الرواية في أفريقيا
عرض لا يمكن أن ترفضه. تركب السفينة في صباح العاشر من ديسمبر في ميناء كريستشارش. تجد كابينتها صغيرةً لكنها مُرْضية تمامًا؛ الشابُّ منسِّق الترفيه وبرنامج التنمية الذاتية شخص محترم؛ المسافرون الذين يجلسون على طاولتها وقتَ الغداء، أناس معظمهم متقاعدون، أناس من جِيلها، لطافٌ ومتبسِّطون.
في قائمة المحاضرين المشاركين لا يوجد سوى اسم واحد تعرفه: إيمانويل إجودو، كاتب من نيجيريا. تعارفا منذ سنوات أبعد من أن تهتمَّ بتذكُّرها، في مؤتمر الكُتَّاب في كوالالامبور. كان إجودو صارخًا وناريًّا وسياسيًّا؛ كان انطباعها الأول أنه مدَّعٍ، ولم تغيِّر رأيها بقراءته بعد ذلك. لكنها تتساءل الآن، مدَّعٍ: ما معنى ذلك؟ الشخص الذي يبدو على غير حقيقته؟ من منَّا يبدو على حقيقته، هل تبدو على حقيقتها؟ وعلى أية حال، قد تكون الأمور مختلفةً في أفريقيا. في أفريقيا، قد يكون ما يعتبره المرء تكلفًا، وما يعتبره تفاخرًا، مجرَّد رجولة. مَن هي لتحكم؟
تلاحظ أنها تصبح، كلما كبرت، ألطف تجاه الرجال، بما فيهم إجودو. غريب؛ لأنها صارت في نواحٍ أخرى (تختار الكلمة بعناية) لاذعةً أكثر.
يبدو أنَّنا ننهمك في قاموسه؛ نعني الحديثَ عن أنشطته. يُخبرها بأنه لم يَعُدْ يقضي وقتًا طويلًا في وطنه. صار، بتعبيره، «معتادًا على المنفى، مثل المعتاد على الجريمة». حصل على أوراق أمريكية؛ يَكسب قوته من حلقات المحاضرات، حلقات يبدو أنها امتدَّت لتشمل سفن الرحلات. هذه رحلته الثالثة على «الأضواء الشمالية». يجدها مريحةً حقًّا؛ يسترخي فيها تمامًا. يقول: من كان يخمِّن أن ولدًا قرويًّا من أفريقيا ينتهي به الحال إلى مثل هذا، في حضن الرفاهية؟ يبتسم لها، مرةً أخرى، ابتسامته الكبيرة؛ الابتسامة المميزة.
تودُّ لو تقول: أنا نفسي فتاة قروية، لكنها لا تقول، مع أنَّ هذا صحيح، جزئيًّا. لا امتياز في أن تكون قرويًّا.
يُتوقَّع من كلِّ عضو في لجنة الترفيه أن يُلقي كلمةً قصيرة على الملأ. «مجرَّد أن تقول مَن أنت، ومن أين تأتي»، يشرح المنسِّق الشابُّ في إنجليزية يختارها بعناية. اسمه مايكل؛ طوله رائع، أشقر، بالطريقة السويدية، لكنه كالح، كالح جدًّا بالنسبة لذوقها.
يُعلَن عن كلمتها بعنوان «مستقبل الرواية»، وعن كلمة إجودو بعنوان «الرواية في أفريقيا». من المقرَّر أن تلقي كلمتها في صباح اليوم الأول في البحر؛ وكلمته بعد ظهيرة اليوم نفسه. وفي المساء «حياة الحيتان»، في تسجيلات صوتية.
يقوم مايكل نفسه بالتقديم. يدعوها «الكاتبة الأسترالية الشهيرة، مؤلِّفة «منزل في شارع إيكلز» وروايات أخرى كثيرة، التي نتشرَّف حقًّا بوجودها بيننا.» يغيظها أن تُعرَّف مرةً أخرى بأنها مؤلِّفة كتاب ألَّفته منذ زمن بعيد، لكن لا حيلة لها في الأمر.
«مستقبل الرواية» كلمة قدَّمتها من قبلُ، مرَّات كثيرة في الحقيقة، موسَّعة أو مختصرة حسب المناسبة. لا شك أنَّ هناك نسخًا موسَّعةً ومختصرة من الرواية في أفريقيا وحياة الحيتان أيضًا. اختارت النسخة المختصرة للمناسبة الحالية.»
تبدأ، مُحاوِلةً أن تصدم مستمعيها: «مستقبل الرواية ليس الموضوع الذي أهتم به كثيرًا. المستقبل عمومًا لا يعنيني كثيرًا. أليس المستقبل، رغم كلِّ شيء، مجرَّد بنية من الآمال والتوقُّعات؟ يقيم في العقل؛ ليس له وجود حقيقي.»
«قد تردون، بالطبع، وتقولون إن الماضي بالمثل حكاية. الماضي تاريخ، وما التاريخ إلا قصَّة من الانطباعات نحكيها لأنفسنا؟ إلا أنَّ هناك شيئًا عجيبًا في الماضي يفتقر إليه المستقبل. العجيب في الماضي أننا نجحنا — يعلم الرب وحده كيف — في نسج آلاف وملايين من القصص الفردية، قصص يبتكرها أفراد من الجنس البشري، مترابطة معًا بما يكفي لتعطينا ما يبدو وكأنه ماضٍ عام، قصةٌ مشتركة.»
«المستقبل مختلف. لا نملك قصَّةً مشتركة عن المستقبل. يبدو أن ابتكار الماضي استنفد طاقاتنا الجماعية الخلاقة. قصتنا عن المستقبل، مقارنةً بقصَّتنا عن الماضي، سطحية بلا دماء، بالشكل الذي تميل إليه رؤى الفردوس. رؤى الفردوس وحتى رؤى الجحيم.»
تواصل القول: «الرواية، الرواية التقليدية، محاولة لفهم قدر الإنسان، حالة في كل مرة، لفهم كيف يتأتَّى لرفيق، كانت نقطة بدايته أ وجرَّب النقطة ب والنقطة ج والنقطة د، وينتهي إلى النقطة ي. إنَّ الرواية بهذه الطريقة، مثل التاريخ، تمرينٌ لجعل الماضي مترابطًا. تستكشف، مثل التاريخ، المساهماتِ الخاصةَ للشخصية والظروف في تشكيل الحاضر. توحي الرواية، وهي تفعل ذلك، بالطريقة التي قد نستكشف بها قوة الحاضر لنُنتج المستقبل؛ لهذا وُجد هذا الشيء، هذه المؤسسة، هذا الوسط الذي يُدعى الرواية.»
ليست متأكدة، وهي تسمع صوتها، إن كانت تؤمن حتى تلك اللحظة بما تقول. لا بدَّ أن أفكارًا من هذا القبيل كان لها تأثير عليها حين كتبتها منذ سنوات، لكنها بعدَ كثير من التكرار صارت باليةً وغير مقنعة. وهي، من ناحية أخرى، ما عادت تؤمن بقوةٍ بالإيمان. تعتقد الآن أن الأفكار يمكن أن تكون صحيحةً حتى لو لم يكن المرء يؤمن بها، والعكس صحيح. قد لا يكون الإيمان، في النهاية، أكثر من مصدر للطاقة، مثل البطارية التي يوصلها المرء في فكرة ليجعلها تعدو. وهو ما يحدث حين يكتب المرء: يؤمن بما يؤمن به مهما يكن ليُنجز عمله.
إن كانت تُعاني من إيمان مضطرب في المناقشة، فهي تعاني من اضطراب أكبر في منع عدم الاقتناع من الظهور في صوتها. مع أنها المؤلِّفة المرموقة لكتاب، كما يقول مايكل، «منزل في شارع إيكلز» وكتب أخرى، مع أن جمهورها في معظمه من جيلها ومن ثمة لا بدَّ أنه يشاركها في ماضٍ عامٍّ، إلا أنَّ التصفيق في النهاية يفتقر إلى الحماس.
تجلس بشكل غير واضح في الصف الخلفي لحضور كلمة إيمانويل. تناولوا أثناء ذلك غداءً طيبًا؛ يبحرون جنوبًا في بحار ما زالت هادئة. هناك فرصة كاملة لأن يغفو بعضُ هذا الجمع الطيِّب من الجمهور — عدده، كما قد تخمِّن، خمسون تقريبًا. في الحقيقة، مَن يعرف، ربما تغفو هي نفسها؛ على أية حال من الأفضل أن يتم ذلك دون أن يُلاحَظ.
يبدأ إيمانويل، بصوته الجَهْوَرِي دون جهد: «ستتعجَّبون حين تعرفون السبب الذي جعلني أختار موضوعي عن الرواية في أفريقيا. ماذا يميِّز الرواية في أفريقيا؟ ماذا يجعلها مختلفة، مختلفةً بما يكفي لِلَفْتِ انتباهنا اليوم؟»
«حسنًا، لنرَ. نعرف جميعًا، بدايةً، أنَّ الأبجدية، فكرة الأبجدية، لم تنشأ في أفريقيا. نشأت أشياء كثيرة في أفريقيا، أكثر ممَّا تعتقدون، لكن لم تكن الأبجدية من بينها. كان لا بدَّ من جلب الأبجدية، في البداية على أيدي العرب، ثم مرةً أخرى على أيدي الغربيين. الكتابة نفسها في أفريقيا، إذا تناسينا كتابة الرواية، مسألة حديثة.»
«هل الرواية ممكنة بدون كتابة الرواية، قد تسألون؟ هل كانت لنا في أفريقيا رواية قبل أن يظهر أصدقاؤنا المستعمرون على عتبات ديارنا؟ دعوني، لكيلا أطيل عليكم، أطرح السؤال فقط. قد أعود إليه فيما بعدُ.»
«ملاحظة ثانية: إن القراءة ليست وسيلة استجمام أفريقية نموذجية. الموسيقى، نعم؛ الرقص، نعم؛ الأكل، نعم؛ الكلام، نعم، كثير من الكلام. لكن القراءة، لا، وخاصةً قراءة الروايات الدسمة. صدمتنا القراءة نحن الأفارقة دائمًا كعمل انعزالي غريب. تُزعجنا. حين نزور نحن — الأفارقة — المدن الأوروبية الكبيرة مثل باريس أو لندن، نلاحظ كيف يُخرج الناس في القطارات الكتبَ من حقائبهم أو جيوبهم وينسحبون إلى عوالم منفردة. في كلِّ مرَّة يَخرج فيها كتابٌ يكون مثل لافتة مرفوعة. تقول اللافتة: اتركني وحدي، أنا أقرؤه. ما أقرؤه أكثر جاذبيةً من جاذبيتك المحتملة.»
«حسنًا، لسنا كذلك في أفريقيا. لا نحب الانفصال عن الآخرين والانسحاب إلى عوالم خاصة، ولم نألف انسحاب جيراننا إلى عوالم خاصة. أفريقيا قارة يتشارك الناس فيها. أن تقرأ كتابًا بنفسك ليس عملًا مشتركًا، إنه يشبه الأكل وحدك أو الكلام وحدك. ليس أسلوبنا. نراه جنونًا إلى حدٍّ ما.»
تفكِّر: نحن، نحن، نحن، ليس أسلوبنا. لم تحب «نحن» قط في صيغة الاستبعاد. ربما كبر إيمانويل، ربما اكتسب تمجيد الأبحاث الأمريكية، لكنه لم يتغيَّر. الأَفارقة: هُويَّة خاصة، مصير خاص.
يواصل إجودو: «في المقام الثالث، كان الفقر في النظام العالمي الكبير الخيِّر الذي نعيش في كَنَفه الآن، من نصيب أفريقيا. لا يملك الأفارقة أموالًا للرفاهية. في أفريقيا، لا بدَّ أن يقدِّم لك الكتاب مقابلًا للمال الذي تُنفقه عليه. سيسأل الأفريقي: ما الذي أتعلَّمه من قراءة هذه القصة؟ كيف تساهم في تقدمي؟ ربما نستهجن وضع الأفريقي، سيداتي سادتي، لكننا لا نستطيع غضَّ الطرف عنه. علينا أن نتناوله بجدية ونحاول فهمه.»
«إننا، بالطبع، نؤلِّف كتبًا عن أفريقيا. لكن الكتب التي نؤلفها كتب للأطفال، كتب تعليمية بأبسط معنًى. إذا أردت أن تكسب مالًا من نشر الكتب في أفريقيا فلا بدَّ أن تنشر كتبًا تُخصَّص للمدارس، كتبًا تُباع بكميات كبيرة للمؤسسة التعليمية لتُقرَأ وتُدرَّس في الفصل. إنها لا تدفع مقابلًا لنشر أعمال الكتَّاب ذوي الطموح الكبير، الكتَّاب الذين يكتبون عن الراشدين والقضايا التي تهمُّ الراشدين. على مثل هؤلاء الكتَّاب أن يتطلَّعوا لمكان آخر من أجل خلاصهم.»
«ما أقدِّمه هنا اليوم، سيداتي سادتي على «الأضواء الشمالية»، ليس بالطبع الصورة الكاملة. قد يستغرق الأمر فترةَ بعد الظهيرة بطولها لأقدِّم لكم الصورة الكاملة. لا أقدِّم إلا صورةً أولية سريعة. ستجدون بالطبع ناشرين في أفريقيا، واحدًا هنا، وآخر هناك، يدعمون الكتَّاب المحليين حتى لو لم يربحوا أموالًا أبدًا. لكن حَكْي القصص، عمومًا، لا يقدِّم ما يُعيل الناشرين أو الكتَّاب.»
«قدَّمنا تعميماتٍ كثيرةً قد تكون محبطة. والآن لنحوِّل انتباهنا إلى أنفسنا، إليكم وإليَّ. أنا هنا، تعرفون مَن أنا، كما يقال لكم في البرنامج: إيمانويل إجودو، من نيجيريا، مؤلِّف روايات وقصائد ومسرحيات، والفائز أيضًا بجائزة الكومنولث الأدبية (القسم الأفريقي). وأنتم هنا مجموعة من الأثرياء، أو على الأقل من المستريحين ماديًّا، كما تقولون (لستُ مخطئًا، هل أنا مُخطئ؟)، من أمريكا الشمالية وأوروبا، وبالطبع لا ننسى ممثلة أستراليا بيننا، وربما هُمِستْ كلمة يابانية غريبة في الدهاليز، في رحلة على هذه السفينة الفاخرة، في طريقكم لرؤية ركن ناءٍ من الكرة الأرضية، لإلقاء نظرة عليه، وربما لوضع إشارة أمامه في قوائمكم. أنتم هنا، بعد غداء طيب، لتسمعوا كلمة هذا الرفيق الأفريقي.»
«أتخيلكم تتساءلون: لماذا يُبحر هذا الرفيق الأفريقي على سفينتنا؟ لماذا لا يعود إلى طاولته في الأرض التي وُلد فيها ويهتم بمهنته، إذا كان كاتبا حقًّا، يكتب كتبًا؟ لماذا يواصل الحديث عن الرواية الأفريقية، الموضوع الذي يخرج تمامًا عن نطاق اهتماماتنا؟»
«الإجابة المختصرة، سيداتي سادتي، هي أنَّ الرفيق الأفريقي يكسب قوت يومه. لا يستطيع في بلاده، كما حاولتُ أن أشرح، أن يكسب قوته. إنه في بلاده (لن أحمل القضية، أذكرها فقط لأنها تبدو حقيقيةً لعدد كبير من الرفاق من الكتَّاب الأفارقة) أقلُّ من أن يكون موضعَ ترحيبٍ. يوصف في بلاده بالمثقَّف المعارض، ولا بدَّ أن يتحسَّس المثقفون المعارضون خطاهم حتى في نيجيريا الجديدة.»
«لذا فهو هنا، خارج الوطن في العالم الرَّحب، يكسب قوت يومه. يكسب جزءًا من قوت يومه من كتابة الكتب التي ينشرها ويقرؤها ويراجعها ويتحدَّث عنها، غالبًا، غرباء. ويكسب بقية قوت يومه من الأرباح المفاجئة لكتابته. إنه يراجع في صحف أوروبا وأمريكا، على سبيل المثال، كتبًا يكتبها كتَّاب آخرون. يدرِّس في كليات في أمريكا، متحدثًا لشباب العالم الجديد عن الموضوع الغريب الذي هو خبير فيه كما يكون بها الفيل خبيرًا بالفيلة: الرواية الأفريقية. يتحدَّث في مؤتمرات؛ يبحر على سفن سياحية. يعيش، وهو مشغول على هذا النحو، فيما يسمَّى مساكن مؤقَّتة. عناوينه كلها مؤقتة؛ ليس له مسكن ثابت.»
«ما مدى سهولة أن يكون هذا الرفيق كما تعتقدون، سيداتي سادتي، صادقًا مع جوهره ككاتب حين يوجد كل هؤلاء الغرباء ليرضيهم شهرًا بعد شهر، من الناشرين والقرَّاء والنقَّاد والدارسين، لا يحارب كلٌّ منهم بأفكاره حول ماهية الكتابة أو ما يجب أن تكون عليه، وحول ماهية الرواية أو ما يجب أن تكون عليه، وحول ماهية أفريقيا أو ما يجب أن تكون عليه فقط، ولكن أيضًا حول ماهية ما يُرضِي أو ما يجب أن يكون؟ هل تعتقدون أنَّ هذا الرفيق يمكن أن يبقى دون أن يتأثر بالضغوط التي تقع عليه ليُرضِي الآخرين، أن ينتج لهم ما يعتقدون أنَّ عليه أن ينتجه؟»
«ربما لم يَعُد الأمرُ يثير انتباهكم، لكن لساني زلَّ، منذ برهة، بكلمة كان يجب أن تشدَّ أسماعكم. تكلمت عن جوهري، وأن أكون صادقًا مع جوهري. هناك الكثير ممَّا يمكن أن أقول عن الجوهر وتشعُّبه؛ لكن المناسبة ليست ملائمة. إلا أنه لا بدَّ أنكم تتساءلون، كيف يمكن، في هذه الأيام المعادية للجوهر، هذه الأيام ذات الهُويَّات الزائلة التي نلتقطها ونلبسها ونخلعها مثل الملابس، أن أبرِّر حديثي عن جوهري ككاتب أفريقي؟»
وفيما يلي ردُّ الشيخ حميدو: «الكتَّاب الذين أتحدَّث عنهم أفارقة حقًّا لأنهم وُلدوا في أفريقيا، ويعيشون في أفريقيا، وحسُّهم أفريقي … ما يميِّزهم يكمن في خبرة الحياة وفي الحساسيات وفي الإيقاع وفي الأسلوب.» ويواصل: «الكاتب الفرنسي أو الإنجليزي وراءه تراث مكتوب يمتدُّ إلى آلاف السنين … ونحن من ناحية أخرى ورثة تراث شفاهي.» «لا شيء مبهم في رد شيخ حميدو، لا شيء ميتافيزيقي، لا شيء عنصري. إنه فقط يعطي وزنًا حقيقيًّا لتلك الأمور غير الملموسة في الثقافة، وهي أمور لا تُلاحَظ غالبًا لأنه ليس من السهل تدوينها في كلمات. الطريقة التي يعيش بها الناس في أبدانهم. الطريقة التي يحرِّكون بها أيديهم. الطريقة التي يمشون بها. الطريقة التي يبتسمون بها أو يعبسون. خفة كلامهم. الطريقة التي يغنُّون بها. نبرة أصواتهم. الطريقة التي يرقصون بها. الطريقة التي يتلامسون بها؛ كيف تتردد اليد، إحساس الأصابع. الطريقة التي يمارسون الحب بها. الطريقة التي يستلقون بها بعد ممارسة الحب. الطريقة التي يفكِّرون بها. الطريقة التي ينامون بها.»
«يمكن للروائيين الأفارقة تجسيد هذه الخصائص في كتاباتنا (ودعوني أذكِّركم هنا أن كلمة «رواية» حين دخلت لغات أوروبا، كان معناها مبهمًا للغاية؛ كانت تعني شكل الكتابة التي بلا شكل، التي لا قواعد لها، التي تخلق قواعدها الخاصة وهي تتشكل) — يمكن لنا نحن — الروائيين الأفارقة — أن نجسِّد هذه الخصائص بطريقة لا يمكن أن تتوفر لشخص آخر؛ لأننا لم نفقد التَّماس مع الجسد. إن الرواية الأفريقية، الرواية الأفريقية الحقيقية، رواية شفهية. إنها خاملة على الصفحة، شبه حية فقط؛ تستيقظ حين ينفخ الصوتُ، من أعماق الجسد، الحياةَ في الكلمات، وينطقها بصوت مرتفع.»
يكتبُ زمثور: «انتشرت أوروبا عبر العالم، منذ القرن السابع عشر، مثل السرطان، خلسةً في البداية، ثم في سباق جماعي، وهي حتى اليوم تُتلِف أشكال الحياة، الحيوانات والنباتات والبيئات واللغات. تختفي عدَّة لغات مع كل يوم يمر، تُرفَض وتُخنَق … كان ما ندعوه الأدب أحد أعراض المرض بلا شك منذ البداية؛ وقد دعم الأدب نفسه، وازدهر، وصار ما هو عليه — أحد أضخم أبعاد الجنس البشري — بإنكار الصوت … حان الوقت لنتوقف عن تفضيل الكتابة … ربما ستجد أفريقيا العظيمة التعيسة، وقد أفقرتها إمبرياليَّتُنا الصناعية والسياسية؛ لأنها تعرضت لتأثير الكتابة بشكل أقلَّ خطورة، ستجد نفسها أقربَ إلى الهدف من القارات الأخرى.»
التصفيق مرتفع وحيوي حين ينتهي إجودو من كلمته. تكلَّم بقوة، وربما حتَّى بانفعال؛ وقف لنفسه، لبراعته، لشعبه. لماذا يجب ألا يحصل على جائزته، حتى لو كان ما يقوله لا علاقة له بحياة جمهوره؟
إلا أنَّ هناك شيئًا في الحديث لا تحبُّه، شيئًا يرتبط بالشفهية وروحانية الشفهية. تعتقد أنَّ الجسد يتم التركيز عليه دائمًا ودفعه إلى الأمام، وأنَّ الصوت، الجوهر المعتم للجسد، ينبع منه. الزنوج: فكرتْ في أن إيمانويل ينطلق من تلك الفلسفة الزائفة. من الواضح أنه لم ينطلق منها. من الواضح أنه قرَّر الاحتفاظ بها كجزءٍ من أسلوبه المهني. حسنًا، حظ سعيد له. يتبقَّى وقت، عشر دقائق على الأقل، للأسئلة. تأمل أن تكون الأسئلة ثاقبة، أن تكشفه.
يرد إجودو، لا، لم يُترجم توتولا بعد ذلك، لم يترجم في الحقيقة على الإطلاق، إلى الإنجليزية على الأقل. لماذا لم يُترجم؟ لأنه لم يكن في حاجة إلى أن يُترجَم. لأنه كان يكتب بالإنجليزية دائمًا. «وهذا جذر المشكلة التي تثيرها السائلة. إن لغة أموس توتولا هي الإنجليزية، ليست الإنجليزية الفصحى، ولا الإنجليزية التي كان النيجيريون يذهبون إلى المدارس والكليات لتعلُّمها في الخمسينيات. لغة كاتب شِبه متعلِّم، رجل لم يحصل على أكثر من التعليم الابتدائي، مفهومة بالكاد لأجنبي، معدَّة لينشرها محرِّرون بريطانيون. حيث كانت كتابات توتولا تنمُّ عن جهل صريح كانوا يصححونها؛ ما كان ينجو من التصحيح هو ما يبدو نيجيريًّا أصيلًا بالنسبة لهم؛ أي ما كان يبدو لأسماعهم رائعًا وغريبًا وفلكلوريًّا.»
يواصل إجودو: «يمكن أن تتخيلي، مما قلتُ منذ قليل، أنني أرفض توتولا تمامًا أو ظاهرة توتولا. الأمر بعيد عن ذلك تمامًا. كان توتولا مرفوضًا من قِبل من يُعرفون بالنيجيريين المتعلمين؛ لأنه كان يربكهم، يربكهم أنهم قد يُوضَعون معه كمواطنين لا يعرفون أن يكتبوا إنجليزيةً صحيحة. بالنسبة لي، أنا سعيد بأن أكون مواطنًا؛ مواطنًا نيجيريًّا، نيجيريًّا مواطنًا. أنا إلى جانب توتولا في هذه المعركة. إن توتولا، أو كان، راوي قصص موهوبًا. أنا سعيد لأنك تحبينه. كتب عدَّة كتب أخرى بالإنجليزية، إلا أنني قد أقول إنه ليس من بينها ما هو في جودة «شارب العرقي». نعم، إنه كاتب من النوع الذي أصفه بأنه كاتب شفهي.»
«رددتُ عليك بإسهاب لأن حالة توتولا بالغة الدلالة. ما يجعل توتولا بارزًا أنه لم يكيِّف اللغة لتوقعات — أو ربما فكَّر في أنَّ التوقعات كانت محليةً بصورة أقل — الغرباء الذين قرءوه وحكموا عليه. لأنه لم يكن يعرف ما هو أفضل، كان يكتب كما يتكلَّم؛ لذا كان لا بدَّ أن يذعن للتعليب بطريقة بائسة جدًّا، للغرب، كأعجوبة أفريقية.»
«لكن، سيداتي سادتي، مَنْ مِن الكتَّاب الأفارقة ليس أعجوبة؟ الحقيقة، إننا نحن — الأفارقة — أعجوبة بكل معنى الكلمة بالنسبة للغرب، إن لم نكن متوحشين ببساطة. هذا قدَرنا. حتى هنا، على هذه السفينة التي تُبحر باتجاه القارة التي ربما تكون الأكثر غرابةً على وجه الأرض، والأكثر وحشية، القارة التي بدون معايير إنسانية على الإطلاق، أستطيع أن أشعر بأنني أعجوبة.»
تنفجر موجة من الضحك. يبتسم إجودو ابتسامته العريضة الجذابة التي تبدو تلقائيةً للجميع. لكنها لا تستطيع أن تصدِّق أنها ابتسامة حقيقية، لا تستطيع أن تصدِّق أنها تأتي من القلب، إن كان هذا هو الموضع الذي تأتي منه الابتسامة. إذا كان القدر الذي ارتضاه إجودو لنفسه أن يكون أعجوبة، فيا له من قدر رهيب! لا تستطيع أن تصدق أنه لا يعرف ذلك، لا يعرفه ولا يثور ضده من أعماق قلبه. الوجه الأسود الوحيد في هذا البحر من الوجوه البيضاء.
كان الهدف من كلمة «الرواية في أفريقيا» أن تكون، كما يتحدَّث كلُّ ركاب السفينة، أمرًا خفيفًا. لا شيء في برنامج السفينة يُقصَد أن يكون أمرًا ثقيلًا. يهدَّد إجودو، لسوء الحظ، بأن يكون ثقيلًا. بإيماءة رصينة، يشير من الكواليس الشاب السويدي الطويل في زيِّه الأزرق الطويل؛ وبامتنان يُلبِّي إجودو، ويُنهي عرضه.
•••
إنها هناك مع رفيقين من طاولتها، يشربون. يقولان لها إنهما من مانشستر. إنهما يتطلعان إلى دروسها عن الرواية، التي سجَّلا اسميهما فيها. الرجل طويل ذو شعر فضي ناعم: تفكر فيه كإوزَّة بحرية. لا يقول كيف صنع ثروته، وهي لا تسأله. المرأة ضئيلة وشهوانية. ليست فكرتها عن مانشستر على الإطلاق. ستيف وشيرلي. تخمِّن أنهما ليسا متزوجين.
يريحها أنَّ الحديث يتحوَّل بسرعة من الكلام عنها وعن الكتب التي كتبتها إلى موضوع تيارات المحيط. يبدو أن ستيف يعرف كلَّ ما يمكن معرفته، وعن الكائنات الضئيلة، التي توجد منها أطنان في الميل المربع، وتعتمد حياتها على أن تُجرَف بهدوء في هذه المياه الثلجية، تأكل وتؤكل، تتكاثر وتموت، ويتجاهلها التاريخ. سائحان مهتمان بالبيئة، هذا ما يصف به ستيف وشيرلي نفسيهما. الأمازون في السنة الماضية، وهذه السنة في المحيط الجنوبي.
يقف إجودو في المدخل، يتلفَّت حوله. تلوِّح له فيأتي. تقول: «انضم إلينا. إيمانويل. شيرلي. ستيف.»
يُحيِّيان إيمانويل على محاضرته. يقول ستيف: «شيقة جدًّا. قدَّمْتَ لي منظورًا جديدًا تمامًا.»
تقول شيرلي بشكل أعمق: «كنتُ أفكر، وأنت تتكلَّم، لا أعرف كتبك، آسفة أن أقول ذلك، لكنك ككاتب، ككاتب شفهي من النوع الذي وصفْتَه، ربما لا يكون الكتابُ المطبوعُ الوسيطَ الصحيح. هل فكَّرت في أيِّ وقت في التأليف مباشرة على شريط تسجيل؟ لماذا الالتفاف عبر الطباعة؟ لماذا حتى الالتفاف عبر الكتابة؟ احكِ قصتك للمستمع مباشرة.»
يقول إيمانويل: «يا لها من فكرة بديعة! لن تحل كل مشاكل الكاتب الأفريقي، لكنها جديرة بالتفكير.»
– «لماذا لن تحلَّ كل مشاكلك؟»
– «لأن الأفارقة، آسف لقول هذا، يريدون أكثر من مجرَّد الجلوس في صمت يستمعون إلى شريط يلفُّ في آلة صغيرة. سيكون هذا شبيهًا جدًّا بالوثنية. يريد الأفارقة الوجود الحي، الصوت الحي.»
تقول، متدخلةً للمرة الأولى: «هل أنت واثق من ذلك؟ الأفارقة لا يعترضون على سماع الراديو. الراديو صوت، لكنه ليس صوتًا حيًّا، ليس وجودًا حيًّا. أظن أن ما تحتاج إليه، يا إيمانويل، ليس مجرد صوت، لكنَّك تحتاج إلى أداء: ممثل حي يؤدي لك النص. وإذا كان الأمر كذلك، إذا كان ذلك ما يحتاجه الأفريقي، أوافقك إذن، لا يمكن أن يحلَّ التسجيل محلَّه. لكن الرواية لم تكن قط بهدف أن تكون نصًّا للأداء. تتمتَّع الرواية منذ البداية بفضيلة أنها لا تحتاج إلى أداء. إنك لا تستطيع أن تجمع بين الأداء الحيِّ والتوزيع الرخيص المناسب. هذا أو ذاك. إذا كان هذا حقًّا ما تريد أن تكون عليه الرواية — كتلة من الورق في حجم الجيب وفي الوقت ذاته كائن حي — فسأوافق على أن الرواية لا مستقبل لها في أفريقيا.»
يقول إجودو بتمعُّن: «لا مستقبل لها! يبدو ذلك أمرًا كئيبًا، إليزابيث. هل لديك مَخْرج تعرضينه علينا؟»
– «مَخرج؟ ليس لي أن أعرض عليك مخرجًا. يجب أن أعرض سؤالًا: لماذا يوجد عدد كبير من الروائيين الأفارقة ولا توجد رواية أفريقية تستحقُّ الكلام؟ هذا هو السؤال الحقيقي في رأيي. وأنت نفسك قدَّمت مفتاحًا للإجابة في كلمتك؛ الغرابة، الغرابة وإغراءاتها.»
– «الغرابة وإغراءاتها؟ إنكِ تثيرين فضولنا، إليزابيث! أخبرينا بما تقصدين!»
إذا كان الأمر يتعلَّق بها وبإيمانويل فقط لانصرفت عند هذه النقطة؛ إنها مرهقة من نبرته الخافتة الساخرة، الساخطة.
تقول: «يكتب الرواية الإنجليزية، في المقام الأول، إنجليز لإنجليز؛ هذا ما يجعلها روايةً إنجليزية. يكتب الرواية الروسية رُوس لِرُوس، لكن الرواية الأفريقية لا يكتبها أفارقة لأفارقة. قد يكتب الروائيون الأفارقة عن أفريقيا، عن الخبرات الأفريقية، لكن يبدو لي أنهم ينظرون من فوق أكتافهم، طوال الوقت وهم يكتبون، إلى الغرباء الذين سوف يقرءونهم. قبلوا، سواء كانوا يحبون ذلك أو لا يحبونه، دَور المفسِّر، مفسِّرين أفريقيا لقرائهم. لكن كيف تستكشف عالمًا بكل أعماقه إذا كان عليك طوال الوقت أن تشرحه للغرباء؟ إنَّ هذا الوضع يشبه وضع عالِمٍ يحاول أن يوجه تركيزه الخلاق تمامًا إلى أبحاثه، وفي الوقت ذاته يشرح ما يفعله لفصل من الطلاب الجهلة. كثير جدًّا على شخص واحد، لا يمكن أن يتم، لا يمكن على المستوى الأعمق. هذا، في رأيي، جذر مشكلتك. عليك أن تؤدي أفريقيتك في الوقت الذي تكتب فيه.»
يقول إجودو: «رائع جدًّا، إليزابيث! تفهمين حقًّا؛ تعبِّرين عن الأمر بشكل رائع. المستكشف كشارح.» يمدُّ يده ويربِّت على كتفها.
تفكِّر: لو كنَّا وحدنا لصفعته.
– «إذا كان صحيحًا أنني أفهم حقًّا» — تتجاهل إجودو الآن، وتتحدَّث إلى الرفيقين من مانشستر — «فإن ذلك يعود فقط إلى أننا في أستراليا مررنا بمحاولات مماثلة ووصلنا إلى الطرف الآخر. تخلصنا في النهاية من عادة الكتابة لغرباء حين وصل القارئ الأسترالي الحقيقي لمرحلة النضج، وهو أمر حدث في الستينيات. القارئ، لا الكاتب — كان موجودًا بالفعل. تخلَّصنا من عادة الكتابة للغرباء حين قرَّر سوقنا؛ سوقنا الأسترالي، أنه يستطيع أن يتحمَّل دعم الأدب المحلي. هذا هو الدرس الذي يمكن أن نعرضه. هذا ما يمكن أن تتعلمه أفريقيا منا.»
إجودو صامت، إلا أنه لم يفقد ابتسامته الساخرة.
يقول ستيف: «أمر شيِّق أن أسمع حديثكما. تتعاملين مع الكتابة باعتبارها بيزنس. تحدِّدين سوقًا وتشرعين في دعمه. كنتُ أتوقع شيئًا مختلفًا.»
– «حقًّا؟ ماذا كنت تتوقع؟»
– «تعرفين كيف يحلم الكُتاب بشخصياتهم، إلخ، حين يجدون إلهامهم. آسف، لا تبالي بما أقول، إنني مجرَّد هاوٍ.»
إلهام. استقبال الروح في المرء. يرتبك الآن بمجرد النطق بالكلمة. صمت بشع.
يتكلم إيمانويل: «نرجع أنا وإليزابيث إلى الوراء. بيننا الكثير من الاختلافات حاليًّا. هذا لا يغيِّر شيئًا مما بيننا. أليس كذلك إليزابيث؟ نحن زميلان، كاتبان رفيقان. جزء من أخوة الكتابة العظيمة على مستوى العالم.»
أخوة. إنه يتحدَّاها، محاولًا أن يستفزَّها أمام هذين الغريبين، لكنها تشمئِّز فجأةً من هذا كله بدرجة تجعلها لا تقبل التحدي. تفكِّر: ليسا رفيقين في الكتابة، بل رفيقان في الترفيه. هل نحن هنا على ظهر هذه السفينة الغالية لسبب آخر، نقدِّم أنفسنا، كما تنصُّ الدعوة صراحة، لأناس يصيبوننا بالملل وقد بدأنا نصيبهم بالملل؟
ينخسها لأنه متوتر. تعرفه جيدًا بما يكفي لتفهم ذلك. لديه ما يكفي من الرواية الأفريقية، ما يكفي منها ومن أصدقائها، يريد شيئًا، أو شخصًا، جديدًا.
انتهت مطربتهم من وصلتها. ثمَّة موجة خفيفة من التصفيق. تنحني، تنحني مرةً أخرى، تستأنف العزف على البلالايكا. تبدأ الفرقة رقصةً قوقازية.
ما يزعجها في إيمانويل، ما يجعلها تتحلَّى بحسٍّ طيِّب ولا تستعرض أمام ستيف وشيرلي؛ لأنَّ ذلك سيكون مجرَّد سلوك غير لائق، هي الطريقة التي يحوِّل بها كلَّ اختلاف إلى مسألة شخصية. كما أنها تجد فكرته عن الرواية الشفهية المحبوبة، التي بَنى عليها نشاطه الإضافي كمحاضر، مشوشةً من أساسها. تودُّ لو تقول: «رواية عن أناس يعيشون في ثقافة شفهية، ليست روايةً شفهية. بالضبط، كما أن روايةً عن النساء ليست رواية نساء.»
ترى أنَّ كل حديث إيمانويل عن رواية شفهية، رواية تبقى متماسَّة مع الصوت الإنساني؛ ومن ثَم مع الجسد الإنساني، رواية ليست متحرِّرةً من الجسد مثل الرواية الغربية، لكنها تعبِّر عن الجسد وحقيقة الجسد، تراه مجرَّد طريقة أخرى لدعم روحانية أفريقيا كآخر مستودع للطاقات الإنسانية الأولية. يلوم إيمانويل ناشريه الغربيين وقراءه الغربيين على دَفعه إلى جعل أفريقيا أعجوبة؛ لكن إيمانويل يساهم في جعل نفسه أعجوبة. يتصادف أن تعرف أن إيمانويل لم يكتب كتابًا أساسًا منذ عشر سنوات. حين تعرَّفت عليه أوَّل مرَّة كان لا يزال يعتزُّ بأنه كاتب. يكسب الآن قوته من الحديث. كتبه أوراق اعتماد، ليس إلا. ربما يكون رفيق تسلية؛ لكنه ليس رفيق كتابة، لم يعد. إنه في دائرة المحاضرات من أجل المال، ومن أجل الجوائز الأخرى أيضًا؛ الجنس، على سبيل المثال. إنه أسود، أعجوبة، متماس مع طاقات الحياة، إذا كان لم يعد شابًّا، فهو على الأقل يعتني بنفسه جيدًا، ويستغل سنواته ببراعة. أية فتاة سويدية لا تكون صيدًا سهلًا؟
تنتهي من شرابها. تقول: «سأذهب. ليلة طيبة، ستيف، شيرلي. أراكما غدًا. ليلة طيبة، إيمانويل.»
•••
ترتدي ملابسها وتخرج في الدهليز، وفي اللحظة ذاتها يُفتح باب الكابينة أ-٢٣٠ وتخرج منها روسية؛ المغنية. ترتدي الزيَّ الذي كانت ترتديه الليلة السابقة، البلوزة الخمرية والبنطلون الأسود الواسع؛ تحمل حذاءها في يدها. تبدو، في الضوء الفظِّ المنبعث من السقف، أقرب إلى الأربعين منها إلى الثلاثين. تنأى كلٌّ منهما بعينيها عن الأخرى وكلٌّ منهما تمرُّ بالأخرى.
الكابينة أ-٢٣٠ كابينة إيمانويل، تعلم ذلك.
تشقُّ طريقها إلى سطح السفينة. هناك بالفعل حفنة من المسافرين، يرتدون ملابس أنيقةً ضد البرد، يسندون على السور وينظرون إلى أسفل.
البحر مِن تحتهم حيٌّ بما يبدو أنه سمك، سمك كبير، ظهره أسود لامع يتمايل ويتشقلب ويقفز بشكل رائع. لم ترَ من قبلُ شيئًا كهذا.
يقول الرجل الذي بجوارها: «البطاريق. بطاريق مَلِكٍ. جاءت تُحيِّينا. لا تعرف من نحن.»
تقول: «أوه.» ثم تقول: «بريئة إلى هذا الحد؟ هل هي بريئة إلى هذا الحد؟»
ينظر إليها الرجل باستغراب، ويعود إلى رفاقه.
سوف يتوقفون عند ماكواري حتى الظهيرة، وهو وقت كافٍ للمسافرين الذين يرغبون في زيارة الجزيرة. سجَّلت اسمها في قائمة الزائرين.
يغادر القارب الأول بعد الفطور. طريقة الهبوط صعبة، عبر أسرَّة سميكة من رماد عشب البحر وعبر صخور متراصة. في النهاية على أحد البحارة أن يقدِّم لها بعض المساعدة للهبوط على اليابسة، يحملها تقريبًا، كما لو كانت امرأةً عجوزًا عجوزًا. للبحَّار عينان زرقاوان، وشعر أشقر. من خلال ملابسه الواقية من المياه تشعر بقوة شبابه. تنتقل في ذراعيه وكأنها طفلة. تقول له ممتنَّةً حين ينزلها: «أشكرك!» لكن الأمر لم يكن شيئًا بالنسبة له، مجرد خدمة يُدفع له بالدولار مقابل القيام بها، المسألة ليست شخصية، تشبه تمامًا الخدمة التي تقوم بها الممرضة في المستشفى.
قرأتْ عن جزيرة ماكواري. كانت في القرن التاسع عشر محور صناعة البطاريق. هنا كانت تُضرب مئات الألوف من البطاريق حتى الموت وتُرْمَى في غلايات البخار الحديدية لتتحلَّل إلى زيت مفيد وبقايا عديمة الفائدة. أو لا تُضرَب حتى الموت، بل تُجمع بالعصي على لوح خشبي متحرك وتُقاد إلى الحافة لتهبط في مرجل يغلي.
ومع ذلك لا يبدو أن أحفادها في القرن العشرين تعلمت شيئًا؛ ما زالت تسبح ببراءة لترحِّب بالزائرين؛ ما زالت تلقي عليهم التحيات وهم يقتربون من مواضع توالدها (تقول: «هُوْ! هُوْ!» للعالم كله مثل المورِّثات الصغيرة الفظة)، وتسمح لهم بالاقتراب منها ولمسها، والعبث بصدورها الملساء.
تتجوَّل بعيدًا عن المجموعة التي هبطت على الجزيرة، وبعد لحظة تجد نفسها على هضبة على الشاطئ، تعبر مساحةً مغطاة بالعشب.
فجأة، وعلى غير توقُّع يظهر شيء أمامها. تعتقد في البداية أنه صخرة ملساء بيضاء منقطة بالرمادي. ثم تكتشف أنه طائر، أكبر من كل الطيور التي سبق أن رأتها. تتعرف على المنقار الطويل المنخفض وعظم الصدر الهائل؛ قطرس.
ينظر إليها القطرس بثبات ودهشة، هذا ما يبدو لها. يبرز من تحته نسخة أصغر من المنقار الطويل نفسه. الفرخ أكثر عدوانية. يفتح منقاره ويُصدر صرخة تحذير، طويلةً مكتومة.
هكذا تبقى هي والطائران ينظران إليها وتنظر إليهما.
تفكِّر: «قبل الهبوط. لا بدَّ أنها كانت تبدو على هذا النحو قبل الهبوط. يمكن أن أفوِّت القارب وأبقى هنا. وأطلب من الربِّ أن يرعاني.»
ثمَّة شخص وراءها، تلتفت، إنها المطربة الروسية، ترتدي الآن معطف مطر أخضر غامقًا، والقلنسوة ليست على رأسها، شعرها تحت منديل.
تلفت نظر المرأة بصوت منخفض: «قطرس. هذه هي الكلمة الإنجليزية. لا أعرف ماذا تسمي هذه الطيور نفسها.»
تومئ المرأة. ينظر الطائر الكبير إليهما بهدوء، لا ينتابه خوف من الاثنتين أكثر ممَّا كان ينتابه من واحدة.
تقول: «هل إيمانويل معك؟»
– «لا. على السفينة.»
لا تبدو المرأة متحمِّسةً للكلام، لكنها تؤكِّد على أية حال: «أعرف أنك صديقته. أنا أيضًا، أو كنتُ، في الماضي. هل لي أن أسأل: ماذا ترين فيه؟»
سؤال غريب، صلف في أُلفته، إلى درجة الفجاجة. لكن يبدو لها أن أي شيء يمكن أن يقال على هذه الجزيرة، في زيارة لن تتكرر أبدًا.
تقول المرأة: «ماذا أرى؟»
– «نعم. ماذا ترين؟ ماذا تُحبين فيه؟ ما مصدر فتنته؟»
تهزُّ المرأة كتفيها. شعرها مصبوغ، تستطيع أن ترى ذلك الآن. أربعون لا تنقص يومًا، ربما تدعم عائلةً في وطنها الأصلي، إحدى تلك المؤسسات الروسية حيث الأم معوقة والأب يشرب كثيرًا ويضربها، وابن متسكع وابنة برأس حليق تضع أحمر الشفاه الأرجواني. امرأة يمكن أن تغني قليلًا لكنها في يوم من تلك الأيام، يوم قريب، ستكون فوق التل، تعزف بلالايكا لغرباء، تغنِّي هراءً روسيًّا، وتحصل على البقشيش.
– «إنه حر. هل تتحدثين الروسية؟ لا؟»
تهز رأسها.
– «الألمانية؟»
– «قليلًا.»
هل هي غيورة؟ كيف يمكن أن تكون؟ إلا أنه من الصعب أن تتقبَّل استبعادها من المباراة. كأنها طفلة مرةً أخرى وقد حان وقت نوم الطفلة.
الصوت. تعود أفكارها إلى كوالالامبور، حين كانت شابة، أو شابةً تقريبًا، حين قضت ثلاث ليالٍ في مهمة مع إيمانويل إجودو، وكان حينذاك شابًّا أيضًا. قالت له بسخرية: «الشاعر الشفهي. أرني ماذا يستطيع شاعر شفهي أن يفعل.» طرحها ونام فوقها، ووضع شفتيه على أذنيها، فتحهما، ونفث نفَسه في نفسها ليريها.