الإنسانيات في أفريقيا
١
وبمناسبة هذه الدرجة، بمناسبة الاحتفال بتسليم الشهادة، أتت هي نفسها، إليزابيث كُسْتِلُّو، الأخت الصغرى لبلانش، أتت إلى أرض لا تعرفها ولم ترغب قط في أن تعرفها معرفةً خاصة، إلى هذه المدينة البشعة (لم تهبط فيها إلا منذ ساعات قليلة، ورأتها ممتدَّةً بأطيان من الأرض الصخرية، وأنقاض المناجم المجدبة). إنها هنا، مرهقة حتى النخاع. ضاعت ساعات حياتها في المرور على المحيط الهندي؛ بلا طائل حتى إنها تؤمن بأنها لن تستردها أبدًا. لا بدَّ أن تأخذ غفوةً لتستعيد عافيتها ومزاجها قبل أن تقابل بلانش؛ لكنها متوترة، ومشتتة، وينتابها شعور مبهم باعتلالٍ شديد. هل أُصيبت بشيء على الطائرة؟ أن تسقط مريضةً بين الغرباء: يا لها من تعاسة! تتمنى لو تكون مخطئة.
حجزوا للاثنتين في الفندق نفسه؛ الأخت بريجيت كُسْتِلُّو ومسز إليزابيث كُسْتِلُّو. وحين تمَّت الترتيبات، سُئلتا إن كانتا تفضِّلان غرفتين مفردتين أم جناحًا مشتركًا. قالت: غرفتين مفردتين. وخمَّنت أنَّ بلانش ستقول مثلها. لم تكن وبلانش قريبتين قربًا حقيقيًّا أبدًا؛ لا تأمل، وقد تجاوزتا الآن مجرَّد أنهما امرأتان في سن معينة لتصبحا، صراحةً، امرأتين عجوزين، أن يكون عليها أن تسمع صلوات بلانش قبل النوم، أو ترى طراز الملابس الداخلية التي ترتديها الأخوات في جماعة ماريان.
تُفرغ حقيبتها، تشعر ببعض القلق، تفتح التليفزيون، تُغلقه مرةً أخرى، يغلبها النوم بشكل أو آخر، وسط هذا كله، تستلقي على ظهرها، بحذائها وملابسها. تستيقظ على التليفون، بدون إدراك تبحث عن السماعة. تفكِّر، أين أنا؟ من أنا؟ يقول صوت: «إليزابيث؟ هل أنت إليزابيث؟»
تلتقيان في بهو الفندق. اعتقدتْ أنه كان هناك تبسُّط في لبس الأخوات. وإذا كان الأمر كذلك، فقد مرَّت ببلانش، ترتدي الخمار، وبلوزةً بيضاء بسيطة، وجيبةً رمادية تصل إلى منتصف السمَّانة، وحذاءً أسود قصيرًا كان قضيةً محورية منذ عقود مضت. وجهها مغضَّن، وظهر يديها منقَّط بالبني؛ باستثناء ذلك بَقِيَتْ في حالة جيدة. تفكِّر مع نفسها، مَن النساء اللائي يَعشن حتى التسعين؟ «عجفاء»، الكلمة التي ترد إلى ذهنها على غير إرادتها: عجفاء مثل دجاجة. كما هو حال مَن تراها بلانش أمامها، كما هو حال الأخت التي بقيت في العالم، لا تنشغل بذلك على الأرجح.
تتعانقان، وتطلبان شايًا. تتبادلان حديثًا قصيرًا. بلانش خالة، مع أنها لم تتصرف أبدًا كخالة، عليها أن تسمع أخبارًا عن ابن الأخت وبنت الأخت، اللذين لم تقع عيناها عليهما إلا نادرًا واللذين ربَّما صارا غريبين أيضًا. حتى وهما تتحدثان، تتساءل إليزابيث: هل هذا ما أتيتُ من أجله؛ هذه الكلمات الصادرة عن الشفتين، هذا التبادل لكلمات مجهدة، هذه الإيماءة إلى إحياء ماضٍ تلاشى تقريبًا؟
الألفة. التشابه الأسري. سيدتان عجوزان في مدينة أجنبية، تحتسيان الشاي، تُواري كلٌّ منهما رعبها عن الأخرى. ثمَّة شيء قادر على أن يكون مؤثرًا، لا شكَّ في ذلك. قصَّة تتسلَّل بصورة مبهمة مثل فأر في ركن. لكنها مرهقة جدًّا، هنا والآن، بدرجة لا تجعلها تقبض عليها وتدوِّنها.
تقول بلانش: «في التاسعة والنصف.»
– «ماذا؟»
– «التاسعة والنصف، سيأخذوننا في التاسعة والنصف. نلتقي هنا.» تضع كوبها. «تبدين مرهقة، إليزابيث. خذي قسطًا من النوم. لديَّ كلمة أعدُّها. طلبوا مني أن أُلقي كلمة. قدَّاس لعشائي.»
– «كلمة؟»
– «خُطبة، سألقي خُطبةً غدًا، للمتخرجين. عليك أن تجلسي أثناءها، إنني خائفة.»
٢
جلست بين الضيوف الآخرين البارزين، في الصفِّ الأمامي. سنوات منذ آخر مرَّة حضرتْ فيها حفل تخرُّج. نهاية سنة أكاديمية: حرارة الصيف سيئة هنا في أفريقيا كما في وطنها.
يوجد، إذا كان لها أن تخمِّن من حشد الشباب الذين يرتدون الزيَّ الأسود وراءها، حوالي مائتي درجة في الإنسانيات سيتمُّ توزيعها. لكن بلانش في البداية، الوحيدة التي تُمنح درجةً فخرية، تُقدَّم للحضور، مرتديةً رداءً قرمزيًّا لدكتورة، مدرسة، تقف أمامهم، ويداها متشابكتان، بينما خطيب الجامعة يقرأ سِجل إنجازات حياتها. ثم تؤخذ إلى مقعد المستشار. تُثني ركبة، ويتم تسليم الشهادة. تصفيق طويل. الأخت بريجيت كُسْتِلُّو، عروس المسيح ودكتورة في الآداب، التي بحياتها وأعمالها أعادت البريق، للحظة، لاسم المبشِّر.
تأخذ مكانها على المنصة. حان موعد بريجيت، بلانش، لتقول كلمتها.
تقول: «المستشار، الأعضاء المحترمون في الجامعة:
تشرفونني هنا في هذا الصباح، وأتقبَّل هذا التشريف بامتنان، لا أقبله لمصلحتي ولكن لمصلحة تلك الأعداد الكبيرة من الناس الذين كرَّسوا على مدى نصف القرن الأخير جهودَهم وحبَّهم لأطفال هضبة ماريان ولربنا من خلال هؤلاء البسطاء.»
«حيث إنَّ الصباح ليس مخصَّصًا كله لي (طلب عميدكم مني أن أكتفي بخمس عشرة دقيقةً على الأكثر — «على الأكثر» هذه كلماته)، فسوف أقول ما أريد بدون التفكير خطوةً خطوة، وبدون تقديم دليل تاريخي، أنتم، كمجموعة من الدارسين والعلماء، مؤهلون له.»
«أودُّ أن أقول، إذا كان هناك مزيد من الوقت، كان المنهج النصي النفَس الذي يبث الحياة في الدراسات الإنسانية، بينما كانت الدراسات الإنسانية ما يمكن أن نسميه بحقٍّ حركةً في التاريخ؛ أعني الحركة الإنسانية. لكن الأمر لم يستغرق وقتًا طويلًا حتى تَبدَّد النفَس الذي يبث الحياة في المنهج النصي. وكانت قصة المنهج النصي منذ ذلك الوقت قصَّة جهد متواصل لإنعاش تلك الحياة، بلا جدوى.»
«ترتبط الإجابة ارتباطًا قويًّا بحادث تاريخي: بتدهور القسطنطينية وسقوطها في النهاية، وهروب البيزنطيين المتعلمين إلى إيطاليا (مراعيةً قاعدة الدقائق الخمس عشرة التي وضعها عميدكم، أمرُّ على الوجود الحي لأرسطو وجالينوس والفلاسفة اليونانيين الآخرين في المسيحية الغربية في العصور الوسطى، ودور إسبانيا العربية في نقل تعاليمهم).»
«وهكذا، في التعليق الموجز والفجِّ الذي أقدِّمه، هل قامت أبدًا علاقة تزاوج بين منهج دراسة الكتاب المقدس والدراسات في العصور اليونانية والرومانية القديمة بدون خصومة، ومن ثم جاء المنهج النصيُّ والعلوم المرتبطة به لتوضع تحت عنوان «الإنسانيات»؟»
«الكثير للتاريخ. الكثير لما يجعلكم، بتنوُّعكم وعدم تجانسكم كما قد تشعرون بينكم وبين أنفسكم، تجدون أنفسكم محتشدين هذا الصباح تحت سقف واحد كخريجين في الإنسانيات. والآن أُخبركم، في الدقائق القليلة المتبقية، بما لا يجعلني بينكم، وليس لديَّ رسالة مريحة أقدِّمها لكم، برغم كرم إيماءتكم نحوي.»
«الرسالة التي آتي بها هي أنكم ضللتُم طريقكم منذ زمن بعيد، ربما منذ خمسة قرون. حفنة الرجال الذين تأسَّست بينهم الحركة التي تمثِّلونها، أخشى، الحاشية الحزينة، كان أولئك الرجال مدفوعين، على الأقل في البداية، بالرغبة في العثور على الكلمة الحقيقية، الذين فهموا بها وأفهم أنا بها الآن، الكلمة المُخَلِّصة.»
«لا يمكن العثور على هذه الكلمة في الكلاسيكيات، سواء كانت الكلاسيكيات تعني هوميروس وسوفوكليس أو تعني هوميروس وشكسبير ودويستوفسكي. كان من المحتمَل في عصر أسعد من عصرنا أن يخدع الناس أنفسهم بالإيمان بأن كلاسيكيات العصور القديمة قدَّمت تعليمًا وأسلوبًا للحياة. استقرَّ بنا الأمر في عصرنا، بشكل مفرط إلى حدٍّ ما، على ادِّعاء أنَّ الكلاسيكيات في ذاتها ربَّما تقدِّم أسلوبًا للحياة، وإن لم يكن أسلوبًا للحياة فعلى الأقلِّ أسلوبًا لكسب العيش الذي، إن لم يثبت أنه يقدِّم خيرًا، فعلى الأقلِّ لا يُدَّعى أنَّه يسبِّب ضررًا.»
٣
تلك هي النهاية؛ نهاية خطاب بلانش، الذي نال من التصفيق أقلَّ ممَّا يبدو أنه لغط ارتباك عام في الصف الأمامي من المقاعد. تُستأنَف أعمال اليوم: يُستدعى الخريجون الجدد واحدًا بعد الآخر لاستلام شهاداتهم؛ وينتهي الاحتفال بموكب رسمي تمثِّل بلانش، في عباءتها الحمراء، جزءًا منه. وتصبح هي، إليزابيث، حرَّةً لبعض الوقت في التجوُّل بين الضيوف المتناثرين وتستمع لحديثهم.
إنها ضيفة، ضيفة على جامعة، ضيفة على أختها، ضيفة في البلاد أيضًا. إذا أراد هؤلاء الناس التعبير عن استيائهم، فهذا من حقِّهم. ليس لها أن تتدخل. لتَخُضْ بلانش معاركها بنفسها.
لكن يتَّضح أن عدم التدخُّل ليس بهذه السهولة. ثمَّة غداء رسمي في البرنامج، وقد دُعِيَت إليه. حين تجلس في مقعدها، تجد نفسها بجوار الرجل الطويل نفسه، الذي تخلى أثناء ذلك عن زيه الذي يعود للعصور الوسطى. تفقد شهيتها، ثمَّة إحساس ببعض التوعُّك في مَعِدتها، تفضِّل لو تكون في غرفتها بالفندق، مستلقية، لكنها تبذل مجهودًا. تقول: أقدِّم لك نفسي، أنا إليزابيث كُسْتِلُّو. الأخت بريجيت أختي؛ أقصد أختي بالدم.»
إليزابيث كُسْتِلُّو. يمكن أن ترى أن الاسم لا يعني شيئًا بالنسبة له. اسمه على بطاقة المكان أمامه: بروفيسور بيتر جودوين.
تواصل لتقيم محادثة: «أظن أنك تدرِّس هنا. ماذا تدرِّس؟»
– «أدرِّس الأدب؛ الأدب الإنجليزي.»
– «لا بدَّ أن ما قالتْه أختي أثَّر فيك بعمق. حسنًا، لا تبالِ بها. ليست إلا امرأةً مشاكسة، هذا كل ما في الأمر. تريد معركةً عنيفة.»
تجلس بلانش، الأخت بريجيت، المرأة المشاكسة، في الطرف الآخر من المائدة، مستغرقةً في محادثة تخصها. لا تسمعهما.
يردُّ جودوين: «هذا عصر علماني. لا يمكن أن نعيد الساعة إلى الوراء. لا يمكن أن تُديني مؤسسةً لأنها تساير العصر.»
– «بالمؤسسة تقصد الجامعة؟»
– «نعم، الجامعات، وخاصةً كليات الإنسانيات، التي تبقى جوهر أي جامعة.»
الإنسانيات جوهر الجامعة. ربما تكون من الخارج، لكنها لو طُلِب منها أن تذكر جوهر الجامعة اليوم، الفرع الذي يمثِّل جوهرها، لقالتْ صناعة المال. هكذا تبدو من ملبورن في فيكتوريا؛ ولن تندهش إذا كان هذا هو الحال نفسه في جوهانسبرج في جنوب أفريقيا.
«لكن هل هذا ما قالته أختي حقًّا: عليك أن تعيد الساعة إلى الوراء؟ ألم تقل شيئًا أكثر أهمية، وأكثر تحديًا؟ كان هناك تصوُّر خطأ في الإنسانيات منذ البداية؟ خطأ في وضع أمنيات وتوقعات على الإنسانيات لا يمكن أن تفي بها أبدًا. لا أتفق معها بالضرورة؛ لكن هذا ما فهمتُ أنها تناقشه.»
يقول البروفيسور جودوين: «الدراسة الحقيقية للجنس البشري هي الإنسان، وطبيعة الجنس البشري طبيعة ساقطة، حتى أختك يمكن أن تتَّفق مع ذلك. لكن لا يجب أن يمنعنا ذلك من المحاولة؛ محاولة التحسين. تريد أختك أن نتخلَّى عن الإنسان ونعود إلى الرب. هذا ما أقصده بالإشارة إلى عودة الساعة إلى الوراء. تريد العودة إلى ما قبل عصر النهضة، قبل الحركة الإنسانية التي تحدَّثت عنها، ربما حتى قبل التنوير النسبي في القرن الثاني عشر. تريد العودة للانغماس في الجبرية المسيحية التي ترجع إلى ما أسميه العصور الوسطى المنحطة.»
– «أتردَّد في أن أقول، وأنا أعرف أختي، إن هناك جبريةً في تفكيرها. لكن عليك أن تكلمها بنفسك، وتقدِّم لها ملاحظتك.»
ينهمك البروفيسور جودوين في سَلَطته. صمت. من الناحية الأخرى للمائدة تبتسم لها المرأة التي ترتدي الملابس السوداء؛ تُدرك أنها زوجة جودوين. تقول: «سمعتُك تقولين إن اسمك إليزابيث كُسْتِلُّو؟ ألستِ الكاتبة إليزابيث كُسْتِلُّو؟»
– «أجل، هذا ما أفعله لكسب عيشي. أكتب.»
– «وأنت أخت الأخت بريجيت.»
– «نعم. لكن الأخت بريجيت لها أخوات كثيرات، وأنا مجرد أخت في الدم. الأخريات أخوات أكثر أصالة، أخوات في الروح.»
تقصد الملاحظة باستخفاف، لكن يبدو أنها تثير مسز جودوين. ربما ذلك ما يجعل بلانش تثير غضب الناس هنا: تستخدم كلمات مثل روح ورب بطريقة غير مناسبة، في غير مواضعها. حسن، ليست مؤمنة، لكنها تعتقد أنها تقف مع بلانش في هذه الحالة.
تتحدَّث مسز جودوين إلى زوجها، ترمقه بنظرات. تقول: «إليزابيث كُسْتِلُّو الكاتبة، يا عزيزي.»
يقول البروفيسور جودوين: «أوه! نعم.» لكن من الواضح أن الاسم بلا صدًى.
تقول مسز جودوين: «زوجي في القرن الثامن عشر.»
– «آه، نعم. مكان مناسب. عصر العقل.»
يقول البروفيسور جودوين: «لا أعتقد أننا نرى الفترة بطريقة غير معقَّدة تمامًا في هذه الأيام.» يبدو أنه على وشك أن يقول المزيد، لكنه لا يفعل.
من الواضح أن المحادثة مع جودوين واهية. تتحوَّل إلى الشخص الذي على يمينها، لكنه كان منهمكًا بعمق في مكان آخر.
تقول، متَّجهةً مرَّة أخرى إلى جودوين: «حين كنتُ طالبة، وكان ذلك سنة ١٩٥٠ تقريبًا، قرأنا الكثير من كتابات د. ﻫ. لورانس. بالطبع قرأنا الكلاسيكيات أيضًا، لكن لم يكن هذا هو الموضع الذي ذهبَت إليه طاقتنا الحقيقية. د. ﻫ. لورانس، ت. س. إليوت، هذان هما الكاتبان اللذان انكببنا عليهما، وربما بليك من القرن الثامن عشر، وربما شكسبير؛ لأن شكسبير كما نعرف جميعًا يتجاوز زمنه. استولى علينا لورانس لأنه وعد بشكل من الخلاص. قال لنا إذا عبدنا آلهة الظلام، وأدَّينا شعائرها، فسوف نُنقَذ. صدَّقْناه. خرجنا وعبدنا آلهة الظلام بأفضل ما نستطيع، نتيجةَ التلميحات التي ألمح إليها مستر لورانس. حسنًا، لم ينقذنا معبودنا. نبي زائف. هكذا يمكن أن أصفه الآن، بأثر رجعي.»
«ما أقصد أن أقوله أننا، كطلاب، في أصدق قراءاتنا، فتَّشْنا الصفحة عن مرشد، مرشد في الحيرة. وجدناه في لورانس، أو وجدناه في إليوت، إليوت في كتاباته المبكرة: ربما وجدنا نوعًا مختلفًا من الإرشاد، لكنه رغم ذلك إرشاد عن الطريقة التي نعيش بها حياتنا. كانت بقية قراءاتنا، بالمقارنة، مجرد أشياء ساذجة نقرؤها لمجرد أن نجتاز الامتحانات.»
«إذا أرادت الإنسانياتُ البقاءَ على قيد الحياة، فمن المؤكد أنها لا بدَّ أن تستجيب لتلك الطاقات ولهذا التوقِ إلى الإرشاد: توقٍ هو في النهاية بحث عن الخلاص.»
تكلَّمت كثيرًا، أكثر ممَّا كانت تنوي. ترى، في الصمت الذي يخيِّم الآن، أن الآخرين كانوا يُنصتون. حتى أختها تلتفت إليها.
يقول العميد، من على رأس المائدة، بصوت مرتفع: «لم نُدرك حين طلبتْ منا الأخت بريجيت أن ندعوك لهذا الحدث السعيد، أن إليزابيث كُسْتِلُّو هي التي ستكون بيننا. أهلًا. نحن سعداء بوجودك معنا.»
تقول: «أشكرك.»
يواصل العميد: «لم أستطع الاستماع إلى بعض ما كنت تقولين. هل تتَّفقين إذن مع أختك أن مستقبل الإنسانيات مظلم؟»
لا بدَّ أن تخطو بحذر. تقول: «كلُّ ما كنتُ أقوله: إن قُرَّاءنا — وخاصةً قُراءنا الشباب — يأتون إلينا بجوع معيَّن، وإذا كنا لا نستطيع أو لن نستطيع إشباع جوعهم، فلا يجب أن نندهش إذا انصرفوا عنَّا. لكنني أنا وأختي نعمل على خطَّين مختلفين. قالتْ لكم ما تعتقده. وبالنسبة لي، يمكن أن أقول: يكفي الكتب أن تعلِّمنا ما يتعلَّق بأنفسنا. على كل القرَّاء أن يقنعوا بذلك، أو كل القراء تقريبًا.»
تقول الأخت بريجيت: «هل هذه محادثة على غداء أمْ إننا جادون؟»
يقول العميد: «إننا جادون. نحن جادون.»
ربما عليها أن تراجع رأيها فيه. ربما ليس مجرد بيروقراطي أكاديمي آخر يتحرك حركة ضيافة، لكنه روح بكل ما في الروح من جوع. نسلِّم بهذا الاحتمال. في الحقيقة، ربما كان هذا حال كلِّ مَن هم حول المائدة، في وجودهم الأعمق: أرواح جائعة. لا يجب أن تندفع في إصدار حكم. إذا لم يكونوا شيئًا آخر، هؤلاء الناس ليسوا أغبياء. ولا بدَّ أنهم أدركوا من الآن أنَّ لديهم بالأخت بريجيت، سواء أحبوا ذلك أم لا، شخصًا استثنائيًّا.
تقول أختها: «لستُ في حاجة لمراجعة الروايات لأعرف ما يستطيع البشر ارتكابه من الحقارة والدناءة والوحشية. من هنا نبدأ، جميعًا. نحن كائنات ساقطة. إذا كانت دراسة الجنس البشري لا تصل إلى أكثر من أن تُصوِّر لنا قدرتنا الأكثر ظلمة، فهناك ما هو أفضل لقضاء وقتي. وإذا كانت دراسة الجنس البشري من ناحية أخرى هي دراسة ما يمكن أن يكون عليه الإنسان المتجدد، فهذه حكاية أخرى. ومع ذلك، كان لديكم اليوم ما يكفي من محاضرات.»
بلانش صامتة. يؤكِّد المتحدث.
«لو استطاعت الكنيسة ككلٍّ أن تعترف بأنَّ تعاليمها ونظام معتقداتها كله يعتمد على النصوص، وأنَّ تلك النصوص عُرضة من ناحية لأخطاء النسخ وهلم جرًّا، ومن الناحية الأخرى لعيوب الترجمة؛ لأن الترجمة عمل ناقص دائمًا، ولو استطاعت الكنيسة أيضًا استنتاج أن تفسير النصوص عملية معقَّدة، معقَّدة إلى حدٍّ بعيد، بدلًا من أن تدَّعي لنفسها احتكار التفسير؛ لَمَا كنَّا نثير هذا النقاش اليوم.»
يقول العميد: «لكن، كيف كان لنا أن نعرف مدى صعوبة عملية التفسير إلا بخبرة دروس معينة من التاريخ، دروس كان من الصعب أن تتنبَّأ بها الكنيسة في القرن الخامس عشر؟»
– «مثل؟»
– «مثل الاحتكاك بمئات الثقافات الأخرى، ولكلٍّ منها لغتها وتاريخها وأساطيرها وطريقتها الفريدة في رؤية العالم.»
يقول الشاب: «وتكون قضيتي أن الإنسانيات، والإنسانيات وحدها، والتدريب الذي تقدمه الإنسانيات، ما سيجعلنا نسلك طريقنا في هذا العالم الجديد المتعدِّد الثقافات، بدقَّة، بدقَّة» — ازداد حماسه حتى إنه يكاد يطرق المائدة — «لأن الإنسانيات تتناول القراءة والتفسير. تبدأ الإنسانيات، كما قالت محاضِرتُنا، بالمنهج النصي، وتتطوَّر كمجموعة من الفروع العلمية المكرسة للتفسير.»
يقول العميد: «في الحقيقة، العلوم الإنسانية.»
وينكلمان؟ يتطلَّع الشاب إليها بعدم فَهْم.
«هل تعرَّف وينكلمان على نفسه في الصورة التي ترسمينها للإنساني كتِقني في التفسير النصي؟»
– «لا أعرف. كان وينكلمان أكاديميًّا عظيمًا. ربما تَعرَّف.»
تنهي حديثها فجأة، وتحدِّق في العميد. ربما أعطاها إشارة؟ هل نقر، بطريقة لا تصدَّق، من تحت المائدة، ركبة الأخت بريجيت؟
يقول العميد: «أجل، رائع. كان يجب أن ندعوك لسلسلة كاملة من المحاضرات، أيتها الأخت. لكن لسوء الحظ، لدى بعضنا ارتباطات. ربما في وقت ما في المستقبل …» يترك الاحتمالية معلقةً في الهواء؛ تحني الأخت بريجيت رأسَها بلطف.
٤
إنهما مرَّة أخرى في الفندق. إنها مرهقة، لا بدَّ أن تأخذ شيئًا لغثيانها المستمر، لا بدَّ أن تستلقي. لكن السؤال لا يزال يزنُّ في رأسها: لماذا هذه العدوانية من بلانش تجاه الإنسانيات؟ قالت بلانش لا أحتاج إلى استشارة الروايات. هل العدوانية، بطريقة معقَّدة، موجَّهة إليها؟ مع أنها أرسلت كتبها بدأب شديد إلى بلانش بمجرد خروجها من المطبعة، لا يمكن أن ترى علامةً تشير إلى أن بلانش قرأت كتابًا منها. هل استُدْعيتْ إلى أفريقيا كممثلة للإنسانيات، أو للرواية، أو لكليهما؛ لتتلقَّى درسًا أخيرًا قبل أن تنزل الاثنتان إلى القبر؟ هل تراها بلانش حقًّا على هذا النحو؟ إنها — وعليها أن تستغرب ذلك من بلانش — لم تكن منبهرةً قط بالإنسانيات. ثمة شيء ذكوري برضًا شديد في المشروع كله، أناني بشدة. لا بدَّ أن تواجه بلانش مباشرة.
تقول لبلانش: «وينكلمان! ماذا كنتِ تقصدين باستدعاء وينكلمان؟»
– «هذا ما ظننتُ. كبديل لبعض الجماليين، بعض المنتجات عالية الثقافة في النظام التعليمي الأوروبي. لكن بالتأكيد ليس كبديل شعبي.»
– «تخطئين في فهم قصدي، إليزابيث. كانت الهيلينية بديلًا. ربما كما كانت اليونان تعيسة، كانت بديلًا للرؤية المسيحية التي استطاعت النزعة الإنسانية تقديمها. كانوا في المجتمع اليوناني — صورةً مثالية بمعنى الكلمة للمجتمع اليوناني، لكن كيف كان للجموع العادية أن تعرف ذلك؟ — يستطيعون أن يشيروا ويقولوا: انظر، هكذا يجب أن نعيش، ليس فيما بعدُ لكن هنا والآن.»
اليونان: رجال شبه عراة، صدورهم تلمع بزيت الزيتون، يجلسون على دَرَج المعبد يتحدَّثون عن الخير والحقيقة، بينما في الخلفية يتصارع أولادٌ ناعمو الأطراف وقطيع من الماعز يرعى بهدوء. عقول حرة في أجسام حرة. صورة أكثر من مثالية: حلم، خرافة. لكن كيف يمكن أن نحيا بدون أحلام؟
تقول: «لا أختلف. لكن مَن عاد يؤمن بالهيلينية؟ مَن يتذكر حتى الكلمة؟»
– «لا تزالين تخطئين في فهم قصدي. كانت الهيلينية الرؤية الوحيدة التي استطاعت النزعة الإنسانية تقديمها. حين سقطت الهيلينية — وكان أمرًا حتميًّا؛ حيث لا شيء مهما يكن يقنع حياة شعب حقيقي — أفلست النزعة الإنسانية. كان الرجل على الغداء يرى الإنسانيات مجموعةً من التقنيات. العلوم الإنسانية، جافة كالرماد. ماذا يريد شاب أو شابة في عروقهما دم من قضاء حياتيهما في النكش في السجلات أو وضع تفسيرات لنص بلا نهاية؟»
– «لكن الهيلينية كانت، بالتأكيد، مجرد مرحلة في تاريخ الإنسانيات. وقد ظهرت منذ ذلك الوقت رؤًى أوسع وأشمل لِمَا يمكن أن تكون عليه حياة الإنسان. المجتمع اللاطبقي، على سبيل المثال، أو عالَم يُستأصَل منه الفقر والمرض والأمية والعنصرية، والتمييز الجنسي، ورهاب المثلية الجنسية، ورهاب الأجانب، وبقية الابتهالات السيئة. لا أقدِّم ذريعةً لأيٍّ من تلك الرؤى. إنني أوضِّح فقط أنَّ الناس لا يمكن أن يعيشوا بدون أمل، أو ربما بدون أوهام. إذا التفتِّ إلى أيٍّ من أولئك الناس الذين تناولنا الغداء معهم وسألتهم، كإنسانيين أو على الأقل يحملون بطاقات تقول إنهم يعملون في الإنسانيات، أن يذكروا الغاية من جهودهم، فمن المؤكد أنهم سيردون بأنهم، مهما يكن التواء الإجابة، يكافحون لتحسين وضع الجنس البشري.»
«أجل. من وقتها يكتشفون أنفسهم كتابعين حقيقيين لأسلافهم الإنسانيين، الذين زوَّدوا الرؤية العلمانية بالخلاص. بعث بدون تدخُّل المسيح، بأعمال الإنسان وحده. النهضة، على نموذج الإغريق، على نموذج الهنود الأمريكان، أو على نموذج الزولو. حسنًا، لا يمكن أن يحدث ذلك.»
– «تقولين لا يمكن أن يحدث ذلك؛ لأن الإغريق — مع أن لا أحد منهم كان يدركه — كانوا ملعونين، وكان الهنود ملعونين، وكان الزولو ملعونين.»
تهز رأسها. تقول: «بلانش، بلانش، بلانش! مَن كان يعتقد أنك ستنتهين متشدِّدةً على هذا النحو؟!»
تبتسم لها بلانش ابتسامةً باردة. يبرق الضوء على نظارتها.
٥
جاءت من أجل حفل تخرُّج، لكن المستشفى كانت ما تريد بلانش حقًّا أن تُريها، ما يكمن خلف الدعوة. تعرف ذلك، إلا أنها تقاوم. شيء لا تريده. ليست على استعداد لذلك. رأتها كلها في التليفزيون، كثيرًا جدًّا، حتى إنها لم تعد تحتمل أن تنظر إليها أكثر من ذلك؛ الأطراف الهزيلة، البطون المنتفخة، والعيون العظيمة التأثير لأطفال ضامرين، لا يُجدي معهم علاج أو رعاية. تتوسل في أعماقها خذي هذه الكأس مني! إنني عجوز بشكل لا يجعلني أحتمل هذه المشاهد، عجوز وضعيفة. سوف أصرخ فقط.
لكنها في هذه الحالة لا تستطيع أن ترفض، لا يمكن حين تكون أختها. تبرهن، عمومًا، أنها ليست سيئة، ليست سيئةً بدرجة تجعلها تقطع العلاقة معها. هيئة التمريض لا عيب فيها، والأجهزة جديدة — من التبرعات التي جمعتها الأخت بريجيت — والمناخ يغمره الاسترخاء، وربما حتى السعادة. في العنابر، المكتظة بالعاملين، نساء في الملابس الوطنية. تعتبرهنَّ أمهاتٍ أو جدَّاتٍ حتى تشرح بلانش، تقول: إنهنَّ معالجات؛ معالجات شعبيات. ثم تتذكر: هذا ما تُشتَهر به هضبة ماريان، هذا هو الابتكار العظيم الذي ابتكرته بلانش، أن تفتح المستشفى للناس، أن يكون بها أطباء محليون يعملون بجوار أطباء يمارسون الطب الغربي.
وبالنسبة للأطفال، ربما وارت بلانش أسوأ الحالات عن الأنظار، لكنها مندهشة من حالة البهجة التي تبدو حتى على الأطفال المحتضرين. الوضع كما قالت بلانش في كتابها: بالحب والعناية والعقاقير المناسبة، يمكن أن يجتاز هؤلاء الأبرياء بوابة الموت بلا خوف.
تأخذها بلانش إلى كنيسة المستشفى أيضًا. تُصدَم فورًا وهي تدخل مبنًى متواضعًا من الطوب والحديد، به صورة للمسيح المصلوب منقوشة على الخشب خلف المذبح، عليها مسيح نحيف بوجه يشبه القناع متوج بإكليل من أشواك السنط، ويداه وقدماه ليست مثقوبةً بالمسامير، بل بصواميل من الصلب! والصورة نفسها بحجم قريب من الحجم الطبيعي. يصل الصليب إلى العوارض الخشبية العارية، ويسيطر المنظر على الكنيسة، يستبد بها.
تُخبرها بلانش بأن صورة المسيح لنقَّاش محلِّي، تبنَّاه المركز منذ سنوات وزوَّده بورشة ويدفع له راتبًا شهريًّا. هل تريد أن تقابل الرجل؟
لهذا السبب، الآن، هذا العجوز بأسنان مصبوغة وأفرول وإنجليزية ملتبسة، يُقدَّم لها ببساطة باسم جوزيف، يفتح، من أجلها، باب سقيفة في ركنٍ ناءٍ من المركز. تلاحظ أن العشب كثيف حول الباب: مضى وقت طويل على وصول آخر شخص إلى هنا.
في الداخل عليها أن تتخلَّص من أنسجة العنكبوت. يتحسَّس جوزيف المفتاح، ينقره إلى أعلى وإلى أسفل بلا جدوى. يقول: «المصباح انطفأ، ولكنه لا يفعل شيئًا. لا يأتي الضَّوء إلا من الباب المفتوح والشقوق التي بين السقف والجدران. يستغرق الأمر لحظات حتى تتكيَّف عيناها.»
توجد طاولة طويلة مؤقتة في وسط السقيفة. يُوضَع على الطاولة أو يُسنَد عليها خليط من النقوش الخشبية، وتُسنَد على الجدران ألواح من الخشب، مُكدَّسة على القش، وبعضها لا يزال عليه اللحاء، وصناديق مغبرة من الكرتون.
يقول جوزيف: «ورشتي. وأنا شاب كنتُ أعمل هنا طوال اليوم، لكنني الآن عجوز.»
تلتقط صورةً للمسيح المصلوب، ليست الأكبر، لكنها كبيرة على أية حال: صورة للمسيح ارتفاعها ثماني عشرة بوصةً على صليب من خشب ثقيل محمرٍّ. «ماذا تسمِّي هذا الخشب؟»
– «كاري. خشب كاري.»
– «نَقَشْتَها؟» تُبعد صورة المسيح المصلوب بطول ذراع. كما في الكنيسة، وجه الرجل المعذَّب عبارة عن قناع مبسَّط ومشكَّل، في مستوًى واحد، العينان ضيقتان، والفم ثقيل ومتدلٍّ. والجسد، من الناحية الأخرى، طبيعي تمامًا، تستطيع أن تخمِّن أنه منسوخ عن نموذج أوروبي. الركبتان مرفوعتان، وكأن الرجل يحاول أن يتخلَّص من آلام ذراعيه بتحميل وزنه على المسمار الذي يثقب قدميه.
– «أنقش كل صور يسوع. والصليب، أحيانًا يصنعه المساعد، المساعدون.»
– «وأين مساعدوك الآن؟ ألم يعد أحد منهم يعمل هنا؟»
– «لا، مضى المساعدون. صلبان كثيرة. صلبان كثيرة لا يمكن بَيْعُها كلها.»
تحدِّق في أحد الصناديق. صور صغيرة للمسيح المصلوب، يبلغ ارتفاعها ثلاث بوصات أو أربعًا، مثل الذي تلبسه أختها، أعداد كبيرة منها، وكلها بالوجه المسطَّح ذاته، الذي يشبه القناع، ووضع الركبتين المرفوعتين نفسه.
– «ألَا تنقش أيَّ شيء آخر؟ حيواناتٍ؟ وجوهًا؟ أناسًا عاديين؟»
يمتعض جوزيف. يقول بازدراء: «الحيوانات للسائحين فقط!»
– «وأنت لا تنقش للسائحين. لا تنقش فنًّا سياحيًّا.»
– «لا، لا أنقش فنًّا سياحيًّا.»
– «لماذا تنقش إذن؟»
يقول: «من أجل يسوع. أجل. من أجل مخلِّصنا.»
٦
تقول: «رأيتُ مجموعة جوزيف. فكرة استحواذية إلى حدٍّ ما، ألَا ترين ذلك؟ مجرد صورة يكرِّرها ويكرِّرها.»
بلانش لا ترد. تتناولان غداءً، غداء يمكن أن تصفه في ظروف طبيعية بأنه ضئيل: شرائح من الطماطم، قليل من أوراق الخس الذابل، وبيضة مسلوقة. لكنها بلا شهية. تعبث بالخس، تُصيبها رائحة البيضة بالغثيان.
تُواصل: «كيف تعمل اقتصادياته؛ اقتصاديات الفن الديني، في يومنا وعصرنا؟»
– «اعتاد جوزيف أن يكون موظَّفًا بأجر في هضبة ماريان. أجر مقابل أن يعمل نقوشه، وبعض المهام الغريبة أيضًا. منذ ثمانية عشر شهرًا وهو مُحال إلى المعاش. يعاني من التهاب في مفاصل يديه. لا بدَّ أنك لاحظْتِ ذلك.»
– «لكن مَن يشتري تلك النقوش التي ينقشها؟»
– «لتقديمها هدايا؟ حين تكونين الأولى في التعليم الشفهي تحصلين على إحدى صور المسيح المصلوب التي صنعها جوزيف؟»
– «إلى حدٍّ ما. هل هناك خطأ في ذلك؟»
– «لا. ما زال هناك إنتاج كثير، أليس كذلك؟ لا بدَّ أن هناك مئات من القطع في تلك السقيفة، متماثلة كلها. لماذا لم تجعليه يعمل شيئًا آخر بجانب صور المسيح المصلوب، نقش صور صلب المسيح؟ ماذا يحدث لروح الشخص — إذا جرؤت على استخدام الكلمة — حين يقضي حياته العملية في نقش رجل يتألم مرَّة ومرَّة؟ حين لا يقوم بمهام غريبة، أليس كذلك؟»
تبتسم لها بلانش ابتسامةً فولاذية. تقول: «رجل، إليزابيث؟ رجل يتألم؟»
«رجل، رب، ربٌّ رجل، لا تجعلي منها قضية، بلانش، لسنا في درس لاهوتي. ماذا يحدث لرجل ذي مواهب حين يقضي حياته بطريقة خالية من الإبداع كما فعل جوزيف؟ ربما تكون مواهبه محدودة، ربما لا يكون فنانًا بمعنى الكلمة؛ لكن، ألَا يكون من الأعقل أن نشجِّعه على توسيع أفقه قليلًا؟»
تضع بلانش سكينها وشوكتها. «حسنًا، لنواجه النقد الذي تقدِّمينه، نواجهه في أكثر أشكاله تطرُّفًا. جوزيف ليس فنانًا، لكن ربما أصبح فنانًا إذا كنَّا — كنتُ — قد شجعتُه، منذ سنوات، لتوسيع مداركه بزيارة المعارض أو على الأقل النقاشين الآخرين ليرى ما يفعله الآخرون. وبدلًا من ذلك بقي جوزيف حِرَفيًّا أو أُبقِيَ في مستوى الحِرَفي. عاش هنا في البعثة، في ظلمة تامة، ينقش النقوش نفسها ويكرِّرها بأحجام مختلفة وباستخدام أنواع مختلفة من الخشب، حتى داهمه التهاب المفاصل وانتهت حياته العملية. وهكذا مُنِع جوزيف، بتعبيرك، من توسيع أفقه. حُرِم من حياة أكثر اكتمالًا، خاصةً حياة فنان. هل هذا يغطِّي اتهامك؟»
– «إلى حدًّ ما. ليس بالضرورة حياة فنان، لستُ حمقاء بدرجة تجعلني أوصي بذلك، مجرَّد حياة أكثر اكتمالًا.»
– «صحيح. إذا كان هذا اتهامَكِ، فسأقدِّم لك ردِّي. قضى جوزيف ثلاثين عامًا من وجوده الأرضي يصور، في عيون الآخرين بشكل مؤكَّد وأساسي في عينيه، مُخلِّصَنا في آلامه. تخيلَ ذلك الألم ساعةً بعد ساعة، يومًا بعد يوم، سنةً بعد سنة، وبإخلاص يمكن أن تلاحظيه بنفسك، أعاد إنتاجه، بأفضل ما يستطيع، بدون تبديله، وبدون إدخال أنماط جديدة عليه، بدون أن يحقن فيه شيئًا من شخصيته. من منَّا، أسأل الآن، يرحِّب به يسوع في مملكته بمزيد من السعادة: جوزيف بيديه الهزيلتين أم أنت أم أنا؟»
لا تُحب أن تركب أختها حصانها العالي وتعظ. حدث ذلك أثناء حديثها في جوهانسبرج، ويحدث مرةً أخرى. ينبثق كل ما لا يُحتمل في شخصية بلانش في تلك الأوقات: لا يُحتمل، متصلِّب ومتنمِّر.
تقول بأقصى ما تستطيع من جفاف: «أعتقد، مع ذلك، أن يسوع سيكون أسعد إذا عرف أن جوزيف كان لديه اختيار، أن جوزيف لم يُرغم على التقوى.»
– «اخرجي. اذهبي واسألي جوزيف. اسأليه إن كان قد أُرغم على شيء.» تتوقف بلانش. «هل تعتقدين أن جوزيف مجرَّد ألعوبة في يدي، إليزابيث؟ هل تعتقدين أن جوزيف لا يفهم كيف قضى حياته؟ اذهبي وتحدثي معه. استمعي له.»
– «سأفعل. لكنْ عندي سؤال آخر، سؤال لا يستطيع جوزيف الإجابة عليه لأنه سؤال لك. لماذا يجب أن يكون النموذج الذي تضعينه — أو إن لم يكن أنت فالمؤسسة التي تمثلينها — لماذا يجب أن يكون النموذج الخاص الذي تضعينه أمام جوزيف وتطلبين منه أن ينسخه، أن يقلِّده، نموذجًا لا يمكن أن أصفه إلا بالغوطي؟ لماذا مسيح يموت مشوهًا بدلًا من مسيح حي؟ رجل في صدر حياته، في أوائل الثلاثينيات: ماذا لديك ضد إظهاره حيًّا، بكل جماله الحي؟ وماذا لديك، ما دمت بصدد ذلك، ضد الإغريق؟ لم يصنع الإغريق قط تماثيل ولوحات لرجل في ألم مبرح، مُشوَّه، بشع، ثم سجدوا أمام تلك التماثيل وعبدوها. وإذا تساءلتِ عن السبب الذي جعل الإنسانيين الذين تأملين أن نسخر منهم ينتقدون المسيحية والاحتقار الذي تُبديه المسيحية لجسد الإنسان ومن ثم للإنسان نفسه، فمن المؤكد أن ذلك لا بدَّ أن يقدِّم لك مفتاحًا. لا بدَّ أن تعرفي، لا يمكن أن تكوني قد نسيتِ، أن صور يسوع في ألمه خاصية من خصوصيات الكنيسة الغربية. كانت غريبةً تمامًا في القسطنطينية، وقد اعتبرتها الكنيسة الشرقية غير لائقة، مع أنها صحيحة تمامًا.»
– «بصراحة، بلانش، ثمة شيء يصدمني في تراث تصوير المسيح على الصليب، يصدمني كشيء وضيع ومتخلف ينتمي للعصور الوسطى بأسوأ صورها؛ الرهبان القَذِرون، القساوسة الأميُّون، الفلَّاحون المرغمون على أمرهم. لماذا تنشغلين بإعادة إنتاج المرحلة الأكثر قذارةً وركودًا في التاريخ الأوروبي في أفريقيا؟»
– «لا أفهم ما ترمين إليه.»
– «لم يكن هولبين وجرونولد من فناني العصور الوسطى الكاثوليكية. كانا ينتميان لعصر الإصلاح.»
– «هذه ليست مشاجرةً أُثيرها مع الكنيسة الكاثوليكية التاريخية، بلانش. أتساءل عمَّا تحملينه، أنت نفسك، ضد الجمال. لماذا يجب على الناس ألَّا يستطيعوا النظر إلى عمل فني والتفكير في أنفسهم: ذلك ما نستطيع كجنس أن نفعله، ذلك ما أستطيع أن أفعله، وبدلًا من النظر إليه والتفكير في أنفسهم: يا إلهي سأموت، سيأكلني الدود!»
– «نعم، من هنا جاء الإغريق. ومن هنا جاء سؤالي: ماذا تفعلين، تجلبين إلى أفريقيا، تجلبين إلى أرض الزولو، من أجل الرب، الغريب بكل معنى الكلمة، الولع الغوطي بقُبح جسد الإنسان وفنائه؟ إذا كنتِ تريدين جلب أوروبا إلى أفريقيا، أليس من الأفضل جلب الإغريق؟»
– «إليزابيث، هل تعتقدين أن الإغريق غرباء تمامًا في أرض الزولو؟ أخبرك مرةً أخرى، إذا كنتِ لن تستمعي إليَّ، فمن اللياقة أن تستمعي على الأقل إلى جوزيف. هل تعتقدين أن جوزيف ينقش يسوع المتألم لأنه لا يعرف أفضل، وأنك لو أخذتِ جوزيف في جولة حول اللوفر لتفتَّحت عيناه وبدأ، لمصلحة شعبه، في نقش نساء عاريات ينظِّفن أنفسهن، أو رجال يثنون عضلاتهم؟ هل تدركين أن الأوروبيين حين احتكُّوا بالزولو أول مرة، الأوروبيين المتعلمين، رجالًا من إنجلترا من ورائهم تعليم المدارس العامة، اعتقدوا أنهم أعادوا اكتشاف الإغريق؟ قالوا ذلك بوضوح تام. أخرجوا كراسات الرسم ورسموا صورًا تخطيطية يظهر فيها المحاربون الزولو برماحهم وتظهر هراواتهم ودروعهم بالطريقة نفسها تمامًا، وبالنسب الجسدية نفسها تمامًا، التي نرى عليها هيكتور وأخيل في رسوم الإلياذة في القرن التاسع عشر، باستثناء أن جلودهم داكنة. أطراف ممشوقة، ملابس قصيرة، وقفة زهو، أنماط رسمية، فصائل عسكرية — كان ذلك كله هنا! إسبرطة في أفريقيا: هذا ما اعتقدوا أنهم وجدوه. لعقود كان هؤلاء أولادًا في المدارس العامة، وفي أذهانهم فكرة رومانسية عن العصور اليونانية القديمة، كانوا يُديرون أرض الزولو باسم التاج. أرادوا أن تكون أرض الزولو إسبرطة. أرادوا أن يكون الزولو الإغريق. وهكذا بالنسبة لجوزيف وأبيه وجده، الإغريق ليسوا قبيلةً غريبة نائية على الإطلاق. قُدِّم لهم الإغريق بواسطة حكامهم الجدد كنموذج لنوع من الناس يجب أن يوجد ويمكن أن يوجد. قُدِّم لهم الإغريق ورفضوهم. وبدلًا من ذلك تطلَّعوا إلى مكان آخر في عالم البحر الأبيض المتوسط. اختاروا أن يكونوا مسيحيين، من أتباع المسيح الحي. اختار جوزيف يسوعَ نموذجًا له. تحدَّثي إليه. سيخبرك.»
– «لا أعرف ذلك الفرع من التاريخ، بلانش، رعايا بريطانيا والزولو. لا يمكن أن أجادلك.»
– «لم يحدث ذلك في أرض الزولو فقط. حدث في أستراليا أيضًا. حدث في كلِّ العالم الذي استُعْمِر، ليس بهذا الشكل تمامًا. قدَّم هؤلاء الزملاء الشباب من أكسفورد وكمبريدج وسانت كاير لرعاياهم من البربر الجدد مثالًا زائفًا. قالوا: تخلَّوا عن أصنامكم. قالوا: يمكن أن تكونوا كالآلهة، انظروا إلى الإغريق. وفي الحقيقة، مَن يستطيع أن يفرِّق بين الرجال والآلهة في اليونان، اليونان الرومانسية التي يعرفها هؤلاء الشبان، ورثة الإنسانيين؟ قالوا: تعالوا إلى مدارسنا، وسوف نعلِّمكم الطريقة، نجعلكم من أتباع العقل والعلوم التي تتدفَّق من العقل، نجعلكم أسياد الطبيعة. من خلالنا تتغلَّبون على المرض وكل ما يُفسد الجسد. تعيشون إلى الأبد.»
– «حسنًا، يعرف الزولو أفضل.» تطوِّح يدها باتجاه النافذة، تجاه مباني المستشفى التي تحترق تحت الشمس، تجاه الطريق القذر الذي ينتهي إلى الهضاب القاحلة. «هذا هو الواقع: واقع أرض الزولو، واقع أفريقيا. الواقع الآن والواقع في المستقبل بقدر ما يمكن أن نرى؛ لهذا يأتي الأفارقة إلى الكنيسة ليركعوا أمام يسوع على الصليب، والأفريقيات قبل الجميع، اللائي عليهنَّ احتمال وطأة الواقع؛ لأنهم يعانون وهو يعاني معهم.»
– «ليس لأنه يعدهم بحياة أخرى أفضل بعد الموت؟»
تهز بلانش رأسها. «لا. لا أَعِد الناسَ الذين يأتون إلى هضبة ماريان بشيء سوى بأن نساعدهم على حمل صليبهم.»
٧
الثامنة والنصف صباح الأحد، لكن الشمس حامية بالفعل. سوف يأتي السائق في الظهيرة ليصطحبها إلى دربان والطيران إلى الوطن.
فتاتان صغيرتان في ملابس مبهرجة، حافيتان، تتسابقان إلى حبل الجرس وتبدءان في شدِّه. يرنُّ الجرس بشكل متقطِّع على قمَّة دعامته.
تقول بلانش: «هل ستجيئين؟»
– «أجل، سأكون هناك. هل أحتاج إلى تغطية رأسي؟»
«تعالي كما أنتِ. لا رسميات هنا. لكن احذري: لدينا زيارة من طاقم تليفزيون.»
– «تليفزيون؟»
– «من السويد. يُنتجون فيلمًا عن المعونات في كوازولو.»
– «والقَسُّ؟ هل أُخبِر القس بأنَّ الخدمة يتم تصويرها في فيلم؟ مَن القَسُّ على أية حال؟»
– «سيقيم القداس الأب مسيمُنجو من هضبة ديل. ليس لديه اعتراض.»
الأب مسيمنجو، حين يصل في جولف رائعة تمامًا، شاب، طويل جدًّا، بنظارة. يذهب إلى الصيدلية ليرتدي ثيابَه؛ تنضم إلى بلانش وحفنة من الأخوات الأخريات في الجماعة في مقدمة المجموعة. أضواء الكاميرا مضبوطة بالفعل ومسلَّطة عليهنَّ. لم تفشل في أن ترى، في بهرجتهنَّ الوحشية، كم كُنَّ عجائز. أخوات مريم: ذرية محتضرة، مهنة منقرضة.
الكنيسة شديدة الحرارة تحت سقفها المعدني. لا تعرف كيف تحتملها بلانش في زيِّها الثقيل.
القدَّاس الذي يقوده مسيمنجو يُقام بلغة الزولو، إلا أنَّها تستطيع من حين إلى آخر الْتقاط كلمة إنجليزية. يبدأ برزانة شديدة؛ ولكن بانتهاء الصلاة الأولى كانت هناك بالفعل همهمة بين الحشد. على مسيمنجو، مستهلًّا عظته الدينية، أن يرفع صوته ليُسمَع. صوت جهوري، يُثير الدهشة في مثل هذا الشاب الصغير. يبدو أنه يأتي عميقًا من الصدر بدون مجهود.
يستدير، يركع أمام المذبح. يسود صمت. فوقه يلوح الرأس المتوَّج للمسيح المعذَّب، ثم يستدير ويعرض خبز القربان. ثمَّة صيحة سعيدة من المصلين. يبدأ الضرب الإيقاعي الذي يجعل الأرضية الخشبية تهتز.
تشعر أنها تترنَّح. الهواء مُشبَّع برائحة العرق. تُمسك بذراع بلانش. تهمس: «لا بدَّ أن أخرج!» ترمقها بلانش بنظرة تقدير. «برهة أخرى فقط»، تهمس بدَورها، وتستدير.
تأخذ نفَسًا عميقًا، محاوِلةً أن تصفِّي ذهنها، لكنه لا يُجدي نفعًا. يبدو أنَّ موجةً من البرد تصعد من أصابع قدميها. تصعد حتى وجهها، تخترق رجفة البرد رأسها، تفقد الوعي.
تستيقظ مستلقيةً على ظهرها في غرفة عارية لا تتعرَّف عليها. بلانش هناك، تحدِّق فيها، وامرأة شابة في زيٍّ أبيض. تُغمغم: «آسفة.» وتجاهد لتجلس: «هل فقدتُ الوعي؟»
تضع المرأة الشابة يدًا على كتفها لطمأنتها. تقول: «كلُّ شيء على ما يرام، لكن يجب أن تستريحي.»
ترفع عينيها إلى بلانش. تُكرِّر: «آسفة، قارات كثيرة جدًّا.»
تنظر إليها بلانش باستغراب.
تُكرِّر: «قارات كثيرة جدًّا. أعباء كثيرة جدًّا.» يبدو صوتها رقيقًا في أذنيها، وبعيدًا. تقول: «لم أتناول طعامًا مناسبًا. لا بدَّ أن ذلك هو السبب.»
لكن هل هذا هو السبب؟ هل اضطراب المعدة يومين يسبِّب فقدان الوعي؟ بلانش تعرف. لا بدَّ أن لبلانش خبرةً في الصوم، وفقدان الوعي. تتوقَّع، من ناحيتها، أن اعتلالها ليس مجرد نتيجة لسبب جسدي. إذا اعتلَّت إلى هذا الحد، فعليها أن ترحِّب بهذه الخبرات على قارة جديدة، مارة ببعضها. لكنها ليست معتلةً اعتلالًا شديدًا. هذا ما يقوله جسدها، بطريقته الخاصة. جسدها غريب تمامًا ويشكو بكثرة: أريد العودة إلى وسطي القديم، إلى حياتي التي أعرفها.
٨
تبتسم بلانش: «إذا كانوا قد فعلوا، فسأطلب منهم حذفها.» لحظة توقُّف بين الاثنتين. تُفكِّر: ربما تقول الآن لماذا جاءت بي إلى هنا.
تقول بلانش: «إليزابيث» (هل هناك شيء جديد في نبرتها، شيء أرق، أم إنها تتخيَّل ذلك فقط؟)، «تذكَّري أنه إنجيلهم، مسيحهم. هذا ما صنعوا منه، هم، الناس العاديون. ما صنعوا منه وما تركهم يصنعونه منه. نتيجة الحب. ليس في أفريقيا فقط. ترين مشاهد مثلها بالضبط تتكرَّر في البرازيل، في الفلبين، وحتى في روسيا. الناس العاديون لا يريدون الإغريق. لا يريدون عالم الصيغ المجردة. لا يريدون التماثيل الرخامية. يريدون شخصًا يعاني مثلهم، مثلهم ومن أجلهم.»
يسوع، الإغريق، ليس هذا ما توقَّعَته، ليس ما كانت تريده، ليس في هذه الدقيقة الأخيرة وكلٌّ منهما تودِّع الأخرى ربما للمرة الأخيرة. ثمَّة شيء لا يلين في بلانش، حتى الموت. لا بدَّ أنها تعلَّمتْ درسَها؛ الأخوات لا يتركن بعضهنَّ أبدًا، على عكس الرجال، الذين يتركون بعضهم بكلِّ سهولة. ويُغلَق على النهاية بعناق بلانش.
تقول، دون أن تحاول إخفاء المرارة في صوتها: «هكذا: انتصرتِ، أيَّتها المسيحية الشاحبة. هل هذا ما تودين أن تسمعيه مني بلانش؟»
– «إلى حدٍّ ما، عدتِ خاسرةً، يا عزيزتي. إذا كنت قد راهنتِ على إغريقي آخر ربما كانت أمامك فرصة. أورفيوس بدلًا من أبوللو. المنتشي بدلًا من العقلاني. شخص يغيِّر الشكل، ويغيِّر اللون، طبقًا لِمَا حوله. شخص يمكن أن يموت لكنه يعود. حرباء، عنقاء، شيء يغري النساءَ؛ لأن النساء هنَّ اللائي يعشن أقرب إلى الأرض. شخص يتحرَّك بين الناس، يمكن أن يلمسوه، يضعوا يدهم على جانبه، يشعروا بالجرح، ويشمُّوا الدماء. لكنك لم تفعلي، وخسرْتِ. ذهبتِ إلى الإغريق الخطأ، يا إليزابيث.»
٩
مرَّ شهر. إنها في بيتها، مستقرَّة في حياتها، والمغامرة الأفريقية خلفها. لم تفعل شيئًا بعدُ بشأن الالْتقاء مرَّةً أخرى ببلانش، إلا أنَّ ذكرى فراقهما غير الأخوي تزعجها.
تكتب: «ثمَّة قصة أريد أن أرويها لك، عن أم.»
تكتب لنفسها؛ أي لكلِّ مَن معها في الغرفة حين تكون هي كل من فيها. لكنَّ الكلمات لن تأتي، كما تعرف، إلا إذا اعتبرت هذه الكتابة خطابًا إلى بلانش.
وكانت إحدى هواياته الرسم بالألوان المائية. رأيتُ بعضَ أعماله. كانت صوره البشرية متخشبة، لكن كان لديه شعور بالمشهد الطبيعي، بالدغل، شعور أصيل، على ما كنتُ أظن، شعور بالضوء وما تفعله المسافة بالضوء.
رسم لوحةً للأمِّ في زيِّها الأزرق الشفاف، ووشاح من الحرير يخفق خلفها. ليست صورةً ناجحة تمامًا، لكنني احتفظتُ بها، ما زالت لديَّ في مكان ما.
جلستُ أيضًا ليرسمني. وكان ذلك بعد أن أُجريت له جراحة وقبع في غرفة، أو اختار ألَّا يخرج بأي حال. كان الجلوس ليرسمني فكرة الأم. قالت الأم: «إذا استطعتِ أن تأخذيه من نفسه قليلًا! لا أستطيع؛ يقضي اليوم كله وحيدًا ضجرًا.»
انطوى مستر فيليبس على نفسه بعد إجراء عملية جراحية، استئصال الحنجرة. تركتْه بثقب من المفترض أن يتكلم من خلاله بأداة تعويضية، لكنَّه كان يشعر بالخجل من الثقب البشع الذي يبدو فجًّا في زوره، وهكذا انسحب من المشهد العام. كان لا يستطيع أن يتكلَّم على أية حال. بشكل غير مفهوم، لم يبالِ أبدًا بأن يتعلَّم التنفُّس الصحيح. كان في أفضل الأحوال يُصدر نوعًا من النقيق. لا بدَّ أن ذلك كان مُهينًا جدًّا لمثل هذا الرجل المغرم بالسيدات.
تفاوضنا أنا وهو كتابة، وكانت النتيجة سلسلةً من الجلسات بعد ظهيرة أيام السبت ليرسمني. كانت يده ترتجف قليلًا في ذلك الوقت، لا يستطيع أن يعمل إلا ساعةً في كل مرة؛ السرطان يهاجمه بأكثر من طريقة.
كانت لديه شقة من أفضل الشقق في أواكجروف، في الطابق الأرضي، بأبواب فرنسية تؤدي إلى حديقة. ومن أجل رسم صورتي جلستُ بجوار باب الحديقة في كرسي ثابت منقوش مرتديةً حِرامًا اشتريته من جاكرتا، مطبوعًا باليد بالبرتقالي والبني الغامق. لا أعرف أنه جعلني أكثر جاذبيةً بشكل خاص، لكنني ظننتُ أن الألوان تمتِّعه كرسَّام، تعطيه شيئًا يلعب به.
في أحد أيام السبت — صبرًا، سأدخل في الموضوع — وكان يومًا دافئًا جميلًا والحَمَام يهدل على الأشجار، وضع فرشاته وهزَّ رأسه وقال شيئًا بنقيقه لم أفهمه. قلتُ: «لم أسمع، إيدان. كرَّر: «لا تعملُ»، ثم كتب شيئًا على ورقة وأحضرها إلي. كتب: «أتمنى أن أستطيع رسمك عارية.» وفي أسفل الورقة: «أحببْتِ ذلك.»
لا بدَّ أن هذا كلَّفه شيئًا ليتوصل إليه. أحببتِ ذلك، ماضٍ افتراضي. لكن ماذا كان يعني بالضبط؟ يمكن تصوُّر أنه كان يعني «أحببتُ أن أرسمك وأنت لا تزالين صغيرة»، لكنني لا أعتقد ذلك. «أحببتُ لو رسمتُكِ وأنا ما أزال رجلًا»، وهذا أرجح. وهو يُريني الكلمات رأيتُ شفته ترتجف. أعرف أنَّ على المرء ألَّا يعوِّل كثيرًا على الشفاه المرتجفة والعيون الدامعة في المسنين، لكن يبقى …
ابتسمتُ وحاولتُ أن أدعمه وأخذتُ وضعي مرةً أخرى، وعاد إلى حامله، وعاد كلُّ شيء إلى ما كان عليه، باستثناء أنني رأيتُ أنه لم يعد يرسم، يقف فقط والفرشاة تجف في يده. وهكذا فكرتُ — آتي أخيرًا إلى الموضوع — فكرتُ: يا له من جحيم؛ حللتُ الحِرام وأزحته من على كتفيَّ وخلعتُ حمالة الثديين وعلَّقتها على ظهر الكرسي، وقلتُ: «كيف ذلك، يا إيدان؟»
لا أستطيع أن أقول ما إن كان يعمل، ما إن كانت رؤيتي شبه عارية تشعل أيَّ شيء فيه مرةً أخرى. لكنني استطعتُ أن أشعر بكل ثقل نظرته عليَّ، على ثديَي، وبصراحة، كانت رائعة. كنتُ وقتها في الأربعين، وكان ورائي طفلان، لم يكونا ثديَيِ امرأة شابَّة، لكنها كانت رائعةً رغم ذلك، اعتقدتُ ذلك، وما زلتُ أعتقد ذلك، في موضع الذبول والاحتضار. بَرَكة.
وبعد برهة، حين طالت الظلال في الحديقة وبرد الجو، تصرَّفتُ بشكل مهذَّب مرةً أخرى. قلتُ: «إلى اللقاء، إيدن، يباركك الرب.» وكتب «شكرًا» على الورقة وأراها لي، وهذا ما كان. لا أعتقد أنه كان يتوقَّع عودتي في السبت التالي، ولم أَعُدْ. لا أعرف إن كان قد أنهى اللوحة بنفسه. ربما حطَّمها. ومن المؤكد أنه لم يُرِها للأم.
بلانش، لماذا أحكي لك هذه القصة؟ لأنني أربطها بالمحادثة التي دارت بيني وبينك في هضبة ماريان عن الزولو والإغريق والطبيعة الحقيقية للإنسانيات. لا أريد أن أتخلى عن خلافنا؛ لا أريد أن أنصرف عن المجال.
الواقعة التي أحكيها لك عن المرور في غرفة معيشة مستر فيليبس، واقعة ضئيلة في ذاتها، وقد أربكتني لسنوات، والآن فقط، بعد العودة من أفريقيا، أعتقد أنني أستطيع أن أفسِّرها.
بالطبع كان هناك عنصر من الانتصار في الطريقة التي تصرفتُ بها، عنصر من التباهي، لا أزهو به: المرأة القوية تضايق الرجل الآفل، تكشف له عن جسدها إلا أنها تحافظ على المسافة بينهما. مضايقة الديك، هل تتذكرين مضايقة الديك في تلك الأيام الغابرة؟
لكن المسألة كانت أكبر من ذلك. كانت بالنسبة لي نابعةً من شخصية. ظَلِلتُ أتساءل: من أين واتتني الفكرة؟ من أين تعلَّمتُ ذلك الوضع، محدِّقةً بعيدًا بهدوء وثوبي معلَّق حول خصري كسحابة وجسدي المقدَّس مكشوف؟ من الإغريق، أدركُ الآن، بلانش: من الإغريق وممَّا صنعته أجيال من رسَّامِي عصر النهضة بالإغريق. حين كنتُ أجلس هناك لم أكن نفسي، أو لم أكن نفسي فقط: من خلالي تكشف إلهةٌ عن نفسها، أفروديت أو حيرا أو ربما حتى أرتميس. كنتُ من الخالدات.
وليست هذه هي النهاية. استخدمتُ كلمة «بركة» منذ لحظة. لماذا؟ لأن ما كان يحدث دار حول ثدييَّ، هذا ما كنتُ متأكدةً منه، حول ثدييَّ ولبن الثدي. بصرف النظر عمَّا فعلتْه هؤلاء الإلهات الإغريقيات في العصر القديم من أشياء أخرى، فإنهنَّ لم ينضحن، بينما كنتُ أنضح، بالمعنى المجازي: كنتُ أنضح في غرفة مستر فيليبس، شعرتُ بذلك وأُراهن أنه شعر به أيضًا، بعد أن غادرتُ بوقت طويل.
تخيَّلي المشهد في استوديو كوريجو في ذلك اليوم، بلانش. يشير الرجل بفرشاته: «احملوها، هكذا. لا، ليس باليد، بإصبعين فقط.» يعبر الأرضية، يريها. «هكذا.» تطيع المرأةُ، وتفعل بجسمها ما يأمر به. يشاهد رجال آخرون اللحظة كلها من الظلال: الغلمان، الرفاق الرسامون، الزائرون.
من يعرف مَنْ كانت موديله في ذلك اليوم: امرأة من الشوارع؟ زوجة الراعي؟ المناخ في الاستوديو مكهرب، لكن بماذا؟ بطاقة شهوانية؟ قضبان كل أولئك الرجال، قضبانهم تستثار؟ بلا شك. إلَّا أنَّ شيئًا آخر في الهواء أيضًا. عبادة. تتوقَّف الفرشاة وهم يعبدون اللغز الذي يبدو لهم: من جسد امرأة، يتدفَّق تيار الحياة.
بلانش، هل في أرض الزولو ما يقابل تلك اللحظة؟ أشك في ذلك. ليس هذا المزيج الرائع من النشوة والجمال. لا يحدث إلَّا مرةً واحدة في تاريخ الجنس البشري، في عصر النهضة في إيطاليا، حين يتم اختراق الصور والشعائر المسيحية الخالدة بحلم الإنسانيين باليونان القديمة.
في كلِّ حديثنا عن النزعة الإنسانية والإنسانيات كانت هناك كلمة التفَّ كلٌّ منَّا حولها: الإنسانية. حين تبتسم مريم المباركة بين النساء ابتسامتها الملائكية البعيدة وتعرض حلمتها القرنفلية الحلوة أمام نظرتنا، حين أعرِّي، مقلدةً إياها، ثدييَّ لمستر فيليبس العجوز، نمارس أعمالًا إنسانية. مثل هذه الأعمال غير متاحة للحيوانات، التي لا تستطيع أن تتعرَّى لأنها لا تغطِّي نفسها. لا شيء يرغمنا، مريم أو أنا، على فعل ذلك. لكننا نفعله رغم كل شيء نتيجة الفيضان، تدفُّق قلوبنا الإنسانية: نخلع ثيابنا، ونتعرَّى، نكشف الحياة والجمال اللذين أُنعِمَ علينا بهما.
الجمال، بالتأكيد من أرض الزولو، حيث لديك الكثير من الأجساد العارية التي تنظرين إليها، لا بدَّ أن تسلِّمي، بلانش، بأنْ لا شيء أجمل إنسانيًّا من ثديَيِ امرأة. لا شيء أجمل إنسانيًّا، لا شيء أكثر إلغازًا إنسانيًّا من السبب الذي يجعل الرجال يريدون ملاطفة هاتين الحويصلتين الدهنيتين المنحنيتين الغريبتين، مرةً بعد أخرى، بفرشاة الرسم أو الأزميل أو اليد، ولا شيء محبَّب وأكثر إنسانيةً من تعقُّدنا (أقصد تعقُّد النساء) في هواجسهم.
الإنسانيات تعلِّمنا الإنسانية. بعد قرون طويلة من الليل المسيحي، تُعيد إلينا الإنسانيات جمالنا، جمالنا الإنساني. هذا ما نسيتِ قوله. هذا ما يعلِّمنا إياه الإغريق، بلانش، الإغريق الحقيقيون. فكِّري في ذلك.
هذا ما تكتبه. ما لا تكتبه، ما لا تنوي أن تكتبه، هو كيف تسير القصة، قصَّة مستر فيليبس، وجلساتهما بعد ظهيرة أيام السبت في البيت القديم.
لأن القصة لا تنتهي كما قالت، بتغطيتها نفسها بذوق، وكتابة مستر فيليبس كلمة أشكرك وتركها غرفته. لا، تبدأ القصة مرةً أخرى بعد شهر، حين تذكر الأم أن مستر فيليبس دخل المستشفى للحصول على جرعة أخرى من العلاج الإشعاعي، وعاد في حالة سيئة، مكتئبًا جدًّا، ويائسًا جدًّا. لماذا لا تُلقي نظرةً عليه، تحاول أن تبهجه؟
تقرع بابه، تنتظر لحظة، تدخل.
لا خطأ في العلامات. لم يعد رفيقًا عجوزًا نَشِطًا، مجرَّد رفيق عجوز، حقيبة قديمة من العظام في انتظار أن تُنقَل بعيدًا. مستلقيًا على ظهره فاردًا ذراعيه، ويداه مرتخيتان، اليدان اللتان كانتا في الفضاء منذ شهر تصبحان زرقاوين مليئتين بالعُقد بدرجة تجعلك تشكُّ أنَّها كانت صالحةً للإمساك بفرشاةٍ ذات يوم. ليس نائمًا، يستلقي فقط، ينتظر. يسمع أيضًا، دون شك، الأصوات الداخلية، أصوات الألم (تفكِّر مع نفسها: علينا ألَّا ننسى ذلك، بلانش، ألَّا ننسى الألم. هلع الموت ليس كافيًا: على قمَّته الخوف، يتعاظم، كطريقة لوضع نهاية لزيارتنا لهذا العالم، أي وحشية يمكن أن تكون أكثر مهارةً وأكثر شيطانية؟).
تقف بجوار الرجل العجوز؛ تأخذ يده. ومع أنه لا شيء ممتع في ثَنْي هذه اليد الباردة الزرقاء في يدها، تفعل ذلك. لا شيء ممتع في أي شيء من هذا القبيل. تُمسك باليد وتعصرها وتقول: «إيدن!» بأرقِّ صوت، وتشاهد الدموع تتدفق، دموع المسنِّين التي لا توضع في الحسبان لأنها تأتي بسهولة شديدة. لا شيء يمكن أن تقوله، ومن المؤكَّد أنه لا شيء يمكن أن يقوله من الثقب الموجود في زوره، وهو الآن مُغطًّى بعناية بضمادة من الشاش. تقف هناك ممسكةً بيده حتى تأتي الممرضة نايدو بعربة الشاي والحبوب؛ ثم تساعده ليجلس ليشرب (من كوب ببزبوز، مثل طفل عمره سنتان، الإذلال لا حدود له).
تزوره من جديد في السبت التالي، والذي يليه؛ يصبح روتينًا جديدًا. تُمسك يده وتحاول أن تريحه بينما ترصد بعين باردة مراحل تدهوره. تتمُّ الزيارات بالحد الأدنى من الكلمات. لكن في أحد أيام السبت، حين كانت هناك ثرثرة أكثر بعض الشيء، ونشاط أكثر بعض الشيء، يدفع الورق تجاهها وتقرأ الرسالة التي كتبها مقدمًا: «لك صدر رائع. لن أنسى أبدًا. شكرًا على كل شيء، إليزابيث الحنون.»
تعيد إليه الورق. ماذا يمكن أن تقول؟ تأخذ إجازةً ممَّا أحببت.
بقوة فجَّة واهية يمزِّق الصفحة من مجموعة الورق، ويكوِّمها ويلقي بها في السلة، ويرفع إصبعًا إلى شفتيه كما لو أنه يقول: سرُّنا.
تفكِّر مع نفسها مرةً أخرى: يا له من جحيم! تذهب إلى الباب وتُغلق الترباس. في كوة صغيرة يعلِّق عليها ملابسه تخلع ثيابها، صدرية الثديين، ثم تعود مرةً أخرى إلى السرير، وتجلس حيث يمكنه أن يرى بشكل جيد، وتستعيد وضع الرسم. تفكِّر: متعة، لِنُقدِّمْ للولد العجوز متعة، لنُنِرْ سَبْتَه.
هناك أشياء أخرى تفكِّر فيها أيضًا، وهي تجلس على سرير مستر فيليبس في برد ما بعد الظهيرة (لم نعد في الصيف الآن، بل في الخريف، أواخر الخريف)، هذا البرد الذي يجعلها ترتجف قليلًا بعد لحظة. موافقة الراشدين: أيُّ موافقة للبالغين تتمُّ خلف الأبواب المغلقة لا تعني أحدًا سواهم.
يمكن أن يكون هذا موضعًا آخر مناسبًا لإنهاء القصة. لا تحتاج إلى تكرار بصرف النظر عن الطبيعة الحقيقية لِمَا يسمَّى المتعة. السبت التالي، إذا كان لا يزال حيًّا، إذا كانت لا تزال حية، سوف تأتي وتمسك يده مرةً أخرى؛ لكن لا بدَّ أن يكون آخر الوضع، آخر عرض للصدر، آخر النعمة. بعد ذلك لا بدَّ من الغلق على الثديين، ربما الغلق عليهما إلى الأبد. هكذا يمكن أن تنتهي هنا، بالبقاء على هذا الوضع عشرين دقيقةً كاملة، يمكن أن تقدِّر، رغم الرجفة. كقصة، حكاية، يمكن أن تنتهي هنا ويبقى من المناسب تمامًا وضعها في ظرف وإرسالها إلى بلانش بدون تخريب بصرف النظر عمَّا كانت تريد أن تقوله عن الإغريق.
لكنها في الحقيقة تستمر فترةً قصيرة بعد ذلك، خمس دقائق أو عشرًا، وهذا هو الجزء الذي لا يمكن أن تقوله لبلانش. تستمر بما يكفي لها، المرأة، أن تسقط يدًا عَرَضًا على مفرش السرير وتبدأ تمرِّرها، برقة، إلى المكان الذي يجب أن يوجد به القضيب، إذا كان القضيب حيًّا ويقظًا؛ ثم، حين لم تكن هناك استجابة، تضع الأغطية جانبًا وتفك رباط بيجامة مستر فيليبس، بيجامة العجوز، المصنوعة من الفلانيلة كما لم ترَ منذ سنوات — لم تكن تتوقع أن المرء يمكن أن يجدها في المحلات — وتفتحها من الأمام وتغرس قبلةً على الشيء الصغير المرتخي تمامًا، وتأخذه في فمها وتمضغه حتى تنبعث فيه الحياة بوهن. المرة الأولى التي ترى فيها شعر عانة تحوَّل إلى الرمادي. غباء منها ألَّا تدرك أن هذا يحدث. سوف يحدث لها أيضًا، في الوقت المناسب. والرائحة ليست طيبةً أيضًا، رائحة الأجزاء السفلى لرجل عجوز، أجزاء تُغسل على عَجَل.
وبالنسبة لها، إليزابيث، جثمت على حقيبة قديمة من العظام وثدياها متدليان، يؤثران من بعيد على عضو التناسل، العضو المندثر تقريبًا. أيُّ اسم يطلقه الإغريق على مشهد بهذا الشكل؟ ليس إيروس، بالتأكيد، أغرب من أن يحمل هذا الاسم. حب روحي؟ مرةً أخرى، ربما لا. هل يعني هذا أن الإغريق ليس لديهم كلمة له؟ هل على المرء أن ينتظر المسيحيين ليأتوا معهم بالكلمة المناسبة: كريتاس؟
لهذا تقتنع، في النهاية، بأنه كذلك. من تورُّم قلبها تعرفه، من الاختلاف التام غير المتناهي بين ما في القلب وما تراه الممرضة نايدو، إذا كان على الممرضة نايدو، ببعض سوء الحظ، أن تفتح الباب، مستخدمةً مفتاحها، وتدخل.
إلا أنَّ هذا ليس الأهم في ذهنها. ما تفعل به الممرضة نايدو، ما يفعل به الإغريق، ما تفعل به الأم في الطابق التالي. الأهم ما سوف تفعل هي نفسها به، في السيارة وهي عائدة إلى البيت، أو حين تستيقظ في صباح الغد، أو بعد سنة. ماذا يمكن للمرء أن يفعل بأحداث من هذا النوع، غير المتوقعة وغير المخطَّط لها، النابعة من الشخصية؟ هل هي مجرَّد ثقوب، ثقوب في القلب، يخطو إليها المرء ويسقط ويواصل السقوط؟
تفكِّر: بلانش، عزيزتي بلانش، لماذا يوجد حاجز بيننا؟ لماذا لا نستطيع أن نتحدث معًا بشكل مباشر وصريح، كما يجب أن يفعل أناس على حافة الموت؟ رحلت الأم، حُرِق مستر فيليبس العجوز وتحوَّل إلى مسحوق نُثر في الرياح، من العالم الذي نشأنا فيه، بمجرد أن أتركه أنا وأنت. يا أخت شبابي، لا تموتي في حقل غريب وتتركيني بدون ردٍّ!