الفصل الأول

الواقعية

هناك، بدايةً، مشكلة الافتتاحية، كيف ننطلق من مكاننا؛ المكان الذي لم يوجد بعدُ، إلى الضفة البعيدة؟ إنها مشكلة بسيطة عابرة، مشكلة أن نسير معًا على جسر. يحل الناس مثل هذه المشاكل يوميًّا. يحلونها، ويواصلون حلها.

لنفترض أنها تُحَل، بصرف النظر عن الطريقة التي تُحل بها. لنسلِّم بأنَّ ذلك الجسر شُيِّد وعُبِر، بحيث يمكن ألَّا تنشغل به عقولنا. وقد تركنا خلفنا المقاطعة التي كنَّا فيها. إننا في مقاطعة بعيدة، حيث نودُّ.

إليزابيث كُسْتِلُّو كاتبة، وُلدت عام ١٩٢٨م؛ أي إنها بلغت السادسة والستين، وفي طريقها إلى السابعة والستين. كتبت تسع روايات، وديوانين، وكتابًا عن حياة الطيور، ووثيقةً عن الصحافة. أسترالية بالميلاد. وُلدت في ملبورن وما زالت تعيش هناك، إلا أنها قضت السنوات من ١٩٥١م إلى ١٩٦٣م بعيدًا عنها، في إنجلترا وفرنسا. تزوجت مرتين. لها طفلان؛ واحد من كل زيجة.

حققت إليزابيث كُسْتِلُّو شهرتها مع روايتها الرابعة؛ «منزل في شارع إيكلز» (١٩٦٩م)، والشخصية الرئيسية فيها هي ماريون بلوم، زوجة ليوبولد بلوم، الشخصية الرئيسية في رواية أخرى، «عوليس» (١٩٢٢م) جيمس جويس. وقد نشأت حولها، في العقد الأخير، صناعة نقدية صغيرة؛ توجد حتى جمعية إليزابيث كُسْتِلُّو، تأسست في البوكيرك، في نيو مكسيكو، تصدر نشرة فصلية عن أخبار إليزابيث كُسْتِلُّو.

سافرت إليزابيث كُسْتِلُّو في ربيع ١٩٩٥م، أو تسافر (صيغة المضارع بدايةً من هنا)، إلى وليمز تاون، في بنسلفانيا، إلى ألتونا كوليج؛ لاستلام جائزة ستوي. والجائزة تُمنح سنويًّا لكاتب عالمي كبير، تختاره لجنة من النقاد والكُتاب، وتبلغ قيمتها ٥٠٠٠٠ دولار، مموَّلة بوَصيَّة من ممتلكات ستوي، وميدالية ذهبية. وهي إحدى الجوائز الأدبية الكبرى في الولايات المتحدة.

تصطحب إليزابيث كُسْتِلُّو (كُسْتِلُّو اسمها قبل الزواج) ابنها جون في زيارتها لبنسلفانيا. يدرِّس جون الفيزياء والفلك في كلية في مَسيشوسيتس،١ لكنه في إجازة لمدة عام بناءً على رغبته. ضعفت إليزابيث إلى حدٍّ ما: لم تكن، بدون مساعدة ابنها، لتقطع هذه الرحلة الشاقة عبر نصف العالم.

نقفز. وصلا إلى وليمز تاون وانتقلا إلى الفندق، بناية كبيرة مدهشة في مدينة صغيرة، مرتفعة وسداسية، برُخامٍ قاتم في الخارج وكريستال ومرايا في الداخل. يدور حوار في غرفتها.

يسأل الابن: «ستكونين على راحتك؟»

تردُّ: «أنا متأكدة من أنني سأكون على راحتي.» الغرفة في الطابق الثاني عشر، تُطل على ملعب جولف، ومن خلفه تلال مليئة بالأشجار.

– «لماذا لا تستريحين إذن؟ سيأتون إلينا في السادسة والنصف. سأتصل بك قبلها ببضع دقائق.»

تتكلم، وهو على وشك المغادرة: «جون، ماذا يطلبون منِّي بالضبط؟»

– «الليلة؟ لا شيء. مجرد تناول العشاء مع أعضاء اللجنة. لن نجعلها تتحول إلى أمسية طويلة. سأذكِّرهم بأنك مرهقة.»

– «وغدًا؟»

– «غدًا حكاية أخرى. عليك أن تتأهبي للغد. إنني خائف!»

– «نسيتُ ما جعلني أوافق على الحضور. تبدو محنةً رهيبة أن يورِّط المرء نفسه بدون سبب وجيه. كان عليَّ أن أطلب منهم التغاضي عن الاحتفال وإرسال الشيك في البريد.»

تتأمل عمرها بعد رحلة طويلة في الطيارة. لم تهتم قط بمظهرها؛ اعتادت أن تُفلِت منه، يظهر الآن؛ عجوز ومرهقة.

– «أخشى يا أمي أن الأمور لا تسير على هذا النحو. إذا قبلتِ الفلوس، فعليك أن تُكملي الحكاية.»

تهزُّ رأسها. ما زالت ترتدي سترة المطر؛ سترة قديمة ارتدتها في المطار. يبدو شعرها مزيتًا وبلا حياة. لم تحاول فتح حقائبها. إذا تركها الآن، فماذا تفعل؟ تتمدَّد في سترة المطر والحذاء؟

إنه هنا، معها، بدافع الحب. لا يستطيع أن يتخيلها تمرُّ بهذه التجربة ولا يكون بجانبها. إنه يقف بجانبها لأنه ابنها؛ ابنها الحبيب. لكنه أيضًا على وشك أن يصبح — يا لها من كلمة منفِّرة — مدرِّبَها.

يفكِّر فيها كفقمة،٢ فقمة عجوز مرهقة في سيرك. مرَّةً أخرى لا بدَّ أن تتربَّع على كاهله، مرةً أخرى تُظهر أنها تستطيع حفظ اتزان كُرَةٍ على أنفها. عليه أن يُقنعها، من كلِّ قلبه، بتنفيذ البرنامج.

يقول بأرقِّ ما يستطيع: «هذه هي طريقتهم الوحيدة. إنهم معجبون بك، ويريدون تكريمك، ويعتقدون أنَّ هذه أفضل طريقة لتحقيق ذلك؛ يُعطونك فلوسًا، يذيعون اسمك، يستخدمون أمرًا لتحقيق الآخر.»

تقف بجانب طاولة كتابة من الطراز الإمبراطوري، تتصفَّح كتيبات تخبرها بمكان التسوق، ومكان العشاء، وكيفية استخدام التليفون، ترمقه بنظرات سريعة ساخرة ما زالت قادرةً على استثارة دهشته؛ لتذكِّره مَن هي. تُهَمهم: «أفضل طريقة؟»

يطرق الباب في السادسة والنصف. إنها جاهزة ومنتظرة، مفعمة بالشكوك لكنها مستعدة لمواجهة الخصم. ترتدي بدلتها الزرقاء وسترةً من الحرير؛ زيَّ سيدة روائية، وحذاءً أبيضَ لا غبار عليه إلا أنه يجعلها إلى حدٍّ ما تبدو مثل ديزي دَك.٣ غسلتْ شعرها وسرَّحته إلى الخلف، لكنه ما زال يبدو مزيتًا، مثل شعر حفَّار أو ميكانيكي. على وجهها نظرة سلبية، إن رأيتها على وجه فتاة، لوصفتها بالانعزالية. وجه بلا شخصية، من النوع الذي يحاول المصوِّرون توضيح معالمه. يفكِّر: مثل كيتس، المؤيد العظيم لاستقبال خاوٍ.
الملابس الزرقاء والشعر الدهني من تفاصيل الواقعية المعتدلة وعلاماتها. إنَّ تقديم الخصائص يجعل الدلالات تنبثق تلقائيًّا. إجراء كان رائدَه دانيال ديفوي.٤ ينظر روبنسون كروزو حوله، ملقيًا نظرةً على الشاطئ، بحثًا عن زملائه الملَّاحين، لكنه لا يجد أحدًا! يقول: «لم أرهم قط فيما بعدُ، ولا أي علامة تدل عليهم، سوى ثلاث قبعات وكاب، وفردتين من حذاءين مختلفين.» فردتان كل فردة بشكل: حين تختلف الفردتان، لا تكون الأحذية شيئًا يُلبس في القدم، تصبح دليلًا على الموت، وقد مزَّقتها البحار الثائرة من أقدام رجال غرقوا وقذفت بها إلى الشاطئ. لا كلمات كبرى، لا يأس، قبعات وكابات وأحذية فقط.

بقدر ما يمكن أن يتذكَّر، رتَّبت أمُّه نفسَها للكتابة في أوقات الصباح. لا شيء يُثنيها مهما تكن الظروف. اعتاد أن يرى نفسه ابنًا سيئ الحظ، وحيدًا غير محبوب. اعتاد هو وأخته حين كانا يأسفان على نفسيهما أن يتسحَّبا خارج الباب المغلق، ويُصدرا أصوات أنين واهية. كانا يشعران، حين يتحول الأنين إلى ترنيم أو غناء، أنهما أفضل، وينسيان الإهمال الذي يتعرَّضان له.

تغيَّر المشهد الآن؛ كبر. إنه ليس خارج الباب بل داخله، يراها وهي تجلس، ظهرها للنافذة، وأمامها، يومًا بعد يوم وعامًا بعد عام وشعرها يتحوَّل ببطء من الأسود إلى الرمادي، صفحة بيضاء. يفكِّر، يا له من عناد! لا شكَّ في أنها تستحق الميدالية، هذه الميدالية وأكثر من ذلك بكثير.

حدث التغيُّر وهو في الثالثة والثلاثين. لم يكن، حتى ذلك الوقت، قد قرأ كلمةً ممَّا كتبتْ. كان هذا ردَّه عليها؛ انتقامه منها لتركه خارج الباب المغلق. تجاهلتْه فتجاهلَها، وربَّما رفض أن يقرأ لها ليحمي نفسه. ربما كان ذلك هو الدافع الأعمق: أن يتجنَّب الضربة الخاطفة. وذات يوم، ودون كلمة مع أحد، وحتى دون كلمة مع نفسه، تناول أحد كتبها من المكتبة، وبعد ذلك قرأ كلَّ شيء؛ يقرأ علنًا، في القطار، وعلى طاولة الغداء. «ماذا تقرأ؟» «كتابًا من كتب أمي.»

إنه، أو بعضه، في كتبها. وأناس آخرون، يعرفهم؛ ولا بدَّ أنَّ هناك كثيرين لا يعرفهم. تكتب عن الجنس، وعن العاطفة والغيرة والحسد، ببصيرةٍ ترجُّه. خروج إيجابي على الآداب العامة.

إنها ترجُّه؛ وهو ما يُفترض أنها تفعله مع القرَّاء الآخرين أيضًا، وما يُفترض أنه سبب وجودها، عمومًا. يا لها من جائزة غريبة لحياة بطُولها من رجِّ البشر: أن تُنقَل إلى هذه البلدة في بنسلفانيا وتُعطَى فلوسًا! لأنها ليست بحال من الأحوال كاتبةً مريحة. ربما حتى تكون قاسية، بالطريقة التي قد تكون عليها امرأة ومن النادر أن يحتملها الرجال. أي نوع من الكائنات، حقًّا؟ ليست فقمة: ليست لطيفةً بما يكفي لذلك. لكنها أيضًا ليست سمكة قرش. قطة؛ إحدى القطط الضخمة التي تتوقَّف وهي تنزع أحشاء ضحيَّتها وترمقك، عبر البطن الممزَّق المفتوح، بنظرة صفراء باردة.

هناك امرأة في انتظارهما تحت، الشابَّة ذاتها التي اصطحبتهما من المطار، اسمها تريزا، وهي مدرِّسة في ألتونا كوليج، لكنها تؤدِّي مختلِف المهام في جائزة ستوي؛ مرمطون، وهي عمومًا شخصية بسيطة.

يجلس في مقدمة السيارة بجوار تريزا، وتجلس أمُّه في المؤخرة. تريزا مستثارة، مستثارة حتى إنها تُثرثر بشكل إيجابي. تحدِّثهما عن الأحياء التي يمرُّون بها، وعن ألتونا كوليج وتاريخها، عن المطعم الذي يتَّجهون إليه. في منتصف الثرثرة تمامًا تُفسح مجالًا لهجمتين سريعتين من هجمات بلدتها التي تشبه هجمات الفئران. تقول: «كانت عندنا أ. س. بيات٥ هنا في الخريف الماضي. ما رأيك في أ. س. بيات، مسز كُسْتِلُّو؟» وبعد ذلك: «ما رأيك في دوريس ليسنج،٦ مسز كُسْتِلُّو؟» تؤلِّف كتابًا عن الكاتبات والسياسيَّات؛ تقضي فصول الصيف في لندن للعمل فيما تسمِّيه بحثًا؛ وما كان ليندهش لو اكتشف أنها تضع شريط تسجيل في السيارة.

لدى أمِّه كلمة لوصف هذا النمط من الناس؛ تسميهم السمكة الذهبية، وتقول إنها تعتقد أنهم صغار ولا ضرر منهم؛ لأنَّ كلًّا منهم لا يريد أكثر من قضمة ضئيلة من اللحم، مجرد نصف مليجرام. تتلقى منهم رسائل أسبوعية، عن طريق ناشرها. اعتادت قديمًا أن تردَّ: أشكرك على اهتمامك، لكنني لسوء الحظ مشغولة جدًّا بحيث لا أستطيع الرد على رسالتك بما تستحق. ثم أبلغها صديق بأن رسائلها تُعرض في سوق المخطوطات، فتوقَّفت عن الردِّ.

رقائق صغيرة من الذهب تحيط بالحوت المحتضَر، في انتظار فرصة لتندفع وتقضم قضمةً سريعة.

يصلون إلى المطعم. يتساقط مطر خفيف. تُنزلهم تريزا أمام الباب وتذهب لتركن السيارة. يمكثان لحظةً وحيدَيْن على الرصيف. يقول: «يمكننا أن نتهرَّب. الوقت لم يَفُت. يمكن أن نستقلَّ تاكسيًّا إلى الفندق ونلتقط أشياءنا ونكون في المطار في الثامنة والنصف، ونُقلع في أول طائرة. سنختفي من المشهد بوصول رجال البوليس.»

يبتسم. تبتسم. سينفِّذان البرنامج، هذا ما يمكن أن يقال. لكن اللعب على الأقل بفكرة الهروب ممتع. نكات، أسرار، تواطؤ؛ لمحة هنا، كلمة هناك؛ تلك طريقتهما حين يكونان معًا، وحين يفترقان. سيكون حامل دروعها، وتكون فارسه، يحميها بقدر ما يستطيع، ثم يساعدها في وقايتها، ويحملها إلى جوادها، ويضع ترسها على ذراعها، ويضع رمحها في يدها، ويسير وراءها.

ثمَّة مشهد في المطعم؛ حوار أساسًا، سنتجاهله. نعود إلى الفندق، حيث تطلب إليزابيث كُسْتِلُّو من ابنها أن يسرد عليها قائمةً بالناس الذين الْتقَوا بهما. يطيع، ذاكرًا اسم كل شخص ووظيفته، كما في الحياة. مضيفهما، وليم بروتجام، عميد الآداب في ألتونا. منسِّق اللجنة، جُردون ويتلي، كَندي، بروفيسور في ماكجيل، كتب عن الأدب الكندي وعن وِيلسون هَرِيس.٧ وتلك التي يدعونها توني، التي تحدَّثت إليها عن هنري هندل ريتشاردسون،٨ من ألتونا كوليج، متخصصة في أستراليا، وقامت بالتدريس هناك. تعرف بولا ساتشز. الرجل الأصلع، كريجان، روائي، أيرلندي بالميلاد، ويعيش الآن في نيويورك. العضو الخامس في اللجنة، التي كانت تجلس بجانبه، اسمها مُبيوس. تدرِّس في كاليفورنيا وتحرِّر جريدة. نشرت أيضًا بعض القصص.
تقول أمه: «كنتَ أنت وهي رأسًا في رأس تمامًا٩ جميلة، أليس كذلك؟»

– «أظن ذلك.»

تفكِّرُ: «لكن، كمجموعة، ألَا يصدمونكَ كأشخاص … نوعًا ما.»

– «خفاف الوزن نوعًا ما؟»

تُومِئ.

– «حسن، إنهم كذلك. ثقال الوزن لا يتورَّطون في عروض من هذا النوع. ثقال الوزن يصارعون مشاكل من الوزن الثقيل.»

– «لستُ ثقيلة الوزن بما يكفيهم؟»

– «لا، أنت ثقيلة الوزن تمامًا. ما يعوقك هو أنك لست مشكلة. ما كتبتِه لم يُصوَّر على أنه مشكلة بعدُ. بمجرد أن تقدِّمي نفسَك كمشكلة، ربما انضممت إلى بلاطهم. لكنك حاليًّا لستِ مشكلة، مجرد نموذج.»

– «نموذج لماذا؟»

– «نموذج للكتابة، نموذج للطريقة التي يكتب بها شخص في منزلتك ومن جيلك وأصولك. حالة.»

– «حالة؟ هل يُسمَح لي بكلمة اعتراض؟ بعد كل الجهد الذي أبذله لكيلا أكتب مثل أي شخص آخر؟»

– «أمي، ليس هناك ما يستدعي الشجار معي. لستُ مسئولًا عن الطريقة التي تراك بها الأكاديمية، لكن من المؤكَّد أنك لا بدَّ أن تعترفي أننا نتكلم في مستوًى معين، ومن ثم نكتب، مثل الآخرين، وإلا كنَّا جميعًا نتكلَّم ونكتب بلغة خاصة. ليس عبثًا — أليس كذلك؟ — أن يهتمَّ المرء بما يشترك فيه الناس أكثر من اهتمامه بما يفرِّقهم.»

في الصباح التالي يجد جون نفسه متورطًا في نقاش أدبي آخر. يلتقي جُردون ويتلي، رئيس اللجنة، في قاعة الرياضة بالفندق. يدور بينهما حديث بصوت مرتفع وهما متجاوران على درَّاجتين للتدريب. يخبر ويتلي — ليس بجدية تامة — أن أمه سيخيب أملها إذا عرفتْ أن جائزة ستوي من نصيبها؛ لأنَّ هناك قرارًا بأن يكون عام ١٩٩٥ عام أستراليشيا.١٠

يرد ويتلي بصوت مرتفع: «ماذا تريد أن تكون؟»

يرد: «أن تكون الأفضل. في الرأي الصادق لِلَجنتكم. ليست أفضل أسترالي، ليست أفضل أسترالية، الأفضل فقط.»

يقول ويتلي: «بدون اللانهاية لا يكون لدينا رياضيات، لكن ذلك لا يعني أن اللانهاية موجودة. اللانهاية مجرَّد تصوُّر، تصوُّر إنساني. نجزم بالطبع أن إليزابيث كُسْتِلُّو الأفضل، لكن علينا أن ندرك بوضوح ما تعنيه عبارةٌ من هذا القبيل، في عصرنا.»

لا معنى عنده للقياس على اللانهاية، لكنه لا يتابع الموضوع. يتمنى أن يكون ويتلي لا يكتب بالرداءة التي يفكِّر بها.

لم تتلاءم الواقعية قط مع الأفكار. لا يمكن أن تكون غير ذلك: تتأسَّس الواقعية على فكرة أنَّ الأفكار ليس لها وجود مستقلٌّ، لا يمكن أن تُوجد إلا في الأشياء؛ ولذا حين يتطلَّب الأمر مناقشة الأفكار، كما يحدث هنا، فإن الواقعية تُدفَع إلى ابتكار مواقف — التمشية في الريف، التحدث — حيث تُصدر الشخصياتُ الأصواتَ لتتبارى الأفكار وتتجسَّد بمعنًى ما. ويتَّضح أن مفهوم «التجسيد» محوري. لا تنطلق الأفكار في هذه المناقشات حرَّةً ولا يمكن: إنَّها مقيَّدة بالمتحدثين الذين ينطقونها، وتتخلَّق من أرضية الاهتمامات الفردية التي يعمل ناطقوها طبقًا لها في العالم — على سبيل المثال: اهتمام ابن بألَّا تُعامَل أمه وكأنها كاتبة ميكي ماوس ما بعد الكولونيالية، أو اهتمام ويتلي بألَّا يبدو عبثيًّا من طراز عتيق.

ينقر في الحادية عشرة على باب غرفتها. أمامها يوم طويل: لقاء، جلسة في محطة راديو الكلية، وفي المساء حفل تقديمٍ والكلام الذي يجري فيه.

استراتيجيتها مع المحاورين هي التحكم في التبادل، تقدِّم لهم قوالب من الحوار تَمَّ التدريب عليها حتى إنه كثيرًا ما كان يستغرب؛ لأنها لم ترسخ في ذهنها وتصبح نوعًا من الحقيقة. فقرة طويلة عن الطفولة في ضواحي ملبورن (صراخ الببَّغاوات في قاع الحديقة) مع فقرة فرعية عن الخطر المحدق بسلامة مخيلة الطبقة الوسطى. فقرة عن موت والدها بحمَّى معوية في مالايا، وأمها في مكانٍ ما في الخلفية تعزف فالسات شوبان على البيانو، ثم سلسلة ممَّا يبدو أنها تأملات مرتجَلة عن تأثير الموسيقى على وضعها. فقرة عن قراءتها في فترة المراهقة (شَرِهة، عشوائية)، ثم قفزة إلى فرجينيا وولف، التي قرأتها أول مرة وهي طالبة، وتأثير وولف عليها. ومقطع عن افتتانها بمَدْرسة الفن، وآخر عن عام ونصف قضته في كمبريدج بعد الحرب (ما أتذكره أساسًا هو الصراع للحفاظ على الدفء)، وآخر عن سنواتها في لندن (لم أستطع كسب قوتي من الترجمة، على ما أظن، لكن الألمانية كانت لغتي المفضلة، ولم تكن الألمانية تحظى بشعبية في تلك الأيام، كما يمكن أن تتخيَّل). روايتها الأولى، التي تستخفُّ بها إلى حدٍّ ما، مع أنها كرواية أولى خارج المنافسة، ثم سنواتها في فرنسا (أوقات اندفاع)، ولمحة عابرة عن زواجها الأول، ثم عودتها إلى أستراليا مع ابنها الصغير؛ هو.

هذا كل شيء، يحكم، مُنصتًا، بأداء بارع، إذا كان للمرء أن يستخدم هذه الكلمة، يستمتع طوال الساعة تقريبًا، كما نوى، تاركًا بضع دقائق ليتجنَّب الأسئلة التي بدايتها «ما رأيك في …؟» ما رأيها في الليبرالية الجديدة، قضية المرأة، حقوق السكان الأصليين، الرواية الأسترالية المعاصرة؟ عاش بجانبها حوالي أربعة عقود، بشكل متقطِّع، لكنه ليس متأكدًا من رأيها في المسائل الكبرى. ليس متأكدًا وهو ممتنٌّ، عمومًا؛ لأنه ليس عليه أن يسمع؛ لأن أفكارها قد تكون، كما يتوقع، غير مهمة كأفكار معظم الناس. إنها كاتبة، ليست مفكِّرة. الكتَّاب والمفكِّرون: الطباشير والجبن. لا، ليس الطباشير والجبن: السمك والدجاج. لكن مَن هي، السمكة أم الدجاجة؟ ما وَسَطُها: الماء أم الهواء؟

محاوِرة الصباح، التي أتت من بوسطُن لهذه المناسبة، شابَّة، وأمه متساهلة دائمًا مع الشباب. لكن هذه الشابة سميكة الجلد وترفض أن تُغَشَّ. تسأل بإلحاح: «ماذا تقولين عن رسالتك الرئيسية؟»

– «رسالتي؟ هل أنا مرغمة على حمل رسالة؟»

ليست مواجهةً قوية؛ تؤكِّد المحاوِرة تميُّزها. «ترفض شخصيتك الأساسية، ماريون بلوم، في «منزل في شارع إكليز» ممارسة الجنس مع زوجها حتى طوَّر من نفسه. على النساء أن يَنْئَيْنَ بأنفسهنَّ حتى يطوِّر الرجال هُويَّةً جديدة بعد بطريركية؟»

ترمقه أمه بنظرة. النجدة! هذا ما تقصده، بطريقة طريفة.

تُهمهم: «فكرة مثيرة. بالطبع في حالة زوج ماريون هناك حدَّة معينة في الإلحاح على أن يطوِّر هُويةً جديدة، حيث إنه رجل ذو — ماذا أقول؟ — هُويَّة متقلِّبة، بأشكال متعددة.»

«منزل إكليز» رواية عظيمة؛ سوف تبقى، ربما، مثل «عوليس»؛ ستبقى بالتأكيد فترةً طويلة بعد أن تُواري كاتبتَها الثرى. لم يكن إلا طفلًا حين كتبتْها. يقلق ويحتار حين يفكِّر أنَّ مَن وَلدتْ «شارع إكليز» هي نفسها مَن وَلدتْه. حان الوقت ليتدخَّل؛ ليُنقذها من التحقيق الذي يُنذر بأن يصبح مضجرًا. ينهض. يقول: «أمي، أخشى أن علينا أن نتوقَّف. سيصطحبوننا إلى جلسة الراديو.» وإلى المحاوِرة: «أشكرك، لكن علينا أن نتوقف هنا.»

تعبس المحاوِرة منزعجة. هل ستجد جزءًا له في الحكاية التي تحفظها في ملف: الروائية خائرة القوى وابنها المتسلط؟

يتمُّ الفصل بينهما في محطة الراديو. يفرِّجونه على كابينة التحكُّم. يندهش حين يجد أنَّ المحاوِرة الجديدة هي السيدة مبيوس الرائعة التي جلست بجانبه على العشاء. تُقدِّم: «هذه سوزان مبيوس، في برنامج كتَّاب يعملون، ونتحدث اليوم مع إليزابيث كُسْتِلُّو.» وتواصل بمقدمة فضفاضة. تستمر: «روايتك الجديدة «النار والثلج»، التي تدور أحداثها في أستراليا في الثلاثينيات، قصة شاب يُصارع ليشقَّ طريقه كرسَّام أمام معارضة الأسرة والمجتمع. هل كان في ذهنك شخص معيَّن حين كتبْتِها؟ هل تعتمد على حياتك المبكرة؟»

– «لا، كنتُ ما أزال طفلةً في الثلاثينيات. إننا نعتمد، بالطبع، على حياتنا طوال الوقت؛ إنها ذخيرتنا الأساسية، ذخيرتنا الوحيدة بمعنًى ما. لكن لا، «النار والثلج» ليست سيرةً ذاتية؛ إنها قصة، صنعتُها.»

– «لا بدَّ أن أقول لمستمعينا إنه كتاب قويٌّ. لكن هل تجدين الكتابة على لسان رجل سهلة؟»

سؤال معتاد، يفتح الباب لفقرات معتادة. وممَّا يُثير دهشته أنها لم تستغل فتحه.

– «سهلة؟ لا. لو كانت سهلةً لَمَا كانت جديرةً بالكتابة. اختلاف يمثِّل التحدي. اختلاق شخص آخر غير نفسك. اختلاق عالم يتحرَّك فيه. اختلاق أستراليا.»

– «هل هذا ما تفعلينه في كتبك، كما قلتِ: اختلاق أستراليا؟»

– «نعم، أظن ذلك. لكن هذا ليس سهلًا في هذه الأيام. هناك مقاومة أكبر، قيمة أستراليا التي اختلقها أناس آخرون، التي عليك دفعها من أمامك. هذا ما نقصده بالتراث، بدايات التراث.»

– «أود أن أعود إلى «منزل في شارع إكليز»، وهو الكتاب الذي يقف وراء شهرتك في هذه البلاد، كتاب يمثِّل انطلاقة، وشخصية مولي بلوم، ركَّز النقاد على الطريقة التي ادَّعيت بها، أو استخلصتِ بها، مولي من جويس، ونسبتِها لنفسك. أندهش إذا كنت قد علَّقتِ على نواياك في هذا الكتاب، خاصةً في تحدي جويس، أحدِ آباء الأدب الحديث، على أرضه.»

فتحٌ آخر واضح، تستغله هذه المرة.

– «نعم، إنها شخصية جذابة، أليست كذلك؟ مولي بلوم — أعني بلوم جويس. تترك أثرها عبر صفحات عوليس كما تترك بغيٌّ رائحتها في الحر. لا يمكن وصفها بالإغواء: إنها أكثر فجاجة. يلتقط الرجال الرائحة ويشمونها ويحومون حولها ويتشابكون، حتى لو لم تكن مولي في المشهد.»

– «لا، لا أرى أنني أتحدَّى جويس. لكنَّ هناك كتبًا معينة خلَّاقة بسخاء تخلِّف مادةً خصبة في النهاية، مادة تكاد تدعوك لأخذها واستخدامها لبناء شيء يخصك.»

– «لكنك، إليزابيث كُسْتِلُّو، أخرجتِ مولي من المنزل — إذا كان لي أن أستمر مع استعارتك — أخرجتِها من المنزل في شارع إكليز حيث حاصرها زوجها وعشيقها وبمعنًى ما مؤلِّفتِها، حيث حولوها إلى نوع من ملكات النحل، عاجزة عن الطيران، أخذتموها وأطلقتموها في شوارع دبلن. ألَا ترين في ذلك تحديًا لجويس من جانبك، استجابة؟»

– «ملكة نحل، بَغِي … لنراجع الشخصية وندعوها لبؤة، تجوب الشوارع، تشمُّ الروائح وترى المناظر. وحتى باحثة عن فريسة. نعم، أردتُ أن أحرِّرها من ذلك المنزل، وخاصةً من غرفة النوم، بسريرها وسُوسَتِه التي تُصدِر صريرًا، وأُطلقها — كما تقولين — في دبلن.»

– «إذا رأيتِ مولي — مولي جويس — سجينةً في المنزل في شارع إكليز، هل ترين النساء عمومًا سجينات الزواج والحياة العائلية؟»

– «لا يمكن أن تقصدي نساء اليوم. لكن نعم، مولي إلى حدٍّ ما سجينة الزواج، الزواج الذي كان معروضًا في أيرلندا في ١٩٠٤، وزوجها ليوبولد سجين أيضًا. إذا كان بيت الزوجية مغلقًا عليها؛ فالخارج كان مغلقًا عليه. لدينا أوديسيوس يحاول الدخول وبِنلوب١١ تحاول الخروج. تلك هي الكوميديا، الأسطورة الكوميدية، التي نقدِّرها أنا وجويس بطريقتين مختلفتين.»

لأن المرأتين تضعان سماعتين، وتخاطبان الميكروفون أكثر ممَّا تخاطب كلٌّ منهما الأخرى؛ فمن الصعب عليه أن يرى كيف تجري الأمور بينهما. لكنه متأثر، كالعادة، بالشخصية التي تحاول أمه أن تصوِّرها: حس عام لطيف، خالية من الحقد، لكنها حادة الذكاء أيضًا.

تواصل المحاوِرة (يفكِّر: صوت بارد، امرأة باردة، قادرة، ليست خفيفة الوزن على الإطلاق): «أريد أن أُخبرك بمدى تأثير «منزل في شارع إكليز» حين قرأتها أول مرة في السبعينيات. كنتُ طالبة، درستُ كتاب جويس، تشبَّعتُ بالفصل الشهير عن مولي بلوم وبالأرثوذكسية النقدية التي جاءت معها، أقصد هنا أن جويس حرَّر الصوت الأصيل للأنوثة، الحقيقة الحسية للمرأة … إلخ. وفي ذلك الوقت قرأتُ كتابك وأدركتُ أن مولي ما كان لها أن تكون محدودةً بالطريقة التي رسمها جويس لها، يمكن أن تكون في الوقت نفسه امرأةً ذكية لها اهتمام بالموسيقى ودائرة خاصة من الأصدقاء وابنة تشاركها الثقة — كانت إلهامًا، كما أقول. وبدأتُ أحتار بشأن النساء الأخريات اللائي نفكِّر في أن الكتَّاب الذكور منحوهنَّ صوتًا، باسم ليبراليتهم، ولكن ذلك، في النهاية، ليس إلا لتعزيز فلسفة ذكورية وخدمتها. أفكِّر في نساء د. ﻫ. لورانس بشكل خاص، ولكن إذا رجعنا أكثر فربما يشملن تس سليلة آل دربِرفيل١٢ وأنا كارنينا،١٣ إذا اكتفينا بذكر اثنتين. إنها مسألة هائلة، لكنني أتساءل عمَّا إذا كان لديك ما تقولين عنها؛ ليس عن ماريون بلوم والأخريات فقط، ولكن عن مشروع استخلاص حياة النساء عمومًا.»
– «لا، لا أظن أن هناك ما أريد قوله، أظن أنكِ عبَّرْتِ عنه بشكل كامل. سيكون على الرجال، بالطبع، عدل العدل، أن يبدءوا استخلاص هيثكليف١٤ وروشستر١٥ من النمطية الرومانسية أيضًا، إذا تجاهلوا كزبون١٦ العجوز البائس المغبر. سيكون ذلك مشهدًا عظيمًا. لكننا، بجدية، لا يمكن أن نواصل التطفُّل على الكلاسيكيات إلى ما لا نهاية. لا أستثني نفسي من المسئولية. علينا أن نبدأ القيام ببعض الابتكارات بأنفسنا.»

ليس هذا في المخطوطة على الإطلاق. رحيل آخر. إلى أين يؤدي؟ لكن للأسف، لم تلتقطه السيدة مبيوس (التي تحدِّق الآن في ساعة الاستوديو).

– «عدتِ في رواياتك الأحدث إلى المَشاهِد الأسترالية. هل يمكن أن تقولي شيئًا عن رؤيتك لأستراليا؟ ماذا يعني لك أن تكوني كاتبةً أسترالية؟ تبقى أستراليا بلدًا بعيدًا جدًّا على الأقل بالنسبة للأمريكان. هل ذلك جزء من وعيك وأنت تكتبين: أنك تروين من الأطراف النائية؟»

– «الأطراف النائية. إنه تعبير شيِّق. لن تَجِدي كثيرًا من الأستراليين في الوقت الحاضر على استعداد لقَبوله. سيقولون: ناءٍ عن ماذا؟ وهو مع ذلك له معنًى معيَّن، حتى لو كان معنًى دسَّه التاريخ علينا. لسنا بلد الأطراف — أقول: إننا على المحيط الهادي — لكننا بلد التطرف. عشنا تطرفنا لأنه لا يوجد قدر كبير من المقاومة في أيِّ اتجاه. ليس هناك الكثير ممَّا يوقفكِ إذا بدأتِ السقوط.»

يعودان إلى الأشياء المعتادة، على أرضية مألوفة. يمكن أن يتوقَّف عن الاستماع.

نتغاضى عن المساء، وننتقل إلى الحدث الرئيسي، تسليم الجائزة. يجد نفسه كابنٍ ورفيقٍ للمتحدثة في الصف الأول من الحضور، بين الضيوف المتميزين. تقدِّم المرأة التي على يساره نفسها. تقول: «ابنتنا في ألتونا. تكتب أطروحتها عن أمك. إنها مولعة بها. جعلتنا نقرأ كلَّ شيء.» تُرَبِّتُ على رسغ الرجل الذي بجانبها. يبدو عليهما الثراء؛ الثراء القديم. متبرعان، بلا شك. «الناس معجبون كثيرًا بأمك في هذه البلاد، وخاصةً الشباب. أتمنَّى أن تبلغها ذلك.»

تكتب الشابات، عبر أمريكا كلها، أطروحاتٍ عن أمه. معجبون وأتباع وأنصار. هل تسعد أمه إذا عرفت أن لها أنصارًا بين الأمريكان؟

نتغاضى عن مشهد التسليم نفسه. إن قَطع السرد كثيرًا ليس فكرةً طيبة؛ لأن حكي القصة يؤثِّر بهدهدة القارئ أو المستمع في حالة تشبه الحلم حيث يُسحب زمن العالم الواقعي وفضاؤه ويحل محلهما زمن الحكاية وفضاؤها. إن اقتحام الحلم يلفت الانتباه إلى بناء القصة، ويدمِّر الوهم الواقعي. ولكن بدون التغاضي عن بعض المشاهد سنكون هنا بعد الظهيرة. التغاضي ليس جزءًا من النص، إنه جزء من الأداء.

تُترَك أمه وحدها على المنصة، وقد مُنحت الجائزة، لتقدِّم كلمة قَبول الجائزة، وعنوانها في البرنامج «ما الواقعية؟». حان الوقت لها لتعرض براعتها.

تضع إليزابيث كُسْتِلُّو نظارة القراءة على عينيها. تقول: «سيداتي سادتي.» وتبدأ القراءة.

– «نشرتُ كتابي الأول عام ١٩٥٥، كنتُ أعيش في لندن، وكانت في ذلك الوقت العاصمة الثقافية العظيمة لسكان الطرف الآخر من الكرة الأرضية. أتذكر بوضوح يوم وصول الرزمة في البريد، نسخة أولى للمؤلف. كان من الطبيعي أن أنتشيَ وأنا أُمسك به في يدي، مطبوعًا ومجلدًا، الشيء الحقيقي، لا يمكن إنكاره. لكن شيئًا ما كان يزعجني. تناولتُ التليفون واتصلتُ بالناشرين. سألتُ: «هل تمَّ إيداع النُّسخ؟» ولم أشعر بالراحة حتَّى أكَّدوا لي أنها ستُرسَل بالبريد بعد ظهيرة اليوم نفسه إلى اسكتلندا ومكتبة البودلين١٧ … إلخ، ولكن الأهم من هذا كله إلى المتحف البريطاني. كان أقصى طموحي: أن يكون لي موضع على رفوف المتحف البريطاني، جنبًا إلى جنب مع الأسماء الأخرى التي تبدأ بحرف السي،١٨ الأشخاص العظام: كارليل وتشوسر وكوليردج وكونراد (النكتة أنه تبيَّن أنَّ أقرب جيراني الأدبيين هي ماري كوريلي).»

– «يبتسم المرء الآن من هذه السذاجة. إلا أنَّه كان وراء استفساري القَلِق شيء خطير، ووراء تلك الخطورة بدَورها شيء مثير للشفقة الاعتراف به أقلُّ سهولة.»

– «دعوني أوضِّح. تجاهل كل نسخ الكتاب الذي كتبته التي في طريقها للهلاك — التي ستُسحق لأنه لا يوجد مشترٍ لها، التي ستُفتح وتُقرأ ومن صفحة أو اثنتين يتثاءب قارئها ويتركها إلى الأبد، التي ستُترك في الفنادق المطلَّة على البحار أو في القطارات — تجاهل كل تلك النسخ الضائعة، لا بدَّ أن نكون قادرين على الشعور بأنَّ هناك نسخةً على الأقل لن تُقرَأ فقط، ولكنها ستُقرأ بعناية، وتُمنح بيتًا، تُمنح مكانًا على الرفوف التي ستكون لها دائمًا. كان يكمن وراء اهتمامي بنسخ الإيداع الرغبة في أن يكون لهذا الوليد الأول، حتى لو صدمتني أنا نفسي سيارة في اليوم التالي، بيت يمكن أن يغفو فيه، إذا شاء القدر، لمائة سنة قادمة، ولا يأتي أحد لينخسه بعصًا ليرى ما إن كان لا يزال على قيد الحياة.»

– «كان هذا جانبًا من مكالمتي التليفونية: إذا كنتُ، هذه المحارة الهالكة، فسأموت، فَلأَعِشْ على الأقل خلال إبداعاتي.»

تُواصل إليزابيث كُسْتِلُّو تأمل سرعة زوال الشهرة. نتغاضى عن ذلك فورًا.

– «لكن المتحف البريطاني بالطبع أو المكتبة البريطانية (الآن) لن تدوم إلى الأبد. سوف تنهار هي الأخرى أو تضمحل، وتسحق الكتب التي على رفوفها. وقبل هذا اليوم، على أية حال، بفترة طويلة، يأكل الحمض في الورق، وتزداد الحاجة لمساحة، ستُنقَل الكتب البشعة التي لا تُقرأ وغير المطلوبة بوسيلة أو أخرى وتُلقَى في فرن، وسوف يُمحى كل أثر لها من الكتالوج الرئيسي. وكأنها لم توجد قط.»

– «تلك رؤية بديلة لمكتبة بابل، أكثر إزعاجًا لي من رؤية جورج لويس بورخيس.١٩ ليست مكتبةً تتجاور فيها كل الكتب التي يمكن تصوُّرها في الماضي والحاضر والمستقبل، بل مكتبة تغيب عنها كتب تم تصوُّرها وكتابتها ونشرها حقًّا، تغيب حتى عن ذاكرة العاملين في المكتبة.»

– «كان ذلك، إذن، الجانب الآخر الأكثر مدعاةً للشفقة من مكالمتي التليفونية. لا يمكن أن نعتمد على المكتبة البريطانية أو مكتبة الكونجرس أكثر من اعتمادنا على السمعة نفسها لحفظنا من النسيان. عليَّ أن أذكِّر نفسي بذلك، وأذكِّركم أيضًا، في ليلتي هذه التي تدعو للزهو في ألتونا كوليج.»

– «لأعد الآن إلى موضوعي، «ما الواقعية؟».»

– «هناك قصة لفرانز كافكا — ربما تعرفونها — يُلقي فيها قرد، تأنَّق لمناسبة، بكلمة لمجتمع متعلِّم. إنها كلمة، لكنها اختبار أيضًا، امتحان، امتحان شفوي. ليس على القرد أن يبيِّن فقط قدرته على الكلام بلغة مستمعيه، لكن عليه أيضًا أن يبيِّن براعته في أساليبهم وحواراتهم، وجدارته بأن يكون عضوًا في المجتمع.»

– «لماذا أذكِّركم بقصة كافكا؟ هل أنا بصدد التظاهر بأنني قردة، مقتلَعَة من وسطي الطبيعي، ومضطرة للتمثيل أمام جَمْع من الغرباء المنتقدين؟ آمل ألَّا يكون الأمر كذلك. أنا واحدة منكم، لستُ من نوع مختلف.»

– «إذا كنتم تعرفون القصَّة فسوف تتذكَّرون أنها مكتوبة على شكل مونولوج، مونولوج لقرد. ليست هناك وسيلة في هذا الشكل لرؤية المتحدِّث أو المستمعين بعينٍ خارجية. وكما نعرف جميعًا، قد لا يكون المتحدث «في الواقع» قردًا، قد يكون ببساطة إنسانًا يقدِّم نفسه، بسخرية شديدة، لأغراض بلاغية، كقرد. ويصح بالمثل، ربما لا يكون المستمعون، كما قد نتخيَّل، رجالًا حمر الوجوه بشوارب وقد خلعوا سترات الأحراش والخوذات وارتدَوا ملابس السهرة، بل جمهورًا من الرفاق القرود، مدرَّبًا، إن لم يكن بمستوى متحدِّثنا، الذي يستطيع التفوُّه بجُمل ألمانية معقَّدة؛ فعلى الأقل بمستوى أن يجلس بهدوء ويستمع؛ أو، إن لم يكن مدرَّبًا إلى تلك الدرجة فسيكون مقيدًا بمقاعده ومدرَّبًا على ألَّا يُثرثر ويلتقط البراغيث ويقضي حاجته علانية.

– «لا نعرف. لا نعرف ولن نعرف أبدًا، بالتأكيد، ما يحدث حقًّا في هذه القصَّة: إن كانت عن رجل يتحدَّث إلى رجال، أم عن قرد يتحدَّث إلى قرود، أم عن قرد يتحدث إلى رجال، أم عن رجل يتحدث إلى قرود (مع أنَّ هذا الاحتمال الأخير، على ما أعتقد، غير وارد)، أم حتى عن ببغاء تتحدَّث إلى ببغاوات!»

– «اعتدنا أحيانًا أن نعرف. اعتدنا أن نصدِّق حين قال النص: «ثمَّة كوب من الماء على المائدة»، هناك مائدة، عليها كوب من الماء، وليس علينا إلا أن ننظر في مرآة كلمات النص لنرى.»

– «لكن ذلك كله انتهى. انكسرت مرآة الكلمات، بشكل لا يمكن إصلاحه، على ما يبدو. تخمينكم عمَّا يدور حقًّا في قاعة المحاضرات رائع مثل تخميني: رجال ورجال، رجال وقرود، قرود ورجال، قرود وقرود. قد لا تكون قاعة المحاضرات نفسها سوى حديقة حيوانات. لم تعد الكلمات تقف على الصفحات وتُعَد، كل كلمة تعلن «أعني ما أعني!»، والمعجم الذي اعتاد أن يقف بجوار الكتاب المقدس وأعمال شيكسبير على الموقد، حيث تُحفَظ الآلهة المنزلية في بيوت الرومان الأتقياء، صار مجرَّد كتاب للشفرة بين كتب كثيرة.»

– «هذا هو الموقف الذي أظهر فيه أمامكم. لستُ، على ما آمل، أُسيء للامتياز الذي تمنحه لي هذه المنصَّة بنِكات عدمية سخيفة عن هُويتي، قردة أم امرأة، وهُويَّتكم، أيها المستمعون. ليست هذه قضية القصة، كما أقول، وأنا، مع ذلك، لستُ في موقعٍ أقرِّر فيه قضية القصَّة. اعتدنا أحيانًا أن نصدِّق حين نستطيع أن نقول مَن نحن. والآن نحن مجرَّد ممثلين نؤدي أدوارنا. غارَ القاع. كان يمكننا أن نفكِّر في ذلك باعتباره تحوُّلًا تراجيديًّا للأحداث، ولم يكن ذلك يعني أنه من الصعب تقدير القاع الذي غار مهما يكن — يبدو لنا الآن وكأنه وهم، أحد تلك الأوهام التي لم تستقرَّ إلا بالتحديق المركَّز لكلِّ مَن في الغرفة. لا تحدِّقوا ولو لحظة، تسقط المرآة على الأرض وتتحطم.»

– «هناك إذن سبب كافٍ يجعلني أشعر بأنني أقلُّ يقينًا بشأن نفسي وأنا أقف أمامكم. برغم تلك الجائزة المرموقة، التي أمتنُّ لها امتنانًا عميقًا، برغم الوعد الذي تقدمه بأنني، وقد انضممتُ للمجموعة الشهيرة ممَّن حصلوا عليها قبلي، بعيدة عن قبضة الزمن الحسود، التي نعرفها جميعًا، إذا كنا واقعيين، ليست سوى مسألة وقت قبل أن يكفَّ الناس، وسيكفون في النهاية، عن قراءة الكتب التي تقدِّرونها، وكان لي دَور في خلقها. الأمر كذلك حقًّا. لا بدَّ أن يكون هناك حدٌّ لِعِبْء التذكُّر الذي نفرضه على أبنائنا وأحفادنا. سيكون لهم عالمهم الخاص، سنكون فيه جزءًا يقلُّ تدريجيًّا. شكرًا لكم.»

يبدأ التصفيق بتردُّد، ثم مدويًا. تخلع أمه نظارتها وتبتسم. ابتسامة فاتنة: تبدو مستمتعةً باللحظة. يُسمَح للممثلين بالانغماس في التصفيق — من لا يستحقونه أو من يستحقونه — الممثلين والمطربين وعازفي الكمان. لماذا لا تكون لأمِّه أيضًا لحظة من لحظات المجد؟

يخفت التصفيق. ينحني العميد بروتجام على الميكروفون. «هناك بعض المرطبات …»

«معذرة!» تقاطع صوتَ العميد شابَّةٌ بصوت واضح مفعم بالثقة.

ثمَّة اضطراب في صفوف الجمهور. تلتفت الرءوس.

– «هناك بعض المرطبات في الاستراحة ومعرض لِكُتب إليزابيث كُسْتِلُّو. التحقوا بنا هناك من فضلكم. يبقى لي …»

– «معذرة!»

– «نعم؟»

– «عندي سؤال.»

تقف المتحدثة: شابَّة في بلوزة باللونين الأبيض والأحمر، زي ألتونا كوليج. واضح أن بروتجام ليس راضيًا. كما فقدت أمه ابتسامتها. يعرف هذا المنظر. تحملتْ ما يكفي، تريد أن تنصرف.

يقول بروتجام: «لستُ متأكدًا.» عابسًا ومتلفتًا طلبًا للدعم. «خطَّتنا اليوم لا تسمح بطرح أسئلة. أود أن أشكر …»

– «معذرة! عندي سؤال للمتحدثة. هل لي أن أخاطب المتحدثة؟»

يسود صمت. كل العيون على إليزابيث كُسْتِلُّو. تحدِّق بعيدًا ببرود.

يُقحم بروتجام نفسه معهما: «أود أن أشكر مسز كُسْتِلُّو، التي اجتمعنا الليلة لتكريمها. من فضلكم الْتحقوا بنا في الاستراحة. أشكركم.» ويغلِق الميكروفون.

ثمَّة همهمة بكلام وهم يغادرون القاعة. حادثة، لا أقل. يستطيع أن يرى الفتاة التي ترتدي بلوزةً باللونين الأبيض والأحمر أمامه في الحشد. تسير متخشبةً ومنتصبة وتبدو غاضبة. ما السؤال التي كانت ستطرحه؟ ألم يكن من الأفضل أن يجعلها تنفِّس عمَّا بداخلها؟

يخشى أن يتكرَّر المشهد نفسه في الاستراحة، لكن ليس هناك مشهد. غادرت الفتاة، خرجت في الليل، ربما اندفعت إلى الخارج. إلا أن الحادث يترك مذاقًا سيئًا؛ إنه، مهما يكن، أفسد الأمسية.

ما السؤال الذي كانت ستطرحه؟ يتشاور الناس همسًا. يبدو أن لديهم فكرةً لاذعة. لديه هو الآخر فكرة لاذعة. شيء مرتبط بما كان متوقعًا أن تقوله إليزابيث كُسْتِلُّو الكاتبة الشهيرة في مثل هذه المناسبة، ولم تقله.

يستطيع أن يرى العميد بروتجام وآخرين يُفرطون في إطراء أمه الآن، محاوِلين تلطيف الأمور. بعد أن استثمر الجميع المناسبة، يريدونها أن تعود إلى بلادها وهي تظنُّ بهم وبالكلية ظنًّا حسنًا. لكنَّ عليهم أن يتطلَّعوا أيضًا إلى عام ١٩٩٧، آملين أن تأتي لجنة ١٩٩٧ بفائز آخر.

نتغاضى عن بقية مشهد الاستراحة، وننتقل إلى الفندق.

تنسحب إليزابيث كُسْتِلُّو طوال الليلة. يشاهد ابنها التليفزيون في غرفته لبعض الوقت. يشعر بالتوتُّر وينزل إلى البهو، وكانت المرأة التي حاورت أمه في الراديو، سوزان مبيوس، أول مَن يرى. تلوِّح له. معها رفيق، لكن الرفيق يرحل بسرعة، تاركًا الاثنين وحدهما.

يجد سوزان مبيوس جذابة. ترتدي ملابس أنيقة، أفضل ممَّا تسمح به تقاليد الأكاديمية عادة. شعرها طويل ذهبي فاتح؛ تجلس معتدلةً في مقعدها، رافعةً كتفيها؛ وهي تهزُّ شعرها تأتي الحركة بشكل ملكي تمامًا.

يتجنَّبان أحداث الأمسية. ويتحدثان بدلًا من ذلك عن إحياء الراديو كوسيط ثقافي. يقول جون: «كان لقاؤك مع أمي شيِّقًا. أعرف أنك كتبتِ كتابًا عنها، لم أقرأه لسوء الحظ. هل لديك أفكار طيبة تطرحينها عنها؟»

– «أومن بذلك. إليزابيث كُسْتِلُّو كاتبة رئيسية في عصرنا. كتابي ليس عنها وحدها، لكنها ممثَّلة فيه بقوة.»

– «كاتبة رئيسية … هل قلتِ إنها كاتبة رئيسية بالنسبة لنا جميعًا، أم بالنسبة للنساء فقط؟ انتابني إحساس أثناء اللقاء أنك ترينها فقط كامرأة كاتبة أو كاتبة للمرأة. هل كنت تعتبرينها كاتبةً رئيسية إذا كانت رجلًا؟»

– «إذا كانتْ رجلًا؟»

– «أجل: إذا كنتِ رجلًا؟»

– «إذا كنتُ رجلًا؟ لا أعرف. لم أكن رجلًا قط. سوف أخبرك حين أحاول ذلك.»

يبتسمان. من المؤكد أنَّ هناك شيئًا ما في الجو.

يؤكد: «لكن أمي كانت رجلًا، وكانت كلبًا أيضًا. يمكنها أن تفكِّر بطريقتها في الآخرين، في الكائنات. قرأتُها. أعرف. يمكنها ذلك. أليس هذا أكثر أهميةً بالنسبة للقصة: أن تأخذنا خارج أنفسنا، إلى حيوات أخرى؟»

– «ربما. لكن تبقى أمك امرأةً مع ذلك. مهما تفعل، تفعله كامرأة. تسكن شخصياتها كما تفعل امرأة، لا كما يفعل رجل.»

– «لا أرى ذلك. أجد رجالها قابلين للتصديق تمامًا.»

– «لا ترى لأنك لا ترى. لا يمكن أن ترى إلَّا امرأة. إنه شيء بين النساء. إذا كان رجالها قابلين للتصديق، رائع، أنا سعيدة بسماع ذلك، لكنها محاكاة في النهاية. النساء بارعات في المحاكاة، أبرع من الرجال. حتى في المحاكاة الساخرة. لمستنا أخفُّ.»

تبتسم مرةً أخرى. يبدو أن شفتيها؛ شفتيها الرقيقتين، تقولان: انظر كيف يمكن أن تكون لمستي خفيفة.

يقول: «إذا كان لديها محاكاة ساخرة، أعترف بأنها أرقُّ من أن أُدرِكها.» صمت طويل. يقول في النهاية: «هذا ما تعتقدين إذن، إننا، رجالًا ونساء، نعيش حيواتٍ متوازية؛ أي إننا لن نلتقي أبدًا في الحقيقة.»

تغيَّر مغزى الحديث. ما عادا يتحدثان عن الكتابة، إن كانا قد تحدثا عنها على الإطلاق.

تقول: «ماذا تعتقد؟ ماذا تقول لك خبرتك؟ وهل مثل هذا الاختلاف أمر سيِّئ؟ إذا لم يكن هناك اختلاف، ماذا يحدث للرغبة؟»

تنظر في عينه بشكل صريح. حان وقت الانصراف. يقف؛ تضع كوبها، وببطءٍ تقف أيضًا. أخذها من كوعها وهي تمرُّ به، ومع اللمسة تسري رعدة في جسده، تُربكه. الاختلاف؛ القطبان المتضادان. منتصف الليل في بنسلفانيا: ما الوقت في ملبورن؟ ماذا يفعل في هذه القارة الغريبة؟

وحدهما في المصعد. ليس المصعد الذي استخدمه هو وأمه. ما الشمال وما الجنوب في هذا الفندق السداسي الشكل، خلية النحل هذه؟ يضغط المرأةَ إلى الحائط، يقبِّلها، ويتذوَّق الدُّخَانَ في نفَسها. بحث: هل سيكون ذلك اسمها فيما بعدُ؟ مستخدمًا مصدرًا ثانويًّا؟ يقبِّلها مرَّةً أخرى، تُقبِّله بدَورها، تقبيل اللحم للحم.

إنهما في الطابق الثالث عشر؛ يتبعها في الممرِّ، تنحرف يمينًا ويسارًا حتى يتوه. جوهر الخلية: هل هذا ما يبحثان عنه؟ غرفة أمه ١٢٥٤، غرفته ١٢٢٠، غرفتها ١٣٠٧. يندهش لوجود رقم كهذا. كان يعتقد أنَّ الطابق الرابع عشر يلي الطابق الثاني عشر، وأنَّ ذلك هو نظام عالم الفنادق. أين الغرفة ١٣٠٧ بالنسبة للغرفة ١٢٥٤: شمال، جنوب، غرب، شرق؟

نتغاضى عن ذلك فورًا، نتغاضى عن هذا الوقت في النصِّ وليس في الأداء.

حين يستعيد التفكيرَ في تلك الساعات، تعود لحظة بقوة مفاجئة، اللحظة التي تزلُّ فيها ركبتها تحت ذراعه وتنثني تحت إبطه. وممَّا يثير الفضول أن تسيطر لحظة واحدة على ذكرى مشهد كامل، لحظة ليست كبيرة الأهمية، إلا أنها واضحة حتى إنه يكاد يشعر بشبح الفخذ على جلده. هل يفضِّل العقل بطبيعته الأحاسيسَ على الأفكار، الملموس على المجرَّد؟ أم إنَّ انثناء ركبة امرأة مجرد محفِّز للذاكرة، منه تنكشف بقية الليلة؟

يتمددان في الظلام متلاصقَين، في نَصِّ الذاكرة، يتحدثان.

تسأل: «هكذا: هل كانت زيارةً ناجحة؟»

– «في رأي من؟»

– «رأيك.»

– «رأيي لا يهم. جئتُ من أجل إليزابيث كُسْتِلُّو. المهم رأيها. نعم، ناجحة، ناجحة بما يكفي.»

– «هل أتبيَّن لمسةَ مرارة؟»

– «لا. أنا هنا للمساعدة، هذا كلُّ ما في الأمر.»

– «هذا رائع منك. هل تشعر أنك مَدين لها بشيء؟»

– «نعم، واجب الابن. شعور طبيعي تمامًا بين البشر.»

تعبث في شعره. تقول: «لا تمانع.»

– «لا أمانع.»

تزحف بجانبه، تداعبه. تُهمهم: «ناجحة بما يكفي، ما معنى ذلك؟» ليست مستسلمة. لا بدَّ من دفع ثمن لهذا الوقت في سريرها، لِمَا يُعتبر غزوًا.

– «لم ينجح الحديث. إنها خائبة الرجاء نتيجةً لذلك. بذلتْ جهدًا كبيرًا فيه.»

«لم يكن هناك عيب في الحديث نفسه، لكن العنوان لم يكن مناسبًا، وكان عليها ألَّا تعتمد على كافكا في التوضيحات؛ هناك نصوص أفضل.»

– «هناك؟»

– «نعم، أفضل، وأكثر ملاءمة. هذه أمريكا التسعينيات. لا يريد الناس أن يسمعوا أعمال كافكا مرةً أخرى.»

– «ماذا يريدون أن يسمعوا؟»

تهزُّ كتفيها. «شيئًا شخصيًّا أكثر. ليس من الضروري أن يكون حميمًا. لكن الجمهور لم يعد يتفاعل جيدًا مع تحصُّن الذات بهذا الشكل التاريخي الكثيف. قد يقبلونه من رجل على مضض، لكنهم لا يقبلونه من امرأة. ليس على المرأة أن تلبس كل تلك الدروع.»

– «ويلبسها رجل؟»

– «قلْ لي. إذا كانت مشكلة؛ فهي مشكلة ذكورية. لم نمنح الجائزة لرجل.»

– «هل وضعتم في الاعتبار احتمال أنَّ أمي ربما تجاوزت مسألة الرجل-المرأة؟ ربما استكشفتها بكلِّ أبعادها، وهي الآن تسعى إلى مباراة أكبر؟»

– «مثل؟»

تتوقف اليد التي كانت تداعبه. اللحظة مهمة، يستطيع أن يشعر بها. إنها في انتظار إجابته، المدخل المفضَّل الذي يَعِد به. يستطيع أيضًا أن يشعر برجفة اللحظة، كهربية، متهورة.

– «مثل مقارنة نفسها بالموتى البارزين، مثل دفع إتاوة للقوى التي تُحييها. على سبيل المثال.»

– «هل هذا ما تقوله؟»

– «ألَا تعتقدين أن ذلك ما كانت تفعله طوال حياتها: مقارنة نفسها بالأساتذة؟ أليس هناك أحد في مهنتك يعرف ذلك؟»

يجب ألَّا يتكلم بهذه الطريقة، عليه ألَّا يتدخَّل في شئون أمه. إنه في سرير هذه الغريبة ليس لجمال عينيه الزرقاوين، ولكن لأنه ابنُ أمه. إلا أنه هنا يفشي السرَّ بسذاجة! لا بدَّ أن الجاسوسات يعملن على هذا النحو. لا لَبْس في ذلك. لا يتمُّ إغواء الرجل لأنَّ له إرادةً تقاوم هذه السيطرة البارعة، ولكن لأن استسلامه للإغواء متعة في ذاتها. يُذعن المرء من أجل الإذعان.

يستيقظ مرةً في الليل، غارقًا في الحزن؛ حزنٍ عميق يمكن أن يجعله يصرخ. يلمس بخفة الكتف العريان للمرأة التي بجواره، لكنها لا تستجيب. يمرِّر يدَه على جسدها: ثديها، خصرها، وركها، فخذها، ركبتها. بارعة في كلِّ شيء، لا شكَّ في ذلك، لكن بطريقة مكشوفة لم تَعُد تحرِّكه.

يرى أمه في سريرها الكبير الذي يسع شخصين، جاثمة، وركبتاها إلى أعلى، وظهرها مكشوف. من ظهرها، من اللحم المغضَّن لعجوز، تبرز ثلاث إبر: ليست إبرًا ضئيلة من التي يستخدمها أخصائي العلاج بالإبر أو طبيب الودونية،٢٠ لكنها إبر رمادية سميكة، من الصلب أو البلاستيك: إبر خياطة. لم تقتلها الإبر، لا حاجة للقلق بشأن ذلك، إنها تتنفس بانتظام في نومها، إلا أنها ترقد مطوَّقة.

مَن فعلها؟ مَن قد يكون فعلها؟

يفكِّر، مثل هذه الوحدة، يرفرف بالروح على المرأة العجوز في غرفتها العارية. قلبه يتحطم: يتدفق الحزن مثل شلال رمادي خلف عينيه. كان عليه ألَّا يأتي إلى هنا أبدًا، إلى الغرفة ١٣ مهما تكن. نقلة خطأ. عليه أن ينهض في الحال. يتسحَّب خارجًا، لكنه لا يفعل. لماذا؟ لأنه لا يريد أن يكون وحيدًا، ولأنه يريد أن ينام. يفكِّر: ينام، ذلك يرفو كُمَّ الرعاية المنسول. يا لها من طريقة غريبة في التعبير عن الأمر! لا يمكن أن تأتي كلُّ قرود العالم التي تنقر الآلات الكاتبة طوال حيواتها بمثل تلك الكلمات بذلك الترتيب. ينبثق من الظلام، من حيث لا أحد يعرف: ليس هناك في البداية، ثم هناك، مثل طفل حديث الولادة، القلب يعمل، المخ يعمل، كل عمليات تلك المتاهة الكهربية الكيميائية المعقدة. معجزة. يغلق عينيه.

فجوة.

إنها، سوزان مبيوس، هناك بالفعل حين ينزل لتناول الإفطار. ترتدي ملابس بيضاء، تبدو مستريحةً ومطمئنة. ينضم إليها.

تأخذ شيئًا من محفظتها وتضعه على الطاولة: ساعته. تقول: «مقدِّمة ثلاث ساعات.»

يقول: «ليست ثلاثًا. إنها خمس عشرة. توقيت كَنبرَّا.»٢١

تستقر عيناها في عينيه، أو عيناه في عينيها، خضراوين منقطتين. يشعر بصراع. قارَّة غير مكتشفة، يوشك أن يغادرها! ينطلق في أعماقه ألم، ألمٌ بسيط نتيجة الفقد. ألم لا يفتقر إلى لذة، مثل مستويات معيَّنة من ألم الأسنان. يمكن أن يتصوَّر شيئًا خطيرًا تمامًا في هذه المرأة، التي من المحتمل ألَّا يراها مرةً أخرى.

تقول: «أعرف فيما تفكِّر؛ تفكر في أننا لن نلتقيَ مرةً أخرى. تفكِّر في أنه استثمار ضائع.»

– «ماذا تعرفين أيضًا؟»

– «تفكِّر في أنني أستغلك، تفكِّر في أنني كنتُ أُحاول الوصول إلى أمك عن طريقك.»

تبتسم. ليست حمقاء. لاعبة قديرة.

يقول: «نعم، لا.» يسحب نفَسًا عميقًا. «أقول لك فيما أفكِّر حقًّا. أفكِّر في أن السرَّ الإلهيَّ في الإنسان، حتى لو لم تعترفي بذلك، يُحيِّرك. تعرفين أن هناك شيئًا خاصًّا عن أمي — هذا ما يشدُّك إليها — إلا أنك حين تقابلينها ترين أنها مجرَّد عجوز عادية. لا يمكنك التوفيق بين الأمرين. تريدين تفسيرًا، تريدين مفتاحًا؛ علامة، مني إن لم يكن منها. هذا ما يجري. حسنًا، لا أبالي.»

كلمات غريبة تُقال أثناء الإفطار، أثناء تناول القهوة والتوست. لم يعرف أن هذه الأمور في رأسه.

– «أنت ابنها حقًّا، أليس كذلك؟ هل تكتب أيضًا؟»

– «تقصدين، هل يَمَسُّني الإله؟ لا. لكن نعم، أنا ابنها. لستُ لقيطًا، ولستُ ابنها بالتبنِّي. أتيتُ من جسدها حقًّا، مواء.»

– «ولك أخت؟»

– «أخت غير شقيقة، من المكان نفسه. الشيء الحقيقي، كلانا، لحم من لحمها، ودم من دمها.»

– «ولم تتزوج قط.»

– «خطأ. متزوج وغير متزوج. ماذا عنك؟»

– «لي زوج. زوج، وطفل، وزواج سعيد.»

– «هذا رائع إذن.»

لم يعد هناك ما يقال.

– «هل ستسنح لي فرصة لتوديع أمك؟»

– «يمكنك لقاؤها قبل اللقاء التليفزيوني. في العاشرة، في قاعة الرقص.»

فجوة.

اختار مسئولو التليفزيون قاعة الرقص بسبب الستائر المخملية الحمراء. وضعوا لأمِّه أمام الستائر مقعدًا مزخرفًا إلى حدٍّ ما، ومقعدًا أكثر بساطةً للمرأة التي ستحاورها. على سوزان، حين تأتي، أن تقطع الغرفة بطولها. إنها مستعدة للسفر؛ على كتفها حقيبة من الجلد؛ مشيتها بسيطة وواثقة. مرةً أخرى، يأتي الألم، ألم الفقد القادم، خفيفًا مثل لمسة فرشاة من الريش.

تقول سوزان، وهي تصافح يد أمه: «كان شرفًا عظيمًا أن أتعرَّف عليك، مسز كُسْتِلُّو.»

تقول أمه: «إليزابيث. مع الاعتذار للعرش.»

– «إليزابيث.»

تقول سوزان: «أريد أن أقدِّم لك هذا.» وتُخرج كتابًا من حقيبتها. على الغلاف صورة لامرأة في ثياب إغريقية قديمة، في يدها لفافة. عنوانه: استقراء التاريخ: النساء والذاكرة. بقلم سوزان كي مبيوس.

تقول أمه: «أشكرك، أتطلَّع لقراءته.»

يبقى من أجل اللقاء، يجلس في ركن، يشاهد أمه وهي تتحوَّل إلى الشخصية التي يريدها التليفزيون. كل الغرائب التي رفضت التفوه بها في الليلة الماضية يُسمَح لها بالخروج: التحولات الحادة، قصص الطفولة في المناطق الأسترالية النائية (عليك أن تدركي مدى اتِّساع أستراليا. إننا مجرد براغيث على ظهر أستراليا، نحن المستوطنين الجدد)، قصص عن عالم السينما، عن الممثلين والممثلات الذين الْتَقت بهم، عن معالجات كُتبها وما تعتقده بشأنها (الفيلم وسيط تبسيطي. تلك طبيعته؛ ربما تعلمتِ أيضًا أن تتقبليها. إنه يؤثر على نطاق واسع). ويلي ذلك نظرة على العالم المعاصر (يسعدني أن أرى عددًا كبيرًا من الشابات القويَّات من حولنا يعرفن ما يردن). تذكر حتى مشاهدة الطيور.

يُترك كتاب سوزان مبيوس خلفها بعد اللقاء. هو الذي يلتقطه من تحت المقعد.

تهمهم: «أتمنى ألا يعطيني الناس كتبًا. أين أجد مكانًا لها؟»

– «لديَّ مكان.»

– «تأخذه إذن! احتفظْ به. أنت الشخص الذي كانت تسعى وراءه حقًّا، لا أنا.»

يقرأ الإهداء: «إلى إليزابيث كُسْتِلُّو، مع الامتنان والإعجاب». يقول: «أنا؟ لا أظن ذلك. كنتُ مجرد» — يتلعثم صوته بوضوح — «بيدق في المباراة. تحبك أنت وتكرهك أنت.»

يتلعثم بوضوح؛ لكن أول كلمة تبادرت إلى ذهنه لم تكن «بيدق»، كانت «قلامة». قلامة ظفر إصبع القدم، يسرقها المرء ويلفها في منديل ويأخذها بعيدًا، لأغراضه الخاصة.

أمه لا تردُّ. لكنها تبتسم له، ابتسامةً سريعة ومفاجئة، ابتسامة — لا يستطيع أن يراها بشكل آخر — انتصار.

تنتهي مهامهما في وليمز تاون. يحزم طاقم التليفزيون أدواته. في نصف ساعة سيأخذهما التاكسي إلى المطار. فازت، إلى حدٍّ ما. على حلبة أجنبية أيضًا. فازت خارج ملعبها. يمكنها أن تعود إلى بلادها بذاتها الحقيقية سليمة، مخلِّفةً وراءها صورة، زائفة، مثل كل الصور.

ما حقيقة أمِّه؟ لا يعرف، ولا يريد — على أعمق مستوًى — أن يعرف. إنه هنا، ببساطة، ليحميها، ليسد الطريق على صيادي التذكارات والأجلاف والحجَّاج العاطفيين. له آراؤه الخاصة، لكنه لا يُفصح عنها. قد يقول إذا كان له أن يفصح: هذه المرأة، التي تتعلقون بكلماتها كما لو كانت عرَّافة، هي المرأة ذاتها التي اختفت، منذ أربعين عامًا، يومًا بعد يوم في غرفتها في هَمْبستيد،٢٢ باكيةً على نفسها، وزاحفة في الأمسيات إلى الشوارع المعتمة لتشتري السمك والشيبسي اللذين كانت تعيش عليهما، ويغلبها النوم وهي في ملابسها. إنها المرأة ذاتها التي أثارت بعد ذلك عاصفةً في المنزل في ملبورن، وشعرها يطير في كلِّ الاتجاهات، صارخةً في طفليها: «تقتلانني! تمزقان اللحم من جسدي!» (رقد بعد ذلك في الظلام مع أخته، يهدِّئها وهي تنشج بالبكاء؛ كان في السابعة؛ كان إحساسه الأول بالأبوة.) هذا هو العالم السري للكاهنة. كيف تأملون في فهمها قبل أن تعرفوا حقيقتها؟

لا يكره أمه (وهو يفكِّر في هذه الكلمات، يتردد صدى كلمات أخرى في ذهنه: كلمات إحدى شخصيات وليم فوكنر، يؤكد بتكرار جنوني أنه لا يكره الجنوب. شخصية مَن؟) على العكس تمامًا. لو كرهها لابتعدَ عنها تمامًا منذ زمن. لا يكرهها. يقوم بالخدمة على مزارها، يطهِّر ما حدث من اضطراب بعد اليوم المقدَّس، يكنس البتلات، ويجمع القرابين، ويضع قروش الأرامل معًا، جاهزة للبنك. قد لا يشارك في المولد، لكنه يتعبَّد أيضًا.

محامٍ من أجل المقدَّس. لكن «عرافة» ليست الكلمة المناسبة لوصفها، ولا «الكاهنة»؛ إنهما كلمتان إغريقيتان رومانيتان جدًّا. ليست أمه في القالب الروماني الإغريقي. التبت أو الهند أقرب إليها: إله تجسَّد في طفل، يتحرَّك على عجلات من قرية إلى قرية ليتلقَّى التحيةَ والتبجيل.

إنهما في التاكسي، يقطعان شوارع لها نكهة شوارع على وشك أن تُنسى.

تقول أمه: «هكذا. فرار نظيف.»

– «أومن بذلك. هل حصلتِ على الشيك في أمان؟»

– «الشيك والميدالية وكل شيء.»

فجوة. إنهما في المطار، على البوابة، في انتظار الإعلان عن الطائرة التي ستقلُّهما إلى المرحلة الأولى من رحلتهما إلى بلادهما. تُعزف شاحبة على رأسيهما، مع صوت المحركات الفجَّة، نسخة من سرينادا بسيطة.٢٣ تجلس أمامهما امرأة تأكل فشارًا من علبة من الورق، بدينة لدرجة أن أصابع قدميها تصل إلى الأرض بالكاد.

يقول: «هل يمكن أن أسألك عن شيء؟ لماذا تاريخ الأدب؟ ولماذا هذا الفصل المقيت في تاريخ الأدب؟ الواقعية: لا أحد في هذا المكان يريد أن يسمع شيئًا عن الواقعية.»

تعبث في محفظتها، ولا يصدر عنها أي ردٍّ.

يواصل: «حين أفكِّر في الواقعية، أفكِّر في فلاحين تجمَّدوا وتحوَّلوا إلى كُتَلٍ من الثلج. أفكِّر في النرويجيين الذين تنبعث روائح كريهة من ملابسهم الداخلية. ما سبب اهتمامك بها؟ وأين موضع كافكا منها؟ ما علاقة كافكا بهذا كله؟»

– «بماذا؟ بالملابس الداخلية التي تنبعث منها روائح كريهة؟»

– «نعم. بالملابس الداخلية التي تنبعث منها روائح كريهة. بالناس الذين يحفرون في أنوفهم. ألَا تكتبين عن شيء من هذا القبيل، لم يكتب كافكا عنه؟»

– «لا، لم يكتب كافكا عن ناس يحفرون في أنوفهم، لكن كافكا كان لديه وقت ليتساءل أين وكيف كان قرده المسكين المتعلِّم سيعثر على رفيقته. وعن معنى أن تحمله في الظلام في حيرة أنثى شبه خجولة أرسلها رعاته من أجله. قرد كافكا منغمس في الحياة. الانغماس هو المهم، لا الحياة نفسها. قرده منغمس مثلما نحن منغمسون، أنتَ فيَّ، وأنا فيك. يتم تتبُّع ذلك القرد إلى النهاية، النهاية المريرة التي لا تُقال، سواء تُرِكتْ آثار على الصفحة أم لم تُترَكْ. يبقى كافكا مستيقظًا أثناء الفجوات التي ننام أثناءها. ها هنا موضع كافكا منها.»

تنظر المرأة البدينة إليهما مباشرة، تتنقل عيناها الصغيرتان بينهما: المرأة العجوز بمعطف المطر والرجل الأصلع بعض الشيء الذي يمكن أن يكون ابنها، يتشاجران بلهجة مضحكة.

يقول: «حسنًا، إذا كان ما تقولين صحيحًا، فهو بغيض. حراسة حديقة حيوانات، ليست كتابة.»

«ماذا تفضِّل؟ حديقة حيوانات بدون حرَّاس، حيث تغرق الحيوانات في غيبوبة وأنت تنظر إليها؟ حديقة حيوانات أفكارٍ. قفص غوريلا فيه فكرة غوريلا، قفص فيل فيه فكرة الفيلة؟ هل تعرف كم كيلوجرام من المخلفات الصلبة يُخرجها فيل في أربع وعشرين ساعة؟ إذا أردتَ قفصًا لفيل حقيقي به فيلة حقيقية فستحتاج حارس حديقة حيوانات لينظِّف وراءها.»

– «تخرجين على الموضوع يا أمي. لا تثوري هكذا.» يتحول إلى المرأة البدينة: «نتناقش في الأدب، دعاوى الواقعية مقابل دعاوى المثالية.»

تُبعد المرأة البدينة عينيها عنهما بدون أن تتوقف عن المضغ. يفكِّر في اجترار الذرة المهروسة واللعاب في فمها ويرتجف. أين ينتهي هذا كله؟

يبدأ من جديد: «هناك فرق بين التنظيف وراء الحيوانات ومشاهدتها وهي تؤدي دَورها، أسأل عن الأخيرة، لا الأولى. هل تستحق الحيوانات حياةً خاصة بقدر ما نستحقها؟»

تقول: «لا إذا كانت في حديقة حيوانات، لا إذا كانت في عرض. بمجرد أن تكون في عَرْض، لا تكون لك حياة خاصة. على أية حال، هل تطلب إذنًا من النجوم قبل أن ترصدها بتليسكوبك؟ ماذا عن الحياة الخاصة للنجوم؟»

– «أمي، النجوم كتل من الصخور.»

– «هل هي كذلك؟ اعتقدتُ أنها كانت آثارَ ضوء عمرها ملايين السنين.»

يقول صوت فوق رأسيهما: «ستُقلع الآن على الخطوط الجوية المتحدة الرحلة رقم ٣٢٣ ولن تتوقف حتى لوس أنجلوس. على الركاب الذين يحتاجون إلى مساعدة والأسر التي معها أطفال أن يتقدموا.»

تمسُّ طعامَها بالكاد على الطائرة. تطلب كأسين من البراندي واحدةً بعد الأخرى، وتستغرق في النوم. لا تزال نائمةً حين تبدأ الطائرة الهبوطَ إلى لوس أنجلوس بعد ساعات. «ماما، حزام المقعد.» لا تتحرك. يتبادلان النظرات، هو ومراقب الرحلة. ينحني ويربط الحزام على بطنها.

تستلقي مائلةً بعمق في مقعدها. رأسها على جانب، وفمها مفتوح. تُصدِر شخيرًا واهيًا. يومض الضوء من النوافذ والطائرة تميل، الشمس رائعة على جنوب كاليفورنيا. يستطيع أن يرى أعلى منخريها، وداخل فمها، حتى خلف حنجرتها. وما لا يستطيع رؤيته يتخيله: المريء، وردي بشع، ينقبض وهي تبلع، مثل ثعبان، ساحبًا الأشياء إلى كيس البطن الذي يشبه الكمثرى. يبتعد، يربط حزامه، يجلس، متطلعًا إلى الأمام. يقول لنفسه: لا، لم آتِ من هنا، ليس من هذا البطن.

١  مَسيشوسيتس: ولاية في شمال شرق الولايات المتحدة، عاصمتها بوسطن.
٢  فقمة: من الثدييات البحرية الآكلة اللحوم، لها أطراف تشبه الزعانف، وفرو سميك.
٣  ديزي دَك Daisy Duck: إحدى شخصيات والت ديزني، ظهرت أول مرة عام ١٩٣٧.
٤  دانيال ديفوي (١٦٦١–١٧٣١م): كاتب وصحفي وجاسوس بريطاني، اكتسب شهرته من روايته روبنسون كروزو، ويُعتَبر من مؤسِّسي الرواية الإنجليزية.
٥  أ. س. بيات A. S. Byatt (١٩٣٦م–…): كاتبة وشاعرة بريطانية.
٦  دوريس ليسنج Doris Lessing (١٩١٩م–…): اشتهرت بسلسلة من خمسة أجزاء بعنوان «أطفال العنف» (١٩٥٢–١٩٦٩م)، «المفكرة الذهبية» (١٩٦٢م)، حصلت على جائزة نوبل في الأدب عام ٢٠٠٧م.
٧  ويلسون هريس Wilson Harris (١٩٢١م–…): كاتب من جوانا Guyana (بلد يقع شمال شرق أمريكا الجنوبية على المحيط الأطلنطي، كان مستعمرةً بريطانية من ١٨١٤م إلى ١٩٦٦م)، بدأ بكتابة الشعر، واشتهر كروائي.
٨  هنري هندل ريتشاردسون Henry Handel Richardson (١٨٧٠–١٩٤٦م): روائي إنجليزي وُلد في أستراليا.
٩  بالفرنسية في الأصل.
١٠  أستراليشيا: جزر جنوب المحيط الهادي، وتضم: أستراليا ونيوزيلاند وغينيا الجديدة.
١١  أوديسيوس Odysseus: بطل الأوديسة، وبنلوب Penelope زوجة أوديسيوس التي تبقى مخلصةً له طوال عشرة أعوام قضاها في حرب طروادة.
١٢  تس سليلة آل دربرفيل: بطلة رواية توماس هاردي التي تحمل اسمها، وقد صدرت عام ١٨٩١م.
١٣  أنا كارنينا: بطلة رواية تولستوي التي تحمل اسمها، صدرت بين عام ١٨٧٣م وعام ١٨٧٧م.
١٤  هيثكليف: بطل رواية «مرتفعات وذرينج»، إميلي برونتي (١٨٤٧م).
١٥  روشستر: بطل رواية «جين إير»، شارلوت برونتي (١٨٧٩م).
١٦  كزبون: بطل رواية «منتصف مارس»، جورج إليوت (١٨٧١م).
١٧  مكتبة البودلين: المكتبة الرئيسية للبحث في جامعة أكسفورد، واحدة من أقدم المكتبات في أوروبا، وهي ثانية أكبر المكتبات في إنجلترا بعد المكتبة البريطانية.
١٨  حرف السي: إشارة إلى الحرف الأول من اسم البطلة Costello، وكل الأسماء الواردة تبدأ بحرف السي؛ كارليل Carlyle (١٧٩٥–١٨٨١م): مؤرخ إنجليزي؛ وتشوسر Chaucer (١٣٤٠–١٤٠٠م): من أعظم الشعراء الإنجليز في العصور الوسطى؛ وكوليردج Coleridge (١٧٧٢–١٨٣٤م): شاعر وناقد إنجليزي؛ وكونراد Conrad (١٨٥٧–١٩٢٤م): روائي إنجليزي وُلد في بولندا؛ وكوريلي Corelli (١٦٥٣–١٧١٣م): موسيقي إيطالي.
١٩  بورخيس Jorge Luis Borges (١٨٩٩–١٩٨٦م): كاتب أرجنتيني اشتهر بقصصه القصيرة التي تحمل صبغةً خيالية ميتافيزيقية.
٢٠  الودونية Voodoo, voodooism: دين منتشر في دول الكاريبي، وخاصةً هايتي، ويعتمد في الأساس على السحر والعرافة.
٢١  كنبرا: مدينة تقع جنوب شرق أستراليا.
٢٢  همبستيد Hampstead: ضاحية من ضواحي لندن يسكنها عدد كبير من الأثرياء.
٢٣  سرينادا بسيطة (السرينادا لحن يُعزف ليلًا في الهواء الطلق): من أشهر مؤلفات موتسارت (١٧٨٧م)، بالألمانية في الأصل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤