الفصل الثامن عشر
بعد مشاجرة الليلة السابقة ظلَّ إليس طوال الأسبوع يتطلَّع إلى مُضايقة فلوري. فقد أطلق عليه اسم نانسي — اختصارًا لفتى الزنوج المخنث، لكن لم تفهمه النساء — وراح يختلِق عنه الفضائح الجامحة؛ إذ كان إليس دائمًا ما يُلفِّق الفضائح عن أي شخص يتشاجر معه؛ فضائح تتحول، بالاستطرادات المتكرِّرة، إلى نوع من الملاحم. وسريعًا ما تضخَّمت عبارة فلوري التي لم يتوخَّ الحذر عند قولها عن كون الدكتور فيراسوامي «شخص طيب جدًّا»، فتحوَّلت إلى صحيفة كاملة مليئة بالتجديف والفتنة.
قال إليس: «أقسم بشرفي يا سيدة لاكرستين.» — كانت السيدة الكرستين قد صار لديها بغضٌ مفاجئ لفلوري بعد اكتشاف السر العظيم لفيرال، وكانت على استعداد تام للإنصات لحكايات إليس — «أقسم بشرفي، لو أنكِ كنتِ موجودة ليلة أمس واستمعتِ إلى الأشياء التي قالها ذلك الرجل فلوري … حسنًا، كان الدم سيتجمد في عروقك!»
«حقًّا! الحقيقة أنني طالما اعتقدت أن لديه أفكارًا غريبة. ما الذي كان يتكلم عنه هذه المرة؟ أرجو ألا تكون الاشتراكية؟»
«أسوأ.»
كان هناك روايات طويلة. لكن أُصيب إليس بخيبة أمل؛ إذ إن فلوري لم يبقَ في كياوكتادا ليضايقه. فقد عاد للمعسكر في اليوم التالي بعد صد إليزابيث له. سمعت إليزابيث أغلب ما قيل عنه من قصص مشينة. صارت تفهمه تمامًا الآن. أدركت لماذا كان كثيرًا جدًّا ما يُضجرها ويُغضبها. كان رفيع الثقافة — أبغض العبارات إليها — رفيع الثقافة، في مصافِّ لينين وأيه جيه كوك والشعراء الصغار القَذِرين في مقاهي مونبارناس. كان بإمكانها أن تغفر له مسألة عشيقته البورمية نفسها في يُسر، ولكن ليس ذلك الأمر. كتب فلوري إليها بعد ثلاثة أيام خطابًا، أرسله يدًا بيد؛ فقد كان معسكره على مسيرة يوم من كياوكتادا. لكن إليزابيث لم ترُد.
من حسن حظ فلوري أنه كان مشغولًا للغاية في ذلك الوقت ليفكر في الأمر. فقد كان المعسكر بأسره في فوضى منذ غيابه الطويل؛ إذ غاب نحو ثلاثين من العمال، وتدهورت حالة الفيل المريض عن ذي قبل، ولبثت كمية هائلة من جذوع التيك كان لا بد من شحنها قبل عشرة أيام؛ لأنَّ المحرك كان عاطلًا. حاول فلوري الذي كان جاهلًا بالماكينات استقصاء الأجزاء الداخلية للمُحرِّك حتى غطاه السخام والشحم وأخبره كو سلا بحدة أن الرجال البيض لا يجدر بهم أن يؤدُّوا «مهام العمال». وأخيرًا حُمل المحرك على العمل أو الارتجاج على الأقل. واكتُشف أن الفيل المريض كان يعاني من الديدان الشريطية. أما العمال فقد تركوا العمل لانقطاع مَورِدهم من الأفيون؛ فهم يرفُضون البقاء في الغابة من دون الأفيون، الذي يتعاطونه على سبيل الوقاية من الحمى. فقد جعل يو بو كين مسئولي الضرائب يقومون بغارة ويصادرون الأفيون، لرغبته في إيذاء فلوري. راسل فلوري الدكتور فيراسوامي، سائلًا معونته، فأرسل إليه الطبيب كمية من الأفيون، حصل عليه بطريقة غير شرعية، ودواءً للفيل وخطابًا دقيقًا بالتعليمات، وقد استُخرجَت دودة شريطية طولها واحد وعشرون قدمًا. هكذا كان فلوري يظلُّ مشغولًا طوال اثنتي عشرة ساعة يوميًّا. في المساء حين لا يعود لديه شيء ليفعله كان يتوغَّل في الغابة ويسير ويسير حتى يلسع العرق عينيه وتُدمي النباتات الشائكة ركبتيه. كان الليل أشق عليه؛ إذ كانت مرارة ما حدث تتغلغَل بداخله، كما يحدث دائمًا، شيئًا فشيئًا.
في الوقت ذاته، مرَّت عدة أيام ولم تر إليزابيث فيرال إلا على بُعد مائة ياردة على الأقل. كان عدم ظهوره في النادي مساءَ يومِ وصوله خيبة أمل كبرى. فقد استاء السيد لاكرستين بشدة حين وجد أنه أجبر على ارتداء بذلة السهرة دون جدوى. في الصباح التالي جعلت السيدة لاكرستين زوجها يرسل رسالة تطفل إلى بيت المسافرين، يدعو فيها فيرال إلى النادي؛ لكن لم يأتِ رد. مرت أيام أخرى، ولم يُحرِّك فيرال ساكنًا للانضمام إلى المجتمع المحلي. بل وكان يتجاهَل حتى زياراته الرسمية، فلم يتكلَّف عناء تقديم نفسه في مكتب السيد ماكجريجور. كان بيت المسافرين قائمًا في الجهة الأخرى من البلدة، قرب المحطة، وكان قد استقرَّ به المقام تمامًا هناك. كان ثمة قاعِدة تقتضي أن يُخلي الساكن بيت المسافرين بعد عدد محدَّد من الأيام، لكن فيرال تجاهلها بأسلوبٍ سِلمي. ولم يره الأوروبيون إلا في الميدان صباحًا ومساءً. ففي اليوم الثاني بعد وصوله جاء خمسون من رجاله بمناجل وأزالوا الزرع من جزء كبير من الميدان، بعدها كان يُشاهَد فيرال أثناء عَدوِه بالفرس هنا وهناك، وهو يُمارس البولو. ولم يكن يُلقي بالًا على الإطلاق لأي من الأوروبيين الذي يمرُّون في الطريق. وقد حنقَ عليه ويستفيلد وإليس، وحتى السيد ماكجريجور قال إن سلوك فيرال كان «فظًّا». كانوا جميعًا سيتذلَّلون للملازم النبيل لو أنه كان قد أظهر ولو أقل قدر من اللياقة؛ وهكذا مقَته الجميع من البداية ما عدا السيدتين. هكذا الأمر دائمًا مع ذوات الألقاب، الناس إما تعشقهم أو تبغضهم. فإذا رحَّبوا بأحد كان ذلك بساطة محبَّبة، وإذا تجاهلوا أحدًا كان ذلك تكبرًا مذمومًا؛ لا يوجد أنصاف حلول.
كان فيرال الابن الأصغر لأحد النبلاء، ولم يكن ثريًّا على الإطلاق، لكنه كان يستطيع إعالة نفسه في الأشياء الوحيدة التي كانت تُهمُّه بحق؛ الملابس والخيل بأنه كان نادرًا ما يُسدِّد فواتيره إلا بعد صدور مذكرة قانونية ضده. وكان قد جاء الهند في كتيبة من سلاح الفرسان البريطاني، وحوَّل منه إلى الجيش الهندي؛ لأنه كان أرخص ويُتيح له حرية أكبر لممارسة البولو. بعد عامَين تضخَّمت ديونُه حتى إنه دخل شرطة بورما العسكرية، التي ساء صيتها وحيث كان من الممكن ادِّخار المال؛ إلا أنه بغضَ بورما — فهو لم يكن بالبلد المناسب للفرسان — ولذا كان قد تقدَّم بطلب بالفعل للعودة إلى كتيبته. كان فيرال من نوعية الجنود الذين يتبادَلُون الأحاديث حين يُريدون. في الوقت ذاته، كان من المقرر أن يبقى في كياوكتادا لشهر فقط، ولم يكن لدَيه نية الاختلاط بمجتمع الأوروبيين التافهين في المنطقة؛ إذ كان يعرف مجتمع تلك القواعد البورمية الصغيرة؛ رعاع مقرفون مُخنَّثون لا يملكُون خيولًا. كان يحتقرُهم.
لم يكونوا الناس الوحيدين الذين كان فيرال يحتقرُهم؛ إذ تحتاج مختلف الأشياء التي يحتقرها وقتًا طويلًا لتُفهرَس بالتفصيل. كان يحتقر سكان الهند غير العسكريين أجمعين، باستثناء قلَّة من لاعبي البولو المعروفين. وكان يحتقِر الجيش بأسره، ما عدا سلاح الفرسان. كان يحتقر كل الكتائب الهندية، المشاة والفرسان على حدٍّ سواء. صحيح أن هو نفسه كان ينتمي لكتيبة محلية، لكن هذا كان فقط لمصلحته. ولم يكن يكترث للهنود، واقتصرت معرفته باللغة الأردية على كلمات السباب، مع تصريف كل الأفعال مع ضمير الغائب المفرد. وكان يعتبر رجال الشرطة العسكرية بمثابة العمال. وكثيرًا ما كان يسمع أثناء تقدمه بين الصفوف لتفقدها وهو يُتمتِم قائلًا: «يا إلهي، يا له من خنزير مُزرٍ!» وخلفه الضابط الهندي العجوز حاملًا سيفه. وقد تورط فيرال في مشكلة ذات مرة بسبب آرائه الصريحة حول القوات المحلية. كان ذلك أثناء استعراضٍ عسكري، حيث كان فيرال بين مجموعة من الضباط واقفين خلف الجنرال. ثم اقتربَت إحدى كتائب المشاة الهندية من أجل العرض.
قال أحد الأشخاص: «لواء البنادق.»
فقال فيرال بصوته الصبياني الفظ: «انظروا كيف يبدو.»
كان كولونيل لواء البنادق الأشيب واقفًا على مقربة، وقد احمرَّ غضبًا حتى عنقه وأبلغ عن فيرال للجنرال. وُجه توبيخ إلى فيرال لكن الجنرال، الذي كان هو نفسه ضابطًا في الجيش البريطاني، لم يُؤنِّبه بشدة. لم يُلمَّ شيء خطير حقًّا بفيرال قط بطريقة أو بأخرى، مهما بلغَت إساءته. وأينما كان يقيم في أنحاء الهند، كان يُخلِّف وراءه أثرًا من أشخاص أهانهم وواجبات أغفلَها وفواتير لم يُسدِّدها. ومع ذلك لم تُلاحقه قط الفضائح التي كان أحرى بها أن تلاحقه. فقد كان الحظُّ حليفه دائمًا، ولم يكن لقبه وحده الذي يُنقذه. كان ثمة شيء في عينَيه يجعل المطالبين بسداد الديون وزوجات المسئولين البريطانيين في الهند وحتى الكولونيلات يجبُنون أمامه.
كانتا عينَين مُربكتين، ذاتَي زرقة فاتحة وجاحظتين قليلًا، لكن صافيتان أشد ما يكون الصفاء. تفحصانك، وتضعانك في الميزان فلا تجد لك وزنًا، بنظرة واحدة باردة قد تستغرق خمس ثوان. إذا كنت النَّوع المناسب من الرجال — أي إذا كنت ضابطًا في سلاح الفرسان ولاعب بولو — فسوف يعمل فيرال لك حسابًا بل ويُعاملُك باحترام؛ أما إذا كنت من أي نوع آخر من الرجال أيًّا كان، فسوف يزدريك إلى أقصى درجة حتى إنه لن يستطيع إخفاء ذلك ولو حاول. لم يكن يفرق معه مطلقًا ما إذا كنت غنيًّا أو فقيرًا، فلم يكن من الناحية الاجتماعية سوى شخصٍ متكبرٍ بطبيعته. بالطبع كان مثل جميع أبناء الأسر الثرية يعتقد أن الفقر مُقزِّز وأن الفقراء فقراء لأنهم يفضلون الحياة المُقزِّزة. لكنه كان يحتقر العيش المرفه. كان ينفق، أو بالأحرى يستدين، مبالغ طائلة على الملابس، لكن يعيش زاهدًا مثل ناسك. كان يُمارس التمارين الرياضية دون انقطاع وبقسوة، ويرشِّد استهلاكه للشراب والسجائر، وينام على فراش المعسكر (مُرتديًا بيجامة حرير) ويتحمَّم بالماء البارد في أشد أوقات الشتاء برودة. كان لا يقدس سوى الفروسية واللياقة البدنية. وقع حوافر الخيل في الميدان، والشعور بالقوة والاتزان وجسمه مُتشبِّث بالسرج مثل كائن القنطور، وعصا البولو وهي مرنة في يده؛ كانت تلك الأشياء هي الديانة التي يعتنقها والهواء الذي يتنفَّسه. كان الأوروبيون في بورما بعاداتهم من معاقرة الخمر وملاحقة النساء والتسكع بوجوههم الشاحبة يُثيرون اشمئزازه متى خطرت على باله عاداتهم. أما الواجبات الاجتماعية بجميع أشكالها فقد كان يدعوها أمورًا نسائية ويتجاهلها. والنساء كان يُبغضهن؛ إذ كنَّ من وجهة نظره نوعًا من جنيات البحر هدفهن هو استدراج الرجال بعيدًا عن البولو وتوريطهم في حفلات الشاي ولعب التنس. لكنه لم يكن منيعًا ضد النساء؛ فقد كان شابًّا والنساء من كل الأطياف تقريبًا يتهافتْن عليه؛ وكان يستسلم بين الفينة والفينة. لكن سرعان ما كانت هفواته تُثير اشمئزازه، فيتصرف بغلظة مسرفة حين تقتضي الضرورة وتواجهه أي صعوبة في الهرب. وكان قد أقدم على ذلك الهروب نحو اثنتي عشرة مرة خلال العامين اللذَين قضاهما في الهند.
مر أسبوع كامل ولم يتأتَّ لإليزابيث حتى التعرف على فيرال. كان هذا مُثيرًا للغاية! كل يوم، صباحًا ومساءً، كانت هي وزوجة عمها تسلكان الطريق إلى النادي وتعودان مرةً أخرى، مارَّتين بالميدان؛ وكان فيرال هناك، يضرب كرات البولو التي يُلقيها إليه الجنود الهنود، متجاهلًا المرأتين تمامًا. قريبًا جدًّا لكنه بعيد جدًّا! ما زاد الطين بلة أنه ولا واحدة من المرأتين كانت ترى أنه من اللائق التحدث في الأمر مباشرةً. ذات مساء ضرب الكرة ضربةً شديدة فانطلقت في حفيف وسط الحشائش وتدحرجت على الطريق أمامهما. توقفت إليزابيث وزوجة عمها تلقائيًّا. لكن كان الجندي وحده الذي جرى لالتقاط الكرة. كان فيرال قد رأى المرأتين وظلَّ مبتعدًا.
في الصباح التالي توقَّفَت السيدة لاكرستين بعد خروجهما من البوابة. كانت قد أقلَعَت مؤخَّرًا عن ركوب الريكشا [عربة صغيرة يجرُّها رجل]. أسفل الميدان كان رجال الشرطة العسكرية مُصطفِّين، صفًّا بلَون الغبار بحِراب لامعة. كان فيرال مواجهًا لهم، لكن من دون لباسه الرسمي؛ كان نادرًا ما يرتدي لباسه الرسمي من أجل طابور الصباح، مُعتقدًا أنه غير ضروري مع رجال من الشرطة العسكرية. كانت المرأتان تجولان بنظرَيهما في كل شيء عدا فيرال، وتتمكَّنان في الوقت ذاته، وبطريقة ما، من النظر إليه.
قالت السيدة لاكرستين: «البغيض في الأمر …» — كانت هذه العبارة لتغيير الموضوع، لكن لم يكن الموضوع بحاجة إلى مقدمة — «البغيض في الأمر أن عمَّك عليه حقًّا الرجوع إلى المعسكر قريبًا.»
«هل يجبُ عليه ذلك حقًّا؟»
«أخشى هذا. وتكون الأجواء بغيضة للغاية في المعسكر في هذا الوقت من العام! آه، وذلك الناموس!»
«ألا يستطيع البقاء أكثر قليلًا؟ أسبوعًا مثلًا؟»
«لا أعتقد أنه يستطيع. لقد لبثَ في المقر نحو شهر حتى الآن. وسوف تستاء الشركة إذا علمت بالأمر. وبالطبع ستُضطرُّ كلتانا إلى الذهاب معه. يا للضجر! الناموس … فظيع للغاية!»
قطعًا فظيع! أن يُضطرُّوا إلى الرحيل قبل أن تكون إليزابيث قد قالت لفيرال كيف حالك حتى! لكنهما كانتا ستضطران إلى الذهاب حتمًا إذا ذهب السيد لاكرستين. فلن يصلح قط أن يُترك بمفرده. فإن الشيطان يجد بعض المفاسد حتى في الغابة. سرى وهجٌ كأنه حريق مشتعِل في صف الجنود؛ كانوا يخلعون حرابهم قبل السير راحلين. انعطف الصف المغبر يسارًا، وأدَّوا التحية وساروا مُبتعدين في صفوف من أربعة أفراد، بينما جاء العساكر من صفوف الشرطيِّين بالأمهار وعصيِّ البولو. وهنا اتخذت السيدة لاكرستين قرارًا بطوليًّا.
قالت: «أرى أن نسلُكَ الطريق المختصر عبر الميدان. فهذا أسرع كثيرًا من الدوران يمينًا باتخاذ الطريق.»
كان أقصر بنحو خمسين ياردة، لكن لم يسلك أحد ذلك الطريق مَشيًا قط، بسبب بذور الحشائش التي تدخل في الجوارب. توغَّلت السيدة لاكرستين بجسارة في الحشائش، متخلية حتى عن التظاهُر بالتوجه إلى النادي، واتجهت مباشرةً إلى فيرال. كانت كل من المرأتين تُفضل التعذيب حتى الموت على المخلعة على الإقرار بأنها كانت تريد أي شيء سوى اتخاذ طريق مُختصَر. رآهما فيرال آتيتين، فراح يسبُّ، وكبح جماح مهره. لم يكن من اللائق أن يتجاهلهما الآن وقد جاءتا علَنًا لتُبادراه بالكلام. يا لجسارة هاتين المرأتين! اتجه إليهما ببطء مُمتطيًا فرسه وعلى وجهه إمارات التجهم، وهو يطارد كرة البولو بضربات صغيرة.
صاحت السيدة لاكرستين بصوتٍ مبالغ في عذوبته، من على بُعد عشرين ياردة: «صباح الخير يا سيد فيرال!»
ردَّ عليها عابسًا قائلًا: «صباح الخير!» بعد أن رأى وجهَها وعَدَّها واحدة من العجائز الهَرِمات المهزولات المألوف وجودهن في القواعد الهندية.
في اللحظة التالية صارت إليزابيث في نفس المستوى مع زوجة عمها. كانت قد خلعت نظارتها وأخذت تُؤرجِح قبعتها بيدها. لماذا تقلق من الإصابة بضربة شمس؟ فقد كانت مدركة تمامًا لجمال شعرها القصير. هبَّت نسمة ريح — ما أجملها هذه النسمات اللطيفة التي تهب فجأة في الأيام الحارة الخانقة! — وأمسكت بثوبها القُطني وألصقته بها، فظهر إطار جسدها، نحيفًا وفتيًّا مثل شجرة. ظهورها المباغت بجانب المرأة الأكبر سنًّا التي سفعتها الشمس كان مفاجأةً سارَّة لفيرال. وقد وجف حتى إن المهرة العربية شعرت بذلك وكانت ستشبُّ على قائمَيها الخلفيَّين، فاضطرَّ إلى إحكام قبضته على اللجام. لم يكن قد عرف حتى هذه اللحظة، ولا اهتم بالاستفسار عما إذا كان ثمَّة نساء شابات في كياوكتادا.
قالت السيدة لاكرستين: «ابنة أخي زوجي.»
لم يجب، لكنه ألقى بعصا البولو بعيدًا، وخلع قبعته. وظل هو وإليزابيث يحدق كل منهما في الآخر لوهلة. بدا وجهاهما النَّضِران خاليين من العيوب في أشعة الشمس القاسية. وكانت بذور الحشائش تنغز ساقَي إليزابيث نغزًا شديدًا مُؤلمًا، ولم تستطع من دون نظارتها أن ترى فيرال وفرسه إلا غشاوة مائلة للبياض. لكنها كانت سعيدة، سعيدة! راح قلب إليزابيث يتوثَّب وتدفق الدم إلى وجهها، فصبغه بطبقة رقيقة شفَّافة. «حقًّا إنها جميلة!» كان هو الخاطر الذي جالَ بذهن فيرال يكاد يعصِف به. أما الهنود المتجهِّمون الذين أمسكوا برءوس الأمهار، فأخذوا يُحملِقون بفضول في المشهد، كأن حسن الشابين قد ترك أثره عليهم هم الآخرين.
كسرت السيدة لاكرستين الصمت، الذي استمرَّ نصف دقيقة.
فقالت بشيء من المكر: «أتعلم يا سيد فيرال، إننا نَعتقد أنك كنت قاسيًا بعض الشيء لتجاهلك لنا نحن المساكين طيلة هذا الوقت. فإننا نتلهَّف بشدة لرؤية وجه جديد في النادي.»
كان هو لا يزال ينظر إلى إليزابيث حين أجاب، لكن التغيُّر في نبرة صوته كان ملحوظًا.
«كنتُ أنوي المجيء لبضعة أيام. فقد كنتُ مشغولًا لأقصى درجة؛ في وضع رجالي في مقراتهم وما إلى ذلك.» ثم أضاف قائلًا: «إنني آسف» — لم يكن من عادته الاعتذار، لكنه كان قد حسم أمره، فهذه الفتاة كانت حقًّا شيئًا استثنائيًّا بشكلٍ ما — «آسف على عدم الرد على رسالتكم.»
«آه، لا عليك! فإننا مُدرِكُون تمامًا. لكنَّنا نرجو أن نراك في النادي هذا المساء! هذا لأننا …» قالت منهية حديثها بمكْر أكثر: «إذا خيبت ظنَّنا مرةً أخرى، سيُراودنا الظن أنك شابٌّ مُشاغب!»
كرر اعتذاره قائلًا: «آسف، سوف أكون هناك هذا المساء.»
لم يكن هناك المزيد ليُقال، فمضت المرأتان إلى النادي. لكنَّهما بالكاد مكَثَتا خمس دقائق؛ إذ كانت بذور الحشائش تعذبهما أيما تعذيب حتى إنهما اضطرَّتا للعودة إلى المنزل سريعًا وتغيير جواربهما في الحال.
أوفى فيرال بوعده وذهب إلى النادي ذلك المساء. وقد وصَل مُبكِّرًا عن الآخرين، وكان قد جعل حضوره ملحوظًا تمامًا قبل أن يكون هناك بخمس دقائق. حين دخل إليس النادي انطلق الساقي العجوز من حجرة لعب الأوراق وتربُّص به. كان في جزع شديد، والدموع تنهمِر على وجنتيه.
«سيدي! سيدي!»
قال إليس: «ما الأمر بحقِّ الشيطان!»
«سيدي! سيدي! لقد ضرَبني سيد جديد يا سيدي!»
«ماذا؟»
«ضربني يا سيدي!» ارتفع صوته وهو يقول «ضربني!» بعويلٍ باكٍ طويل، «ضررربني!»
«ضربك؟ هذا ما تستحقه. من الذي ضربك؟»
«سيد جديد يا سيدي. سيد من الشرطة العسكرية. ضرَبَني بقدمِه يا سيدي … هنا!» ودعك نفسه من الخلف.
قال إليس: «تبًّا!»
ذهب إليس إلى قاعة الجلوس، حيث كان فيرال يقرأ «ذا فيلد»، لا يظهر منه سوى طرف سرواله القُطني الخفيف وحذاؤه البُني المصفر اللامع. وهو لم يتكلَّف أن يُحرِّك ساكنًا عند سماع دخول شخص آخر الحجرة. وقد توقَّف إليس وقال:
«أنت! ما اسمك؟ فيرال!»
«ماذا؟»
«هل ركلت الساقي؟»
ظهرت عينا فيرال الزرقاوان العابستان من وراء «ذا فيلد»، مثل عيني إحدى القشريات حين تطل من وراء صخرة.
قال مرةً أخرى في الحال: «ماذا؟»
«قلت هل ضربَت الساقي اللعين؟»
«أجل.»
«ماذا تقصد إذن بفعلتك هذه؟»
«لقد خاطَبَني الوغد بوقاحة. طلبت منه ويسكي وصودا فأتى به دافئًا. طلبت منه أن يضيف له ثلجًا، فرفض. تفوَّه ببعض الترَّهات اللعينة حول ادخار القطع الأخيرة من الثلج. فركلت مؤخِّرته. لقد استحقَّ العقاب.»
استحال إليس رماديًّا تمامًا، وقد استشاط غضبًا. إذ كان الساقي قطعة من مُقتنيات النادي ولا يجوز أن يركله الغرباء. لكن أكثر ما أغضب إليس أنه من الوارد تمامًا أن يكون فيرال قد شكَّ أنه مُشفِق على الساقي، بل أن يكون مُستنكرًا لعقاب الركل في حد ذاته.
«استحقَّ العقاب؟ أعتقد أنه استحق العقاب بحق فعلًا. لكن ما دخلك أنت بالأمر بحق الجحيم؟ من أنت لتأتي وتركل خدامنا؟»
«هراء يا عزيزي. لقد كان بحاجة لأن يُركل. لقد فقدتم السيطرة على خدمكم هنا.»
«ما دخلك أنت في الأمر إذا كان بحاجة لأن يُركل أيها الوضيع الوقح اللعين؟ فلست حتى عضوًا في النادي. إنَّ ضرب الخدم مهمتنا نحن وليس مهمتك.»
أنزل فيرال «ذا فيلد» وأفسح المجال لعينِه الأخرى. لم تتغيَّر نبرة صوته الجافي. فلم تكن أعصابه تفلت قطُّ مع واحد من الأوروبيِّين؛ لم يكن هذا ضروريًّا قط.
«يا عزيزي، إنني أركل مؤخِّرة أي شخص يخاطبني بوقاحة. هل تريد أن أركل مؤخِّرتك؟»
تبخر كل غضب إليس فجأةً. لم يكن خائفًا، فلم يعترِه الخوف قطُّ في حياته؛ لكن كانت عينا فيرال أكثر مما يستطيع مُواجهته. كان باستطاعة تينك العينَين أن تجعلاك تشعر كأنك تحت شلالات نياجرا! ذَوَى السباب على شفتي إليس؛ كاد صوته أن يخذله. ثم قال متذمِّرًا بل وآسفًا:
«لكن سحقًا، لقد كان محقًّا تمامًا في عدم إعطائك آخر قطعة من الثلج. هل تعتقد أننا نشتري هذا الثلج من أجلك فقط؟ إننا لا نستطيع الحصول على الأشياء سوى مرتين أسبوعيًّا في هذا المكان.»
قال فيرال: «هذه إدارة سيئة فاسدة من جانبِكم إذن.» وتراجع وراء «ذا فيلد»، مسرورًا بالانسحاب من الموضوع.
كان إليس بلا حول ولا قوة. فقد كان الهدوء الذي عاد به فيرال لجريدته، ناسيًا بحقٍّ وجود إليس، مُثيرًا للحنق. أليس حريًّا به أن يركل الحقير الصغير ركلة قوية؟
لكن لم تأتِ تلك الركلة بطريقة أو بأخرى. استحقَّ فيرال العديد من الركلات في حياته، لكنه لم ينَلْ واحدة منها قط وربما لن ينال أبدًا. تسلَّل إليس عائدًا إلى حجرة لعب الأوراق، ليُنفِّس عن مشاعره على الساقي، تاركًا فيرال مُسيطرًا على قاعة الجلوس.
مع دخول السيد ماكجريجور من بوابة النادي بلغ مسمَعه صوت موسيقى. وظهر بصيص من ضوء المصابيح الأصفر من خلال النبات المتسلِّق الذي غطَّى فاصل ملعب التنس. كان السيد ماكجريجور في مزاج مَرِح هذا المساء؛ إذ كان قد منى نفسه بحديث طويل مُمتع مع الآنسة لاكرستين — فيا لها من فتاة ذكية ذكاءً استثنائيًّا! — وكان لديه حكاية مُسلية للغاية ليقصَّها عليها (كانت في الواقع قد رأت النور بالفعل في أحد تلك المقالات الصغيرة في «بلاكوودز») عن عملية قطع طريق جرت في ساجاينج عام ١٩١٣. كان متأكِّدًا أنها ستحب سماعها. دار حول فاصل ملعب التنس مُتشوِّقًا. في الملعب، في ضوء القمر المُتضائل الذي امتزج بضوء المصابيح المعلَّقة بين الأشجار، كان فيرال وإليزابيث يرقصان. كان الغِلمان قد أخرجوا مقاعد ومنضدة من أجل الجرامافون، وكان سائر الأوروبيِّين جالسين أو واقفين حولها. مع توقف السيد ماكجريجور عند زاوية الملعب، دار فيرال وإليزابيث، ومرَقا بجانبه، على بعد لا يزيد عن ياردة. كانا يرقصان متقاربين جدًّا، وقد انحنى جسدها إلى الوراء أسفل جسده. ولم يلحظ أيٌّ منهما السيد ماكجريجور.
التمس السيد ماكجريجور طريقه حول الملعب، وقد استولى على دواخِلِه شعور بائس بارد. فليُودِّع حديثه مع الآنسة لاكرستين إذن! بذل جهدًا بالغًا لإجبار وجهه على بشاشته ومَرحِه المألوفين حين بلغ الطاولة.
قال بصوت حزين على الرغم منه: «مساؤكم راقص!»
لم يجب أحد. فقد كان الجميع يشاهدون الثنائي الذي في ملعب التنس. في غفلة تامة عن الآخرين، انطلق فيرال وإليزابيث ودارا مرارًا وتكرارًا، وأحذيتهما تنزلق بسلاسة على الأسمنت الزلق. كان فيرال يرقص كما يمتطي الخيل، برشاقة منقطعة النظير. كان الجرامافون يلعب أغنية: «أرني الطريق إلى داري.» التي طافت العالم آنَذَاك مثل الوباء ووصلت حتى إلى بورما:
«أرني الطريق إلى داري، فقد تعبت وأريد أن أخلد للنوم؛ تناولت بعض الشراب منذ ساعة، وقد لعب الخمر برأسي …» إلخ.
انسابت الموسيقى الرديئة المملَّة الكئيبة بين الأشجار الظليلة وعبير الزهور المتدفِّق، مرة تلو الأخرى؛ إذ كانت السيدة لاكرستين تُعيد إبرة الجرامافون إلى البداية كلما اقتربت من الوسط. صعد القمر عاليًا، وقد اصفرَّ صفرة فاقعة، وبدا في ارتفاعِه من عتمة الغيم الداجن في الأفق، مثل امرأة عجوز تزحف خارجة من الفراش. ظل فيرال وإليزابيث يرقصان، دون كلل، شكَّلا منظرًا مبهجًا للحواس بهتت معالمه في العتمة. كانا يتحرَّكان في انسجام تام كأنهما جسد واحد. وكان السيد ماكجريجور وإليس وويستفيلد والسيد لاكرستين واقفين يشاهدون، واضعين أياديهم في جيوبهم، لا يجدون شيئًا ليقولوه، وقد أخذ الناموس يقرصهم في كواحلهم. طلب أحدهم المشروبات، لكن الويسكي كان مذاقه كالعلقم في أفواههم. فقد كانت أمعاء الرجال الأربعة جميعًا تتلوى من مرارة الحسد.
لم يطلب فيرال من السيدة لاكرستين أن يراقصها، ولا ألقى بالًا لسائر الأوروبيين، حين جلس أخيرًا هو وإليزابيث. إنما اكتفى بالاستئثار بإليزابيث لنصف ساعة أخرى، ثم غادر النادي بتحية مُقتضَبة لآل لاكرستين ومن دون كلمة لأي شخص آخر. كان الرقص طويلًا مع فيرال قد ترك إليزابيث في حالة أشبه بالحلم. كما أنه سألَها أن تخرج معه لركوب الخيل! فكان سوف يُعيرها أحد أمهاره! ولم تلحظ حتى أن إليس، الذي أغضبه تصرفها، كان يبذُل ما في وسعه ليكون فظًّا فظاظة صريحة. كان الوقت متأخرًا حين عاد آل لاكرستين إلى منزلهم، لكن ظلَّ النوم دون أن يواتي إليزابيث وزوجة عمها؛ فقد ظلتا تعملان بنشاط حتى منتصَف الليل، في تقصير سروال ركوب الخيل الخاصِّ بالسيدة لاكرستين، وتوسيع ربلتَي الساقين ليناسب إليزابيث.
قالت السيدة لاكرستين: «أرجو أن تكوني على معرفة بكيفية امتطاء الخيل يا عزيزتي.»
«بالتأكيد! فقد امتطيت الخيل كثيرًا جدًّا في الوطن.»
ربما امتطت الخيل عشر مرات في المجمل، حين كانت في السادسة عشرة. لكن لا يُهم، سوف تتدبر أمرها بطريقة أو بأخرى! فقد تمتطي نمرًا ما دام فيرال سيصطحبها.
حين انتهتا أخيرًا من السروال وارتدته إليزابيث لقياسه، تنهَّدت السيدة لاكرستين لدى رؤيتها. كانت تبدو فاتنة في السروال، فاتنة للغاية! ثم خطر لهما أنه خلال يوم أو اثنين سيكون عليهم العودة إلى المعسكر، لأسابيع أو ربما شهور، ويتركون كياوكتادا وهذا الشاب المروم. يا لها من خسارة! مع انتقالهما إلى الدور العلوي توقَّفت السيدة لاكرستين عند الباب. فقد طرأ على بالها أن تقدِم على تضحية كبرى ومُؤلمة. أخذت إليزابيث من منكبَيها وقبَّلتها بمودة حقيقية أكثر مما أبدت من قبل.
«عزيزتي، سيكون من المؤسِف بحقِّ أن ترحلي من كياوكتادا الآن!»
«هذا صحيح إلى حدٍّ ما.»
«إذن لديَّ فكرة يا عزيزتي. لن نعود إلى تلك الغابة البشعة! سوف يعود عمكِ وحده. وأنا وأنتِ سنبقى في كياوكتادا.»