أخيرًا يوجد شخصٌ يستطيع أن يُشاركني حياتي، يعيشها معي حقًّا، هل ترين؟»
كان سيطلُب يدها للزواج. قطعًا، فقد انتوى أن يطلبها دون المزيد من التأخير. لكن لم تُنطَق الكلمات بعد؛ فقد وجد نفسه بدلًا من ذلك يسترسِل في الكلام بأنانية. لم يكن له حيلة في ذلك. كان من المهمِّ جدًّا أن تفهم كيف كانت حياته في هذا البلد؛ أن تستوعب طبيعة الوحدة التي أراد أن تمحُوها. وكان هذا صعب الشرح صعوبة مُفرِطة. من الشنيع أن تُكابدَ ألمًا يكاد يكون بلا اسم. طوبى لأولئك المصابين بأمراض يُمكن تصنيفها فحسب! طوبى للفقراء، المرضى، والذين نبذَهم أحباؤهم، فعلى الأقل يعلم الناس بحالهم ويُصغون بشفقة إلى شكاواهم. لكن هل يفهم ألم المنفى أولئك الذين لم يُقاسوه؟ ظلَّت إليزابيث تُشاهده في ذهابه وإيابه، وهو يدخل بؤرة ضوء القمر الذي جعل معطفه الحرير فضِّيًّا، ويخرج منها. كان قلبها لا يزال يخفق من أثر القُبلة، لكن هامت أفكارها وهو يتكلَّم. هل ينوي أن يطلب منها الزواج؟ لشدَّ ما يتباطأ في هذا الأمر! كانت مدركة إدراكًا طفيفًا أنه كان يقول شيئًا عن الوحدة. آه، بالطبع! كان يُحدِّثها عن الوحدة التي سيكون عليها أن تحتملَها في الغابة حين يتزوَّجان. ما كان عليه أن يقلق. ربما تشعر حقًّا بشيء من الوحدة في الغابة أحيانًا. وأنت على بُعد أميال من كل شيء، بلا سينمات، أو حفلات راقصة، ولا أحد لتُبادله الحديث سوى مبادلة أحدنا الآخَر، وليس لديك شيء لتفعله في المساء سوى القراءة؛ إنه شيء مُضجِر بعض الشيء. لكن يُمكن امتلاك جرامافون. كم ستختلِف الحياة حين تُتاح أجهزة الراديو المحمولة الجديدة تلك في بورما! كانت على وشك أن تقول هذا حين أضاف:
«هل أوضحت لكِ مُرادي على الإطلاق؟ هل صار لديكِ تصور للحياة التي نعيشُها هنا؟ الغربة والوحدة والشجن! أشجار غريبة وزهور غريبة ومناظر غريبة ووجوه غريبة. كل هذا غريب كأنه كوكب مُختلِف. لكن لتعلَمي — وهذا هو ما أريد بشدة أن تفهميه — لتعلمي أن العيش على كوكب مختلف قد لا يكون شيئًا بالغ السوء، بل قد يكون أمتع شيء يخطر على البال، إذا كان لديكِ ولو شخص واحد لتُقاسميه إياه. شخص واحد يستطيع أن يراه بعينَين تُشبهان عينيكِ. كان هذا البلد بمثابة جحيم من العزلة لي — إنه كذلك لغالبيتنا — إلا أنني أؤكد لكِ أنه قد يكون نعيمًا إذا لم يكن المرء وحيدًا. هل يبدو كل ما أقوله بلا أي معنًى؟»
توقَّفَ بجانب المنضدة، والتقَطَ يدها. لم يستطِع أن يرى في الظلام الجزئي سوى وجهها بيضاويًّا باهتًا، مثل زهرة، لكن من مَلمس يدِها عرف في الحال أنها لم تفهم كلمة مما كان يقول. بالطبع كيف لها أن تفهم؟ كان هذا الحديث ذو الشجون بلا جَدوى على الإطلاق! سيقول لها على الفور: هلا تزوجتِني؟ ألا يوجد عمر لنتحدَّث فيه. هكذا أمسك يدها الأخرى وأنهَضَها برفق.
«سامحيني على كل هذا الهراء الذي تحدَّثت به.»
فهمستْ بصوت خافت، مُتوقِّعة أنه على وشكِ أن يُقبِّلَها: «لا بأس.»
«لا، إن الحديث هكذا من قبيل اللغو. فبعض الأشياء تُقال بالكلمات وأشياء أخرى تأبى ذلك. كما أنه كان من الوقاحة أن أسترسل في الشكوى من حالي. لكنني كنتُ أُحاول أن أمهِّد الطريق لشيء. فلتسمعيني، هذا ما أردت قوله. هل …»
«إليزابيث!»
كان ذلك صوت السيدة لاكرستين الكئيب العالي النبرة، ينادي من داخل النادي. «إليزابيث؟ أين أنتِ يا إليزابيث؟»
كان واضحًا أنها كانت قريبة من الباب الأمامي، وستكون في الشرفة في بحر لحظة. ضم فلوري إليزابيث إليه، وتبادَلا القُبل على عجل. ثم أطلقها، مُبقيًا على يديها في يديه.
«سريعًا، الوقت يداهمنا. أجيبي على سؤالي. هل …»
لكن لم تتمَّ تلك الجملة قط عن ذلك؛ إذ وقع شيء استثنائي في نفس اللحظة تحت قدمَيه. راحت الأرض تمور وتتمايل مثل البحر؛ فأخذ يترنَّح ثم سقط وقد أصابه دُوار، مُرتطمًا بالأرض بساعده عند اندفاعِه إليها. وحيث استلقى وجد نفسه يُرجُّ بعنفٍ ذات اليمين وذات اليسار كأن وحشًا ضخمًا ما تحت الأرض كان يُؤرجِح المبنى بأكمله على ظهره.
استعادت الأرض الثَّملى وضعها الصحيح على نحو مفاجئ، وجلس فلوري مُستقيمًا، ذاهلًا لكن من دون أذًى بالغ. انتبه في وهن إلى إليزابيث وهي مُنبطحة بجانبه، وصرخات آتية من داخل النادي. كان يتسابق وراء البوابة رجلان بورميان في ضوء القمر وشعورهما الطويلة مُسترسِلة وراءهما. وكانا يصرخان بعلو صوتيهما:
«(نجا ين) يهتز! (نجا ين) يهتز!»
شاهدهما فلوري دون فهم. من هو نجا ين. «نجا» هي بادئة تُعطَى للمُجرمين. لا بد أن نجا ين مجرم. لكن لماذا كان يهتز؟ ثم تذكر. نجا ين هو عملاق يعتقد البورميون أنه مدفون، مثل تايفوس أسفل قشرة الأرض. بالتأكيد! كان هذا زلزالًا.
هتف فلوري: «زلزال!» وتذكر إليزابيث فتحرَّك ليُنهضَها. لكنها كانت تنهض بالفعل، ولم يُصبْها أذًى، وأخذت تُدلِّك مُؤخِّرة رأسها.
قالت بصوت مفزوع بعض الشيء: «هل كان ذلك زلزالًا؟»
اقتربت السيدة لاكرستين بهيئتها الفارعة بخُطوات وئيدة، وقد تشبَّثت بالجدار مثل سحلية طويلة. وكانت تصرخ صراخًا هستيريًّا قائلة:
«يا للهول، زلزال! آه، يا لها من هزَّة مُروِّعة! لا قِبَل لي بذلك. قلبي لا يحتمل! يا للهول، يا للهول! زلزال!»
كان السيد لاكرستين يترنَّح خلفها، بخُطًى مختلَّة غريبة بسبب الهزات الأرضية من ناحية والجين من ناحية أخرى.
قال السيد لاكرستين: «زلزال، سُحقًا!»
نهض فلوري وإليزابيث على مهَل. ودخلوا جميعًا، بذلك الشعور الغريب في باطن أقدامهم الذي يشعر به المرء حين يخطو من قارب مهتزٍّ إلى البر. هرع الساقي العجوز من حجرات الخدم، ووضَع عمامَته على رأسه بمجرد أن وصَل، ومن ورائه حشدٌ من الغلمان يُثرثرون.
وانطلق في الكلام قائلًا بلهفة: «زلزال يا سيدي، زلزال!»
قال السيد لاكرسيتن وهو يهبط بحرص إلى أحد المقاعد: «أعلم جيدًا أنه كان زلزالًا. أنت أيها الساقي، هاتِ بعض المشروبات. والله إنني بحاجة إلى القليل من الشراب بعد ما جرى.»
تناولوا جميعًا القليل من الشراب. ووقف الساقي، خجِلًا لكن مُبتهجًا، على ساق واحدة بجانب الطاولة، بالصينية في يدِه. وقال مجددًا بحماس: «زلزال يا سيدي، زلزال كبير!» كان يتَّقد حماسًا للكلام؛ وكذلك كان كلُّ فرد من الآخرين. فقد غَمَرهم جميعًا شعور غير مُعتاد ببهجة الحياة بمجرَّد أن غادرَ سيقانَهم شعورُ القلقلة. فإن الزلزال يصير مُسليًا للغاية حين ينتهي. فإنه مما يبثُّ في النفس بهجةً شديدةً أن تتبصَّر أنك لست جثَّة هامدة تحت كوم من الأنقاض، كما كان من الوارد جدًّا. وهكذا انطلقُوا كلهم في الكلام بالإجماع: «ويحي، لم أرَ هزة كهذه في حياتي! لقد سقطتُ مُتمدِّدًا تمامًا على ظهري؛ شعرتُ كأن كلبًا ضالًّا لعينًا كان يحكُّ نفسه تحت الأرض. اعتقدت أنه لا بد أن يكون انفجارًا وقع في مكان ما.» وهكذا دواليك؛ ثرثرة الزلزال المعتادة. وحتى الساقي ضُمَّ للمحادثة.
قالت السيدة لاكرستين بلطفٍ شديد، بالقياس إليها: «أعتقد أنك تتذكَّر الكثير جدًّا من الزلازل، أليس كذلك أيها الساقي؟»
«أجل يا سيدتي، العديد من الزلازل! عام ألف وثمانمائة وسبعة وثمانين، وألف وثمانمائة وتسعة وتسعين، وألف وتسعمائة وستة، وألف وتسعمائة واثنَي عشر … أتذكر العديد والعديد منها يا سيدتي!»
قال فلوري: «زلزال ألف وتسعمائة واثني عشر كان كبيرًا بعض الشيء.»
«لكن زلزال ألف وتسعمائة وستة كان أكبر يا سيدي! كانت هزَّة فظيعة جدًّا يا سيدي! وقد سقَط صنمٌ وثنيٌّ كبير في المعبد فوق اﻟ «ثاثانابينج»؛ أي الأسقف البوذي يا سيدتي، وهو ما يقول البورميون إنه فأل سيِّئ يُنذر بفساد محصول الأرز والحُمى القلاعية. أتذكر أيضًا أول زلزال لي عام ألف وثمانمائة وسبعة وثمانين، حين كنت غلامًا صغيرًا، وكان الميجور ماكلاجان مُستلقيًا تحت الطاولة يعدُ بأنه سيُوقِّع التعهُّد بالامتناع عن المسكرات في صباح اليوم التالي. لم يكن يعلم أنه زلزال. كذلك ماتت بقرتان من سقوط السقف عليهما … إلخ».
مكَث الأوروبيُّون في النادي حتى مُنتصَف الليل، وتردَّد الساقي على الحُجرة في زيارات قصيرة نحو ستِّ مرات، ليحكي طُرفةً جديدة. ولم يُوبِّخْه الأوروبيون على الإطلاق، بل إنهم شجَّعُوه على الحديث. لا شيء يُضاهي الزلزال في الجمع بين الناس. هزَّة أخرى، أو ربما اثنتان، وكانوا سيطلُبون من الساقي أن يجلس معهم إلى الطاولة.
في الوقت ذاته لم يتطوَّر عرض فلوري عما وصَلَ إليه. فلا يُمكن لأحد أن يتقدَّم للزواج بعد زلزالٍ مباشرةً. وهو على كل حال لم يرَ إليزابيث بمُفردِها ما تبقَّى من ذلك المساء. لكن لا بأس بذلك؛ إذ كان يعلم أنها صارَت له. سيكون في الصباح وقتٌ كافٍ. بناءً على هذا الخاطر، خلَدَ إلى الفراش، مطمئن البال، ومنهك الجسد بعد اليوم الطويل.