حياة الحيوان
ينتظر على البوابة عند وصول طائرتها. مضت سنتان منذ رأى أمَّه آخر مرة؛ يُصْدَم، رغمًا عنه، حين يرى كم شاخت. شعرها، الذي كان به بعض الخطوط الرمادية، ابيضَّ كله؛ تهدَّل كتفاها؛ ترهَّل لحمها.
لم يكونا قط عائلةً تصرِّح بعواطفها. بحضن وهمهمة ببعض الكلمات، تنتهي إجراءات التحية. في صمت يتبعان مسار المسافرين إلى صالة الحقائب، يلتقط حقيبتها، ويبدأ في قيادة سيارته تسعين دقيقة.
يُبدي ملاحظة: «رحلة طويلة. لا بدَّ أنكِ مُنهَكة.»
تقول: «جاهزة للنوم.» وفي الحقيقة، يغلبها النوم سريعًا في الطريق، رأسها يستند على النافذة.
تجدَّدت العداوات في الحال تقريبًا. أعدَّتْ نورما عشاءً خفيفًا. تلاحظ أمه أن ثلاثة أماكن فقط قد أُعِدَّت. تسأل: «ألن يأكل الأطفال معنا؟» تقول نورما: «لا، إنهم يأكلون في غرفة اللعب.» «لماذا؟»
السؤال ليس ضروريًّا لأنها تعرف الإجابة. الأطفال يأكلون منفصلين لأنَّ إليزابيث لا تحب أن ترى لحومًا على المائدة، بينما ترفض نورما أن تغيِّر طعام الأطفال ليتواءم مع ما تدعوه «الأحاسيس الرقيقة لأمك.»
«لماذا؟» تسأل إليزابيث كُسْتِلُّو مرةً ثانية.
ترمقه نورما بنظرة غاضبة. يتنهَّد. يقول: «أمي، الأطفال يتناولون دجاجًا على العشاء، هذا هو السبب الوحيد.»
تقول: «أوه. أرى.»
دُعيت أمُّه إلى أبليتون كوليج، حيث يعمل ابنها جون أستاذًا مساعدًا للفيزياء والفلك، لتلقي محاضرة جيتس السنوية، وتلتقي بطلبة الآداب. وحيث إن كُسْتِلُّو هو اسم أمه قبل الزواج، ولأنه لم يرَ قط سببًا لإعلان ارتباطه بها، لم يُعرَف وقت الدعوة أن إليزابيث كُسْتِلُّو، الكاتبة الأسترالية، لها ارتباط عائلي في مجتمع أبليتون. كان يفضِّل أن تستمر الأمور كما هي.
دُعيت هذه السيدة البدينة ذات الشعر الأبيض لِسُمعتها كروائية إلى أبليتون لتتحدَّث عن أيِّ موضوع تختاره: وقد لبَّت الدعوة واختارت أن تتحدَّث، ليس عن نفسها أو قصصها، كما يُحِبُّ دُعاتُها دون شكٍّ، لكن عن موضوع تهواه، عن الحيوانات.
لم يعلن جون برنارد عن ارتباطه بإليزابيث كُسْتِلُّو؛ لأنه يفضِّل أن يشق طريقه الخاص في العالم. ليس خَجلًا من أمه. على العكس، إنه فخور بها، برغم أنها تكتب عنه وعن أخته وأبيه الراحل في كتبها بطرق يراها مؤلمةً أحيانًا، لكنه ليس متأكدًا من أنه يريد أن يسمعها تتحدَّث مرةً أخرى عن موضوع حقوق الحيوان، خاصةً حين يعرف أنه سيتعرض بعد ذلك، في السرير، لتعليق ساخر من زوجته.
يؤمن بأنَّ لأمِّه الحقَّ في قناعاتها. إذا كانت تريد أن تقضي سنواتها الأخيرة في الدعاية ضد الوحشية تجاه الحيوانات؛ فهذا من حقِّها. بعد أيام قليلة، لحسن الحظ، ستكون في طريقها إلى وجهتها التالية، وسوف يستطيع العودة إلى عمله.
تنام أمه، في صباحها الأول في ولتهام، إلى وقت متأخر. يخرج لِيُلقي درسًا، يعود وقت الغداء، يأخذها بالسيارة في جولة حول المدينة. موعد المحاضرة في وقت متأخر بعد الظهيرة، وسيتبعها عشاء رسمي يُقيمه الرئيس، وسيحضره هو ونورما.
تقدِّم للمحاضرة إيلين ماركس من قسم اللغة الإنجليزية. لا يعرفها لكنه يفهم أنها كتبت عن أمه. يلاحظ، في مقدمتها، أنها لم تبذل أية محاولة للربط بين روايات أمه وموضوع المحاضرة.
ثم يأتي الدَّور على إليزابيث كُسْتِلُّو. تبدو له عجوزًا مرهقة. يحاول، وقد جلس في الصف الأمامي بجانب زوجته، أن يبثَّ القوة فيها.
تبدأ: «سيداتي ساداتي. مضت سنتان منذ آخر مرة تحدَّثت فيها في الولايات المتحدة. في المحاضرة التي ألقيتها حينذاك، كان عندي مبرِّر للإشارة للقاصِّ العظيم فرانز كافكا، وخاصةً إلى قصَّته «تقرير إلى أكاديمية»، عن قرد متعلِّم، اسمه رِدْ بيتر، يقف أمام أعضاء مجتمع متعلم يحكي قصة حياته؛ قصة ارتقائه من الحيوانية إلى شيء قريب من الإنسان. شعرتُ في تلك المناسبة أنني أنا نفسي أُشبه رِدْ بيتر قليلًا وقلتُ ذلك. هذا الشعور أقوى اليوم؛ لأسباب آمل أن تتَّضح لكم.»
«أودُّ أن أقول بدايةً إن ذلك لم يكن الهدف من ملاحظتي — ملاحظة أنني أشعر وكأنني رِدْ بيتر. لم أقصد ذلك بشكل تهكمي. إنها بالمعنى المباشر. أقول ما أعني. أنا امرأة عجوز. لم يعد أمامي وقت لأقول ما لا أعني.»
لا تتمتَّع أمُّه بأداء جيِّد. حتى كقارئة لقصصها الخاصة تفتقر للحيوية. كان يحيِّره دائمًا، وهو طفل، أن تلك المرأة التي كتبت كتبًا خالدة سيئة جدًّا وهي تحكي قصص ما قبل النوم.
يشعر، بسبب رتابة أدائها ولأنها لا ترفع رأسها عن الصفحة، أن ما تقوله بلا تأثير. إلا أنه يشعر؛ لأنه يعرفها، بما هي مقبلة عليه. لا يتطلَّع إلى ما هو آتٍ. لا يود أن يسمع أمه تتحدث عن الموت، بالإضافة إلى أنَّ لديه إحساسًا قويًّا بأنَّ رغبة جمهورها — الذي يتكوَّن، رغم كل شيء، من الشباب أساسًا — في الحديث عن الموت ربما تكون حتى أقل من رغبته.
تواصل: «بمخاطبتكم عن موضوع الحيوانات، سأمنحكم شرف تخطي وصف هلع حياتها وموتها. مع أنني ليس لديَّ سبب يجعلني أصدِّق أنكم تضعون في مقدمة اهتماماتكم ما يحدث للحيوانات في هذه اللحظة في وسائل الإنتاج (أتردَّد في أن أُسمِّيها بعد ذلك مزارع)، في السلخانات، في سفن الصيد، في المختبرات، في كل أرجاء العالم، سأسلِّم بأنكم تمنحونني القوة البلاغية لأُثير هذا الهلع وأُعيده إليكم بقوَّة كافية، وأتركه هناك، مذكِّرةً إياكم فقط بأن الهلع الذي أحذفه هنا هو، رغم ذلك، في مركز هذه المحاضرة.»
«قال الناس الذين عاشوا في القرى حول تربلنكا — معظمهم من البولنديين — إنهم لم يعرفوا ما كان يحدث في المعسكر؛ قالوا ذلك، لكنهم ربما خمَّنوا عمومًا ما كان يحدث، لم يعرفوا بالتأكيد. قالوا ذلك، لكن ربما عرفوا بمعنًى ما، وبمعنًى آخر لم يعرفوا، لم يتحمَّلوا أن يعرفوا؛ من أجل أنفسهم.»
«لم يكن الناس حول تربلنكا استثناءً. كانت هناك معسكرات في كلِّ أرجاء الرايخ، حوالي ستة آلاف في بولندا وحدها، وآلاف لا تُحصى في ألمانيا نفسها. عاش قليل من الألمان على بُعدٍ يزيد عن بِضعة كيلومترات من أحد المعسكرات. لم تكن كل المعسكرات معسكراتٍ للموت، معسكرات مخصصةً لإنتاج الموت، لكن الهلع كان ينتشر فيها كلها، هلع أفظع من أن يتحمل المرء معرفته؛ من أجل نفسه.»
«لا يعود ذلك إلى أن الألمان شنُّوا حربًا واسعة، وخسروها، إلى أن جيلًا معينًا منهم ما زال يُعتَبَر خارجًا بعض الشيء على الإنسانية، وعليه أن يقوم بعمل شيء متميِّز أو يكون شيئًا متميزًا قبل أن يكون من الممكن إعادة ضمِّهم تحت عباءة الإنسانية. فقدوا إنسانيتهم، في نظرنا، بسبب جهل معين متعمَّد من جانبهم. تحت ظروف حرب من النوع الذي شنَّه هتلر، ربما يكون الجهل آليةً مفيدة للبقاء، لكن ذلك عذر نرفض قَبوله، بصرامة أخلاقية جديرة بالإعجاب. في ألمانيا، كما نقول، تم عبور خط معين أخذ الناس أبعد من القتل المعتاد ووحشية الحرب إلى حالة لا يمكن إلا أن نَصِفَها بالإثم. لم يُنْهِ ثراءُ بنود المعاهدة ودفع التعويضات هذه الحالة من الإثم. على العكس، كما قلنا، استمرَّت علَّة الروح لتَصِمَ ذلك الجيل. وَصَمَتْ مواطني الرايخ الذين قاموا بأعمال شريرة، ووَصَمَتْ أيضًا أولئك الذين جهلوا، لسبب من الأسباب، تلك الأعمال. وَصَمَتْ، لأغراض خاصة، كل مواطني الرايخ. لم يكن هناك أبرياء إلا مَن كانوا في المعسكرات.»
«سِيقوا كالأغنام إلى المذبح.» «ماتوا كالحيوانات.» «قتلهم الجزارون النازيون.» يتردَّد شجب المعسكرات مليئًا بلغةِ الحظيرة والمذبح التي أحتاجها لمجرد أن أمهِّد الأرض للمقارنة التي أنا بصدد عقدها. كانت جريمة الرايخ الثالث، كما يقول صوت الاتهام، معاملة الناس مثل الحيوانات.
«نحن — حتى نحن في أستراليا — ننتمي إلى حضارة تمتدُّ جذورها بعمق في الفكر الديني الإغريقي والمسيحي اليهودي. ربما لا نؤمن، جميعًا، بالتدنيس، ربما لا نؤمن بالإثم، لكننا نؤمن بارتباطاتهما النفسية. نقبل يقينًا أنَّ النفس (أو الروح) التي تماسَّت مع معرفة آثمة لا يمكن أن تكون في حالة طيبة. لا نقبل أن يكون الناس الذين تجثم الجرائم على ضمائرهم أصحَّاء وسعداء. ننظر (أو تعوَّدنا أن ننظر) بازدراء لجيل معين من الألمان لأنهم مدنسون، بمعنًى ما؛ نرى في العلامات الحقيقية على حالتهم الطبيعية (شهيتهم المفتوحة، وضحكتهم النابعة من القلب) مدى تعمق التدنيس فيهم.»
«لم يكن من المتصوَّر، وليس من المتصوَّر، أن الناس الذين لم يعرفوا (بذلك المعنى الخاص) شيئًا عن المعسكرات يمكن أن يكون بشرًا بمعنى الكلمة. كانوا هم، في استعاراتنا المختارة، الحيوانيِّين وليس ضحاياهم. صاروا هم أنفسهم بمعاملة رفاقهم من الكائنات البشرية، الكائنات التي خُلقت على صورة الرب، معاملة البهائم، صاروا بهائم.»
«أخذتُ في جولة بالسيارة حول ولتهام هذا الصباح. تبدو بلدةً على قدر كافٍ من الجمال. لم أرَ هلعًا، أو معامل تُجري اختبارات على الأدوية، أو مزارع صناعية، أو سلخانات. نعم، أنا متأكدة من وجودها هنا. لا بدَّ أنها موجودة. إنها ببساطة لا تُعلن عن نفسها. إنها في كلِّ مكان حولنا وأنا أتكلم، إلا أننا، بمعنًى معين، لا نعرف شيئًا عنها.»
«لِأَقُلْ صراحةً: إنَّنا محاطون بمشروع انحلال ووحشية وقتل ينافس أي شيء كان الرايخ الثالث قادرًا عليه، ويتفوَّق عليه حقًّا، في أنَّ مشروعنا مشروع بلا نهاية، يتجدَّد، يجلب الأرانب والفئران والدواجن والماشية دون توقف إلى العالم لقتلها.»
«والمُمَاحَكة في الأمور التافهة، لادعاء أنه لا يوجد وجه للمقارنة. إن تربلنكا كانت — إذا جاز التعبير — مشروعًا ميتافيزيقيًّا لم يكرَّس إلا للموت والإبادة، بينما صناعة اللحوم مكرَّسة في النهاية من أجل الحياة (بمجرد موت ضحاياها، رغم كل شيء، لا تحرقها وتحولها إلى رماد أو تدفنها، لكنها على العكس تقطعها وتثلِّجها وتعلِّبها حتى يمكن استهلاكها بسهولة في بيوتنا)، ليست عزاءً لتلك الضحايا كما لو كان علينا — معذرةً لعدم استساغة ما يلي — أن نطلب من موتى تربلنكا أن يعذروا قتلاهم؛ لأنهم كانوا يحتاجون دهونهم لصناعة الصابون وشعورهم لحشو الفراش.»
«سامحوني، أكرِّر. تلك آخر نقطة مبتذلة أسجِّلها. أعرف كيف يمكن لحديث من هذا النوع أن يستقطب الناس، وليس لتسجيل نقطة مبتذلة إلا أن يجعله أسوأ. أودُّ أنْ أعثر على طريقة للتحدُّث إلى الرفاق من البشر، طريقة باردة لا ساخنة، فلسفية لا انفعالية، طريقة تجلب التنوير لا طريقة تسعى إلى تقسيمنا إلى محقين وآثمين، ناجين وملعونين، خراف وماعز.»
«أستطيع، كما قلتُ، العودة إلى تلك اللغة بطريقة غير أصيلة سبق استخدامها، وهو أفضل ما يمكن أن أقوم به. أستطيع أن أخبركم، على سبيل المثال، بما أعتقده بشأن حجة القديس توماس، لأن الإنسان وحده خُلِق على صورة الربِّ ويُشاطِر الربَّ كينونته، فإنَّ الطريقة التي نُعامل بها الحيوانات لا أهمية لها باستثناء أنَّ تعاملنا بوحشية مع الحيوانات قد يعوِّدنا على التعامل بوحشية مع البشر. أستطيع أن أسأل عمَّا يسلِّم القديس توماس بأنه جوهر الرب، وسيردُّ بأنَّ جوهر الربِّ هو العقل. وبالمثل أفلاطون، وبالمثل ديكارت، بطريقتيهما المختلفتين. يُبنَى الكون على العقل. الربُّ هو رب العقل. إن حقيقة أننا باستخدام العقل يمكن أن نفهم القواعد التي يعمل بها الكون تُثبت أنَّ العقل والكون من جوهر واحد. وحقيقة أن الحيوانات لا يمكن، لأنها تفتقر إلى العقل، أن تفهم الكون، وعليها ببساطة أن تتبع قواعده دون تبصُّر، تثبت أنها، على عكس الإنسان، جزءٌ منه، لكنها ليست جزءا من كينونته؛ الإنسان رباني، والحيوانات شيئية.»
«وتلك، كما ترون، هي المعضلة التي أواجهها بعد ظهيرة هذا اليوم. يخبرني العقل وسبعة عقود من خبرة العمر أنَّ العقل ليس جوهر الكون أو جوهر الربِّ. على العكس، يبدو العقلُ لي مُريبًا مثل جوهر الفكر الإنساني؛ أسوأ من ذلك، مثل جوهر نزعة واحدة في الفكر الإنساني. إن العقل جوهرُ نطاقٍ معين من التفكير الإنساني. وإذا كان الأمر كذلك، إذا كان ذلك هو ما أومن به، إذن لماذا يكون عليَّ أن أنحني للعقل بعد ظهيرة هذا اليوم وأَقْنع بتطريز خطاب الفلاسفة القدماء؟»
«أطرح السؤال وأقدِّم إجابته لكم. أو بالأحرى، أسمح لِرِدْ بيتر، رِدْ بيتر كافكا، بأن يقدِّم إجابته لكم. أنا هنا الآن، هكذا يقول رِدْ بيتر، في بدلتي الرسمية وربطة عنق وملابسي الداخلية السوداء وفتحة في مقعدي ليندس فيها ذيلي (أُبْعِدُه عنكم بحيث لا ترونه)، أنا هنا الآن، ماذا أفعل؟ هل لي في الحقيقة حقُّ الاختيار؟ إذا لم أُخْضِعْ خطابي للعقل، مهما يكن، ماذا يتبقَّى لي سوى أن أُثرثر وأنفعل وأنقر على كوب الماء وأجعل نفسي قردًا باختصار؟»
«يُعتقَد على نطاق واسع أن رَمانوجان أعظم رياضي بالفطرة في عصرنا؛ أي، كرجلٍ علَّم نفسه ما اعتقده في الرياضيات، وكان المفهوم المضني للبرهان أو الإثبات الرياضي غريبًا بالنسبة له. وتبقى نتائج كثيرة من نتائج رَمانوجان (أو تخميناته، كما يسميها منتقدوه) بدون إثبات، مع أن كل الفرص تؤكِّد صحتها.»
«وماذا عن رِدْ بيتر (أعني رِدْ بيتر التاريخي)؟ كيف لنا أن نعرف أن رد بيتر، أو الأخت الصغيرة لِرِدْ بيتر، وقد أطلق الصيادون النار عليها في أفريقيا، لم يفكروا بالطريقة نفسها التي كان يفكر بها رَمانوجان في الهند، ولا يقولون مثله إلا القليل؟ هل الاختلاف بين ج. ﻫ. هاردي، من ناحية، ورَمانوجان الأبكم ورِدْ سالي البكماء، من الناحية الأخرى، يكمن فقط في أن الأول مطَّلِع على بروتوكولات الرياضيات الأكاديمية بينما الآخران غير مُطَّلِعَين عليها؟ هل نقيس بهذه الطريقة القرب من الربِّ أو البُعد عنه، عن جوهر العقل؟»
«كيف يُلقِي الجنس البشريُّ، جيلًا بعد جيل، كادر المفكرين أبعد قليلًا عن الربِّ من رَمانوجان لمجرد أنهم يستطيعون، بعد اثني عشر عامًا من التعليم المدرسي المخطط وستة من التعليم الجامعي، المساهمة في حل رموز كتاب الطبيعة العظيمة بواسطة فرعَي الفيزياء والرياضيات؟ إذا كان جوهر الإنسان متَّحدًا مع جوهر الرب، ألا يجب أن يكون مدعاةً للشك أن البشر يقضون ثمانية عشر عامًا، تمثِّل جزءًا رائعًا وطيِّعًا من عمر الإنسان؛ لتأهيلهم لحل رموز المخطوطة الرئيسية للرب، بدلًا من خمس دقائق، على سبيل المثال، أو خمسمائة سنة؟ هل يمكن ألا تكون تلك الظاهرة التي نفحصها هنا، بدلًا من ازدهار المَلَكة التي تتيح مدخلًا إلى أسرار الكون، نزعة التخصُّص في تراثٍ ثقافي يجدِّد نفسه بصورة محدودة إلى حدٍّ ما، وتكمن براعته في الاستنتاج، بالضبط كما تكمن براعة لاعبي الشطرنج في لعب الشطرنج، نزعةً تحاول لدوافعها الخاصة أن تقيم في مركز الكون؟»
«ومع أنني أرى أن أفضل الطرق لِنَيْل القَبول من هذا الجمع المتعلِّم أن ألتحق، مثلما يجري تيارُ رافدٍ إلى نهر كبير، بالخطاب الغربي الكبير عن الإنسان مقابل البهيمة، عن العقل مقابل اللاعقل، لكن شيئًا داخلي يقاوم، ويرى في تلك الخطوة انسحابًا من المعركة كلها.»
«لأن العقل، حين يراه من الخارج كائنٌ غريب عنه، مجرَّد حشو ضخم. سوف يثبت العقل، بالطبع، صحة أن العقل هو المبدأ الأول للكون — هل يمكن أن يفعل شيئًا آخر؟ يخلع تاجه؟ إن نُظُم الاستنتاج، كنظمٍ كليةٍ، لا تتمتع بتلك القدرة. إذا كان هناك موضع يمكن أن يهاجمه العقل ويخلع تاجه، فقد احتل العقل بالفعل هذا الموضع؛ وإلا فهو ليس كليًّا.»
«كان صوت الإنسان، وقد ارتفع بالعقل في العصور الغابرة، يواجهه زئير الأسد وخوار الثور، وكسب تلك الحرب، بالتأكيد، بعد أجيال كثيرة. اليوم فقدتْ هذه المخلوقات قوَّتها. لم يتبقَّ للحيوانات إلا صمتُها تواجهنا به. يرفض أسرانا، جيلًا بعد جيل، ببطولة، الحديث معنا. الإنقاذ لِرِدْ بيتر، الإنقاذ للقرود العظيمة.»
«ليس هذا ما كان رِدْ بيتر يكافح من أجله حين كتب، من خلال كاتبه فرانز كافكا، تاريخ الحياة التي افترض أن يقرأه، في نوفمبر ١٩١٧، أمام أكاديمية العلوم. بصرف النظر عن أي شيء آخر ربما حدث، لم يكن تقريره إلى الأكاديمية توسلًا لأن يُعامَل كما يُعامَل إنسانٌ معوق ذهنيًّا، إنسان بسيط.»
«لم يكن رِدْ بيتر باحثًا في سلوك الرئيسات، لكنه كان حيوانًا جريحًا يحمل علامةً يقدِّم نفسه لمجموعة من الأكاديميين، كدليلٍ ناطق. لستُ فيلسوفًا يتناول العقل، لكنني حيوان أعرض، ما لم يُعرَضْ بعدُ، على مجموعة من الأكاديميين، جرحًا، أواريه تحت ملابسي، لكنني أُلمِّح إليه في كلِّ كلمة أقولها.»
«لستُ متخصصةً في كافكا، لستُ متخصصةً على الإطلاق. لا يتأسس وضعي في العالم على ما إن كنتُ على صواب أم على خطأ في ادِّعاء أن كافكا قرأ كتاب كوهلر، لكنني أود أن أعتقد أنه قرأه، والتتابع الزمني يجعل تخميني مقبولًا على الأقل.»
«أُسِر رِدْ بيتر، طبقًا لتعليقه نفسه، على الأرض الأفريقية على أيدي صيادين متخصِّصين في تجارة القرود، ونُقل عبر البحر إلى معهد علمي. وهكذا كانت القردة التي أجرى كوهلر تجاربه عليها. قضى كلٌّ من رِدْ بيتر وقرود كوهلر فترة تدريب بهدف أنسنتها. اجتاز رِدْ بيتر تدريبه بتفوُّق، إلا أنَّ ذلك كان مقابل ثمن شخصي باهظ. تتناول قصة كافكا هذا الثمن: نعرفه من مواضع التهكُّم والصمت في القصة. اجتازت قرود كوهلر تدريبها بنجاح أقل، إلا أنها اكتسبت على الأقل بعض المعارف السطحية.»
«دعوني أُعِدْ عليكم بعض ما تعلمته القردة في تنريف من أستاذها ولفجانج كوهلر، وخاصةً سلطان، أنبغ تلاميذه، بمفهوم معين لنموذج رِدْ بيتر.»
«سلطان وحده في حظيرته، جائع: الطعام الذي يصل عادةً بانتظام لم يصل لسبب غير مبرَّر.»
«يتوقف الرجل الذي اعتاد أن يُطعمه عن إطعامه ويضع سلكًا على الحظيرة على ارتفاع ثلاثة أمتار عن مستوى الأرض، ويعلِّق فيها سباطة موز. يجرُّ إلى الحظيرة ثلاثة صناديق من الخشب، ثم يختفي، مغلقًا الباب وراءه، إلا أنه يبقى في مكان قريب، بحيث يمكن للمرء أن يشمه.»
«يعرف سلطان: يفترض أن المرء يفكر الآن. لهذا يوجد الموز في مكان مرتفع. الموز موجود ليجعل المرء يفكِّر، لينبِّه المرءَ لحدود تفكيره. لكن فيم يجب على المرء أن يفكر؟ يفكر المرء: لماذا لم يعد يحبني؟ يفكر المرء: لماذا لم يعد يحتاج إلى هذه الصناديق؟ لكن لا شيء من هذا التفكير صحيح. ربما حتى فكرة أكثر تعقيدًا — على سبيل المثال: ماذا أصابه، ما الخطأ في تصوره لي، ما يجعله يؤمن أن الوصول إلى موز معلَّق في سلك أسهل لي من الْتقاط الموز من الأرض؟ — خطأ. الفكرة الصحيحة أن أفكِّر في: كيف يمكن للمرء أن يستخدم الصناديق للوصول إلى الموز؟»
«يجر سلطان الصناديق تحت الموز، ويضعها واحدًا فوق الآخر. يتسلق البرج الذي شيَّده، ويشد الموز. يفكر: الآن يتوقف عن عقابي؟»
«الإجابة: لا. في اليوم التالي يعلِّق الرجل سباطةً من الموز الطازج في السلك، لكنه أيضًا يملأ الصناديق بالحجارة؟ يُفترَض أن يفكر المرء: لماذا ملأ الصناديق بالحجارة؟ يُفترَض أن يفكر المرء: كيف يستخدم المرء الصناديق للوصول إلى الموز برغم أنها ممتلئة بالحجارة؟»
«يبدأ المرء في إدراك كيف يعمل ذهن الرجل.»
«يفرغ سلطان الصناديق، ويشيد برجًا من الصناديق. يتسلَّق البرج، ويشد الموز.»
«يبقى سلطان جائعًا طوال الفترة التي يستمر فيها في التفكير الخطأ. إنه جائع حتَّى تشتدَّ عليه آلام الجوع بشكل كبير، بحيث تسيطر عليه وتُرغمه على أن يفكر بشكل صحيح؛ أي: كيف يحصل على الموز؟ هكذا تُختبر القدرات الذهنية للشمبانزي إلى أقصى حد.»
«يُسقط الرجل سباطة الموز على بُعد متر خارج سلك الحظيرة، ويرمي عصًا في الحظيرة. التفكير الخطأ: لماذا توقَّف عن تعليق الموز في السلك؟ التفكير الخطأ (إلا أنه تفكير خطأ صحيح): كيف يستخدم المرء الصناديق للوصول إلى الموز؟ التفكير الصحيح: كيف يستخدم المرء العصا للوصول إلى الموز؟»
«في كلِّ دَورة يُدفَع سلطان ليفكِّر تفكيرًا أقلَّ جاذبية. من صفاء التخمين (لماذا يتصرَّف الرجال على هذا النحو؟) يُدفع بقسوة باتجاه العقل الأدنى، العملي، الإجرائي (كيف يستخدم المرء هذا ليحصل على ذلك؟)، وهكذا باتجاه أن يَقْبَل نفسَه أساسًا ككائن له شهية تحتاج إلى إشباع. ومع أن تاريخه الكامل، منذ إطلاق النار على أمه وأسْره، عبر رحلته في قفص ليُسجن في معسكر في هذه الجزيرة والألعاب السادية التي تُلعب حول الطعام هنا، تقوده إلى طرح أسئلة عن عدل الكون وموضع هذه المستعمرة العقابية فيه، نظام سيكولوجي مخطَّط بعناية يُبعده عن الأخلاقيات والمسائل الميتافيزيقية باتِّجاه الأمور المتواضعة للعقل العملي. ولا بدَّ أن يُدرك بشكل ما، وهو يتحرَّك في هذه المتاهة، متاهة التقييد والتلاعب والازدواجية، أنه يستسلم بجسارة غير مبرَّرة؛ لأن على كاهله تقع مسئولية تمثيل القرود. ربما يتحدَّد مصير إخوته وأخواته بمدى إتقانه لما يؤديه.»
«ربما كان ولفجانج كوهلر رجلًا طيبًا، رجلًا طيبًا لكنه لم يكن شاعرًا. ربما صنع الشاعر شيئًا من اللحظة التي قفزت فيها أَسْرَى الشمبانزي حول المستعمرة في دائرة، حيث العالم كله مثل فرقة عسكرية، بعضها عارٍ كيوم ولدتها أمهاتها، بعضها مزيَّن بحبال وبعضها بمِزَقٍ قديمة من القماش قامت بالتقاطها، بعضها يحمل قطعًا من النفايات.»
«لا شيء في الحياة السابقة للقرود جعلها تتعوَّد على النظر إلى أنفسها من الخارج، وكأنها تنظر بعيني كائن لا يوجد. هكذا يدرك كوهلر أن الأشرطة والزبالة ليست للتأثير البصري؛ لأنها تبدو أنيقة، لكنها للتأثير الحركي، لأنها تجعلها تشعر بأنها مختلفة — أي شيء للتخلص من الضجر. هذا أقصى ما يستطيع كوهلر أن يذهب إليه، بكل تعاطفه وبصيرته؛ هنا يمكن لشاعر أن يبدأ بالتعاطف مع خبرة القرد.»
«لا يهتم سلطان، في جوهره الأكثر عمقًا، بمشكلة الموز. لا يرغمه على التركيز عليها إلا النظام الصارم الذي يفرضه المجرِّب. السؤال الذي يشغله حقًّا، كما يشغل الفأر والقطة وأي حيوان آخر وقع في جحيم المختبر أو حديقة الحيوانات، هو: أين بيتي؟ وكيف أصل إليه؟»
«قيسوا المسافة من قرد كافكا، بربطة العنق وسترة العشاء ورزمة ملاحظات المحاضرة، إلى هذا القطار الحزين من الأسرى الذين ينتشرون حول المعسكر في تنريف. كم سافر رِدْ بيتر بعيدًا! لكن يبقى أننا مؤهَّلون لنسأل: مقابل التطور المذهل الذي حقَّقه في الذكاء، مقابل تمكُّنه من آداب قاعة المحاضرات والخطابة الأكاديمية، ماذا كان عليه أن يقدِّم؟ الإجابة: كثير من التتابع، بما في ذلك السلالة. لو كان لدى رِدْ بيتر أي إحساس، لما كان يُنجب أي أطفال؛ لأنه مع قِرْدة يائسة وشبه مجنونة يُحاول معها آسروه، في قصة كافكا، لتعاشره، لا يمكن أن يكون أبًا إلَّا لمسخ. من الصعب أن نتخيَّل طفلًا لرِدْ بيتر بقدر صعوبة أن نتخيل طفلًا لفرانز كافكا نفسه. الهُجُن عقيمة، أو يجب أن تكون عقيمة؛ وقد رأى كافكا أنه هو ورِدْ بيتر مهجنان، كما ركبت أدوات التفكير الممسوخ، بشكل غير قابل للتفسير، على أجساد الحيوانات التي تعاني. إن النظرة التي نقابلها في كل الصورة الفوتوغرافية التي بقيت لكافكا نظرةُ دهشةٍ خالصة: دهشة، استغراب، إنذار. كافكا الأكثر زعزعةً في إنسانيته بين كل الرجال. هذه، يبدو أنه يقول: هذه صورة الرب؟»
تقول نورما بجانبه: «إنها مشتتة.»
– «ماذا؟»
– «إنها مشتتة. فقدت الخيط.»
«يقول مستر نَاجِل، مجرَّد أن نتخيَّل أننا نعيش كما يعيش خفاش، أن نتخيَّل أننا نقضي الليالي نطير حول الحشرات الفاتنة في أفواهنا، نُبحر بالصوت بدلًا من البصر، وأيامنا معلَّقة رأسًا على عقب — لا يكفي؛ لأنَّ كل ما يقال لنا ماذا يشبه أن تتصرف مثل خفاش؟ بينما ما يُلهمنا حقًّا أن نعرف ماذا يشبه أن نكون خفاشًا؛ لأن الخفاش خفاش، وهذا ما لا يُمكن أن نُنجزه لأنَّ عقولنا غير ملائمة لهذا الغرض، عقولنا ليست عقول خفافيش.»
«هكذا بدأنا سلسلةً تمتدُّ من المريخي من ناحية إلى الخفَّاش وإلى الكلب وإلى القرد (إلا أنه ليس رِدْ بيتر) وإلى الإنسان (إلا أنه ليس فرانز كافكا) من الناحية الأخرى؛ وفي كلِّ خطوة ونحن ننتقل عبر السلسلة من الخفاش إلى الإنسان تصبح إجابة السؤال: «ماذا يشبه بالنسبة لسين أن يكون سينًا؟» كما يقول ناجل، أسهل.»
«أعرف أن ناجل لا يستخدم الخفافيش والمريخيين إلا لمساعدته في طرح سؤاله الخاص عن طبيعة الوعي. لكنَّ لديَّ، مثل معظم الكُتَّاب، انطباعًا حَرْفيًّا عن الذهن؛ لذا أودُّ أن أتوقَّف عند الخفاش. حين يكتب كافكا عن قرد، أسلِّم بأنه يتحدَّث في المقام الأول عن قرد؛ حين يكتب ناجل عن خفاش، أسلِّم بأنه يكتب، في المقام الأول، عن خفاش.»
تتنهَّد نورما، التي تجلس بجانبه، تنهيدة غضب واهيةً بحيث لا يسمعها غيره، لكنه الوحيد المعنِيُّ بسماعها.
تقول أمه: «أعرف، في لحظات، ماذا يشبه أن أكون جثة. تصدني المعرفة. تملؤني بالهلع؛ أبتعد عنها، وأرفض أن أتسلى بها.»
«نمرُّ جميعًا بمثل هذه اللحظات، خاصةً حين يتقدَّم بنا العمر. معرفتنا ليست مجردة، «كلُّ البشر هالكون، وأنا كائن بشري، إذن أنا هالك،» لكنها مجسَّدة. للحظة نَكُون أحيانًا تلك المعرفة، نحيا المستحيل: نحيا أبعد من موتنا، ننظر خلفنا إليه، إلا أننا ننظر خلفنا كما يمكن فقط لروح ميتة أن تنظر.»
«ماذا أعرف، بأسلوب ناجل، حين أعرف، بهذه المعرفة، أنني سأموت؟ هل أعرف ماذا يشبه بالنسبة لي أنَّ أكون جثة، أم أعرف ماذا يشبه لجثَّة أن تكون جثَّة؟ يبدو الفرق تافهًا بالنسبة لي. أعرف ما لا يمكن لجثة أن تعرفه: إنها هامدة، لا تعرف شيئًا ولن تعرف شيئًا أبدًا. على سبيل المثال، قبل أن تنهار بنية معرفتي كلها هلعًا، أعيش هذا التناقض: ميتة وحية في الوقت ذاته.»
تصدر عن نورما شخرةً خافتة. يمسك بيدها، ويضغط عليها.
«نستطيع، نحن البشر، أن نفكِّر بهذه الطريقة، وربما بأكثر من هذا، حين نضغط على أنفسنا أو يُضغَط علينا. لكننا نقاوم الضغط الذي يقع علينا، ونادرًا ما نضغط على أنفسنا؛ لا نفكِّر في طريقنا إلى الموت إلا حين نصطدم بوجهه. أسأل الآن: إذا كنا قادرين على التفكير في موتنا، فلماذا بالله لا نكون قادرين على التفكير في خفاش نلقاه في الحياة؟»
«ماذا يشبه أن تكون خفاشًا؟ يقترح ناجل أننا نحتاج، قبل التمكن من الإجابة، إلى أن نكون قادرين على معرفة حياة الخفاش بحواس خفاش. لكنه مخطئ؛ أو يأخذنا، على الأقل، في مسار خطأ. أن تكون خفاشًا حيًّا هو أن تكون مفعمًا بالحياة؛ أن تكون خفاشًا بمعنى الكلمة يشبه أن تكون إنسانًا بمعنى الكلمة؛ ممَّا يعني أيضًا أن تكون مفعمًا بالحياة. تكون خفاشًا في الحالة الأولى، وإنسانًا في الثانية، ربما؛ لكن تلك الاهتمامات ثانوية. أن تكون مفعمًا بالحياة هو أن تعيش جسدًا وروحًا. البهجة من الأسماء التي تُطلق على خبرة الامتلاء بالحياة.»
«أن تكون حيًّا هو أن تكون روحًا حية. الحيوان — وكلنا حيوانات — روح مجسدة. هذا بدقةٍ ما رآه ديكارت، واختار إنكاره لأسباب تخصه. قال ديكارت: إن الحيوان يعيش كما تعيش الآلة. الحيوان ليس أكثر من الآلية التي تكوِّنه؛ إذا كانت له روح، فإن له روحًا بالضبط كما أن للآلة بطارية؛ لتمنحه الشرارة التي تحركه؛ لكن الحيوان ليس روحًا مجسَّدة، وطبيعة حياته ليست البهجة.»
«الامتلاء بالحياة حالة من الصعب أن تستمرَّ محبوسة. والحبس في سجن هو العقاب الذي يفضله الغرب ويبذل قصارى جهده لفرضه على بقية العالم بتحريم الأشكال العقابية الأخرى (الضرب والتعذيب والتشويه والإعدام) باعتبارها وحشيةً وغير طبيعية. بمَ يوحي ذلك لنا بشأن أنفسنا؟ يوحي لي بأن حرية الجسد في الحركة في المكان تُعتبر النقطة التي يمكن عندها للعقل أن يُلحق الأذى الأكثر إيلامًا وتأثيرًا في حياة الآخرين. ونحن، في الحقيقة، نرى على الكائنات التي ليست لديها القدرة على تحمُّل الحبس — الكائنات التي لا تتوافق مع الصورة التي يقدِّمها ديكارت عن الروح كحبة بسلَّة سجينة في محارة، التي يكون المزيد من الحبس غير ذي موضوع بالنسبة لها — نرى عليها التأثيرات الأكثر تدميرًا: في حدائق الحيوانات وفي المختبرات، المعاهد التي لا تتدفق البهجة فيها من الحياة في جسد أو مثل جسد، لكنها تأتي ببساطة من كونك كائنًا مجسَّدا لا مكان له.»
«السؤال الذي علينا أن نطرحه لا يجب أن يكون: هل لدينا شيء مشترك — العقل، الوعي بالذات، الروح — مع الحيوانات الأخرى؟ (مع بديهية أنه إن لم يكن هناك شيء مشترك فإننا مخوَّلون للتعامل معها كما نحب، نسجنها، نقتلها، ونمثِّل بجثثها). أعود إلى معسكرات الموت. ليس هلع المعسكرات؛ الهلع الذي يُقنعنا بأن ما جرى هناك كان جريمةً ضد الإنسانية، برغم اشتراك القتلة مع ضحاياهم، إلا أنهم عاملوهم وكأنهم قمل. الهلع أن القتلة رفضوا أن يتصوروا أنفسهم مكان ضحاياهم، كما فعل الآخرون جميعًا. قالوا: «إنهم في سيارات الماشية يوقظون الماضي.» لم يقولوا: «ماذا لو كنتُ أنا في سيارة الماشية؟» لم يقولوا: «أنا الذي في سيارة الماشية.» قالوا: «لا بدَّ أن الموتى الذين حُرقوا اليوم هم من جعل الهواء يفوح برائحة كريهة ويسقطون في الرماد على كرنبي.» لم يقولوا: «ماذا لو كنتُ أحترق؟» لم يقولوا: «أنا أحترق، أنا أسقط في الرماد».»
«إنهم، بتعبير آخر، أغلقوا قلوبهم. القلب موضع وظيفة، اسمها التعاطف، تجعلنا نشارك الآخرين كينونتهم أحيانًا. التعاطف لديه كل ما يقوم به مع الفاعل وليس لديه ما يقوم به مع المفعول به، «الآخر»، كما نرى في الحال حين نفكِّر في أنَّ المفعول به ليس مثل خفاش (هل يمكن أن أشارك الخفاش كينونته؟) ولكن كإنسان آخر. يوجد أناس لديهم القدرة على تخيُّل أنهم أناس آخرون، ويوجد أناس ليست لديهم هذه القدرة (حين يفتقرون إلى هذه القدرة تمامًا، نُسميهم سيكوباثيين)، ويوجد أناس لديهم هذه القدرة لكنهم يختارون ألَّا يستخدموها.»
«برغم توماس ناجل، الذي قد يكون رجلًا طيبًا، برغم توماس الإكويني ورينيه ديكارت، اللذين أجد معهما صعوبةً أكبر في التعاطف، لا يوجد حد للمدى الذي يمكن أن نتصور فيه أنفسنا مكان الآخر. لا توجد قيود على تخيل التعاطف. إذا كنتم تريدون برهانًا فتأملوا ما يلي. منذ بضع سنوات كتبتُ كتابا بعنوان «منزل في شارع إكليز». لأكتب ذلك الكتاب، كان عليَّ أن أفكر بطريقتي في وجود ماريون بلوم. ربما نجحتُ وربما لا. لا يمكن أن أتخيل لماذا دعوتموني إلى هنا اليوم لو لم أكن قد نجحتُ. على أي حال، القضية هي أن ماريون بلوم لم توجد قط. كانت ماريون بلوم من ابتكار مخيلة جيمس جويس. إذا كنت أستطيع أن أفكر بطريقتي في وجود كائن لم يوجد قط، فإنني أستطيع أن أفكر بطريقتي في وجود خفاش أو شمبانزي أو محارة؛ أي كائن أشاركه ركيزة الحياة.»
«أعود مرةً أخيرة إلى أماكن الموت من حولنا، المجازر التي نُغلق قلوبنا عليها، بجهد جماعي هائل. كل يوم هولوكوست جديد، إلا أنه، بقدر ما يمكن أن أرى، لا يمس جوهرنا الأخلاقي. لا نشعر بأننا ملوَّثون. يبدو أننا يمكن أن نفعل أي شيء ونبتعد طاهرين.»
«نتَّهم الألمان والبولنديين والأوكرانيين الذين عُرفوا والذين لم يُعرفوا بالأعمال الوحشية من حولهم. نحب أن نعتقد أنهم تأثروا داخليًّا بالتأثيرات اللاحقة لذلك النوع الخاص من الجهل. نحب أن نعتقد أنهم يرون في كوابيسهم من عانَوا؛ لأنهم رفضوا الدخول وقد عادوا ليطاردوهم. نحب أن نعتقد أنهم استيقظوا منهكين في الصباح وماتوا من سرطانات رهيبة. لكن من المحتمل أن الوضع لم يكن بهذه الصورة. يشير الدليل إلى الاتجاه العكسي: يمكن أن نفعل أي شيء ونفلت منه؛ لا يوجد عقاب.»
ترفع نورما يدها، محاوِلةً أن تقع تحت عين عميد الإنسانيات، الذي يرأس الجلسة.
يهمس: «نورما!» يهز رأسه بإلحاح. «لا!»
ترد عليه هامسة: «لماذا؟»
يهمس: «من فضلكِ، ليس هنا، ليس الآن!»
– «سوف تكون هناك مناقشة مستفيضة لمحاضرة ضيفتنا البارزة في ظهيرة يوم الجمعة — ترون التفاصيل في البرنامج — لكن مسز كُسْتِلُّو وافقت متعطفةً أن تتلقى سؤالًا أو اثنين من القاعة. هكذا؟» ينظر العميد حوله ببراعة. يقول: «أجل!» مشيرًا إلى شخص خلفهما.
تهمس نورما في أذنه: «من حقي!»
يرد عليها هامسًا: «من حقك، فقط لا تمارسيه، ليست فكرةً جيدة!»
– «لا يمكن أن يُسمح لها بأن تفلت! إنها مشوشة!»
– «إنها عجوز، إنها أمي. من فضلك!»
من خلفهما شخص يتحدث بالفعل. يلتفت فيشاهد رجلًا طويلًا ملتحيًا. يفكِّر، لا يعلم إلا الربُّ السببَ الذي جعل أمه توافق على تلقِّي أسئلة من القاعة. كان لا بدَّ أن تعرف أن المحاضرات العامة تجذب حمقى ومجانين كما ينجذب الذباب إلى جثة.
يقول الرجل: «ما لم يكن واضحًا لي هو ما تسعين إليه حقًّا. هل تقولين: إنَّ علينا أن نُغلق مصانع المزارع؟ هل تقولين إن علينا أن نتوقَّف عن أكل اللحوم؟ هل تقولين إن علينا أن نعامل الحيوانات بشكل أكثر إنسانية، ونقتلها بشكل أكثر إنسانية؟ هل تقولين إن علينا أن نتوقَّف عن إجراء التجارب على الحيوانات؟ هل تقولين إنَّ علينا أن نتوقف عن إجراء التجارب مع الحيوانات، حتى التجارب السيكولوجية التي لا ضرر منها مثل تجارب كوهلر؟ هل يمكن أن توضِّحي الأمر؟ شكرًا.»
توضِّح. ليس أحمقَ على الإطلاق. يمكن لأمه أن تقوم ببعض التوضيح.
تقول أمه: «كنتُ آمل ألا أتفوه بمبادئ. إذا كانت المبادئ هي ما تريد أن تخرج به من هذا الحديث، فسيكون ردِّي: افتح قلبك واستمع إلى ما يقول قلبك.»
يبدو أنها تريد أن تترك الأمر على هذا النحو. يبدو العميد مرتبكًا، ولا شك في أن السائل يشعر بالارتباك هو الآخر، ومن المؤكد أنه هو نفسه مرتبك. لماذا لا توجز وتقول ما تريد قوله؟
تَصمتُ. يسأل العميدُ: «هل هذه إجابة سؤالكَ؟» يهزُّ السائلُ كتفيه بقوة هزةً معبرة، ويجلس.
يتبقَّى العشاء وعليهما حضوره. سيكون على الرئيس خلال نصف ساعة أن يدعو للعشاء في نادي الكلية. بدايةً لم تتم دعوته هو ونورما، وبعد أن تمَّ اكتشاف أنَّ لإليزابيث كُسْتِلُّو ابنًا في أبليتون، أُضيفا إلى قائمة المدعوين. يظن أنهما سيكونان في مكان غير مناسب. سيكونان بالتأكيد من الأصغر والأقل شأنًا. ومن الناحية الأخرى، قد يكون أمرًا طيبًا بالنسبة له إذا حضر. ربما يكون في حاجة لحفظ الهدوء.
يأتي الرد على السؤال من المقالات الأخلاقية لبلوتارك. تحفظه أمه عن ظهر قلب؛ يمكن أن يستعيده لكن بشكل غير دقيق. «تسألني لماذا أرفض أكل اللحوم. وأنا، من ناحيتي، أندهش من أنك يمكن أن تضع في فمك جثَّة حيوان ميِّت. أندهش من أنك لا تجد مضغ اللحم الممزق وابتلاع عصائر الجراح الميتة أمرًا بشعًا.» بلوتارك متحدث بارع حقًّا: كلمة عصائر هي ما تفعل ذلك. استعادة بلوتارك مثل إلقاء قفاز؛ بعد ذلك، لا يُعرَف ماذا يحدث.
يتمنَّى لو لم تأتِ أمه. رائع أن يراها مرةً أخرى؛ رائع أن ترى أحفادها؛ رائع بالنسبة لها أن تحظى بالتقدير؛ لكن الثمن الذي يدفعه والثمن الذي ينتظر أن يدفعه إذا سارت الزيارة بصورة سيئة يبدو له ثمنًا باهظًا. لماذا لم تكن عجوزًا عادية تعيش حياةَ عجوزٍ عادية؟ إذا أرادت أن تفتح قلبها للحيوانات، لماذا لا تبقى في بيتها وتفتح قلبها لقططها؟
تجلس أمه وسط الطاولة، مقابل الرئيس جرارد. يجلس على بُعد مقعدين منها؛ ونورما عند طرف الطاولة. ثمة مكان واحد خالٍ، يتساءل لمن يكون.
يحكي روث أوركين، من قسم علم النفس، لأمه عن تجربة مع شمبانزي صغيرة شبَّتْ كإنسان. حين طلب من الشمبانزي أن تصنف الصور الفوتوغرافية في مجموعات، كانت تُصرُّ على وضع صورتها مع صور البشر بدل أن تضعها مع صور القرود. يقول أوركين: «ثمَّة إغواء بأن أقدِّم للقصة قراءةً بسيطة؛ أي إنها كانت تريد أن تعتقد أنها واحدة منا. إلا أن المرء، بوصفه عالمًا، عليه أن يحتاط.»
تقول أمه: «أوه، أوافق. للمجموعتين معنًى أقل وضوحًا في عقلها. أولئك الذين لهم حرية أن يجيئوا ويذهبوا مقابل أولئك الذين عليهم أن يبقوا محبوسين، على سبيل المثال. ربما كانت تقول إنها تفضِّل أن تكون ضمن الأحرار.»
يتدخَّل الرئيس جرارد: «أو ربما كانت تريد فقط أن تمتِّع حارسها، بالقول إنهما يبدوان متشابهين.»
يقول رجل أشقر ضخم، لم يستطع الْتقاط اسمه: «نظرة ميكافيلية إلى حد ما بالنسبة للحيوانات، ألَا تعتقدون ذلك؟»
تقول أمه: «ميكافيلي الثعلب، هكذا كان يدعوه معاصروه.»
يعترض الرجل الضخم: «لكن تلك قضية مختلفة تمامًا؛ الصفات الخرافية للحيوانات.»
تقول أمه: «أجل.»
تسير كل الأمور بقدر كافٍ من السلاسة. قُدِّم لهم حساء القرع ولا أحد يشكو. هل يمكن أن يسترخي؟
يلاحظ جرارد: «من الشيِّق أن المجتمعات الدينية كثيرًا ما تختار أن تُعرِّف نفسها بما تحرِّمه من الأطعمة.»
تقول أمه: «أجل.»
– «أقصد، من الشيِّق أن يكون التعريف، على سبيل المثال: «نحن أناس لا نأكل الثعابين»، بدل أن يكون: «نحن أناس نأكل السحالي.» «ما لا نفعل بدلًا مما نفعل.» كان جرارد قبل الانتقال إلى الإدارة متخصصًا في علم السياسة.»
يقول ووندرليتش، وهو بريطاني رغم اسمه: «كلها أمور تتعلَّق بالطهارة والنجاسة. حيوانات طاهرة وحيوانات نجسة، عادات طاهرة وعادات نجسة. يمكن أن تكون النجاسة وسيلة بارعة جدًّا في تحديد من ينتمي إلينا ومن لا ينتمي، مَنْ مِنَّا ومَنْ ليس منا.»
يتدخل هو نفسه: «النجاسة عار. الحيوانات لا تعرف العار.» يندهش حين يسمع نفسه يتكلم، لكن لماذا لا؟ تسير الأمسية بشكل رائع.
يقول ووندرليتش: «بالضبط، لا تواري الحيوانات ما تُفرزه، تمارس الجنس في العراء، ليس لديها إحساس بالعار، نقول: هذا ما يجعلها مختلفةً عنَّا. لكن يبقى أن النجاسة هي الفكرة الأساسية. للحيوانات عادات نجسة؛ لذا يتم استبعادها. العار يصنع أناسًا مثلنا، عار النجاسة. آدم وحواء: أسطورة الخلق. قبل ذلك كنا جميعًا مجرد حيوانات نعيش معًا.»
لم يسمع ووندرليتش قبل ذلك قط. يُحبه، يحب جديته وتمتمته. أسلوب أكسفورد. متحرر من الثقة الأمريكية بالذات.
تعترض أوليفيا جرارد، زوجة الرئيس، الرائعة: «لكن الآلية لا يمكن أن تعمل بهذا الشكل. إنها بالغة التجريد، فكرة تفتقر إلى الحياة تمامًا. الحيوانات مخلوقات لا نمارس الجنس معها؛ هكذا نفرق بيننا وبينهم. تصيبنا الفكرة الحقيقية عن الجنس معها بالقشعريرة. هذا هو المستوى الذي تكون عنده نجسة — كلها. لا نختلط بها. نحتفظ بالطاهر بعيدًا عن النجس.»
يأتي صوت نورما: «لكننا نأكلها. نختلط بها. نهضمها. نحوِّل لحمها إلى لحمنا. وهكذا لا يمكن أن تعمل الآلية بهذا الشكل. ثمة أنوع محددة من الحيوانات لا نأكلها. من المؤكد أن تلك هي الحيوانات النجسة، لا الحيوانات عمومًا.»
إنها، بالطبع، على حق. لكنها مخطئة: خطأً جرَّ المناقشة إلى موضوع على الطاولة أمامهم؛ الطعام.
يتكلم ووندرليتش مرةً أخرى: «كان لدى الإغريق شعور بأن هناك شيئًا خطأً في الذبح، لكنهم كانوا يعتقدون أنه يمكن التغلب عليه ببعض الطقوس. قدَّموا قرابين وأعطَوا نسبةً للآلهة؛ آملين بذلك أن يحفظوا لهم البقية. مفهوم العشور نفسه. اطلب بركة الآلهة على اللحم الذي أنت على وشك أن تأكله، واطلب منهم أن يُعلنوا طهارتها.»
تقول أمه: «ربما هذا هو أصل الآلهة.» يخيم الصمت. «ربما اخترعنا الآلهة حتى نستطيع أن نلقي باللائمة عليهم. يُعطون لنا الإذن بتناول اللحوم، يعطون لنا الإذن باللعب مع أشياء نجسة. ليس خطأنا، إنه خطؤهم. لسنا سوى أبنائهم.»
تسأل مسز جرارد بحذر: «هل هذا ما تؤمنين به؟»
– «قال الرب: كل دابة حية ستكون لحمًا لكم»، تقتبس أمه. «أمر مريح. قال لنا الرب إنه حسن.»
يخيِّم الصمت مرةً أخرى. إنهم في انتظار أن تواصل. إنها، رغم كل شيء، المسلِّية المدفوعة الأجر.
تقول أمه: «نورما على حق. المشكلة أن نحدِّد اختلافنا عن الحيوانات عمومًا، وليس عن الحيوانات التي توصف بالنجاسة. التحريم لحيوانات معينة — الخنازير وما شابه — اعتباطي تمامًا. إنه ببساطة دليل على أننا في منطقة خطرة. حقل ألغام، في الحقيقة. حقل ألغام التحريم الغذائي. لا يوجد منطق لتابو، كما لا يوجد منطق لحقل ألغام — ولا يُقصد إلى أن يكون هناك منطق لهما. لا تستطيع أبدًا أن تخمِّن ماذا يمكن أن تأكل أو أين يمكن أن تخطو إلا إذا كنت تحت سيطرة خريطة، خريطة إلهية.»
تعترض نورما من على طرف الطاولة: «لكن ذلك مجرَّد أنثروبولوجيا. إنه لا يقول شيئًا عن سلوكنا اليوم. لم يَعُدِ الناسُ في العالم الحديث يقرِّرون ما يأكلون بناءً على إذن إلهي معهم. إذا كنا نأكل الخنزير ولا نأكل الكلب، فإن ذلك يرجع ببساطة إلى الطريقة التي تربَّينا عليها. ألا توافقين، إليزابيث؟ مجرَّد نمط من أنماط سلوكنا.»
إليزابيث. إنها تدَّعي الود، لكن أية لعبة تلعبها؟ هل هناك مصيدة تجرُّ أمَّه إليها؟
تقول أمُّه: «ثمَّة اشمئزاز. ربما نكون قد تخلصنا من الآلهة لكننا لم نتخلص من الاشمئزاز، وهو نسخة من الهلع الديني.»
تعترض نورما: «لكن الاشمئزاز ليس عالميًّا. الفرنسي يأكل الضفادع. الصيني يأكل أيَّ شيء. لا يوجد اشمئزاز في الصين.»
أمه صامتة.
«ربما تكون مجرَّد مسألة ما تعلمتِه في البيت، مسألة ما سمحتْ لك أمك بتناوله وما لم تسمح لك بتناوله.»
تهمهم أمه: «ما كان طاهرًا لنأكله وما لم يكن طاهرًا.»
صمت.
تؤكِّد نورما: «إنَّ تحريم اللحوم في النزعة النباتية ليس إلا شكلًا متطرفًا من التحريم الغذائي، والتحريم الغذائي طريقة سريعة وبسيطة تعرِّف بها مجموعة من النخبة نفسَها. عادات الآخرين على المائدة نجسة، لا يمكن أن نأكل أو نشرب معهم.»
تقترب الآن من العظام حقًّا. ثمَّة قدر من المراوغة، ثمَّة قلق يلوح في الأفق. لحسن الحظ، انتهى الطعام — النهاش الأحمر، المكرونة الإسباكتي — والنادلات بينهم يرفعن الأطباق.
تسأل أمه: «هل قرأتِ السيرة الذاتية لغاندي، يا نورما؟»
– «لا.»
تقول نورما: «ما الهدف، إليزابيث؟ ما الهدف من القصة؟»
– «من الصعب تصوُّر أن نباتية غاندي مجرَّد تدريب على القوة. لقد حكمت عليه بالعيش على حافة المجتمع. كان على عبقريته الخاصة أن تدمج ما وجده على هذه الحواف مع فلسفته السياسية.»
يتدخَّل الرجل الأشقر: «على أية حال، غاندي ليس مثالًا جيدًا. كان من الصعب الالتزام بمذهبه النباتي. كان نباتيًّا نتيجة الوعد الذي قدَّمه لأمه. ربما حافظ على وعده، لكنه ندم وامتعض منه.»
تقول إليزابيث كُسْتِلُّو: «ألا تعتقدون أن الأمهات قد يكون لهنَّ تأثير كبير على أبنائهن؟»
لحظة صمت. حان وقته، الابن الطيب، ليتكلم. لا يتكلم.
يقول الرئيس جرارد، صابًّا الزيت على المياه المضطربة: «لكن مذهبك النباتي، مسز كُسْتِلُّو، ينبع من قناعة أخلاقية، أليس كذلك؟»
تقول أمه: «لا، لا أعتقد ذلك. ينبع من الرغبة في حماية روحي.»
يقول جرارد: «حسنًا، أُكِنُّ لهذا احترامًا عظيمًا، كأسلوب للحياة.»
تقول أمه: «أنتعلُ حذاءً جلديًّا، أحمل محفظة جلدية. ما كنتُ لأحترم ذلك احترامًا كثيرًا إذا كنتُ مكانك.»
يهمهم جرارد: «الاتِّساق. الاتِّساق بعبع العقول الصغيرة. من المؤكد أن المرء يستطيع التمييز بين أكل اللحوم وانتعال الجلد.»
تردُّ: «درجات من الفحش.»
يقول العميد أريندت، متدخلًا في المناقشة للمرة الأولى: «أنا أيضًا أُكِنُّ احترامًا عظيمًا للقواعد التي تتأسس على احترام الحياة. إنني مستعد لقَبول أن التابو الغذائي ليس مجرَّد عادات، لكن في الوقت نفسه لا بدَّ أن يقول المرء إن بنيتنا الفوقية من الاهتمام والإيمان كتاب مغلق بالنسبة للحيوانات نفسها. لا يمكن أن تشرحي لِعِجل أن حياته ستُنقَذ بأكثر مما يمكن أن تشرحي لِبَقَّة أنك لن تدوسي عليها. الأشياء، في حياة الحيوانات، سواء كانت أشياء جيدةً أو رديئة، تحدث فقط. ومن ثم، فإن المذهب النباتي صفقة غريبة، حين تفكِّرين فيها، لا يدرك المنتفعون بها أنهم منتفعون. وليس هناك أمل في أن يدركوا؛ لأنهم يعيشون في فراغ من الوعي.»
يتوقف أريندت. دَور أمه في الكلام، لكنها تبدو مرتبكة، شاحبةً ومرهقة ومرتبكة. يميل باتجاهها. يقول: «كان يومًا طويلًا يا أمي. ربما حان الوقت.»
تقول: «أجل، حان الوقت.»
يستفسر الرئيس جرارد: «ألا تريدين قهوة؟»
– «لا، ستجعلني مستيقظةً فقط.» ترد على أريندت: «من المهم إثارة هذه القضية. لا وعي ممَّا يمكن أن نتعرف عليه كوعي. لا إدراك، بقدر ما يمكن أن نرى، لذاتٍ لها تاريخ. ما أفكر فيه هو ما يأتي بعد ذلك على الأرجح. ليس لها وعي، وبالتالي، وبالتالي ماذا؟ وبالتالي نحن أحرار في تحقيق مآربنا الخاصة؟ وبالتالي نحن أحرار في قتلها؟ لماذا؟ ماذا يميِّز شكل الوعي الذي نعرفه بحيث يجعل قتل حامله جريمةً بينما يمر قتل الحيوان بدون عقاب؟ توجد لحظات …»
يتدخل ووندرليتش: «إذا لم نتذكَّر الأطفال …» يلتفت الجميع وينظرون إليه. «ليس لدى الأطفال وعي ذاتي، ومع ذلك نعتقد أن قتل طفل أكثر بشاعةً من قتل راشد.»
يقول أريندت: «وبالتالي؟»
– «وبالتالي كلُّ هذه المناقشة حول الوعي، وما إن كان للحيوانات وعي ليست سوى سحابة من الدخان. إننا في العمق نحمي النوع. ترحيب بأطفال الإنسان وامتعاض من أطفال الحيوانات. ألا تعتقدين ذلك مسز كُسْتِلُّو؟»
تقول إليزابيث كُسْتِلُّو: «لا أعرف ماذا أعتقد. كثيرًا ما أتساءل ما التفكير، ما الفهم. هل نعرف الكون حقًّا أفضل مما تعرفه الحيوانات؟ كثيرًا ما يبدو فهم شيء بالنسبة لي كاللعب بمكعَّب من مكعبات روبيك. بمجرد أن تضع كل القوالب الصغيرة بنشاط في مكانها، بسرعة، تفهم. تشعر إذا كنت تعيش داخل مكعب روبيك، لكن إذا كنت لا …»
ثمة صمت. تقول نورما: «اعتقدتُ …» لكنه يقف على قدميه عند هذه النقطة، يشعر بالراحة حين تتوقف نورما.
ينهض الرئيس، وينهض الآخرون جميعًا. يقول الرئيس: «محاضرة مدهشة، مسز كُسْتِلُّو. غذاء فكري دسم. نتطلع إلى عرض الغد.»