الفصل الثاني
في نفس الوقت الذي بدأ فيه يو بو كين أعماله الصباحية، كان «السيد بورلي»، تاجر الأخشاب وصديق الدكتور فيراسوامي، يُغادِر منزله متجهًا إلى النادي.
كان فلوري في الخامسة والثلاثين تقريبًا، متوسط الطول، غير سيئ البنيان. كان ذا شعر جاف حالك السواد مُنحسِر أسفل رأسه، وشارب أسود حليق، وبشرة شاحبة في الأصل وقد لوحتها الشمس. ولم يبدُ أكبر من سنه لأنه لم يزدَدْ بدانة ولا غدا أصلع، لكن كان وجهه كالحًا مع أنه مسفوع، بوجنتين مهزولتين، وعينين غائرتين تلوح فيهما نظرة ذابلة. بدا واضحًا أنه لم يحلق هذا الصباح. كان يرتدي ملابسه المعهودة، قميصه الأبيض، وسرواله القصير الكاكي، وشرابه، لكنه بدلًا من القبعة الصغيرة الشبيهة بالخوذة ارتدى قبعة عريضة الإطار مهترئة، مائلة على إحدى عينيه. وكان يحمل عصا خَيزران بحزام رفيع للمِعصَم، فيما سارت خلفه متمهلةً كلبة صيد سوداء تُدعى فلو.
بيد أن كل هذه الأشياء كانت ملاحظات ثانوية. فأول ما يلفِت النظر في فلوري هو وحمة بشعة، ممتدة على شكل هلال على وجنته اليسرى، من عينه حتى زاوية فمه. وعند رؤية وجهه من الجانب الأيسر كان يبدو مضروبًا وكئيبًا، كأن الوحمة عبارة عن كدمة؛ إذ كانت زرقاء داكنة. وكان هو مدركًا تمامًا بشاعتها، حتى إنه كان طول الوقت يواريها بحركاته حين لا يكون بمفرده؛ إذ كان يتحايل دائمًا لإخفاء وحمته عن الأنظار.
كان منزل فلوري في أعلى الميدان، قريبًا من حدود الغابة. كان الميدان ينحدر من البوابة بشدة، مُقفِرًا وكاكي اللون، وقد تناثرت فيه ستة أكواخ بيضاء بياضًا مبهرًا، راحت تهتز وترتعد كلها من لفح الهواء. في منتصف التل قامت جبانة إنجليزية أحاط بها جدار أبيض، وعلى مقربة منها كنيسة صغيرة ذات سطح صفيح. وقام وراء ذلك النادي الأوروبي، البناء الخشبي البالي ذو الدور الواحد، الذي كان المركز الحقيقي للبلدة. فالنادي الأوروبي في أي بلدة في الهند هو القلعة الروحية، المقر الحقيقي للسلطة البريطانية، النرفانا التي يصبو إليها المسئولون والمليونيرات المحليون دون طائل. لكن بلغت هذه القيمة الضعف في هذه الحالة؛ إذ كان مما يتباهى به نادي كياوكتادا في فخر، أنه يكاد يكون الوحيد بين نوادي بورما، الذي لم يقبل قط في عُضويتِه أي شرقي. وفيما وراء النادي تدفق نهر الإيراوادي الضخم وقد لمعت مياهه التي سقط عليها شعاع الشمس مثل الألماس؛ ووراء النهر امتدَّت مساحات شاسعة من حقول الأُرز، وانتهت في الأفق بسلسلة من التلال المسودة.
وقعَت البلدة الأصلية، والمحاكم والسجن، إلى اليمين، وقد توارى أغلبها وراء الأيك الأخضر لأشجار التِّين المجوسي، فيما ارتفع برج المعبد فوق الأشجار مثل رمح رفيع برأس ذهبي. كانت كياوكتادا إلى حدٍّ ما من بلدات بورما العليا التقليدية، التي لم تتغير كثيرًا منذ أيام ماركو بولو حتى عام ١٩١٠، وربما كانت ستلبث قرنًا آخر في العصور الوسطى لو لم تثبت أنها موقع مُناسِب لمحطة نهاية خط سكة حديد. في عام ١٩١٠، جعلتها الحكومة مقرًّا للمنطقة ومركزًا للتقدم؛ وهو ما يُمكن تفسيره بمجموعة من المحاكم، بجيشها من المترافعين البدناء لكن شرهين، ومستشفى، ومدرسة وأحد تلك السجون الهائلة الراسخة التي بناها الإنجليز في كل موضع بين جبل طارق وهونج كونج. وصل عدد سكانها إلى أربعة آلاف تقريبًا، من بينهم بضع مئات من الهنود، وبضع عشرات من الصينيين، وسبعة أوروبيِّين. كان هناك أيضًا أوروبيان آسيويان يُدعَيان السيد فرانسيس والسيد صامويل، ابنا مُبشِّر معمداني أمريكي ومبشر روماني كاثوليكي على التوالي. لم يكن في البلدة عجائب من أي نوع، باستثناء راهب هندي عاش عشرين عامًا على شجرة قرب أحد البازارات، يرفع طعامه في سلة كل صباح.
تثاءب فلوري أثناء خروجه من البوابة، وكان قد شرب في الليلة السابقة حتى صار شبه ثمل، ولذا جعله وهج الشمس يشعر بتوعك. قال لنفسه وهو ينظر أسفل التل: «يا لها من حفرة لعينة!» ولما لم يكن قربه أحد سوى الكلب، راح يُغنِّي بصوتٍ عالٍ: «لعينة، لعينة، لعينة، كم أنتِ لعينة!» على لحن «مقدس، مقدس، مقدس، كم أنت مقدس.» أثناء سيره هابطًا الطريق الأحمر الحار، وهو يحطم الحشائش الجافة بعصاه. كانت الساعة التاسعة تقريبًا والشمس تزداد لهيبًا مع كل دقيقة. كان القيظ يهبط على الرأس، بخفق مُستمر مُتواتر مثل ضربات بوسادة ضخمة. توقف فلوري عند بوابة النادي، متحيرًا أيدخل أم يمضي في طريقه ويلاقي الدكتور فيراسوامي. ثم تذكر أنه كان «يوم البريد الإنجليزي» وأن الجرائد ستكون قد وصلت، فدخل، مارًّا بشبكة ملعب التنس الكبيرة، التي غطاها نبات مُتسلِّق بزهور بنفسجية تشبه النجوم.
وعلى جانبَي الممشى انتشرت صفوفٌ من الزهور الإنجليزية — الفلوكس والعائق والخطمي والبتونيا — التي لم تقضِ عليها الشمس بعدُ بأحجام ضخمة ووفرة. كانت زهور البتونيا ضخمة، تكاد تُعادل حجم الأشجار. ولم يكن هناك حديقة، وإنما جنبة من الأشجار والشجيرات المحلية — مثل أشجار البوانسيانا الملكية مثل مظلَّات هائلة بزهور في حمرة الدم، والياسمين الهندي ذات الزهور القشدية اللون، والجهنَّمية الأرجوانية، والخطمي القرمزي، والورد الصيني الوردي وأشجار كروتون خضراء ضاربة للأصفر، وأشجار التمر هندي بأوراقها الشبيهة بالريش. كان التضارُب بين الألوان مؤذيًا للعين في وهج الشمس. في هذه الغابة من الزهور، راح يتحرَّك بُستاني شبه عار، بيده مرشة مياه، فبدا مثل طائر كبير يمتصُّ الرحيق.
على سلَّم النادي، وقف رجل إنجليزي واضعًا يديه في جيبي سرواله القصير، كان ذا شعر أشقر رملي وشارب شائك، وعينَين رماديتين باهتتين شديدتي التنائي، وربلتين نحيلتين نحولًا غير عادي. كان هذا هو السيد ويستفيلد، مفوَّض شرطة المنطقة، الذي بدا عليه ضجر شديد وهو يتأرجح على عقبَيه إلى الأمام والخلف ويزمُّ شفته العليا حتى وخز شاربه أنفه. وقد حيا فلوري بإيماءة خفيفة من رأسه. كان أسلوبه في الحديث مقتضبًا وعسكريًّا، يُغفِل أي كلمة يُمكن إغفالها. وكان كل ما يتفوَّه به تقريبًا يُقصد أن يكون مزحة، بيد أن نبرة صوته كانت رتيبة وحزينة.
«مرحبًا يا عزيزي فلوري. إنه صباحٌ لعين فظيع، أليس كذلك؟»
قال فلوري وقد استدار بجسمه قليلًا لكي يُخفي وحمته عن ويستفيلد: «أعتقد أننا لا بد أن نتوقَّع هذا في هذا الوقت من العام.»
«صحيح، سحقًا. أمامنا بضعةُ أشهر من هذا الجو. في العام الماضي لم تسقُط قطرة مطر واحدة حتى شهر يونيو. انظر إلى تلك السماء اللعينة، ليس فيها من سحابة. مثل واحدة من تلك القدور الضخمة اللعينة المَطلية بالمينا الزرقاء. يا إلهي! بمَ تُضحِّي لتكون في بيكاديلي الآن، هه؟»
«هل وصلت الجرائد الإنجليزية؟»
«نعم، مجلة «بانش» الأثيرة، و«بينكان» و«في باريزيان». إن المرء ليشعُر بحنينٍ إلى الوطن عند قراءتها، صحيح؟ هيا ندخل لنحتسي شرابًا قبل أن ينفد الثلج كله. فقد استهلك لاكرستين العجوز كميات كبيرة منه، وبدأ يثمل بالفعل.»
دخل الاثنان، وويستفيلد يقول بصوته الكئيب: «تفضَّل أنت أولًا.» كان النادي من الداخل مكانًا جدرانه من خشب الساج تفوح منه رائحة نفْط خام، لا يزيد عن أربع حجرات فقط، احتوت واحدة منها على «مكتبة» مهجورة بها خمسمائة رواية تسلَّلَ إليها العفن، وضمت حجرة أخرى طاولة بلياردو قديمة وبالية، بيد أنها كانت نادرًا ما تُستخدَم؛ إذ كانت أسراب الخنافس الطائرة تطنُّ حول المصابيح وتتناثر على المفرش غالبية العام. كان هناك أيضًا حجرة للعب الأوراق و«قاعة جلوس» تُطلُّ على النهر، فوق شرفة واسعة؛ لكن جميع الشرفات كانت في هذا الوقت مغطاة بأستار من الخيزران الأخضر في هذا الوقت من اليوم. كانت قاعة الجلوس حجرة لا تبعث على الراحة، على أرضيتها حصير من ليف جوز الهند، وذات كراس وطاولات من الخوص تناثَرت عليها صحف مصوَّرة لامعة. كان بها على سبيل الزينة عدد من صور «الجرو بونزو» وجماجم متربة لغزال السامبار. وكانت مروحة سقف، وهي تخفق متراخية، تذر الغبار في الهواء الفاتر.
كان في الحجرة ثلاثة رجال. أسفل المروحة تمدد على الطاولة رجل في الأربعين، متورد الوجه، حسن المظهر، منتفخ قليلًا، واضعًا رأسه بين كفَّيه، وهو يتأوَّه من الألم. كان هذا السيد لاكرستين، المدير المحلِّي لشركة أخشاب، وكان قد أسرف في الشراب الليلة السابقة، ويُعاني من ذلك الآن. وقف إليس، المدير الإقليمي لشركة أخرى، قبالة لوحة الإعلانات، مُتفحِّصًا إعلانًا ومنظره ينمُّ عن تركيز شديد. كان شخصًا ضئيلًا أشعث الشعر ذا وجه شاحبٍ حاد الملامح وحركات مُضطربة. وكان ماكسويل، مسئول الغابات بالإنابة، مُستلقيًا على أحد المقاعد الطويلة يقرأ مجلة «ذا فيلد»، لا يبدو منه سوى ساقين ضخمتي العِظام وساعدين عريضين مكسوَّين بشعر ناعم.
قال ويستفيلد، وهو يُمسك السيد لاكرستين بشيء من المودة من منكبَيه ويهزُّه: «انظر إلى هذا الرجل العجوز الشقي. إنه مثال للشباب، صحيح؟ كنتُ سأصبح مثله لولا فضل الرب. إنه يُعطيك فكرة كيف سيكون حالك في الأربعين من العمر.»
غمغم السيد لاكرستين قائلًا كلمة بدت مثل «براندي».
قال ويستفيلد: «يا للرجل العجوز المسكين، دائمًا شهيد للشراب، هه؟ انظر إليه وهو ينز من مسامه. يُذكِّرُني بالكولونيل العجوز الذي كان ينام من دون ناموسية. حين سألوا خادمه عن السبب قال: «بالليل يكون سيدي ثملًا للغاية حتى إنه لا يشعُر بالناموس؛ وفي الصباح، يكون الناموس ثملًا للغاية حتى إنه لا ينتبه لسيدي.» انظر إليه؛ أسرف في الشراب ليلة أمس والآن يطلب المزيد. وستأتي ابنة أخيه الصغيرة لتُقيم معه. ستأتي الليلة، أليس كذلك يا لاكرستين؟»
قال إليس دون أن يستدير: «اترك هذا السكِّير الثمل وشأنه.» وكانت له لهجة كوكني خبيثة. غمغم السيد لاكرستين مرة أخرى قائلًا: «ابنة أخ! أحضر لي بعض البراندي، بحق المسيح.»
«يا له من درس جيد لابنة الأخ، ها؟ أن ترى عمها ثملًا سبع مرات في الأسبوع. أيها الساقي! أحضِر براندي للسيد لاكرستين!»
جاء بالبراندي على صينية نحاسية ساقٍ درافيديٌّ أسمر جسيم ذو عينَين صفراوَين لامعتين مثل عينَي الكلب. طلب فلوري وويستفيلد شراب الجين. ابتلع السيد لاكرستين بضع جرعات من البراندي واسترخى في مقعده، مُتأوِّهًا باستسلام أكثر. كان ذا وجه بريء ممتلئ، بشاربٍ شبيهٍ بفرشاة الأسنان. وقد كان رجلًا ضعيف العقل جدًّا حقًّا، ليس لديه من الطموح سوى أن يحظى بما سماه «وقت طيب». وكانت زوجته تسيطر عليه بالطريقة الوحيدة الممكنة؛ ألا وهي ألا تجعله يغيب عن ناظرَيها لأكثر من ساعة أو ساعتين قط. مرةً واحدة فقط، بعد زواجهما بعام، تركته لأسبوعَين، وحين عادت قبل ميعادها بيوم على نحو مُفاجئ، وجدت السيد لاكرستين، ثَمِلًا، تُسنده على الجانبين فتاة بورمية عارية، بينما كانت ثالثة تقلب زجاجة ويسكي فوق فمه. ومن ساعتها وهي تراقبه، «كما يراقب قطٌّ جُحرًا لعينًا لفأر»، كما اعتاد أن يشكو. بيد أنه تمكَّن من الاستمتاع بعدد كبير من «الأوقات الطيبة»، مع أنها كانت عادةً أوقاتًا عاجلة بعض الشيء.
قال لاكرستين: «يا إلهي، ماذا أصاب رأسي هذا الصباح؟ نادِ ذلك الساقي مرة أخرى، يا ويستفيلد. يجب أن أحصل على براندي آخر قبل أن تصلَ زوجتي. تقول إنها سوف تُخفِّض شرابي لأربع كئوس في اليوم حين تصل ابنة أخي.» ثم أردف في حزن: «محقَهما الرب!»
قال إليس بغِلظة: «توقفوا جميعًا عن التحامُق وأصغُوا إلى هذا.» كان له أسلوب جارح في الكلام، حتى إنه لم يكن يفتح فمه دون أن يسبَّ أحدًا. وقد تعمد المبالغة في لكنته الكوكنية، للنبرة التهكُّمية التي تُضفيها على كلماته. «هل رأيتم إعلان العجوز ماكجريجور؟ إنه هدية لكل فرد. استيقِظْ وأصغِ يا ماكسويل!»
أنزل ماكسويل مجلة «ذا فيلد». كان شابًّا أشقر مُشرق الوجه لا يربُو عن الخامسة أو السادسة والعشرين؛ صغيرًا جدًّا على الوظيفة التي يشغلها. يُذكرك بأطرافه الثقيلة وأهدابه البيضاء الكثيفة بمُهر جرِّ العربات. نزع إليس الإعلان من على اللوحة بحركة بسيطة عنيفة ودقيقة وبدأ قراءته بصوت عالٍ. كان قد نشَره السيد ماكجريجور، الذي كان يعمل أمينًا للنادي، بجانب كونه نائب المفوض. «فلتُصغُوا لهذا: «حيث إنه لا يوجد بعدُ أعضاءُ شرقيون في هذا النادي. وبما أنه من المألوف الآن قَبول موظَّفي الحكومة الذين تنشر رُتبُهم في الجريدة الرسمية، سواءٌ كانوا من أهل البلد أو أوروبيِّين، في عضوية أغلب الأندية الأوروبية، فلا بد أن ننظر مسألة اتباع هذا النهج في كياوكتادا. سوف يُطرح الأمر للمناقشة في الجمعية العمومية التالية. من ناحية يُمكن الإشارة إلى» … حسنًا، لا حاجة للخوض في الباقي. إنه لا يستطيع كتابة إعلان حتى دون أن تنتابه نوبة إسهال أدبي. على أيِّ حال، بيت القصيد أنه يطلب منَّا خرق كل القواعد وأن نقبل بفتًى زنجي صغير طيب في هذا النادي. الدكتور فيراسوامي العزيز، مثلًا، الذي أدعوه الدكتور شديد اللزوجة. ستكون هذه مكافأة، أليس كذلك؟ أن يُطلِق زنوجًا صغارًا بكروش مستديرة لينفثوا رائحة الثوم في وجهك على مائدة البريدج. رباه، لا أطيق حتى التخيل. لا بد أن نتكاتف معًا ونتمسَّك بموقفنا حيال هذا الأمر في الحال. ما رأيك يا ويستفيلد؟ وأنت يا فلوري؟»
هز ويستفيلد منكبيه النحيلين بتفلسُف، وكان قد جلس إلى الطاولة وأشعل لفافة من السيجار البورمي الأسود كريه الرائحة.
وقال: «أعتقد أننا لا بد أن نتقبَّل الأمر. فالسكان المحليون الحثالة يدخلون كل النوادي الآن، حتى نادي بيجو كما أُخبرت. فهذا هو النهج الذي سيتَّخذه هذا البلد كما ترى. إننا آخر نادٍ صمَدَ ضدَّهم في بورما.»
«هذا صحيح؛ بل وسوف نُداوِم على صمودنا بلا شك. فسوف أظلُّ أُقاومُ حتى الموت قبل أن أرى زنجيًّا هنا.» وأخرج إليس عقب قلم رصاص. وأعاد تثبيت الإعلان على اللوحة تلفُّه هالة غريبة من النكاية التي يستطيع بعض الرجال أن يُبدوها في أقل حركاتهم، وخط بالقلم أمام توقيع السيد ماكجريجور حرفي «أ. ل.» (أي أَحمق لعين) بخط صغير ومنمَّق. «هذا رأيي في فكرته. سأُخبرُه به حين يأتي. ما رأيك أنت يا فلوري؟»
لم يكن فلوري قد نبس ببنتِ شفة طوال هذا الوقت. رغم أنه لم يكن بطبعه رجلًا هادئًا على الإطلاق، فقلَّما كان يجد الكثير لقوله في محادَثات النادي. كان قد جلس إلى الطاولة وجعل يقرأ مقال جي كيه تشسترتون في مجلة «لندن نيوز»، بينما يُربِّت على رأس فلو بيدِه اليُسرى. غير أن إليس كان واحدًا من أولئك الناس الذين يُلحُّون على الآخَرين ليُردِّدوا آراءهم. أعاد سؤاله، فرفَعَ فلوري ناظرَيه، والتقَت عيناهما. فجأة صار الجلد حول أنفِ إليس شاحبًا جدًّا حتى كاد يكون رماديًّا، وكانت هذه من علامات غضبِه. وبدون أي مقدمات انفجرَ في سيل من التوبيخ الذي كان سيُصيب الآخرين بالدهشة، لو لم يكونوا مُعتادين على سماع شيء مثله كل صباح.
«يا إلهي، وأنا كنتُ أظن أنه في مسألة كهذه، حين يكون السؤال مُتعلِّقًا بإبعاد أولئك الخنازير العفنين السود عن المكان الوحيد الذي يتسنَّى لنا فيه الاستمتاع بوقتنا، أنك ستتحلَّى باللياقة لتأييدي. حتى إن كان ذلك الدكتور الزنجي الأكرش القذر التافه الحقير أفضل أصدقائك. لا يعنيني إن كنت تُؤثِر مرافقة حثالة البازار. إذا كان يسرك أن تذهب إلى منزل فيراسوامي وأن تحتسي الويسكي مع كل رفاقه الزنوج، فهذا شأنك. فلتفعل ما يحلُو لك خارج النادي. لكن بحق الرب، الأمر يختلف حين تتحدَّث عن إحضار زنوج هنا. أعتقد أنك تود جعل الدكتور فيراسوامي عضوًا في النادي، صحيح؟ ليقاطع حديثنا ويربت على الكل بيدَين تتصبَّبان عرقًا ويطلق في وجوهنا أنفاسه القذرة المحمَّلة برائحة الثوم. أقسم بالله إنه سيخرج يتبعه حذائي إن رأيت خَطمه الأسود داخل ذلك الباب. الكريه، الأكرش، الحقير!» … إلخ.
استمرَّ الأمر عدة دقائق، وكان مُبهرًا في غرابة؛ لأنه كان صادقًا تمامًا. فقد كان إليس يكره الشرقيِّين حقًّا؛ يكرههم بمشاعر بُغضٍ حادَّة لا تهدأ كأنهم شيء خبيث أو غير نظيف. رغم إقامته وعمله مساعدًا في شركة أخشاب مما يجعله على تواصُل دائم مع البورميِّين، فهو لم يألف رؤية وجهٍ أسود قط. وكانت أي إشارة لمشاعر ودٍّ ناحية شخص شرقي تبدو له انحرافًا فظيعًا. كان رجلًا ذكيًّا، وموظفًا كفئًا في شركته، لكنه كان واحدًا من أولئك الرجال الإنجليز — السواد الأعظم للأسف — الذين يجب ألا يُسمَح لهم بأن تطأ قدمهم الشرق.
جلس فلوري يهدهد رأس فلو في حِجره، غير قادِر على ملاقاة عينَي إليس. وحتى في أفضل الظروف كانت وحمته تجعل من العسير عليه أن ينظر في وجه الناس مُباشرةً. وحين صار متأهبًا للكلام، أحس بصوته مرتعشًا — فقد كان من دأبه الارتعاش حين يتحتَّم عليه الحزم — وكذلك كانت ملامحه تختلج أحيانًا دون سيطرة له عليها.
وأخيرًا قال بعبوس وشيء من الوهن: «فلتهدأ، فلتهدأ. لا داعي لكلِّ هذا الانفعال، فإنني لم أقترح قط ضم أي أعضاء من السكان المحليِّين هنا.»
«ألم تفعل؟ لكنَّنا جميعًا نعرف جيدًا جدًّا أنك تودُّ ذلك. وإلا لماذا تذهب إذن إلى منزل ذلك الرجل اللزج الحقير كل صباح؟ وتجلس معه إلى المائدة كما لو كان رجلًا أبيض، وترشف من الأكواب التي سال عليها اللعاب من شفتيه السوداوَين القذرتين؛ شيء يُثير فيَّ الرغبة في القيء.»
قال ويستفيلد: «اجلس يا عزيزي. انسَ الأمر واحتسِ شرابًا. فهذا الأمر لا يستحِق العراك. الحر شديد.»
قال إليس بهدوء أكثر قليلًا، وهو يذرع المكان ذهابًا وإيابًا مرة أو مرتين: «يا إلهي، يا إلهي، لا أستطيع فهمَكم يا رفاق، لا أستطيع حقًّا. ها هو ماكجريجور الأحمق العجوز يُريد إحضار زنجي إلى النادي بلا سبب على الإطلاق، وكلكم تقبلون الأمر بلا كلمة. رباه، ما المفترض منا فعله في هذا البلد؟ إن لم نكن سنُسيطِر، فلمَ لا نرحل بحق الشيطان؟ المفترض أننا هنا من أجل حكم مجموعة من الخنازير السوداء الملعونة ظلوا عبيدًا منذ بدء التاريخ، لكن بدلًا من بسط سيطرتنا عليهم بالطريقة الوحيدة التي يفهمونها، نُعاملُهم على أنهم أكفاء لنا. وأنتم أيها الحمقى تُسلِّمون بذلك. فها هو فلوري جعل أقرب أصدقائه رجلًا أسود يدعو نفسه طبيبًا لأنه أمضى عامَين فيما يُسمى جامعة هندية. وأنت يا ويستفيلد، شديد الزهو بشرطيِّيك الجبناء مُتقاضي الرشوة معوجِّي السيقان. وها هو ماكسويل، يقضي وقته في ملاحقة البغايا الآسيويات من أصل أوروبي. نعم، يا ماكسويل؛ لقد سمعت عن علاقتك في ماندالاي مع عاهرة صغيرة كريهة الرائحة تُدعى مولي بيريرا. أعتقد أنك كنت ستقدم على الزواج منها لو لم ينقلُوك إلى هنا؟ يبدو أنكم جميعًا تُحبُّون الأوغاد السود القَذِرين. رباه، لا أعلم ماذا أصابنا جميعًا. لا أعلم حقًّا.»
قال ويستفيلد: «على رِسلِك، لتأخذ شرابًا آخر. يا أيها الساقي! القليل من الجعة قبل أن ينفد الثلج، هه؟ الجعة، أيها الساقي!»
أحضرَ الخادم بعض زجاجات من جعة ميونيخ. وبعد قليل جلس إليس إلى المائدة مع الآخَرين، وأخذ بين يدَيه الصغيرتين إحدى الزجاجات الباردة. كانت جبهتُه تتصبَّب عرقًا، وهو عابس لكن لم يعُد غاضبًا. كان مشاكسًا وجامحًا طوال الوقت، لكن سريعًا ما كانت تنتهي نوبات غضبه العارم، دون الاعتذار عنها قط. كانت المشاجَرات جزءًا مُعتادًا من روتين الحياة في النادي. تحسَّنَ حال السيد لاكرستين وراح يتفحَّص الصور في مجلة «لا في باريزيان.» جاوزت الساعة التاسِعة، وقد صارت الحُجرة التي عبقَت برائحة الدخان الحاد لسيجار ويستفيلد، خانقة من شدة الحر، والتصقَت القُمصان بظهور أصحابها بأول قَطرات عرق سالت في اليوم. أما الغُلام الخفي عن الأنظار الذي كان يشدُّ حبل مروحة السقف فقد غالَبَه النوم في وهج الشمس.
هتف إليس: «أيها الساقي!» وحين ظهر الساقي قال له: «اذهب لتُوقِظ ذلك الغلام اللعين!»
«حسنًا يا سيدي.»
«وأيها الساقي!»
«نعم يا سيدي؟»
«كم تبقَّى من الثلج؟»
«نحو عشرين رطلًا يا سيدي. وأعتقد أنه لن يمكث بعد اليوم. فإنني أجد صعوبة بالغة في الحفاظ على الثلج باردًا الآن.»
«لا تتحدَّث هكذا، عليك اللعنة: «أجد صعوبة بالغة!» هل ابتلعت قاموسًا؟ قل: «معذرة يا سيدي، لا أستطيع حفظ ثلج بارد.» هكذا يجدر بك أن تتحدث. لا بد أن نطرد هذا الشخص إذا تمكَّن من تحدُّث الإنجليزية بإتقان. لا أستطيع احتمال الخدم الذين يتحدثون الإنجليزية. سمعت أيها الساقي؟»
قال الساقي: «أجل يا سيدي.» وانصرف.
قال ويستفيلد: «يا إلهي! لا ثلجَ حتى يوم الإثنين. هل ستعود إلى الغابة يا فلوري؟»
«نعم، لا بدَّ أن أكون هناك الآن. لم آتِ إلا لأجل البريد الإنجليزي.»
«أعتقد أنني نفسي سأذهب في جولة، وأدبر القليل من بدل السفر. فلا أطيق المكتب اللعين في هذا الوقت من العام؛ حيث الجلوس أسفل المروحة اللعينة، وتوقيع فاتورة تلو الأخرى. العمل الورقي المُمل. رباه، كم أتمنى لو اندلعت الحرب مرة أخرى!»
قال إليس: «سوف أذهب بعد غد. ألن يأتي ذلك القس اللعين لإقامة القداس يوم الأحد؟ سأحرص على ألا أكون موجودًا من أجل ذلك، على أيِّ حال. أكره ذلك الركوع اللعين.»
قال ويستفيلد: «الأحد القادم. لقد وعدت بأن أكون موجودًا، وكذلك ماكجريجور. لا بد من القول بأن الأمر سيكون صعبًا بعض الشيء على ذلك القس المسكين. فهو لا يأتي سوى مرة كل ستة أسابيع. من المستحسن أن نجمع له حشدًا حين يأتي.»
«سحقًا! إنني لأتلو المزامير باكيًا إرضاءً للقس، لكنني لا أطيق الطريقة التي يأتي بها أولئك المسيحيون من أهل البلد مُتدافِعين إلى كنيستنا. قطيع من الخدم الهنود والمعلِّمين الكارين. وهذان الأصفران، فرانسيس وصامويل؛ اللذان يدَّعيان نفسيهما مسيحيَّين هما الآخران. في آخر مرة حين كان القسُّ هنا تجاسرا على التقدم والجلوس في المقاعد الأمامية مع الرجال البيض. لا بدَّ أن يخاطب أحدٌ القس في ذلك الشأن. يا لنا من حمقى ملاعين لما جنَيناه حين أطلقنا العنان للمبشِّرين في هذا البلد! يُعلِّمون كنَّاسي السوق أنهم أكْفَاء لنا. «معذرة سيدي، أنا مسيحي مثل السادة.» منتهى الصَّفاقة.»
قال السيد لاكرستين وهو يُمرِّر «لا في باريزيان» بينهم: «ما رأيكم في هاتين الساقَين؟ أنت تعرف الفرنسية يا فلوري؛ ما المقصود بما كتب تحت؟ يا إلهي، هذا يُذكرني بحين كنت في باريس، في أول إجازاتي، قبل أن أتزوَّج. رباه، أتمنى أن أذهب إلى هناك مرة أخرى!»
قال ماكسويل: «هل سمعتم السجع الذي يقول: «كانت هناك سيدة شابة من وكينج»؟» كان ماكسويل بالأحرى شابًّا هادئًا، لكنه كغيره من الشباب، كان مُولَعًا بالأسجاع البذيئة الرنانة. وحين أتم سيرة سيدة وكينج الشابة تصاعد الضحك. وأجاب ويستفيلد بسجع: كان في إيلينج سيدة تنتابها مشاعر غامضة، وشارك فلوري بسجع: في هورشام قس لا يفتأ أن يحترس، وازداد الضحك. حتى إليس أدلى بعدة أسجاع؛ وكانت نكات إليس دومًا فَكِهة بحق، لكنها بذيئة بلا حدود. ابتهج الجميع وزاد شعورهم بالألفة رغم الحرارة. وكانوا قد فرغوا من الجعة وعلى وشك طلبِ شراب آخر، حين سُمع وقع أحذية على السلَّم الخارجي. كان ثمَّة صوتٌ جهوري جعل الأرضية ترتجُّ، يقول هازلًا:
«نعم، في غاية الفكاهة. لقد وضعتها في أحد مقالاتي الصغيرة في مجلة «بلاكوودز». أتذكر أيضًا موقفًا آخر في غاية … آه … الطرافة، حين كنت مرابطًا في بروم، حيث …»
كان جليًّا أن السيد ماكجريجور قد وصَل إلى النادي. صاح السيد لاكرستين: «تبًّا! جاءت زوجتي.» ونحى كأسه الفارغ بعيدًا بقدر المُستطاع. دخل السيد ماكجريجور والسيدة لاكرستين قاعة الجلوس معًا.
كان السيد ماكجريجور رجلًا ضخمًا، عظيم البِنية، تعدى الأربعين بقليل، ذا وجه محبَّب شبيه لكلب البج، يرتدي نظارة بإطارَين ذهبيَّين. وكان بمنكبَيه العريضَين، وعادة دفع رأسه للأمام يذكرك بالسلحفاة — حتى إن البورميِّين كانوا يدعونه «السلحفاة». وكان مُتسربلًا في حلة نظيفة من الحرير، بانَت عليها بقع العرق أسفل الإبطين. وقد حيا الآخرَين باصطناع التحية العسكرية مُمازحًا، ثم وقف أمام لوحة الإعلانات، مُبتسمًا وهو يُدير خيزرانة خلف ظهره على غرار المعلِّمين. كانت السماحة البادية على وجهِه صادقة تمامًا، بيد أنه كان ثمَّة تكلُّف في لُطفه، ومشقَّة في التظاهُر بأنه ينسى رتبته الرسمية في غير ساعات العمل، حتى إن أحدًا لم يكن يشعر براحة تامَّة في وجوده. وبدا واضحًا أنه في أسلوبه في الحديث يحذُو حذْوَ أحد مُديري المدارس أو رجال الدين الطرفاء الذين تعرف عليهم في أول حياته. كانت أي كلمة طويلة، أو اقتباس، أو تعبير شائع تتمثَّل في ذهنِه كمُزحة، فيُمهد لها بالتلعثُم مثل أن يقول: «أمم» أو «آه» ليبدو واضحًا أن ثمَّة مزحة في الطريق. أما السيدة لاكرستين فكانت في الخامسة والثلاثين تقريبًا، مليحة ملاحة صورة في مجلة أزياء، بلا تضاريس مع استطالة. وكان صوتها مُتنهِّدًا، مُمتعضًا. هب الآخرُون واقفين حين دخلت السيدة لاكرستين، فيما جلسَت هي مُنهَكة على أفضل مقعد أسفل المروحة، وهي تهوِّي لنفسِها بيدها الرفيعة الشبيهة بيد سمندل الماء.
«ويحي، يا له من حر، يا له من حر! جاء السيد ماكجريجور وأقلَّني في سيارته. إنه لكرم شديد منه. إن توم، سائق العربة الوضيع، يدَّعي المرض ثانيةً. أعتقد حقًّا أنك يجب أن تضربه ضربًا مُبرحًا وتُعيده إلى صوابه. فإنه لفظيع جدًّا أن تضطرَّ للسير في هذه الشمس كل يوم.»
كانت السيدة لاكرستين غير قادِرة على مسيرة ربع ميل بين منزلها والنادي فاستوردت عربة ذات عجلتين من رانجون، كانت هي المركبة الوحيدة المزوَّدة بعجلات في كياوكتادا، بجانب العربات التي تجرُّها الثيران وسيارة السيد ماكجريجور؛ إذ كانت الطرق في المقاطعة بأسرها لا تزيد عن عشرة أميال. وكانت السيدة لاكرستين تتحمَّل في الغابة كل الفظائع من خيام تسرب الأمطار وناموس وطعام معلب، لكيلا تترك زوجها وحده؛ إلا أنها كانت تستعيض عن ذلك بالشكوى من أمور تافهة حين تكون في العاصمة.
تنهدت قائلة: «أعتقد حقًّا أن الكسل في هؤلاء الخدم صار مزعجًا جدًّا. ألا تتَّفق معي يا سيد ماكجريجور؟ يبدو أننا لم يعُد لدينا سلطة على أهل البلد الآن، مع كلِّ هذه الإصلاحات المرعبة، والوقاحة التي يتعلَّمُونها من الجرائد. أوشكوا أن يكونوا في سوء الطبقات الدنيا في الوطن من عدة نواح.»
«أعتقد أنهم لا يُعادلونهم سوءًا. إلا أنني أخشى أن الرُّوح الديموقراطية في سبيلها إلى التسلل لا محالة، حتى إلى هنا.»
«منذ فترة قصيرة، قبل الحرب مباشرةً، كانوا لطافًا ومحترمين للغاية! الطريقة التي يلقون بها التحية حين تمرُّ بهم على الطريق كانت ساحرةً جدًّا بحق. أتذكر حين كنا ندفع لخادمنا اثنتي عشرة روبية في الشهر، وكان ذلك الرجل يحبُّنا مثل كلب حقًّا. أما الآن فهم يطلُبون أربعين وخمسين روبية، وقد وجدت أن الطريقة الوحيدة للاحتفاظ بخادم هي التأخُّر في دفع مرتبِه عدة أشهر.» وافقها السيد ماكجريجور الرأي قائلًا: «النوع القديم من الخدم في طريقه للاختفاء. كان في أيام شبابي، حين يتصرَّف واحد من الخدم بقلة احترام، يُرسَل إلى السجن مع ورقة تقول: «برجاء إعطاء حامله خمس عشرة جلدة.» تلك أيام ذهبَت بلا رجعة، على ما أخشى.»
قال ويستفيلد بأسلوبه المُغتم: «إنك محق تمامًا. لن يعود هذا البلد مناسبًا للعيش فيه مرة أخرى أبدًا. فقد انتهى الراج البريطاني حسبما أرى. فقدنا المُستعمَرة وما إلى ذلك، وحان الوقت لنجلو عنها.»
هنا سرَتْ همهمة اتفاق من كل من في الحُجرة، حتى فلوري، المعروف بآرائه المتمرِّدة، وحتى ماكسويل الذي أمضى بالكاد ثلاث سنوات في البلد. لن ينفي أي إنجليزي يعيش في الهند قط أن الهند في تدهور، ولا حتى ينكر ذلك؛ فالهند، لم تعد كما كانت.
في نفس الوقت نزع إليس الإعلان من خلف ظهر السيد ماكجريجور وناوله إياه، وهو يقول بأسلوبه المستاء:
«تفضل يا ماكجريجور، لقد قرأنا هذا الإعلان، ونعتقد جميعًا أن فكرة ضم واحد من أهل البلد هي محض …» — أوشك إليس أن يقول تعبيرًا بذيئًا لكنه تذكر وجود السيدة لاكرستين وكبح نفسه — «محض هراء. فهذا النادي هو المكان الذي نأتي إليه لنُسرِّي عن أنفسنا، ولا نريد أن يأتي أهل البلد للتسكُّع فيه. نُريد أن نشعر أنه ما زال هناك مكان نكون فيه بمعزل عنهم. والجميع متَّفقُون تمامًا معي في هذا.»
ونظر حوله إلى الآخَرين، فقال السيد لاكرستين بصوت أجش: «لا فُضَّ فوك!» كان يعلم أن زوجته سوف تُخمِّن أنه كان يعاقر الشراب، وشعر أن إبداء رأي عاقل سوف يغفر له.
تناول السيد ماكجريجور الإعلان مبتسمًا. رأى حرفَي «أ. ل.» مكتوبَين قبالة اسمه، وشعر في قرارة نفسه أن سلوك إليس كان مهينًا للغاية، لكنه أنهى الأمر بمزحة. كان يبذل مجهودًا بالغًا ليكون طيب المعشر في النادي كما كان يفعل للحفاظ على وقاره أثناء ساعات العمل. قال: «أعتقد أن صديقنا إليس لا يرحب بصحبة … آه … شقيقه الآري؟»
قال إليس في جواب لاذع: «لا، لا أُرحِّب. ولا بشقيقي المنغولي. فإنني، باختصار، لا أحب الزنوج.»
تسمَّر السيد ماكجريجور عند سماع كلمة «زنوج»، التي أُدين استخدامها في الهند. لم يكن متحاملًا ضد الشرقيِّين؛ فقد كان حقًّا مولعًا بهم ولعًا شديدًا. وكان يعتقد أنهم أكثر الشعوب الحية سحرًا، شريطة ألا يُمنحوا أي حرية. وكان يؤلمه دومًا أن يراهم يُهانون جورًا.
قال السيد ماكجريجور بلهجة صارمة: «هل من اللائق أن نُسمِّي هؤلاء الناس زنوجًا — الكلمة التي بالطبع يستاءون منها أشد الاستياء — في حين أنه من الجليِّ أنهم ليسوا كذلك؟ فالبورميون منغوليون، والهنود آريون أو دارفيديون، وكلهم مُتباينون تمامًا.»
قال إليس الذي لم يتهيَّب مُطلقًا من الصفة الرسمية للسيد ماكجريجور: «هراء! سمِّهم زنوجًا أو آريين أو كيفما تشاء. ما أرمي إليه هو أننا لا نُريد رؤية أي بشرة سوداء في هذا النادي. وإن طرحت الأمر للتصويت ستجدنا جميعًا بلا استثناء ضده.» ثم أردف قائلًا: «إلا إذا كان فلوري يريد صديقه العزيز فيراسوامي.»
أعاد السيد لاكرستين قوله: «لا فض فوكَ! ثق أنني سأصوِّت ضدَّهم جميعًا.»
زمَّ السيد ماكجريجور شفتيه بانزعاج؛ فقد كان في موقف حرج، إذ إنَّ فكرة اختيار عضو من أهل البلد لم تكن فكرته، وإنما أُمليت عليه من قبل المفوض. إلا أنه كان لا يُحبُّ اختلاق الأعذار، لذا قال بنبرة أكثر استرضاءً:
«هلا أجلنا مناقشة الأمر حتى الجمعية العمومية التالية؟ ويمكننا حتى ذلك الوقت أن نَنظُر الموضوع بتروٍّ وإمعان.» ثم أضاف وهو متَّجه إلى الطاولة: «والآن من سيُشاركُني القليل من … آه … المرطِّبات السائلة؟»
استدعى الساقي وطُلبت «المرطبات السائلة». كان الجو حينذاك قد صار أشد حرًّا من ذي قبل وكان الكل عطشى. أوشك السيد لاكرستين أن يطلب شرابًا لكنه انكمش وقال متجهمًا: «لا»، حين انتبهت له زوجته. هكذا جلس واضعًا يدَيه على ركبتيه، باديًا عليه بعض الأسى، وهو يشاهد السيدة لاكرستين تزدرد كأسًا من عصير الليمون يحتوي على جين. أما السيد ماكجريجور فقد احتسى عصير ليمون صرف، رغم أنه وقع فاتورة المشروبات. كان الوحيد بين الأوروبيِّين في كياوكتادا الذي يُحافظ على قاعِدة عدم احتساء الشراب قبل الغروب.
قال إليس مُتبرِّمًا، فيما راح يعبث بكأسه، باسطًا ساعدَيه على الطاولة: «حسنًا جدًّا.» كان الجدال مع السيد ماكجريجور قد جعله مضطربًا مرةً أخرى. «حسنًا جدًّا، لكنني مُتمسِّك بما قلته. لا أعضاء محليِّين في هذا النادي! فقد أهلكنا الإمبراطورية بالاستمرار في التنازل في شئون صغيرة كتلك. لم يفسد البلد العصيان إلا لأننا ترفَّقنا بهم أكثر من اللازم. السياسة الوحيدة الممكنة هي أن نُعاملَهم معاملة القاذورات التي يستحقُّونها. هذه لحظة حاسمة، ونحن بحاجة لكل ذرة ممكنة من الهيبة. يجب أن نتكاتف معًا ونقول: «نحن الأسياد، وأنتم شحَّاذون».» وضغط إليس بإبهامه الصغير كأنه يسحق دودة: «الزَمُوا وضعكم أيها الشحَّاذون!»
قال ويستفيلد: «لا جدوى يا عزيزي، لا جدوى على الإطلاق. ما الذي يسعُكَ فعله وكل هذه الإجراءات البيروقراطية تُكبل يدَيك؟ أهل البلد الوضعاء يعرفون القانون أفضل منَّا. فهم يسبُّونك في وجهك وتُحبس لحظة أن تضربهم. لن نستطيع أن نفعل أي شيء إلا إذا وقفنا موقفًا حازمًا. لكن كيف لنا ذلك ما داموا لا يملكون الشجاعة للعراك؟»
قاطعتهما السيدة لاكرستين قائلة: «طالما قال رئيسنا في ماندالاي إننا سوف نُغادر الهند في النهاية لا محالة. فلن يظل الشباب يأتي هنا للعمل طوال حياتهم في مقابل السباب ونكران الجميل. سوف نرحل. وحين يأتينا أهل البلد متوسِّلين أن نبقى سنقول لهم: «لا، كانت لديكم فرصة وأضعتموها. لا بأس، سوف نترككم لتحكموا أنفسكم.» ويا له من درسٍ سيتعلمونه ساعتها!»
قال ويستفيلد مغتمًّا: «هذا ما فعله بنا كل هذا القانون والنظام.» كانت فكرة اضمحلال الإمبراطورية الهندية عن طريق الإجراءات القانونية الكثيرة فكرة مُتواتِرة لدى ويستفيلد. إذ كان يرى أن لا شيء يُمكنه إنقاذ الإمبراطورية من التدهور إلا تمرُّد شامل، وما يترتَّب عليه من تطبيق الأحكام العُرفية. «مع كل هذه الأعمال الورقية والخطابات المتداوَلة صار مُوظَّفُو المكاتب هم الحكام الحقيقيِّين لهذا البلد الآن. لقد أشرفنا على النهاية. وأفضل ما يُمكننا عمله هو أن نُنهي الأمر ونتركهم يُعانون عواقب أخطائهم.»
قال إليس: «لا أتَّفق معك، لا أتفق معك مُطلقًا. فباستطاعتنا أن نضع الأمور في نصابها إن أردنا. لا يحتاج الأمر إلا القليل من الشجاعة. انظروا لما حدث في أمريتسار. انظروا كيف استكانوا بعد ذلك. لقد عرف داير كيف يُعاملُهم. يا لداير المسكين! كانت مهمة قذرة. أولئك الجبناء الذين في إنجلترا هم المسئولون.»
انطلقت من الآخَرين تنهيدة ما، نفس النهيدة التي يلفظها جمع من الرومان الكاثوليك عند ذكر ماري الدموية وحتى السيد ماكجريجور الذي كان يبغض إراقة الدماء والأحكام العرفية، هزَّ رأسه عند ذكر اسم داير.
«رجل مسكين! ضُحِّي به من أجل أعضاء برلمان على شاكلة باجيت لكن لا بأس، ربما يكتشفون خطأهم بعد فوات الأوان.»
قال ويستفيلد: «اعتاد رئيسي القديم أن يحكي لي قصة عن ذلك الأمر. كان هناك هافيلدار عجوز في كتيبة محلية، سأله أحد الأشخاص عما قد يحدُث إن غادرَ البريطانيون الهند. فقال الرجل العجوز …»
دفع فلوري كرسيَّه للوراء وهبَّ واقفًا. لا يجب، ولا يُمكن … بل لا ينبغي مطلقًا أن يستمر هذا الأمر أكثر من ذلك! ينبغي أن يخرج من الحجرة سريعًا، قبل أن يحدث شيء في رأسه ويبدأ في تكسير الأثاث وقذف الصور بالزجاجات. خنازير حمقى سكارى بلداء! هل من الممكن أن يستمرُّوا أسبوعًا تلو الآخر، وعامًا بعد الآخر، يُكرِّرون نفس اللغو الخبيث كلمة كلمةً، مثل محاكاة لقصة من الدرجة الخامسة في «بلاكوودز»؟ ألن يخطر لأي منهم أبدًا شيء جديد ليقوله؟ آه، يا له من مكان، ويا لهم من ناس! أي حضارة هذه! حضارة آثمة قائمة على الويسكي و«بلاكوودز» وصور «الجرو بونزو»! فليرحمْنا الرب، فكلُّنا جزء منها.
لم ينبِس فلوري بكلمة من هذا، وكابد بعض الآلام لكيلا يظهر على وجهه. وقف بجوار مقعده، مُتنحيًا قليلًا عن الآخرين، بنصف ابتسامة مثل رجل لا يثق في محبة الناس له قط.
وقال: «أخشى أنني سأضطرُّ للمغادَرة. للأسف، عليَّ القيام ببعض الأمور قبل الإفطار.»
قال ويستفيلد: «ابقَ وتناول شرابًا آخر يا رجل. ما زال الوقت مُبكِّرًا. فلتحتسِ الجين. سيفتح شهيتك.»
«لا، شكرًا، لا بدَّ أن أذهب. هيا يا فلو. إلى اللقاء يا سيدة لاكرستين. إلى اللقاء جميعًا.»
قال إليس بمجرَّد اختفاء فلوري: «خرج واشنطن بووكر، صديق الزنوج.» كان من المألوف دائمًا أن يقول شيئًا بغيضًا عن أي شخص بمُجرَّد أن يُغادِر الحجرة. «أعتقد أنه ذهب لمقابلة اللزج جدًّا. أو تسلَّل تجنُّبًا لسداد قيمة المشروبات.»
قال ويستفيلد: «إنه ليس شخصًا سيئًا. يقول بعض الأشياء المتشددة أحيانًا. لكن لا أظنه يعنيها تمامًا.»
قال السيد ماكجريجور: «شخص طيب جدًّا بالتأكيد.» أي أوروبي في الهند هو شخص طيب، بحكم عمله، أو بالأحرى بحكم لونه، حتى يرتكب أمرًا شديد الفظاعة. إنها مَرتبة شرَفية.
«إنه شديد التطرُّف بالنسبة إليَّ. فأنا لا أطيق أي شخص يُرافِق أهل البلد. لا عجب أنه حصل على مسحة من فرشاة القطران هو نفسه. فهذا يُفسِّر تلك العلامة السوداء التي على وجهه. ذلك الأبقع. ويبدو كشخصٍ رعديد، بذلك الشعر الأسود، وبشرته الصفراء كالليمون.»
سرت بعض النميمة العابرة حول فلوري، لكن ليست كثيرة، لأنَّ السيد ماكجريجور لم يكن يهوى النميمة. مكث الأوروبيون طويلًا في النادي بما يكفي لاحتساء دَور آخر من الشراب. وحكى السيد ماكجريجور حكايته عن بروم، التي من الجائز أن تردَ في أيِّ سياق تقريبًا. ثم ارتدَّت المحادثة إلى الموضوع القديم الذي لا يُمل أبدًا؛ وقاحة أهل البلد، وتراخي الحكومة، والأيام الخوالي الحلوة حين كان الراج البريطاني في عزِّه وبرجاء إعطاء حامله خمس عشرة جلدة. لم يكن هذا الموضوع يُنسى طويلًا، بسبب هوَسِ إليس به من ناحية. كما أنه من الممكن عذر الأوروبيين كثيرًا على تذمُّرهم؛ فالعيش بين الشرقيِّين والعمل معهم يحتاج صبر أيوب. وكانوا جميعًا، وبوجه خاصٍّ المسئولين الرسميين، يعرفون معنى أن يُستفزُّوا ويُسبُّوا. فكان كل يوم تقريبًا، حين يسير ويستفيلد أو السيد ماكجريجور أو حتى ماكسويل في الشارع، ويمرُّون بصبية المدرسة الثانوية، تُقابلهم السخرية على وجوههم الشابة الصفراء — وجوه ناعمة مثل العملات الذهبية، مُفعَمة بالاحتقار المُزعِج المطبوع على الوجه المنغولي — وأحيانًا تعلو أصواتهم خلفهم بضحكات مثل صوت الضباع. لم تكن حياة المسئولين الإنجليز في الهند شهدًا خالصًا. فربما كان لهم الحق في أن يكونوا بُغَضاءً قليلًا وهم يعيشون في معسكرات خالية من أسباب الراحة، ومكاتب شديدة الحر، وبيوت مُسافرين مُعتِمة تفوح منها رائحة الغبار والنفط الخام.
كانت الساعة تقترب من العاشرة، وصار الحر فوق الاحتمال. تجمع على وجوه الجميع، وعلى سواعد الرجال العارية قطرات راكدة وشفَّافة من العرق. وراحت بقعة رطبة على ظهر سترة السيد ماكجريجور الحريرية تزداد حجمًا. بدا كأن الوهج بالخارج تخلَّل بطريقة ما الأستار الخضراء التي غطَّت النوافذ، ليُصيبَ عيون الجميع بالألم ويملأ رءوسهم بالخُمول. صار كل منهم يُفكِّر بفتُور في إفطاره الدسم، وفي الساعات الطويلة المُملَّة المقبلة. وقف السيد ماكجريجور وعدل وضع نظارته، التي انزلقَت على أنفه المتعرِّق.
ثم قال: «من المؤسف أن ينتهي هذا التجمع المرح. لكن لا بد أن أعود إلى المنزل من أجل الإفطار. هموم الإمبراطورية. هل سيذهب أحد في طريقي؟ السائق في الانتظار مع السيارة.» قالت السيدة لاكرستين: «أكون شاكرة إذا أخذتني أنا وتوم. كم هو مريح ألا نضطرَّ إلى السير في هذا القيظ!»
وقف الآخرون. مطَّ ويستفيلد ذراعَيه وتثاءب من أنفه وقال: «أعتقد أنه من الأفضل الإسراع. سوف أنام إن جلست هنا أكثر من ذلك. تذكَّرت أنني سأظلُّ أتصبَّب عرقًا في ذلك المكتب طوال النهار! والسلال المليئة بالأوراق. يا إلهي!»
قال إليس: «لا ينسَ أحد منكم التنس هذا المساء. وأنت يا ماكسويل، أيها الوغد الكَسُول، إياك أن تتهرَّب من اللعب مرةً أخرى. لتأتِ بمضربك في الساعة الرابعة والنصف تمامًا.»
قال السيد ماكجريجور بذوقٍ باللغة الفرنسية لدى الباب: «تفضلي يا سيدتي.»
وقال ويستفيلد: «تقدم يا ماكدوف.»
وخرجوا إلى أشعة الشمس البيضاء المتَّقدة؛ حيث كانت الحرارة تتصاعد من الأرض مثل صهد الفرن، فيما توهجت الزهور، مُجهِدة ألوانها للعين، دون أن تهتز لها ورقة في لجَّة الشمس. كان الهجير يرسل كللًا في العظام. كان ثمة شيء مريع فيه؛ مريع أن تتأمَّل تلك السماء الزرقاء المُبهِرة للبصر، في امتدادها المتواصِل فوق بورما والهند، وفوق سيام، وكمبوديا، والصين، من دون غيمة ومن دون انقطاع. كان صفيح سيارة ماكجريجور المنتظِرة ساخنًا جدًّا للمس. كان النهار الخبيث في بدايته، الوقت الذي، كما يقول البورميون، «تسكن فيه الأقدام». فلم يكن كائنٌ حيٌّ ليتحرَّك، باستثناء الرجال، وصفوف النمل الأسود، التي أثارتها الحرارة، فسارت مثل الشريط عبر الممر، والنسور عديمة الذيل التي ارتفَعَت في تيارات الهواء.