الفصل السابع
استلقت إليزابيث على الأريكة في حجرة استقبال آل لاكرستين، رافعة قدميها وواضعة حشيَّة خلف رأسها، بينما تقرأ كتاب مايكل آرلين «هؤلاء الناس الفاتنون». كان مايكل آرلين كاتبها المفضل في العموم، لكنها كانت تميل إلى تفضيل ويليام جيه لوك حين تريد شيئًا جادًّا.
كانت حجرة الاستقبال حجرة باردة فاتحة اللون بجُدران بسُمك ياردة مدهونة بالجير؛ ورغم أنها كانت كبيرة فقد بدَت أصغر مما كانت، لما تناثر فيها من طاولات صغيرة وحليات نحاسية من مدينة بيناريس الهندية. كذلك عبقَت الحجرة برائحة القماش القطني المطبوع والزهور الميتة. في الدور العلوي كانت السيدة لاكرستين نائمة؛ وفي الخارج اضطجع الخدم صامتين في حجراتهم، وقد ربط نوم منتصف اليوم الشبيه بالموت رءوسهم بوسائدهم الخشبية. وكان السيد لاكرستين في مكتبه الخشبي الصغير الواقع على الطريق، في سُبات هو الآخر غالبًا. لم يُبدِ أحد حراكًا سوى إليزابيث، والغلام الذي كان يشد حبل المروحة خارج مخدع السيدة لاكرستين، مستلقيًا على ظهره وقد وضع أحد كعبيه في عقدة الحبل.
كانت إليزابيث قد أتمَّت لتوِّها عامها الثاني والعشرين، وكانت يتيمة. كان أبوها أقل إدمانًا للشراب من شقيقه توم، لكنه كان ذا طابع مشابه. كان يعمل في تجارة الشاي وسيطًا، حيث تقلب به الحال تقلبات كبرى، لكنه كان بطبعه أكثر تفاؤلًا من ادخار المال في فترات الازدهار. أما أم إليزابيث فقد كانت امرأة معدومة الكفاءة، ناقصة النضج، مُضطربة العقل، دائمة الرثاء على حالها، وقد تهرَّبت من كل الواجبات الطبيعية للحياة مستندة إلى مدارك لم تكن تتمتَّع بها. وهي بعد العبث لسنوات في أشياء مثل حق المرأة في الانتخاب وحركة الفكر الجديد، والإقدام على عدة محاولات فاشلة في الأدب، بدأت أخيرًا تتَّجه ناحية الرسم. فالرسم هو الفن الوحيد الذي يُمكن ممارسته من دون موهبة أو عمل شاق. وكانت السيدة لاكرستين تتكلَّف دور الفنان المنفي بين أصحاب النزعات المادية — ومن هؤلاء زوجها بالطبع — وقد منحها هذا الدور مجالًا يكاد لا يحدُّه حد لتجعل من نفسها مصدر إزعاج.
في العام الأخير للحرب، كون السيد لاكرستين، الذي تدبر الهروب من الجيش، ثروة طائلة، وبعد الهدنة مباشرة انتقلوا إلى منزل ضخم جديد تشوبه بعض الكآبة في ضاحية هايجيت، به عدد من المُستنبتات الزجاجية والشجيرات والإسطبلات وملاعب التنس. وعين السيد لاكرستين رهطًا من الخدم، بل وبلغ به التفاؤل أن عين مديرًا للمنزل. وأُرسلت إليزابيث لقضاء فصلين دراسيين في مدرسة داخلية ذات مصاريف باهظة للغاية. وكم كان في ذينك الفصلين من بهجة، بهجة لا تُنسى! كانت أربع من الفتيات في المدرسة من بنات النبلاء؛ وكان لكل واحدة منهنَّ تقريبًا مهر، يُسمَح لها بامتطائه في آخر النهار أيام السبت. في حياة كل شخص ثمة فترة قصيرة تتشكَّل فيها شخصيته إلى الأبد؛ من ناحية إليزابيث كانت ذينك الفصلَين الدراسيَّين اللذَين اختلطت خلالهما مع طبقة الأثرياء. من ذلك الحين فصاعدًا تلخص نظام معيشتها بأكمله في اعتقاد واحد، وهو على ذلك اعتقاد بسيط. وهو أن الجيد (الذي كانت تُسميه «الجميل») يترادف مع الغالي والأنيق والأرستقراطي؛ أما الرديء (الكريه) فهو الرخيص والوضيع والرث والمرهق. قد يكون تدريس هذه العقيدة هو الهدف من وجود مدارس الفتيات باهظة المصاريف. وقد تعمق هذا الشعور مع تقدم إليزابيث في السن، وتفشى في كل أفكارها. هكذا صار كل شيء بدءًا من زوج الجوارب وصولًا إلى أرواح البشر يصنَّف على أنه «جميل» أو «كريه». ولسوء الحظ، كان «الكريه» هو ما غلب على حياتها؛ إذ لم يدم رخاء السيد لاكرستين.
فقد وقع الانهيار المحتوم في أواخر عام ١٩١٩؛ وتبعًا لذلك أُخرجت إليزابيث من المدرسة، لتستكمِل تعليمها في عدد من المدارس الرخيصة الكريهة، مع التخلف لفصل دراسي أو فصلين حين لم يستطع أبوها دفع المصروفات. ثم مات أبوها بالأنفلونزا وهي في العشرين؛ وتُركت السيدة لاكرستين بدخل بلغ مائة وخمسين جنيهًا سنويًّا، وهو ما كان سينتهي بوفاتها. لم تستطع السيدتان، في ظلِّ تدبير السيدة لاكرستين، العيش بثلاثة جنيهات في الأسبوع في إنجلترا. لذا انتقلتا إلى باريس؛ حيث كانت المعيشة أرخص وحيث نوَت السيدة لاكرستين أن تُكرِّس نفسها كليةً للفن.
باريس! والحياة في باريس! كان فلوري مُخالفًا للواقع قليلًا حين تصوَّرَ تلك الأحاديث المطولة مع فنانين مُلتحين تحت أشجار الدلب الخضراء. فلم تكن حياة إليزابيث في باريس هكذا بالضبط.
كانت أمها قد استأجرَت مرسمًا في حي مونبارناس، وتردَّت في التو في حالة مُضطرِبة ومُزرية من البطالة. وكانت شديدة السفاهة حتى إن دخلها لم يكن يكاد يُغطِّي نفقاتها، فكانت إليزابيث تظلُّ شهورًا لا تحصل على ما يسدُّ رمقَها من الطعام. لكنها فيما بعد عثرت على عمل فصارت مدرسة خصوصية للغة الإنجليزية لدى أسرة مُدير بنك فرنسي، وكانوا يُنادونها بالفرنسية قائلين: «آنستنا الإنجليزية.» كان مدير البنك يعيش في الدائرة الثانية عشرة، التي تبعد عن مونبارناس بمسافة طويلة، لذلك استأجرَت إليزابيث حجرة في بنسيون قريب. كان البنسيون عبارة عن منزل ضيِّق بواجهة صفراء في شارع جانبي، يُطلُّ على متجر دواجن، كان يُزين دائمًا بجثث نَتِنة الرائحة لخنازير برية، يزورها كل صباح سادة مُسنُّون يُشبهون كائنات ساتير هرمة ليشموها طويلًا بحب. وإلى جانب متجر الدواجن كان هناك مقهًى مليء بالحشرات، بلافتة كُتب عليها بالفرنسية «مقهى الصداقة. جعة ممتازة». لشد ما أبغضت إليزابيث ذلك البنسيون! وكانت مالكته عجوز متلصِّصة متَّشحة بالسواد قضت حياتها وهي ترتقي الدرج وتهبطه على أطراف أصابعها مُتحيِّنة الفرصة لضبْط النزلاء وهم يغسلون جواربهم في أحواضهم المخصصة لغسيل اليدين. أما النزلاء فكانوا أرامل سليطات الألسن حادات الطباع، وكنَّ يلاحقْنَ الرجل الوحيد في البناية، الذي كان كائنًا أصلع هادئًا يعمل في متجر «لا ساماريتين»، كما تُقلِّب طيور السنونو كسرة خبز. أثناء الوجبات كانت كل واحدة منهن تفحص صحون الأخريات لترى من أُعطيت أكبر حصة من الطعام. كان الحمَّام جُحرًا مُعتمًا بجدران مبقَّعة مثل جلدٍ أصابه الجذام وسخَّان صَدِئ مُتهالِك يُطلق بوصتين من الماء الفاتر في حوض الاستحمام ثم يتوقَّف عن العمل معاندًا. أما مدير البنك الذي كانت إليزابيث تدرس لأطفاله فكان رجلًا في الخمسين، ذا وجه سمين مُنهَك ورأس أصفر أصلع شبيه ببيض النعام. في اليوم الثاني بعد وصولها دخل الحجرة التي كان الأطفال يتلقَّون فيها دروسهم، وجلس بجانب إليزابيث وقرصها في كوعها في الحال. وفي اليوم الثالث قرصها في ربلة ساقها، وفي اليوم الرابع وراء ركبتها، وفي اليوم الخامس فوق ركبتها. ومنذ ذلك الحين، صارت كل مساء معركة صامتة بينهما، يدها أسفل الطاولة تُقاوِم وتُحاول إبعاد تلك اليد الشبيهة بحيوان ابن مقرض عنها.
كانت حياة حقيرة وكريهة؛ بل إنها بلغت مُستويات من «الكراهة» لم تكن إليزابيث تعلم بوجودها من قبل. لكن أكثر ما أحزنها وملأها بشعور التردِّي في عالم سفلي مريع، كان مرسم أمها. كانت السيدة لاكرستين واحدة من أولئك الناس الذين ينهارون تمامًا عند حرمانهم من الخدم. فكانت تعيش في كابوس مؤرِّق ما بين الرسم وأعمال المنزل، لكنها لم تجتهد في أي منهما. كانت من حين لآخر تذهب إلى «مدرسة» ما حيث ترسم لوحات رمادية مسلوبة الروح تحت توجيه مُعلِّم قام أسلوبه الفني على الفُرَش المتَّسخة؛ فيما عدا ذلك كانت تعبث بائسةً في المنزل بأباريق الشاي والمقالي. وكانت حالة مرسمها تُثير في نفس إليزابيث الكآبة، وأي كآبة؛ فقد بلغ من الخبث درجة شيطانية. كان حظيرة خنازير باردة ومغبرَّة، بأكوام من الكتب والجرائد مُتناثِرة في أنحاء أرضه، وأجيال من القدور بدهونها راقدة على موقد الغاز الصدئ، وفراش لا يُرتب مطلقًا إلا بعد الظهر، وفي كل مكان — حيثما كان هناك احتمال أن تطأهم القدم أو تُسقطَهم — صفائح تربنتين ملوَّثة بالطلاء وأباريق شاي نصف مليئة بشاي أسود بارد. وكنتُ إذا رفعت حاشية عن أحد المقاعد قد تجد أسفلها صحنًا به بقايا بيضة مسلوقة. كانت إليزابيث بمجرد ولوجها من الباب تصرخ قائلة:
«يا أماه، عجبًا لكِ يا أمي العزيزة! فلتنظري إلى حال هذه الحُجرة! كم هو فظيعٌ العيش هكذا!»
«الحجرة يا عزيزتي؟ ما خطبُها؟ هل هي غير منظمة؟»
«غير منظمة! لماذا تركتِ صحن العصيدة ذلك في مُنتصَف الفراش يا أماه؟ وتلك القدور! المنظر غاية في البشاعة حقًّا. فلتفترضي أن أحدًا دخل!»
حينذاك كان يلُوح في عينَي السيدة لاكرستين تلك النظرة المُنتشية السابحة في عالم آخر التي كانت تصطنعُها متى طرأ أيُّ شيء مثل العمل.
«لن يُبالي بذلك أي من أصدقائي يا عزيزتي. فنحن الفنانين بوهيميُّون للغاية. إنكِ لا تدركين كم نحن جميعًا مُستغرِقون تمامًا في فنِّنا. فليس لديكِ المزاج الفنِّي يا عزيزتي.»
«لا بدَّ أن أُحاول تنظيف بعض من تلك القدور. لا أطيق أن أتصوَّرك تعيشين هكذا. ماذا فعلتِ بفرشاة التنظيف؟»
«فرشاة التنظيف؟ دعيني أتذكر، أظنُّ أنني رأيتها في مكانٍ ما. آه، أجل! لقد استخدمتها بالأمس في تنظيف لوحة ألواني. لكنَّها ستكون على ما يُرام إذا غسلتِها جيدًا بزيت التربنتين.»
ثم كانت السيدة لاكرستين تجلس لتُواصِل تلطيخ فرخ من أوراق الرسم بقلمٍ فحم بينما تعمل إليزابيث.
«كم أنتِ رائعة يا عزيزتي. عملية للغاية! لا أدري من أين ورثتِ هذه الصفة. أما أنا فالفن لي هو كل شيء. أشعر به مثل بحر مُترامٍ يمور بداخلي، ليغرق كل ما هو حقير وتافِه في الوجود. بالأمس تناولت غدائي في مجلة «ناشز» لتوفير الوقت الذي يضيع في غسيل الصحون. يا لها من فكرة جيدة! كلما أردتِ صحنًا نظيفًا نزعتِ صفحة فحسب … إلخ».
لم يكن لدى إليزابيث أصدقاء في باريس. فأصدقاء أمها كانوا إما نساءً على شاكلتها، أو عزابًا كبار السنِّ خائبي السعي يعيشُون على دخول صغيرة ويُمارِسُون أنواعًا تافهة من أنصاف الفنون مثل الحفر على الخشب أو الرسم على الخزف. فيما عدا ذلك كانت إليزابيث لا ترى سوى أجانب فقط، وهي كانت تكره كل الأجانب في مجملهم؛ أو على الأقل كل الرجال الأجانب، بملابسهم الرخيصة المنظر وسلوكياتهم المقززة على المائدة. وكان لديها عزاء وحيد في هذا الوقت، وهو الذهاب إلى المكتبة الأمريكية في شارع الإليزيه وقراءة الصحف المصورة. وأحيانًا في أوقات الفراغ بعد ظهر يوم الأحد كانت تجلس لساعات إلى الطاولة الكبيرة اللامعة، منكبَّة على صحف «ذا سكيتش» و«تاتير» و«ذا جرافيك» و«ذا سبورتينج أند دراماتيك».
ويا للمباهج التي كانت مُصوَّرة فيها! «تجمُّع للصيد في حديقة شارلتون هول، المقر البديع للورد بورودين في وريكشير»، «معالي السيدة تايك بولبي في الحديقة مع كلبها الألزاسي الرائع، كوبلاي خان، الذي فاز بالجائزة الثانية في مهرجان كرافت للكلاب هذا الصيف»، «الاستمتاع بحمام شمس في مدينة كان. من اليسار إلى اليمين؛ الآنسة باربرا بيلبريك والسير إدوراد توك والليدي باميلا ويستروب والقبطان «تابي» بيناكير».
يا له من عالم ذهبي غاية في الجمال! حدث مرتين أن أطلَّ على إليزابيث من الصفحة وجه إحدى زميلاتها القدامى في المدرسة. وقد أوجعها حتى الأعماق أن ترى ذلك. هناك كانت زميلاتها القدامى من المدرسة، كلهنَّ مع خيولهن وسياراتهن وأزواجهن في سلاح الفرسان؛ وهي هنا، مقيدة إلى تلك الوظيفة البشعة، وذلك البنسيون البشع، وأمها البشعة! هل من الممكن ألا يكون ثمَّة مفر؟ هل من الممكن أن يُحكم عليها إلى الأبد بهذا الانحطاط الدنيء، بلا رجاء في العودة مطلقًا إلى العالم المحترم مرة أخرى؟
لم يكن عجيبًا أن تُكنَّ إليزابيث كرهًا صحيًّا للفن، ومثال أمها قائم أمام عينيها. بل إن أي مبالغة في الفكر — الذي كانت تُسمِّيه «ذكاء» — يميل في عينيها للانتماء لما هو «كريه». كانت تشعر أن الناس الحقيقيِّين، الناس الوجهاء — الناس الذين يُصطادون طيور الطهيوج ويذهبون إلى بلدة أسكوت حيث سباق الخيل ويبحرون في يخوت في ميناء كاوز — ليسوا أذكياء. فهم لا يولعون بهراء تأليف الكتب والعبث بفُرَش الرسم، وسائر أفكار الثقافة الرفيعة؛ الاشتراكية وما إلى ذلك. كانت «الثقافة الرفيعة» كلمة بغيضة في قاموسها. وحينما اتَّفق، كما حدَثَ مرةً أو مرتين، والْتقَت بفنَّان حقيقي على استعداد للعمل دون مُقابل طوال حياته، بدلًا من أن يبيع نفسه لمصرف أو شركة تأمين، كانت تحتقرُه أكثر مما احتقرَت الهُواة الذين في دائرة أمِّها. كان تخلِّي الرجل عامدًا عن كل ما هو طيب ومُحترم والتضحية بذاته من أجل عبث لا يُؤدي إلى شيء شرًّا مخزيًا ومُهينًا. ورغم أنها كانت ترهب العنوسة فقد كانت تُفضِّل أن تعيش عانسًا ألف عمر على أن تتزوَّج رجلًا من هذا النوع.
بعد أن قضَت إليزابيث نحو عامَين في باريس ماتت أمها فجأة بتسمُّم الطعام. العجيب أنها لم تمُت به أسرع من ذلك. هكذا تُركت إليزابيث لا تملك من حطام الدنيا ما يُكمل مائة جنيه. وفي الحال أرسل عمها وزوجته برقية من بورما طالبين أن تأتي وتُقيم معهما، قائلين إنهما سيتبعان البرقية بخطاب.
وجعلت السيدة لاكرستين تتفكَّر في الخطاب لبعض الوقت، واضعة القلم بين شفتيها، مطلَّة على الصفحة بوجهها الرقيق المثلث مثل حية في حالة تأمُّل.
«أعتقد أننا لا بدَّ أن نستقبلها لدينا لمدة عام على أيِّ حال. يا للضجر! مهما يكن من أمر، الفتيات هنا يتزوَّجن خلال عام إذا كان لديهن أي مسحة من جمال. ماذا أقول للفتاة يا توم؟»
«تقولين؟ فلتقولي إنها هنا ستلتقط زوجًا سريعًا عن الوطن. شيء من هذا القبيل.»
«عزيزي توم! أي كلام غير معقولٍ هذا الذي تنطق به!»
صحيح أن هذه القاعدة صغيرة جدًّا وأننا نقضي وقتًا طويلًا في الغابة، وأخشى أنكِ ستجدين الوضع مُضجِرًا للغاية بعد مباهج باريس. لكن حقًّا هذه القواعد الصغيرة تنطوي إلى حدٍّ ما على مزايا للشابة الصغيرة. فهي تجد نفسها مَلِكة في المجتمع المحلِّي. إذ إن الرجال غير المتزوِّجين يشعرون بوحدة شديدة، حتى إنهم يُقدِّرون صحبة الفتيات على نحو رائع للغاية … إلخ.
أنفقت إليزابيث ثلاثين جنيهًا على الفساتين الصيفية وأبحرت في الحال. عبرت السفينة البحر المتوسط، تتقافَز أمامها خنازير البحر مُعلِنة عن قدومها، وهبطت القناة ونفذت منها إلى بحر ذي زرقة بينة مثل المينا، ثم خرجت منه لتتوغل في الرحاب الخضراء للمحيط الهندي، حيث راحت أسراب السمك الطيار تمرق رعبًا من بدن السفينة المقترب. في الليل كانت المياه تشع نورًا حتى إن المياه كانت تتدفَّق حول مقدمة السفينة مثل انطلاق رأس سهم مُشتعل بنار خضراء. «أحبت» إليزابيث الحياة على متن السفينة. فقد أحبت الرقص على السطح ليلًا، والكوكتيلات التي بدا كل رجل على السفينة متلهفًا ليبتاعها لها، وألعاب سطح السفينة وإن كانت تسأم منها في نفس الوقت تقريبًا الذي يسأم فيه أفراد مجموعة الشباب. لم تكن وفاة أمها التي مرَّ عليها شهران فقط بشيء ذي بال لها. فهي لم تأبه لأمها كثيرًا قط، كما أن الناس هناك لم يكونوا يعلمون شيئًا عن أمورها. كان جميلًا جدًّا بعد ذَينِكَ العامَين القاسيين أن تتنفَّس هواءَ الثروة مرةً أخرى. لا يعني هذا أن أغلب الناس هنا كانوا أثرياء؛ لكن على متن السفينة يتصرف كل شخص كما لو كان ثريًّا. وأيقنت هي أنها سوف تحبُّ الهند. إذ كانت قد كونت صورة مميزة من أحاديث الركاب الآخرين؛ بل وتعلمت العبارات الهندوستانية الضرورية، مثل «إدهيرو أو» (تعال هنا) و«جالدي» (أسرع) و«صاحبلوج» (السادة الأوروبيون) … إلخ. وفي لهفة تذوقت الأجواء المحبَّبة للنوادي، بمراوحها وهي تخفق وصبية حفاة بعمامات بيضاء يؤدون التحية في تبجيل؛ والميادين حيث رجال إنجليز ببشرة مُسمرَّة وشوارب صغيرة شُذبت بعناية، يعْدون على خيولهم جيئةً وذهابًا ويسددون الضربات لكرات البولو. كادت الحياة التي يعيشها الناس في الهند أن تكون في جمال أن يكون المرء ثريًّا حقًّا.
أبحروا إلى كولومبو في مياه خضراء شفافة كالزجاج، حيث طفَتِ السَّلاحف والثعابين السوداء مستدفئة. وجاء أسطول من الزوارق تتسابق لملاقاة السفينة، يدفعها رجالٌ في سواد الفحم بشفاه صبغتها عصارة التانبول بحمرة أشد من الدم، وقد راحوا يتصايحون ويتصارعون حول معبر السفينة أثناء نزول الركاب. وأثناء نزول إليزابيث وأصدقائها جعل اثنان من أصحاب الزوارق يستجْدُونهم بهُتافهم، وقد احتكَّت مقدمتا زورقَيهما بمعبر السفينة.
«لا تذهبي معه يا آنسة! ليس معه! إنه رجل سيئ شرِّير، غير جدير باصطحابك يا آنسة.»
«لا تستمعي لكذبه يا آنسة! إنه شخص حقير بغيض! إنه يُخادع بحِيل وضيعة بغيضة. حيل أهل البلد البغيضة!»
«ها ها! وهو نفسُه ليس من أهل البلد! لا! إنه رجل أوروبي، وبشرته بيضاء تمامًا يا آنسة! ها ها!»
قال زوج صديقة إليزابيث، الذي كان مُزارعًا: «توقَّفا عن الصخب وإلا ركلتُ أحدكما.» وركبوا أحد الزورقَين الذي حملَهم تجاه أرصفة الميناء التي أضاءتها الشمس. وقد استدار صاحب الزورق الفائز ونفَث على غريمه ملء فمِه بصاقًا لا بد أنه ظلَّ يدَّخره وقتًا طويلًا جدًّا.
كان هذا هو الشرق. حمل الهواء الساخن المضطرب روائح زيت جوز الهند والصندل، والقرفة والكركم عابرًا المياه. خرج أصدقاء إليزابيث بها إلى ضاحية ماونت لافينيا، حيث تحمَّمُوا بمياه البحر الفاترة التي علاها زبد مثل الكوكا كولا. وعادت إلى السفينة في المساء، ثم وصلوا إلى رانجون بعد ذلك بأسبوع.
في شمال ماندالاي كان القطار الذي تغذى بالحطب، يسير رويدًا بسرعة اثني عشر ميلًا في الساعة عبر سهل شاسع جاف، تحد أطرافه النائية دوائر زرقاء من التلال. وقد وقفت طيور البلشون البيضاء من دون حراك مثل طيور مالك الحزين، ولمعَت أكوام من الفلفل الجاف بلون قرمزي تحت أشعة الشمس. من حين لآخر كان يبرز في السهل معبد أبيض كأنه صدر واحدة من العمالقة مستلقية على الأرض. هبط الليل المداري المُبكِّر، ومضى القطار مرتجًّا، على مهَل، متوقفًا في محطات صغيرة حيث تردَّدت صيحات همجية في الظلام. إذ كان هناك رجال نصف عُراة عاقدين شعورهم الطويلة وراء رءوسهم، يتحرَّكون جيئةً وذهابًا، وقد بدوا في بشاعة الشياطين في عيني إليزابيث. توغل القطار في الغابة، ولامسَت الفُروع غير المرئية النوافذ. كانت الساعة التاسعة تقريبًا حين وصلوا كياوكتادا؛ حيث كان عم إليزابيث وزوجته منتظرَين مع سيارة السيد ماكجريجور، وبعض الخدم الذين حملوا مشاعل. تقدمت زوجة العم وأخذت بمنكبي إليزابيث بين يديها الرقيقتين الشبيهتين بالسحالي.
قالت: «أعتقد أنكِ إليزابيث، ابنة أخينا؟ إننا في غاية السعادة لرؤيتكِ»، ثم قبلتها.
حدق السيد لاكرستين من فوق منكب زوجته في ضوء المشعل، ثم أطلق نصف تصفيرة، وهتف: «يا للهول!» ثم ضمَّ إليزابيث وقبلها، بدفء أكثر مما كان ينبغي عليه، كما اعتقدت. فهي لم ترَ أيًّا منهما من قبل قط.
بعد العشاء، راحت إليزابيث وزوجة عمها تتحدَّثان تحت المروَحة في حُجرة الاستقبال. أما السيد لاكرستين فكان يتمشَّى في الحديقة، بذريعة أنه يشمُّ عبير زهور الياسمين الهندي، لكنه في الحقيقة كان يتناول شرابًا خلسةً هربه إليه أحد الخدم من مؤخرة المنزل.
«كم أنتِ جميلة حقًّا يا عزيزتي! دعيني أنظر إليكِ مرة أخرى.» ثم أمسكت بمنكبَيها وقالت: «أعتقد حقًّا أن الشَّعر القصير يُناسبكِ. هل قصصتِه في باريس؟»
«أجل. فالجميع هناك يُقصِّرون شعرهم. إنه يُناسب من كان رأسها صغيرًا بعض الشيء.»
«جميل! وتلك النظارة المُزخرفة المصنوعة من صدفة السلحفاة، يا لها من موضة جذابة! لقد سمعت أن كل اﻟ… آه … النساء في أمريكا الجنوبية بدأن يرتدينها. لم أكن أعلم أن لديَّ قريبة بهذا الجمال الصارخ. قلتِ لي كم عمركِ يا عزيزتي؟»
«اثنان وعشرون.»
«اثنان وعشرون! كم سيسر الرجال جميعًا حين نصطحبكِ إلى النادي غدًا! فيا لهم من مساكين، يشعرون بوحدة شديدة لعدم رؤيتهم أي وجه جديد مطلقًا. وهل مكثتِ عامين كاملين في باريس؟ لا أتخيل ما الذي يمكن أن يكون دها الرجال هناك ليتركوكِ تغادرين من دون زواج.»
«أخشى أنني لم أكن ألتقي بالعديد من الرجال يا عمتي. أجانب فقط. فقد كان علينا أن نعيش حياة هادئة جدًّا.» ثم أردفت قائلة: «كما أنني كنت أعمل» وقد راودها شعور بأنه اعتراف مخزٍ بعض الشيء.
تنهدت السيدة لاكرستين قائلة: «بالطبع، بالطبع. نسمع بهذا الأمر من هنا وهناك. فتيات جميلات يضطررن للعمل من أجل كسب الرزق. يا له من شيء مؤسف! أعتقد أنها أنانية فظيعة أن يظل هؤلاء الرجال بلا زواج بينما هناك الكثير جدًّا من الفتيات المسكينات اللواتي يبحثن عن أزواج، أليس كذلك؟» لما لم تجب إليزابيث على هذا السؤال، أضافت السيدة لاكرستين بتنهيدة أخرى: «من المؤكد أنني لو كنت شابة صغيرة كنت سأتزوج أي أحد، أي أحد حرفيًّا!»
التقت عينا السيدتين. كان لدى السيدة لاكرستين الكثير الذي أرادت قوله، لكنها لم يكن لديها نية أن تزيد عن التلميح له بمواربة. وقد جرى جزء كبير من حديثها بالتلميحات؛ بيد أنها تدبرت عامةً أن تجعل مقصدها واضحًا بدرجة معقولة. إذ قالت بنبرة محايدة رقيقة كأنها تناقش أحد الموضوعات العامة:
«لا بد أن أقر بالطبع أن إخفاق الفتيات في الاقتران بزوج يكون في بعض الحالات خطأً منهن. وهذا يحدث أحيانًا حتى هنا. تحضرني إحدى تلك الحالات التي وقعت منذ فترة قصيرة؛ إذ حضرت فتاة إلى هنا وأقامت مع شقيقها عامًا بأكمله، وقد جاءتها عروضٌ من كل أصناف الرجال؛ شرطيُّون ومسئولو غابات ورجال يعملون في شركات أخشاب ينتظرهم مستقبل طيب جدًّا. وقد رفضتْهم جميعًا؛ إذ أرادت أن تتزوج زواجًا مختلطَ الأعراق حسبما سمعت. حسنًا، وماذا كانت النتيجة؟ بالطبع لم يستطع أخوها أن يحتفظَ بها إلى الأبد. سمعت أنها الآن في الوطن، تعمل المسكينة وصيفة، بالأصح خادمة، وتحصل على خمسة عشر شلنًا فقط في الأسبوع! أليس هذا أمرًا مروعًا؟»
قالت إليزابيث مردِّدة: «مروع!»
لم تنبِس كلمة أخرى في هذا الموضوع. في الصباح، بعد أن عادت من منزل فلوري، جعلت إليزابيث تصف لعمها وزوجتِه مغامرتها. كانوا جالسين لتناول الإفطار، إلى المائدة المحملة بالزهور، فيما راحت المروحة تخفق فوقهم، وقد وقَفَ الخادم المسلم الطويل القامة مثل طائر اللقلق في بزته البيضاء وعِمَّته، وراء مقعد السيدة لاكرستين حاملًا صينية في يده.
«صحيح يا عمتي، كان ثمة شيء مُثير للفضول! فقد دخلت فتاة بورمية الشرفة، وأنا لم أكن قد رأيتُ واحدةً قط، أو بالأحرى لم أكن أعرف أنهن فتيات. يا لها من شيء صغير عجيب! كانت تقريبًا أشبه بدمية بوجهها الأصفر المستدير وشعرها الأسود الملفوف فوق رأسها. بدت في السابعة عشرة من عمرها تقريبًا. وقد قال السيد فلوري إنها الغسالة.»
تسمَّر رئيس الخدم، الذي كان يتحدث اللغة الإنجليزية جيدًا، ببدنه الطويل، وحدق في الفتاة بمقلتي عينيه البيضاوين في وجهه الأسود. وتوقف السيد لاكرستين بشوكة مليئة بالسمك في منتصف الطريق بين صحنه وفمه الغليظ المفتوح.
وقال: «غسالة؟ غسالة! اللعنة، أعتقد أن ثمة خطأً! فليس هناك غسالات في هذا البلد. فالرجال يقُومون بكل أعمال الغسيل. إذا أردتِ رأيي …» ثم توقف على نحو مفاجئ جدًّا، كأن أحدًا قد وَطئ إصبع قدمه أسفل المائدة.