الفصل الرابع

حياة الحيوانات

(٢) الشعراء والحيوانات

تجاوزت الحادية عشرة. انعزلت أمُّه طوال الليل. هو ونورما تحتُ يُصلحون ما أفسده الأطفال، وبعد ذلك، لديه محاضرة عليه أن يُعِدَّها.

تسأل نورما: «هل ستذهب إلى السيمينار المُعدِّ لها غدًا؟»

– «عليَّ أن أذهب.»

– «ما موضوعه؟»

– ««الشعراء والحيوانات». هذا عنوانه، يُعِدُّ له قسم اللغة الإنجليزية. يعقدونه في غرفة السيمينار، ومن ثَمَّ لا أعتقد أنهم يتوقَّعون حضور عدد كبير من الجمهور.»

– «أنا سعيدة لأنه عن شيء تعرفه. أجد أن قَبول تفلسفها صعب.»

– «أوه. فيم تفكرين؟»

– «على سبيل المثال، ما كانت تقوله عن عقل الإنسان. يُفترَض أنها كانت تحاول أن تتحدَّث عن طبيعة الفهم العقلاني، أن تقول إنَّ الحسابات العقلانية ليست سوى نتاجٍ لبنية ذهن الإنسان؛ إنَّ للحيوانات حساباتهم الخاصة بما يتواءم مع بِنية أذهانهم، التي لا حيلةَ لنا في الوصول إليها لعدم وجود لغة مشتركة بيننا وبينها.»

– «وما الخطأ في ذلك؟»

– «سذاجة، جون. نوع من النسبية الضحلة السهلة التي تُثير إعجاب المبتدئين. احترام وجهة نظر كلِّ شخص في العالم، وجهة نظر البقرة في العالم، وجهة نظر السنجاب في العالم … وهلمَّ جرَّا. يقود هذا في النهاية إلى شلل فكري كامل. تقضي وقتًا طويلًا جدًّا في الاحترام بحيث لا يبقى لديك وقت للتفكير.»

– «أليس للسنجاب وجهة نظر في العالم. تشمل وجهة نظره في العالم البلوط والأشجار والطقس والقطط والكلاب والسيارات والسنجاب من الجنس الآخر. تشمل حساب طريقة تفاعل هذه الظواهر والطريقة التي عليه أن يتفاعل بها معها ليبقى على قيد الحياة. هذا كلُّ ما في الأمر. لا شيء أكثر من ذلك. هذا هو العالم بالنسبة للسنجاب.»

– «هل نحن على يقين من ذلك؟»

– «نحن على يقين منه بمعنى أنَّ مئات السنين من ملاحظة السنجاب لم تقدنا لاستنتاج غير ذلك. إذا كان هناك شيء آخر في ذهن السنجاب، فهو ليس قضيةً سلوكية يمكن ملاحظتها. إنَّ ذهن السنجاب، بشكل عمليٍّ، آلية بالغة البساطة.»

– «وهكذا كان ديكارت محقًّا؛ ليست الحيوانات سوى آلات بيولوجية.»

– «بشكل عام، نعم. لا يمكن، بشكل مجرَّد، التمييز بين ذهن حيوان وآلة تشبه ذهن حيوان.»

– «والبشر مختلفون؟»

– «جون، أنا مرهقة وأنت تثيرني. البشر يخترعون الرياضيات، يشيدون تليسكوبات، يحسبون، يبنون آلات، يضغطون زرًّا، حركة مفاجئة، تهبط سوجورنير١ على المريخ، كما توقعوا بالضبط؛ لهذا ليست العقلانية، كما تزعم أمك، مجرد لعبة. يمدُّنا العقل بالمعرفة الحقيقية عن العالم الحقيقي. تم اختباره، إنه فعَّال. أنت فيزيائي. لا بدَّ أنك تعرف.»

– «أوافق. إنه فعَّال، لكن ألا يبقى هناك موضع في الخارج يجعل عملنا وتفكيرنا ثم إرسال سفينة فضاء إلى المريخ يشبه إلى حدٍّ بعيد ما يفعله السنجاب حين يفكِّر ثم يندفع ويختطف بندقة؟»

– «لكن لا يوجد موضع من هذا القبيل! أعرف أن ذلك يبدو موضةً قديمة، لكن عليَّ أن أصرِّح به. لا يوجد موضع خارج العقل يمكنك أن تقف فيه وتلقي محاضرةً عن العقل وتتجاهل الحكم طبقًا للعقل.»

– «إلا موضع شخص سُلب منه العقل.»

– «هذه ليست سوى لاعقلانية فرنسية، شيء يمكن أن يتفوَّه به شخص لم يضع قدمه قط في مصحَّة عقلية ويرى ما يبدو عليه البشر الذين سُلبت منهم عقولهم حقًّا.»

– «إلا الرب.»

– «إذا كان الربُّ ربَّ عقلٍ. رب العقل لا يمكن أن يقف خارج العقل.»

– «أنا مندهش، نورما. تتحدثين مثل عقلاني عفا عليه الدهر.»

‏– «أنت لا تفهمني حقًّا. تلك هي الأرضية التي اختارتها أمك. هذه مصطلحاتها. أنا مجرد رد فعل.»

– «من الضيف الذي تغيَّب؟»

– «هل تقصد المقعد الخالي؟ إنه ستيرن، الشاعر.»

– «هل تظنين أن تغيبه كان اعتراضًا؟»

– «أنا على يقين من أنه كان كذلك. كان عليها أن تفكِّر مرَّتين قبل أن تستدعي الهولوكست. كان يمكنني أن أشعر بالأعناق تشرئبُّ من حولي بين كل الجمهور.»

كان المقعد الخالي اعتراضًا بالتأكيد. حين يذهب لدرسه الصباحي، يجد في صندوقه خطابًا موجَّهًا إلى أمه. يسلِّمه لها حين يعود إلى البيت ليصطحبها. تقرؤه بسرعة، وبتنهيدة تمرره إليه. تقول: «مَن هذا الرجل؟»

– «أبراهام ستيرن. شاعر. أعتقد أنه يحظى باحترام كبير. كان هنا لفترة طويلة جدًّا.»

يقرأ ملاحظة ستيرن، وكانت بخط اليد.

عزيزتي مسز كُسْتِلُّو

«اعذريني لعدم حضوري عشاءَ الليلة الماضية. قرأتُ كتبك وأعرف أنك شخصية خطيرة، ومن ثمَّ أثق في جِديَّة ما جاء في محاضرتك.

بدا لي أنَّ مسألة المشاركة في الخبز كانت في لبِّ محاضرتك. إذا كنا نرفض مشاركة جلادي أوتشفيتز٢ في الخبز، فهل يمكن أن نستمر في مشاركة جزَّاري الحيوانات في الخبز؟

افترضت لأهدافك الخاصة تشابهًا بين قتلى يهود أوروبا والماشية المذبوحة. قُتِل اليهود كالماشية، وبالتالي تموت الماشية كاليهود، كما تقولين. هذه خدعة بالكلمات ما كنتُ لأقبلها! سوء فَهم طبيعة التشابهات؛ يمكن حتى أن أقول إنك تسيئين فهمها بعناد يبلغ درجة الكفر. خُلق الإنسان مشابهًا للربِّ، لكن الربَّ لا يُشبه الإنسان. إذا عومل اليهود كالماشية، فإن ذلك لا يستتبع أن الماشية تُعامل كاليهود. العكس يُهين ذكرى الموتى، إنه يُتاجر أيضًا بهلع المعسكرات بشكل رخيص.

سامحيني إذا كنتُ صريحًا. قلتِ إنك عجوز ولم يعد لديك وقت تضيعينه في التأنق، وأنا أيضًا عجوز.»

المخلص
أبراهام ستيرن

يوصل أمَّه إلى مضيفيها في قسم اللغة الإنجليزية، ويذهب إلى لقاء. يمتدُّ اللقاء ويمتدُّ. أمامه ساعتان ونصف قبل أن يستطيع اللحاق بغرفة السيمينار في قاعة ستوبز.

تتحدَّث وهو يدخل. يجلس بهدوء قَدْرَ ما يستطيع قرب الباب.

تقول: «في ذلك النوع من الشعر ترمز الحيوانات للسمات الإنسانية: الأسد للشجاعة، والبومة للحكمة … وهلمَّ جرَّا. حتَّى في قصيدة ريلكه٣ يوجد النمر بديلًا لشيء آخر. إنه يذوب في رقصة الطاقة حول مركز، وهي صورة مستمدَّة من الفيزياء، فيزياء الجزيئات الأولية. لا يتجاوز ريلكه هذه النقطة — أبعد من النمر كتجسيد لنوع من القوة تنطلق في انفجار ذرِّيٍّ لكنَّه هنا لم يَعُدْ محبوسًا وراء قضبان القفص، ولكن بما تفرضه القضبان على النمر: قفزة مركزية تترك الإرادة في ذهول وخدر.»
نمر ريلكه؟ أيُّ نمر؟ لا بدَّ أن ارتباكه يظهر: الفتاة التي بجواره تدفع ورقةً مصورة تحت أنفه. ثلاث قصائد: قصيدة من تأليف ريلكه بعنوان «النمر»، والأخريان من تأليف تيد هوجز،٤ الأولى بعنوان «الجاجور»٥ والثانية بعنوان «لمحة ثانية على جاجور» ليس لديه وقت لقراءتها.

تواصل أمه: «يكتب هوجز ضد ريلكه. يستخدم المسرح نفسه في حديقة الحيوانات لكن الحشد من أجل التغيير هو الذي يقف مشدوهًا، وبينهم الرجل، الشاعر، تائهًا وهلِعًا ومسحوقًا، اندفعت قدراته على الفهم أبعد من حدودهم. نسخة الجاجور، على عكس نسخة النمر، ليست فظَّة. على العكس، تحفر عيناه ظلمة الفضاء. القفص ليس واقعًا بالنسبة له، إنه في مكان آخر، في مكان آخر لأن وعيه حركيٌّ لا مجرد؛ يحرِّكه اندفاع عضلاته في فضاءٍ يختلف تمامًا في طبيعته عن صندوق نيوتن ثلاثي الأبعاد، فضاء دائري يلف حول نفسه.»

«هكذا يتحسَّس هوجز — مُنَحِّيًا أخلاقيات حبس الحيوانات الكبيرة جانبًا — طريقَه نحو نوع مختلف من الوجود في العالم، نوع ليس غريبًا تمامًا عنَّا، حيث تبدو الخبرة أمام القفص وكأنها تنتمي إلى خبرة الحلم، خبرة محفوظة في اللاوعي الجمعي. في هذه القصائد لا نعرف الجاجور من الطريقة التي يبدو بها، نعرفه من الطريقة التي يتحرَّك بها. الجسد كما يتحرَّك الجسد، أو كما تتحرك فيه تيارات الحياة. تطلب منا القصائد أن نتخيل طريقنا في الحركة بتلك الطريقة، أن نسكن ذلك الجسد.»

«أؤكِّد، ليست قضية هوجز السكن في ذهنٍ آخر، قضيته السكن في جسدٍ آخر. هذا هو الشعر الذي أعرضه عليكم اليوم؛ شعر لا يحاول أن يعثر على فكرة في الحيوان، ليس عن الحيوان، لكنه بدلًا من ذلك تسجيل لارتباط به.»

«ما يميِّز هذا النوع من الارتباطات الشعرية أنها، بصرف النظر عن القوة التي تتمُّ بها، تبقى مسألةً مختلفة كليَّةً بالنسبة للموضوع الذي تتناوله. وهي تختلف، من هذه الناحية، عن قصائد الحب، حيث الهدف تحريك الموضوع.»

«لا يرجع ذلك إلى أنَّ تلك الحيوانات لا تهتمُّ بشعورنا نحوها. لكن حين نحوِّل تيَّار الإحساس الذي يتدفَّق بيننا وبين الحيوان إلى كلمات، فإننا نجرِّده إلى الأبد من الحيوان. وهكذا لا تكون القصيدة هِبةً لموضوعها، كما هو حال قصيدة الحب. إنها تقع في اقتصاد إنساني كامل لا يشارك فيه الحيوان. هل هذه إجابة على سؤالك؟»

يرفع شخص آخر يده، رجل طويل بنظارة. يقول إنه لا يعرف شعر تيد هوجز معرفةً جيدة، لكن آخر ما سمعه هو أن هوجز كان يدير مزرعةً للأغنام في مكان ما في إنجلترا، يربِّي الأغنام كمواضيع شعرية (ترتفع ضحكةً مكتومة في الغرفة)، أم إنه مربٍّ حقيقي يربي الأغنام للسوق. «كيف يتواءم ذلك مع ما جاء في محاضرتك بالأمس، حين بدا أنك أكثر براعةً في موقفك ضد قتل الحيوانات للحصول على لحومها؟»

ترد أمه: «لم أقابل تيد هوجز قط؛ لذا لا يمكن أن أخبرك أي مزارِع هو. لكن دعني أقدِّم إجابةً لسؤالك على مستوًى آخر.»

«ليس لديَّ سبب يجعلني أعتقد أن هوجز يؤمن بأنَّ اهتمامه بالحيوانات اهتمام فريد. على العكس، أتوقَّع أنه يعتقد أنه يستردُّ اهتمامًا كان لدى أجدادنا منذ زمن بعيد وفقدناه (يتصوَّر هذا الفقد بمصطلحات تطورية لا بمصطلحات تاريخية، لكنها مسألة أخرى). أخمِّن أنه يؤمن بأنه ينظر إلى الحيوانات نظرةً تشبه إلى حدٍّ بعيد النظرة التي اعتادها الصيادون في العصر الحجري الأول.»

«وهذا يضع هوجز في صفِّ الشعراء الذين يحتفون بالبدائي ويُدينون الانحراف الغربي نحو التفكير المجرد. في صفِّ بليك ولورانس، وصفِّ جاري سنيدر في الولايات المتحدة، أو روبنسون جون جفرز.٦ وهمنجواي أيضًا، في مرحلة الصيد ومصارعة الثيران.»

«إن مصارعة الثيران، على ما يبدو لي، تقدِّم لنا مفتاحًا. اقتل الوحش بكل الوسائل، كما يقولون، لكن اجعلها مسابقةً وطقسًا، وَحَيِّ منافسَك على قوته وبسالته. كلْه أيضًا، بعد أن تقهره؛ لكي تتغلغل فيك قوته وشجاعته. انظر في عينيه قبل أن تقتله، واشكرْه بعد ذلك. غنِّ أغاني عنه.»

«يمكن أن نصف هذا بالبدائية. من السهل انتقاده والسخرية منه. إنه مُذكَّر بعمق، ذكوري. لا بدَّ أن تشك في عواقبه في السياسة. ولكن بعد أن يقال كل شيء ويُفعَل، يبقى أن فيه شيئًا جذابًا على المستوى الأخلاقي.»

«إلا أنه غير عملي أيضًا. إنكم لا تُطعمون أربعة بلايين إنسان بجهود مصارعي الثيران أو صائدي الغزلان المسلحين بالسهام والأقواس. صار عددنا كبيرًا جدًّا. ليس هناك وقت لاحترام كل الحيوانات وتبجيلها، إننا نحتاج إلى إطعام أنفسنا. نريد مصانع للموت؛ نريد مصنع حيوانات. كشفت لنا شيكاغو عن الطريقة؛ من حظائر شيكاغو تعلَّم النازيون كيف يتعاملون مع الأجساد.»

«لكن، لأعد إلى هوجز. تقول: هوجز جزار برغم زخارف البدائية، وماذا أفعل في صحبته؟»

«رَدِّي هو أن الكتَّاب يعلِّموننا أكثر ممَّا يدركون. بتجسيد الجاجور، يوضِّح لنا هوجز أننا أيضًا يمكن أن نجسِّد الحيوانات — بعملية تسمَّى الإبداع الشعري، وهي عملية تمزج النفَس والحس بطريقة لم يفسِّرها أحد ولن يفسرها أحد أبدًا. إنه يوضِّح لنا كيف يجلب الجسد الحي إلى الوجود داخل أنفسنا. حين نقرأ قصيدة الجاجور، وحين نستعيدها بعد ذلك في هدوء، نكون الجاجور لبرهة قصيرة. يتموَّج فينا، يسيطر على جسمنا، إنه نحن.»

«بعيد جدًّا، رائع جدًّا. بما قلتُ إنه بعيد جدًّا لا أعتقد أن هوجز نفسه قد يختلف عليه. إنه يشبه إلى حدٍّ بعيد مزيجًا من الشامانية٧ والاستحواذ وسيكولوجيا النمط الأصلي التي يعتنقها هو نفسه. بتعبير آخر، خبرة بدائية (أن تكون وجهًا لوجه مع حيوان)، وقصيدة بدائية، ونظرية بدائية عن الشعر لتبريرها.»

«إنه أيضًا نوع من الشعر يمكن أن يستريح له الصيادون وأناس أسمِّيهم مدراء علم البيئة. حين يقف هوجز الشاعر أمام قفص الجاجور، فهو يتطلَّع إلى جاجور مفرد وتستحوذ عليه حياة ذلك الجاجور المفرد. لا بدَّ أنَّ الأمر على هذا النحو. سوف تفشل الجاجاور عمومًا، الجاجور كصنف فرعي، فكرة الجاجور، في تحريكه؛ لأننا لا يمكن أن نُحسَّ بما هو مجرَّد. إلا أنَّ القصيدة التي يكتبها هوجز قصيدة عن الجاجور، عن الجاجورية المتجسِّدة في هذا الجاجور. بالضبط كما يحدث بعد ذلك، حين يكتب قصائده الرائعة عن السلمون، إنها عن السلمون باعتباره شاغلًا مؤقتًا لحياة السلمون، السيرة الذاتية لحياة السلمون. وهكذا بالرغم من حيوية الشعر وأرضيته، يبقى فيه شيء أفلاطوني.»

«في الرؤية البيئية، يتفاعل السلمون وأعشاب النهر وحشرات الماء في رقصة عظيمة معقَّدة مع الأرض والطقس. الكلُّ أعظم من مجموع الأجزاء. في الرقصة، لكلِّ كائن دَور، وهذه الأدوار المتعددة، لا الكائنات التي تقوم بها، هي التي تشارك في الرقصة. وبالنسبة للدَّور الفعلي للاعبين، بقدر ما يتجددون بشكل ذاتي، بقدر ما يحافظون على تقدمهم، لا نحتاج إلى أن نعيرهم أي انتباه.»

«وصفتُ هذا بأنه أفلاطوني وأفعل ذلك مرةً أخرى. عيننا على المخلوق نفسه، لكن ذهننا على نظام التفاعلات التي تجعله تجسيدًا أرضيًّا ماديًّا.»

«سخرية مفزعة. فلسفة بيئية تطلب منَّا أن نعيش جنبًا إلى جنب مع المخلوقات الأخرى، وتبرِّر نفسَها باللجوء إلى فكرة؛ فكرة مرتَّبة أعلى من أيِّ كائن حي. فكرة أنه، في النهاية — وهذه هي الانعطافة الساحقة إلى السخرية — لا يوجد مخلوق قادر على الفَهم إلا الإنسان. كلُّ كائن حيٍّ يُقاتل من أجل حياته الفردية الخاصة، يرفض، بالقتال، أن يتقبَّل فكرة أن السلمون أو البعوضة من مرتبة أدنى في الأهمية من فكرة السلمون أو فكرة البعوضة. ولكن حين نرى السلمون يقاتل من أجل حياته، نقول: إنه مبرمج ليقاتل؛ نقول مع الأكويني: إنه مقيد في عبودية طبيعية؛ نقول: إنه يفتقر إلى الوعي الذاتي.»

«لا تؤمن الحيوانات بعلم البيئة. حتى علماء بيولوجيا الأعراق لا يدَّعون ذلك. حتى علماء بيولوجيا الأعراق لا يقولون إن النملة تضحِّي بحياتها لبقاء النوع. ما يقولونه مختلف اختلافًا دقيقًا: تموت النملة ووظيفة موتها بقاء النوع. حياة النوع قوَّة تعمل من خلال الفرد، لكن الفرد يعجز عن فَهمها. الفكرة بهذا المعنى فطرية، تعمل النملة بالفكرة كما يعمل الكمبيوتر ببرنامج.»

«نحن، مدراء البيئة — آسف لاستمراري على هذا النحو، أبتعد عن سؤالك، أعود إليه بعد لحظة — نحن المدراء نفهم الرقصة الأعظم، ومن ثم يمكننا أن نقرِّر كم تروتة٨ يمكن صيدها أو كم جاجور يمكن حبسه قبل أن يختلَّ استقرار الرقصة. الكائن الوحيد الذي لا ندَّعِي له هذه القوة على الحياة والموت هو الإنسان. لماذا؟ لأن الإنسان مختلف؛ الإنسان يفهم الرقصة بينما الراقصون الآخرون لا يفهمونها. الإنسان كائن ذكي.»

كان ذهنه، وهي تتكلم، مشتتًا. سمع ذلك من قبل، سمع منها هذا الكلام المعادي للبيئة. يفكر، قصائد الجاجور رائعة كلها، لكن لن تجد مجموعةً من الأستراليين يقفون حول خروف، يستمعون لمأمأته السخيفة، ويكتبون قصائد عنه. أليس ذلك هو المتوقع في مهمة حقوق الحيوانات كلها: أن تركب على ظهور الغوريلات الكئيبة والجاجاور الجذابة والبندات الهائلة؛ لأن مواضيع اهتمامها الحقيقي، الدجاج والخنازير، إذا تغاضينا عن الفئران البيضاء أو براغيث البحر، ليست جديرةً باهتمام الأخبار؟

الآن تطرح إلين ماركس، التي قدَّمت محاضرة الأمس، سؤالًا: «حاولتِ أن تبرهني في محاضرتك على أن معايير متنوعة — هل لهذا المخلوق عقل؟ هل هذا المخلوق قادر على الكلام؟ — استُخدمت بسوء نيَّة لتبرير اختلافات لا أساس لها، بين الإنسان والثدييات الأخرى، على سبيل المثال، ومن ثم تبرير الاستغلال.»

«إلا أن حقيقة أنك تستطيعين أن تجادلي ضد هذه الحج، كاشفةً زيفها، تعني أنك وضعت إيمانًا معينًا في قوة العقل، قوة العقل الحقيقي في مقابل العقل الزائف.»

«دعيني أحدد سؤالي بالإشارة إلى ليمويل جليفر.٩ يقدم لنا سويفت١٠ في «رحلات جليفر» رؤيةً ليوتوبيا العقل، للأرض التي تُدعى أرض الجياد، لكن يتبيَّن أنها موضع لا يوجد فيه بيت لجليفر، وهو الأقرب في تمثيل سويفت لنا؛ قرَّائه. لكن من منَّا يود أن يعيش في أرض الجياد، بمذهبها النباتي العقلاني وحكومتها العقلانية ومقاربتها العقلانية للحب والزواج والموت؟ هل يمكن حتى لحصان أن يرغب في العيش في مثل هذا المجتمع الشمولي المنظَّم بدقة؟ وما يعنينا أكثر: ماذا في سجل حلبة مجتمع منظم تنظيمًا كليًّا؟ أليست الحقيقة أنه قد ينهار أو يتحوَّل إلى مجتمع عسكري؟»

«وسؤالي بالتحديد هو: ألا تتوقعين الكثير جدًّا من الجنس البشري حين تطلبين منا أن نعيش بدون استغلال وبدون وحشية؟ أليس تقبُّل إنسانيتنا أكثر إنسانية — حتى إذا كان هذا يعني الترحيب بالياهو آكل اللحوم في داخلنا — من أن ننتهي إلى ما انتهى إليه جليفر، يتوق لحالة لا يمكن أن يصل إليها أبدًا، ولسبب وجيه: أليس هذا في طبيعته، التي هي طبيعة بشرية؟»

تردُّ أمه: «سؤال مهم؟ أرى أنَّ سويفت كاتب مخادع. على سبيل المثال، كتيِّبه «اقتراح متواضع» حين يحدث اتفاق تام بشأن كيفية قراءة كتاب، أصغي بانتباه شديد. في «اقتراح متواضع»، هناك اتِّفاق جماعي على أن سويفت لا يقصد ما يقول، أو ما يبدو أنه يقول. يقول، أو يبدو أنه يقول: إنَّ العائلات الأيرلندية يمكن أن تكسب قوتها من تنشئة الأطفال لموائد سادتهم الإنجليز. لكنه لا يمكن أن يقصد ذلك، كما نقول؛ لأننا جميعًا نعرف أن قتل الأطفال الآدميين وأكلهم أمر بشع. لكن الإنجليز، إذا واصلنا التفكير في الأمر، يقتلون، بمعنًى ما، الأطفال الآدميين بتركهم جياعًا. الإنجليز بشعون بالفعل إذا فكرنا في الأمر.»

«تلك هي القراءة الأرثوذكسية، إلى حدٍّ ما. لكنني أتساءل، لماذا ينحشر العنف المفعمة به حناجر القراء الصغار؟ تقرءون سويفت على هذا النحو، كما يقول مدرسوهم، بهذه الطريقة وليس بطريقة أخرى. إذا كان قتل الأطفال الآدميين وقتلهم بشعًا، لماذا لا يكون قتل الخنازير الصغيرة وأكلها بشعًا؟! إذا كنت تريدين سويفت ساخرًا سوداويًّا بدل أن يكون مؤلِّف كتيبات سهلة، فعليك بفحص الفرضيات التي تجعل حكايته الخرافية سهلة الهضم بهذه الصورة.»

«لِأَعُد الآن إلى «رحلات جليفر.»

«لديك الياهو من ناحية، الذين يرتبطون باللحم النِّيئ، رائحة الغائط وما اعتدنا أن ندعوه وحشية. ولديك الجياد على الأخرى، الذين يرتبطون بالعشب والروائح الطيبة وعواطف منظَّمة بشكل عقلاني. وبينهما لديك جليفر، الذي يريد أن يكون جوادًا لكنه يعرف سرًّا أنه واحد من الياهو. كل ذلك واضح تمامًا. والسؤال، كما هو الحال مع «اقتراح متواضع»، ماذا نفعل بذلك؟»

«ملاحظة. الجياد تلفظ جليفر. والسبب المزعوم أنه لا تنطبق عليه معايير العقلانية. والسبب الحقيقي أنه لا يبدو على شكل جواد، لكنه شيء آخر: إنه ياهو يرتدي ثيابًا. إن معيار العقل الذي طبَّقه أَكَلَة اللحوم ممَّن يمشون على قدمين لتبرير حالة خاصة لأنفسهم يمكن أن يطبِّقه بالمثل أكلة العشب ممَّن يمشون على أربع.»

«معيار العقل. بالنسبة لي يبدو أن «رحلات جليفر» تعمل في إطار التقسيم الأرسطي الثلاثي المكون من الآلهة والبهائم والبشر. طالما يحاول المرء أن يضع الممثلين الثلاثة في فصيلتين — مَن البهائم، من البشر؟ — لا يمكن للمرء أن يفهم الخرافة. ولا يمكن أيضًا للجياد أن يفهموها. الجياد آلهة هادئة وطيبة على شاكلة أبوللو. الاختبار الذي يطبقونه على جليفر: هل هو إله أم بهيمة؟ يشعرون أنه اختبار ملائم. ونحن، غريزيًّا، لا نشعر بذلك.»

«ما كان يحيرني دائمًا في «رحلات جليفر» — وهو منظور قد تتوقعونه من مستعمر سابق — أن جليفر يسافر وحده دائمًا. يذهب جليفر في رحلات استكشافية إلى أراضٍ مجهولة، لكنه لا يهبط على اليابسة مع مجموعة مسلحة، كما يحدث في الواقع، ولا يقول كتاب سويفت شيئًا عمَّا أتى بشكل طبيعي بعد الجهود الريادية التي قام بها جليفر: بعثات المتابعة، بعثات لاحتلال أرض الأقزام أو جزيرة الجياد.»

«السؤال الذي أطرحه هو: ماذا إذا كان جيلفر ومعه مجموعة مسلحة قد نزلوا إلى الشاطئ وأطلقوا النيران على بعض الياهو حين تعرضوا للتهديد، وأطلقوا النيران على حصان، للحصول على طعام؟ ماذا يكون تأثير ذلك على خرافة سويفت المتقنة جدًّا إلى حدٍّ ما، المتحررة جدًّا إلى حدٍّ ما، اللاتاريخية جدًّا إلى حدٍّ ما؟ من المؤكد أن ذلك كان سيصدم الجياد صدمةً قاسية، توضح وجود فصيلة ثالثة بجانب الآلهة والبهائم؛ أي الإنسان، وجليفر كان من قبلُ واحدًا منهم؛ وبالإضافة إلى ذلك، إذا كانت الجياد تمثِّل العقل، فإنَّ الإنسان يمثِّل القوة الجسدية.»

«الاستيلاء على جزيرة وذبح سكَّانها هو ما فعله، بالمناسبة، أوديسوس ورجاله على ترينيكا، الجزيرة المكرَّسة لعبادة أبوللو، وهو عمل عاقبهم عليه الإله بقسوة. ويبدو أن هذه القصة، بدَورها، تستدعي طبقات أعمق من الإيمان، حين كانت الثيران آلهةً وكان قتل إله وأكله يستنزلان اللعنة عليك.»

«هكذا — اعذروني على تشوش هذا الرد — أجل، لسنا جيادًا، ليس لنا جمالها النقي العقلاني العاري؛ على العكس، إننا من فصيلة فرعية من الرئيسات تنتمي للجياد، نُعرف بشكل آخر باسم الإنسان. تقولين إنه لا يوجد شيء تفعلينه إلا اعتناق هذا الوضع، تلك الطبيعة. حسن جدًّا، لنفعلْ ذلك. لكن لندفعْ أيضًا خرافة سويفت إلى حدودها ونعرف أن اعتناق وضع الإنسان، في التاريخ، استلزم ذبح جنس إلهي، أو — بتعبير آخر — كائنات مخلوقة إلهيًّا، وأننا نجرُّ، بهذه الطريقة، اللعنة على أنفسنا.»

•••

الثالثة وخمس عشرة دقيقة، ساعتان قبل آخر ارتباط لأمه. يسير معها إلى مكتبه بين طُرق مصفوفة بالأشجار، حيث تتساقط آخر أوراق الخريف.

«هل تؤمنين حقًّا، يا أمي، أن دروس الشعر ستغلق المجازر؟!»

– «لا.»

– «لماذا تفعلين ذلك إذن؟ قلتِ إنك مرهقة من كلام بديع عن الحيوانات، مبرهنةً بالقياس المنطقي أن لها أرواحًا أو أنها بلا أرواح. لكن أليس الشعر نوعًا آخر من الكلام البديع: يعبر عن الإعجاب بعضلات القطط الكبيرة شعرًا؟ ألم يكن رأيك في الكلام أنه لا يغير شيئًا؟ يبدو لي أن مستوى السلوك الذي تريدين تغييره مستوًى بدائي جدًّا، بدائي بدرجة لا تمكن الكلام من الوصول إليه. يعبر أكل اللحوم عن شيء عميق حقًّا في البشر، بالضبط كما هو الحال بالنسبة للجاجاور. لا تريدين أن يكتفي الجاجور بغذاء من فول الصويا!»

– «لأنه سيموت. لا يموت البشر إذا عاشوا على غذاء نباتي.»

– «لا، لا يموتون، لكنهم لا يريدون غذاءً نباتيًّا. يحبون أكل اللحوم. ثمَّة شيء يُرضيهم بشكل سلفي في ذلك. تلك هي الحقيقة الموجعة. بالضبط كما أنها حقيقة موجعة أن الحيوانات تستحق، بمعنًى ما، ما يحدث لها. لماذا تُضيعين وقتَك في محاولة لمساعدتها حين لا تريد أن تساعد أنفسها؟ دعيها تنضج في عصارتها على نار هادئة! إذا سُئِلتُ عن الموقف العام تجاه الحيوانات التي نأكلها، يمكن أن أقول: ازدراء! نعاملها معاملةً سيئة لأننا نحتقرها؛ ونحتقرها لأنها لا تقاوم.»

تقول أمه: «لا أختلف معك. يشكو الناس أننا نعامل الحيوانات كالأشياء، لكننا في الحقيقة نعاملها كأسرى الحرب. هل تعرف أنه كان على الحراس، حين فُتحت حدائق الحيوانات أول مرة للجمهور، حماية الحيوانات من هجمات المتفرجين؟ شعر المتفرجون أن الحيوانات موجودة لتُؤذَى وتُساء معاملتها، كالأسرى في نشوة النصر. خضنا حربًا مع الحيوانات ذات يوم، كنَّا نسميها صيدًا، مع أن الصيد والحرب هما، في الحقيقة، الشيء ذاته (رأى أرسطو ذلك بوضوح). استمرت تلك الحرب ملايين السنين. لم نحسمها لصالحنا إلا منذ بضع مئات من السنين، حين اخترعنا البنادق. استطعنا، فقط منذ أصبح النصر مطلقًا، أن نتحمَّل تنمية الشفقة، لكن شفقتنا تنتشر بوهن شديد، ومن تحتها الموقف الأكثر بدائية. لا ينتمي أسير الحرب لقبيلتنا؛ يمكن أن نفعل معه ما نشاء. يمكن أن نضحي به لآلهتنا. يمكن أن نقطع رقبته، ونمزِّق قلبه، ونلقي به في النار. لا توجد قوانين حين يتعلق الأمر بأسرى الحرب.»

– «وهذا ما تريدين أن تشفي الجنس البشري منه؟»

– «جون، لا أعرف ما أريد أن أفعله. لا أريد أن أكتفي بالجلوس صامتة.»

– «حسن جدًّا. لكن المرء عمومًا لا يقتل أسرى الحرب. يستعبدهم.»

– «حسن، هذا حال قطعان الأسرى لدينا: سُكَّان عبيد. وظيفتهم أن يتكاثروا من أجلنا. حتى ممارستهم للجنس تصبح شكلًا من أشكال العمل. لا نكرههم لأنهم ما عادوا جديرين بالكراهية. ننظر إليهم، كما تقول، بازدراء.»

«ومع ذلك ما زالت هناك حيوانات نكرهها. الفئران، على سبيل المثال. الفئران لم تستسلم؛ تقاوم، تشكِّل وحدات تحت الأرض في بالوعاتنا. لا تفوز لكنها أيضًا لا تخسر. وذلك إذا تغاضينا عن ذِكر الحشرات والميكروبات. ما زالت تهزمنا. من المؤكَّد أنها ستصمد أكثر منا.»

•••

آخر جلسة في زيارة أمِّه عبارة عن مناظرة. سيكون في مواجهتها الرجل الأشقر الضخم الذي كان على عشاء الليلة السابقة، الذي يتبين أنه توماس أوهيرن، بروفيسور الفلسفة في أبليتون.

وقد تمَّ الاتفاقُ على إتاحة ثلاث فرص أمام أوهيرن لعرض مواقفه، وثلاث فرص أمام أمه للرد. وحيث إنَّ أوهيرن جاملها بإرسال ملخص١١ إليها مقدمًا، فهي تعرف، عمومًا، ما سيقوله.

يبدأ أوهيرن: «أول تحفُّظ لي على حركة حقوق الحيوان أن الفشل في التعرف على طبيعتها التاريخية يجعلها عرضةً لخطر أن تصبح، مثل حركة حقوق الإنسان، مجرَّد حملة صليبية غربية أخرى ضد ممارسات بقية العالم، مدعيةً العالمية لِمَا هي ببساطة معاييرنا الخاصة.» يواصل ليقدم إطارًا موجزًا لنشأة جمعيات حماية الحيوان في بريطانيا وأمريكا في القرن التاسع عشر.

يواصل: «حين يتعلَّق الأمر بحقوق الإنسان، يردُّ أصحاب الثقافات الأخرى والتراث الديني الآخر، بشكل صحيح تمامًا، بأنَّ لديهم معاييرهم الخاصة، ولا يرون سببًا لتبنِّي معايير الغرب. ويقولون، بالمثل، إن لديهم معاييرهم الخاصة في التعامل مع الحيوانات، ولا يرون سببًا لتبنِّي معاييرنا — وخاصةً حين تكون معاييرنا اختراعًا حديثًا.»

«كانت محاضِرتُنا، في لقاء الأمس، قاسيةً جدًّا على ديكارت، لكن ديكارت لم يبتكر فكرة أن الحيوانات تنتمي إلى مرتبة مختلفة عن الجنس البشري: صاغها فقط بطريقة جديدة. إنَّ تصوُّر أننا ملتزمون تجاه الحيوانات نفسها بأن نعاملها بشفقة — مقابل التزامٍ تجاه أنفسنا بأن نفعل ذلك — تصوُّر حديث جدًّا، غربي جدًّا، وربما حتَّى يكون أنجلوسكسونيًّا جدًّا. طالما نؤكد أن لدينا منفذًا إلى عالم أخلاقي لا يُبصره أصحاب التقاليد الأخرى، ونحاول أن نفرضه عليهم بالدعاية أو حتى بالضغوط الاقتصادية، فسوف نواجه بمقاومة، وسوف تكون هذه المقاومة مبررة.»

دَور أمه: «إن الاهتمامات التي تعبِّر عنها اهتمامات جوهرية، بروفيسور أوهيرن، ولستُ متأكدةً من أنني أستطيع أن أقدم إجابةً جوهرية لها. أنت محق، بالطبع، فيما يتعلق بالتاريخ. لم يصبح العطف على الحيوانات معيارًا اجتماعيًّا إلَّا حديثًا، منذ مائة وخمسين سنةً أو مائتين، وفي جزء واحد من العالم. أنت محق أيضًا في ربط هذا التاريخ بتاريخ حقوق الإنسان، حيث إنَّ الاهتمام بالحيوانات، من الناحية التاريخية، فرع من اهتمامات خيرية أوسع بالكثير من العبيد والأطفال، وآخرين.»

«إلا أنَّ العطف على الحيوانات — وأنا هنا أستخدم كلمة العطف بمعناها الكامل، مثل قَبول أننا جميعًا من نوع واحد، وطبيعة واحدة — كان على نطاق أوسع ممَّا يتضمَّنه كلامك. إن تربية الحيوانات الأليفة، على سبيل المثال، ليست بحال من الأحوال بدعةً غربية: صادف الرحَّالة الأوائل إلى أمريكا الجنوبية مستوطنات يعيش فيها البشر والحيوانات معًا عيشةً مختلطة. والأطفال بالطبع في جميع أرجاء العالم ينسجمون بشكل طبيعي مع الحيوانات. لا يرون خطًّا فاصلًا. هذا شيء عليهم أن يتعلَّموه، بالضبط كما عليهم أن يتعلموا أنه لا بأس في أن يقتلوها ويأكلوها.»

«وبالعودة إلى ديكارت، أردتُ فقط أن أقول: إنَّ الانقطاع الذي رآه بين الحيوانات والبشر كان نتيجةً لمعلومات غير مكتملة. لم يكن العِلم في عصر ديكارت على دراية بالقردة العليا١٢ أو الثدييات البحرية العليا، وبالتالي لم يكن هناك سبب للشك في فرضية أن الحيوانات لا تستطيع أن تفكر. ولم يكن له بالطبع مدخل إلى سجلِّ الحفريات الذي كشف عن استمرارية متدرِّجة للمخلوقات الشبيهة بالبشر تمتدُّ من الرئيسات العليا إلى الجنس البشريِّ، شبيهة الإنسان، ولا بدَّ للمرء أن يشير إلى أنها انتهت على يدِ الإنسان في صعوده إلى القوة.»

«بينما أسلِّم برأيك الأساسي بشأن عجرفة الثقافة الغربية، أظنُّ أنه من المناسب أن يكون أولئك الذين ابتكروا تصنيع حياة الحيوانات وتحويل لحوم الحيوانات إلى سلعة في طليعة محاولة التكفير عن ذلك.»

يقدم أوهيرن أطروحته الثانية. يقول: «في قراءتي للأدبيات العلمية، لم تُحقِّق الجهودُ التي تحاول أن توضح أن الحيوانات يمكن أن تفكر تفكيرًا استراتيجيًّا، أو يكون لها مفاهيم عامة، أو تتواصل بشكل رمزي، إلا نجاحًا محدودًا للغاية. إن أفضل ما يمكن أن تحققه القِرَدة العليا من الأداء ليس أفضل من إنسان يعاني من ضعف عقلي شديد وصعوبات في الكلام. وإذا كان الأمر كذلك، ألا يُعتَقد حقًّا أن الحيوانات، حتى الحيوانات العليا، تنتمي تمامًا لعالم آخر من القانون والأخلاق، بدلًا من وضعها في هذه الفصيلة الإنسانية الفرعية المحبطة؟ ألا توجد حكمة معينة في النظرة التقليدية التي تقول إن الحيوانات لا تستطيع أن تتمتع بالحقوق القانونية؛ لأنها ليست أشخاصًا، ولا حتى أشخاصًا محتمَلين كالأجنَّة؟ في القواعد المطبَّقة في تعاملنا مع الحيوانات، ألا يكون مفهومًا أكثر بالنسبة لمثل هذه القواعد أن نطبقها على أنفسنا وعلى علاجنا لها، كما يحدث حاليًّا، بدلًا من التنبُّؤ على أساس حقوق لا يمكن للحيوانات أن تدعيها أو تفرضها أو حتى تفهمها؟»

دَور أمه: «لِأَرُدَّ ردًّا وافيًا، بروفيسور أوهيرن، أحتاج إلى وقت أطول من الوقت المخصص لي؛ حيث إنني أريد بدايةً أن أتناول مسألة الحقوق كلها وكيف نحصل عليها؛ لذا دعني أبدي ملاحظة: إن برنامج التجريب العلمي الذي يقودك إلى استنتاج أنَّ الحيوانات بلهاء برنامج مركزه الإنسان. إنه يقدِّر قدرتك للعثور على طريق للخروج من متاهة عقيمة، متجاهلًا حقيقة أنه إذا كان على الباحث الذي صمَّم المتاهة أن ينزل بمظلة إلى دغل برنيو،١٣ لمات من الجوع في أسبوع. إنني في الحقيقة أمضي إلى أبعد من ذلك. إذا أُخبِرْتُ أنا كإنسان بأن المعايير التي تقاس بها الحيوانات في هذه التجارب معايير بشرية، لشعرتُ بالإهانة. التجارب نفسها بلهاء. يدَّعي السلوكيون الذين يصمِّمونها أننا لا نفهم إلا بعملية خلق نماذج مجرَّدة واختبار تلك النماذج في الواقع. يا له من هراء! إننا نفهم بغمر أنفسنا وذكائنا في التعقيد. ثمَّة شيء مُسفِّه للذات في الطريقة التي تنكص بها السلوكية العلمية عن تعقيد الحياة.»

«حيث إن الحيوانات بكماء جدًّا وغبية جدًّا بدرجة لا تجعلها تتحدَّث بنفسها. تأمَّلْ تتابع الأحداث التالية: حين كان ألبير كامي صبيًّا في الجزائر، طلبت منه جدته أن يُحضر لها دجاجةً من قفص في فنائهم الخلفي. أطاع، ثم رآها تقطع رأسها بسكين المطبخ، وتُصفِّي دمها في إناء حتى لا تتوسخ الأرضية.»

«انطبعت صرخة الموت في ذاكرة الولد بقوة حتى إنه كتب عام ١٩٥٦ هجومًا عنيفًا على المقصلة، وكان هذا الهجوم من أسباب إلغاء حكم الإعدام في فرنسا. مَنْ يستطيع إذن أن يقول إن الدجاجة لم تتكلم؟»

أوهيرن: «أضع العبارة التالية بتأنٍّ شديد مدركًا التداعيات التاريخية التي قد تثيرها. لا أومن أن الحياة مهمة للحيوانات مثلما هي مهمة لنا. من المؤكد أنه توجد مقاومة غريزية في الحيوانات للموت، وهي تشاركنا في ذلك. لكنها لا تفهم الموت كما نفهمه، أو بالأحرى، كما نفشل أن نفهمه. تنهار مخيلة الذهن البشري أمام الموت، وهذا الانهيار للمخيلة — تم تقديم تصور له في محاضرة الأمس — أساس رُعبنا من الموت. وهذا الرعب لا يوجد ولا يمكن أن يوجد في الحيوانات؛ لأنَّ بذل الجهد لفهم الانقراض، والفشل في فهمه، والفشل في السيطرة عليه، لم يحدث ببساطة.»

«لهذا السبب، أودُّ أن أقول: إن الموت، بالنسبة للحيوانات، مجرد شيء يحدث، شيء يمكن أن يثور الكائن ضده لكنها ليست ثورة الروح. وكلما كان مستوى التطور الذي يحققه المرء أقل، كان ذلك أصحَّ. الموت، بالنسبة لحشرة، هو انهيار النظم التي تحافظ على وظائفها الجسدية، ليس إلَّا.»

«الموت، بالنسبة للحيوانات، استمرار للحياة. فقط بين بعض البشر الذين يتمتَّعون بقدرة كبيرة على التخيُّل يصادف المرء هلع الموت بشكل حادٍّ بحيث يمكنهم حينئذٍ أن يُسقطوه على الكائنات الأخرى، بما فيها الحيوانات. تعيش الحيوانات، ثم تموت: هذا كلُّ ما في الأمر؛ وهكذا تكون المساواة بين الجزَّار الذي يذبح دجاجةً والجلَّاد الذي يذبح إنسانًا خطأً مميتًا. لا يمكن مقارنة الأحداث. ليست على المستوى ذاته، ليست على المستوى ذاته.»

«ويتركنا ذلك مع مسألة الوحشية. إنَّ قتل الحيوانات، كما قلتُ، مشروع؛ لأن حياتها ليست مهمةً لها مثلما حياتنا مهمة لنا، والصيغة القديمة للتعبير عن ذلك هي أنَّ أرواح الحيوانات ليست خالدة. على الجانب الآخر وحشية مجانية، يمكن أن أعتبرها محظورة. وبالتالي من المناسب تمامًا أن نقلق من معاملة البشر للحيوانات، حتى في المجازر وخاصةً فيها. وكان ذلك لفترة طويلة هدف منظمات رعاية الحيوانات، وأحيِّيها على ذلك.»

«وتتعلَّق النقطة الأخيرة التي أُثيرها بما أراه الطبيعة المجردة بشكل مزعج للاهتمام بالحيوانات في حركة حقوق الحيوانات. وأودُّ أن أعتذر مقدمًا لمحاضِرتنا على ما يبدو قسوةً فيما أقول، لكنني أومن بأنه يجب أن يقال.»

«من الأنواع الكثيرة ممَّن أراهم حولي من محبِّي الحيوانات، دعوني أحدِّد نوعين: الصيادين، الناس الذين يقدِّرون الحيوانات على مستوًى بدائي جدًّا وطائش، من ناحية؛ مَن يقضون الساعات في مراقبتها وتتبُّعها، والذين يشعرون، بعد أن يقتلوها، بلذة مذاق لحمها. ومن ناحية أخرى، أناس ليست لهم احتكاكات تُذكر بالحيوانات، أو على الأقل بتلك الأنواع التي يحرصون على حمايتها، مثل الدواجن والماشية، لكنهم يريدون لكلِّ الحيوانات — في فراغ اقتصادي — أن تعيش في يوتوبيا، حيث يتم إطعام كل حيوان بصورة خارقة ولا يفترس أحد منها غيره.»

«أسأل: مَنْ مِنَ النوعين يحب الحيوانات أكثر؟»

«لأن القلق على حقوق الحيوانات، بما في ذلك حقها في الحياة، مجرد جدًّا حتى إنني أراه غير مقنع وتافهًا في النهاية. يتكلَّم أنصاره كثيرًا عن حياتنا المشتركة مع الحيوانات، لكن كيف يعيشون حقًّا هذا الحياة المشتركة؟ يقول توماس الأكويني إن الصداقة بين البشر والحيوانات مستحيلة، وأميل إلى الاتفاق معه. لا يمكن أن تكونوا أصدقاء لمريخيٍّ أو لخفاش، لسبب بسيط وهو أن المشترك بينك وبينهم قليل جدًّا. ربما نأمل بالتأكيد في وجود حياة مشتركة مع الحيوانات، لكن هذا لا يعني العيش معهم في حياة مشتركة. ليس هذا إلا جزءًا من الحنين إلى ما قبل الهبوط من الجنة.»

دَور أمِّه مرَّةً أخرى، دَورها الأخير: «كلُّ مَن يقول إنَّ الحيوانات لا تهتمُّ بالحياة بقدر اهتمامنا بها لم يُمسك بيديه قط حيوانًا يصارع من أجل الحياة. يخوض الحيوان الصراعَ بكلِّ كينونته، ولا يدَّخر منها شيئًا. وحين تقول إن الصراع يفتقر إلى بُعد فكري أو هلع تخيُّلي، أتفق معك. ليس من طبيعة وجود الحيوانات أن تعرف الهلع الفكري: وجودها كله في لحمها الحي.»

«إذا كنتُ لا أقنعك، فإن ذلك يعود إلى أن كلماتي تفتقر، هنا، إلى القوة على تقديم الطبيعة الكلية غير المجردة واللاعقلية لوجود ذلك الحيوان. لهذا أُلحُّ عليك بأن تقرأ الشعراء الذين يعيدون الوجود الكهربيَّ الحيَّ إلى اللغة؛ وإذا لم يحرِّكك الشعراء، أُلحُّ عليك أن تسير، جنبًا إلى جنب، بجوار بهيمة تُقاد عبر المنحدر إلى جلادها.»

«ترى أن هذا الموت لا يهم الحيوان؛ لأن الحيوان لا يفهم الموت. أتذكَّر أحد الفلاسفة الأكاديميين الذين قرأتهم وأنا أُعِدُّ لمحاضرة الأمس. كانت خبرةً محبطة. تثير فيَّ استجابةً سويفتية١٤ بكل معنى الكلمة. قلتُ لنفسي: إذا كان هذا أفضل ما يمكن للفلسفة الإنسانية أن تقدمه فعليَّ أن أذهب وأعيش بين الجياد.»

«سأل هذا الفيلسوف: هل يمكن لنا، على وجه التحديد، أن نقول إن العجل يفتقد أمه؟ هل لدى العجل ما يكفي لإدراك أهمية العلاقة مع الأم؟ هل لدى العجل ما يكفي لإدراك معنى غياب الأم؟ هل يعرف العجل، في النهاية، ما يكفي عن الافتقاد ليعرف أن الشعور الذي ينتابه شعور بالافتقاد؟»

«إن العجل الذي لم يستوعب مفاهيم الوجود والغياب، والذات والآخر — هكذا تمضي الحجَّة — لا يمكن، تحديدًا، أن يقال إنه يفتقد أي شيء. حتى يفتقد، تحديدًا، أي شيء، عليه أن يحضر في البداية فصلًا دراسيًّا في الفلسفة. ماذا يكون نوع هذه الفلسفة؟ أقول: لا يهم! ماذا تفعل فروقها التافهة؟»

«بالنسبة لي، إن فيلسوفًا يقول إن الفرق بين الإنساني واللاإنساني يعتمد على إن كان جلدك أبيض أم أسود، وفيلسوفًا يقول إن الفرق بين الإنساني واللاإنساني يعتمد على إن كنت تعرف الاختلاف بين المسند إليه والمسند أو لا تعرف، يتشابهان أكثر ممَّا يختلفان.»

«إنني، عادة، حذرة من الإيماءات الإقصائية. أعرف أنَّ فيلسوفًا بارزًا يقول إنه ببساطة ليس على استعداد لأن يتفلسف حول الحيوانات مع أناس يأكلون اللحوم. لستُ على يقين من أنَّني يمكن أن أذهب إلى هذا المدى — صراحةً، لا أملك الشجاعة — لكن لا بدَّ أن أقول إنني لا أتوق إلى مقابلة الجنتلمان الذي كنتُ أستشهد به منذ برهة. وخاصة، لا أتوق لمشاركته الخبز.»

«هل أنا على استعداد لمناقشة الأفكار معه؟ هذا هو السؤال الحاسم حقًّا. لا يمكن أن تدور مناقشة إلا في وجود أرضية مشتركة. حين يختلف الخصوم، نقول: «دعهم يتفاهمون معًا، ويكتشفون اختلافاتهم بالعقل، ويتقاربون بعض الشيء. ربما يبدو أنهم لا يشتركون في شيء آخر، لكنهم على الأقل يشتركون في العقل.»

«إلا أنني لستُ متأكدة، في الموقف الحالي، من أنني أريد أن أسلِّم بأنني أشارك خصمي العقل، حين يعزِّز العقل كلَّ التراث الفلسفي الممتد الذي ننتمي إليه، رجوعًا إلى ديكارت وما قبل ديكارت عبر الأكويني وأوجستين إلى الرواقيين وأرسطو. إذا كان العقل آخر أرضية مشتركة بيني وبينه، وإذا كان العقل ما يُبعدني عن العجل، شكرًا لكم ولا شكر لكم، سوف أتحدث إلى شخص آخر.»

هذه هي الملاحظة التي على العميد أرندت أن يغلق الإجراءات عندها: الحدة والعدوانية والمرارة. إنه، جون برنارد، على يقين من أن ذلك ليس ما كان يريده أرندت أو لجنته. حسنًا، كان عليهم أن يسألوه قبل أن يدعوا أمه، وكان يمكنه أن يخبرهم.

•••

تجاوز الوقت منتصف الليل، هو ونورما في السرير، إنه مستهلَك، وعليه أن يستيقظ في السادسة ليصحب أمه بالسيارة إلى المطار، لكن نورما في حالة غضب ولن تهدأ. «ليستْ سوى بدعة غذائية، والبدعة الغذائية دائمًا تدريب يمارسه المتربِّع على العرش. لا أصبر حين تصل إلى هنا وتحاول أن تجعل الناس، وخاصةً الأطفال، أن يغيروا عاداتهم في الأكل. والآن هذه المحاضرات العامة العبثية! تحاول أن تمد قوتها القمعية على المجتمع كله!»

يريد أن ينام، لكنه لا يستطيع أن يحتمل النمَّ عن أمه تمامًا. يهمهم: «إنها مخلصة تمامًا.»

– «المسألة لا علاقة لها بالإخلاص. ليس لديها بصيرة ذاتية على الإطلاق. تبدو مخلصةً لأنها ليس لديها بصيرة بدوافعها. المجانين مخلصون.»

يدخل المشاجرة متنهدًا. يقول: «لا أرى فرقًا بين نفورها من أكل اللحوم ونفوري من أكل المحار أو الجراد. ليس لديَّ بصيرة بدوافعي، ولا أبالي. أراه فقط مثيرًا للاشمئزاز.»

تشخر نورما: «أنت لا تعطي محاضرات عامة بها مناقشات فلسفية زائفة عن أكل المحار. أنت لا تريد أن تحول بدعةً خاصة إلى تابو عام.»

– «ربما. لكن لماذا لا تعتبرينها واعظة، مصلحةً اجتماعية، بدلًا من اعتبار أنها تقوم بمحاولة شاذة لدس ما تفضِّله في أذهان الآخرين؟»

– «ترحب بأن تراها واعظة، لكن ألقِ نظرةً على كلِّ الوعاظ الآخرين ومخططاتهم المجنونة لتقسيم الجنس البشري إلى ناجين وملعونين. هل تلك هي الشراكة التي تريدها لأمك؟ إليزابيث كُسْتِلُّو وسفينة نوح الثانية، مع كلابها وقططها وذئابها، ولا أحد منها، بالطبع، اقترف إثم أكل اللحم، ناهيك عن فيروس الملاريا وفيروس داء الكَلَب وفيروس الإيدز، ستريدها لتتمكَّن من إعادة تجهيز عالمها الجديد الشجاع.»

– «نورما، تتبجحين.»

– «لا أتبجَّح. كان يمكن أن أحترمها أكثر لو لم تحاول طعني من خلف ظهري، بقصصها للأطفال عن العجول الصغيرة المسكينة وما يفعله الرجال الأشرار بها. تعبتُ من جعلهم يتناولون طعامهم وهم يسألون: «ماما، هل هذا لحم عجل؟» حين يكون دجاجًا أو سمك تونة. ليست سوى لعبة قوة، بطلها العظيم، فرانز كافكا، مارس اللعبة ذاتها مع أسرته، رفض أن يأكل هذا، ورفض أن يأكل ذلك، كان يعاني من الجوع، كما قال، وبسرعة كان الجميع يشعرون بالذنب إذا تناولوا الطعام أمامه، وكان يستريح ويشعر بالفضيلة. لعبة مريضة، ولن أسمح للأطفال أن يلعبوها معي.»

– «ساعات قليلة وتنصرف، ثم تعود حياتنا إلى طبيعتها.»

– «حسن. قلْ لها إلى اللقاء نيابةً عني. لن أستيقظ مبكرًا.»

•••

السابعة، تشرق الشمس، هو وأمه في الطريق إلى المطار.

يقول: «آسف نيابةً عن نورما. كانت تحت ضغط كبير. لا أظن أنها في وضع يسمح لها بالتعاطف، وربما يمكن للمرء أن يقول الشيء نفسه عني. كانت زيارةً قصيرة، لم يكن لديَّ وقت لأفهم السبب الذي جعلك حادةً بهذا الشكل بشأن الحيوانات.»

تشاهد المسَّاحات تهتزُّ ذهابًا وإيابًا. تقول: «تفسير أفضل، إنني لم أخبرك بالسبب، أو لا أجرؤ أن أخبرك. حين أفكِّر في الكلمات، تبدو شنيعةً بدرجة تجعل من الأفضل أن تقال لوسادة أو في ثقب في الأرض، مثل الملك ميداس.»١٥

– «لا أتابع. ما الذي لا تستطيعين قوله؟»

– «لم أعد أعرف أين أنا. يبدو أنني أتحرك بسهولة تامة بين البشر، لتكون لي علاقات طبيعية جدًّا معهم. أسأل نفسي: هل يحتمل أن يكونوا جميعًا متورطين في جريمة التناسب المذهل؟ هل أتخيل الأمر كله؟ لا بدَّ أنني مجنونة! إلا أنني أرى الأدلة كل يوم. الناس ذاتهم الذين أشك فيهم يُنتجون الدليل، يعرضونه، ويقدمونه لي. جثث، أشلاء جثث يشترونها بالمال.»

«يبدو الأمر وكأنني أزور أصدقاء، وأبدي ملاحظةً مهذبة بشأن اللمبة في غرفة المعيشة، وأنهم يقولون: «أجل، إنها رائعة، أليس كذلك؟ مصنوعة من جلد يهودية بولندية، نجد أن هذا أفضل، جلود العذارى الشابات من اليهوديات البولنديات.» ثم أذهب إلى الحمام وأجد على غلاف قطعة الصابون، «تربلينكا-١٠٠٪ استيرات١٦ بشرية». وأقول لنفسي: هل أحلم؟ أي نوع من المنازل هذا؟»

«إلا أنني لا أحلم. أنظر في عينيك، وفي عينَي نورما، وفي عيون الأطفال، ولا أرى إلا عطفًا، عطفًا بشريًّا. أقول لنفسي: اهدئي، إنك تهوِّلين الأمور، هذه هي الحياة، كل الآخرين يقبلونها، لماذا لا تستطيعين أنتِ؟ لماذا لا تستطيعين أنتِ؟»

تلتفت إليه بوجه دامع. يفكِّر، ماذا تريد؟ هل تريد مني أن أجيب لها على سؤالها؟

لم يصلا بعدُ إلى الطريق السريع. يفرمل السيارة، يوقف المحرك، يأخذ أمه بين يديه. يشم رائحة كريم بارد، ورائحة لحم عجوز. يهمس في أذنها: «هناك، هناك، هناك، هناك، ستنتهي هذه الحالة سريعًا.»

١  سوجورنير Sojourner: أول سفينة فضاء تهبط على المريخ في ٤ يوليو ١٩٩٧م.
٢  أوتشفيتز Auschwitz: مدينة في جنوب بولندا كانت مكانًا لأكبر معسكرات الاعتقال أثناء الحرب العالمية الثانية.
٣  ريلكه Rilke (١٨٧٥–١٩٢٦م): شاعر ألماني، أثَّر بعمق في الأدب الألماني في القرن العشرين، ومن مجموعاته «كتاب الساعات» (١٩٠٥م) و«مراثي دوينو» (١٩٢٣م).
٤  تيد هوجز Ted Hughes (١٩٣٠–١٩٩٨م): شاعر بريطاني، عُيِّن شاعر البلاط عام ١٩٨٤م.
٥  الجاجور jaguar: حيوان يعيش في وسط أمريكا وجنوبها، وهو قريب الشبه من النمر.
٦  جاري سنيدر Gary Snyder (١٩٣٠م–…): شاعر أمريكي، نشط في مجال البيئة، حصل على جائزة بوليتزر في الشعر. جون جفرز John Jeffers (١٨٨٧–١٩٦٢م): شاعر أمريكي، اشتهر بأعماله حول شاطئ كاليفورنيا، يُعتبر من رموز حركة البيئة.
٧  الشامانية shamanism: دين بدائي يؤمن به بعض شعوب شمال آسيا وأوروبا، يعتقد المؤمنون به في وجود عالم محجوب؛ عالم الشياطين والآلهة وروح السلف، وهذا العالم لا يستجيب إلا للشامان.
٨  تروتة trout: السلمون المرقط.
٩  ليمويل جليفر: بطل رحلات جليفر؛ رجل إنجليزي، يسافر إلى بلاد غريبة، تشمل أرض الأقزام Lilliput (حيث يبلغ طول الشخص ٦ بوصات) وأرض العمالقة Brobdingnag (حيث يبلغ طول الشخص ٧٠ قدمًا)، وأرض الجياد Houyhnhnms (حيث الجياد كائنات ذكية، والبشر، ويسمون الياهو Yahoos، بهائم حمقاء).
١٠  جوناثان سويفت Jonathan Swift (١٦٦٧–١٧٤٥م) كاتب أيرلندي، أشهر أعماله رحلات جليفر واقتراح متواضع (١٧٢٩م) وفي اقتراح متواضع يقترح سويفت أن الأيرلنديين يمكن أن يحلوا مشاكلهم الاقتصادية بطبخ الأطفال الفقراء وأكلهم.
١١  بالفرنسية في الأصل.
١٢  القردة العليا: مجموعة القرود الشبيهة بالإنسان من العائلة التي تشمل الشمبانزي والغوريلَّا وإنسان الغابة.
١٣  بورنيو: جزيرة في المحيط الهادي في أرخبيل المالايا جنوب غرب الفلبين. ثالث أكبر جزيرة في العالم. سلطنة بروناي على الساحل الشمالي الغربي، وبقية الجزيرة مقسمة بين إندونيسيا وماليزيا.
١٤  نسبةً إلى سويفت مؤلف رحلات جليفر.
١٥  ميداس: ملك طلب منه الإله دينسيوس أن يحقق له أمنية. متعطشًا للثراء تمنَّى ميداس أن يتحوَّل كل ما يلمسه إلى ذهب، لكنه ندم بسرعة؛ لأنه حين كان يأكل يتحول طعامه إلى معدن صلب، وحين احتضن ابنته تحولت إلى تمثال من الذهب. وبناءً على نصيحة دينسيوس اغتسل في النهر ليفقد هذه الخاصية.
١٦  استيرات: ملح أو استير الحمض الاستيري، وهي مادة بيضاء صلبة تُستخرج من بعض الشحوم وتُستخدم في صناعة الشموع والصابون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤