مشكلة الشر
دُعيتْ للحديث في مؤتمر في أمستردام، مؤتمر عن مشكلة قِدم الشر: لماذا يوجد شر في العالم، وما إن كان يمكن عمل أي شيء بهذا الشأن.
تستطيع أن تُخمِّن بذكاء السبب الذي جعل المنظِّمين يختارونها: بسبب كلمة ألقتها العام الماضي في كلية في الولايات المتحدة، كلمة هوجمت بسببها على صفحات «التعليق» (كانت التهمة: الاستخفاف بالمحرقة)، ودافع عنها أناس أربكها دعمهم في معظمه: معادون للسامية متخفون، متعاطفون مع حقوق الحيوانات.
تحدَّثت في تلك المناسبة عمَّا رأت ولا تزال ترى أنه استعباد كلِّ الأجناس الحيوانية. العبد: كائن حياته وموته في أيدي الآخرين. هل البقر والأغنام والدجاج شيء آخر؟ لم يكن تصوُّر معسكرات الموت ممكنًا بدون غرس مثال معالجة اللحوم أمامهم.
هذا ما قالته وأكثر: بدا واضحًا لها أنه يستحق بالكاد أن تتوقَّف عنده. لكنَّها ذهبت خطوةً أبعد، خطوةً بعيدة جدًّا. قالت إن ذبح العُزَّل يتكرَّر حولنا يومًا بعد يوم، وهو ذبح لا يختلف في القيمة أو الهلع أو الأهمية الأخلاقية عمَّا نسميه المحرقة؛ إلا أننا نختار ألَّا نراه.
على قدر مساوٍ من الأهمية الأخلاقية: توقفوا عنده. كان هناك اعتراض من طلبة مركز الخليل. طلبوا أن تنأى أبليتون كوليج كمؤسسة بنفسها عن ثرثرتها. في الحقيقة، على الكلية أن تتخذ خطوةً أبعد وتعتذر عن تقديم المنصة لها.
في موطنها الأصلي تناولت الصحف القصَّة بغبطة. كتبت صحيفة «العصر» تقريرًا بعنوان «روائية فائزة بجائزة تُتَّهم بمعاداة السامية»، وأعادت نشر الفقرات المزعجة من كلمتها، مزودَّةً بعلامات ترقيم غير صحيحة. بدأ التليفون يرنُّ في كلِّ الأوقات: صحفيون، في معظمهم، وغرباء أيضًا، ومنهم امرأة مجهولة الاسم صرخت عبر الخط، «أنت كلبة فاشستية!» وبعد ذلك توقفت عن الرد على التليفون. كانت هي التي تُحاكَم فجأة.
ورطة، كان عليها أن تتنبأ بها وتتجنبها. ماذا يمكن أن تفعل على منصة محاضرات مرةً أخرى؟ عليها الابتعاد عن الأضواء إذا كان لديها إحساس. إنها عجوز، تشعر بالإرهاق طوال الوقت، فقدتْ شهية الجدل، شهية كانت تتمتع بها دائمًا. وعلى أية حال، أي أمل هناك في حل مشكلة الشر، إذا كانت «مشكلة» الكلمة المناسبة للشر حقًّا، كبيرةً بما يكفي لاحتوائه، حلها بمزيد من الحديث؟
لكن حين وصلتها الدعوة كانت تحت تأثير نوبة خبيثة لرواية تقرؤها. كانت الرواية عن فساد من أسوأ الأنواع، وقد جرفتها إلى مزاج اكتئابي بلا قاع. «لماذا تفعل هذا بي؟» أرادت وهي تقرأ أن تصرخ، يعلم الرب في مَنْ. في اليوم ذاته وصل خطاب الدعوة. هل لإليزابيث كُسْتِلُّو، الكاتبة المحترمة، أن تشرِّف مجموعةً من اللاهوتيين والفلاسفة بحضورها، وحديثها، إذا كان ذلك يسعدها، تحت العنوان العام «الصمت والتعقيد والذنب»؟
هذا ما كتب عنه بول ويست، الروائي، صفحة بعد صفحة، دون أن يترك شيئًا؛ وهذا ما قرأتْه، مشمئزةً من المشهد، مشمئزةً من نفسها، مشمئزةً من عالم حدثت فيه تلك الأشياء، حتى إنها دفعت الكتاب في النهاية بعيدًا عنها وجلست ورأسها في يديها. فُحش! أرادت أن تصرخ لكنها لم تصرخ؛ لأنها لم تعرف لمن توجِّه الكلمة: لنفسها، للغرب، ملائكة ينظرون بهدوء لكلِّ ما يحدث. فحش لأن تلك الأشياء يجب ألَّا تحدث، وفُحش أيضًا لأنها وقد حدثت كان يجب ألَّا تُلقى عليها الأضواء بل تُغطَّى وتختفي إلى الأبد في باطن الأرض، مثلما يحدث في مجازر العالم، إذا أراد المرء أن يحافظ على عقله.
أتى خطاب الدعوة ولمسة الفحش للكتاب الغربي ما زالت تسيطر عليها. هذا، باختصار سبب وجودها الآن في أمستردام، وكلمة فُحش ما زالت تتفجَّر في حنجرتها. فحش: ليست فقط أعمال جلادي هتلر، ليست فقط أعمال الجزَّار، ولكن أيضًا صفحات الكتاب الأسود لبول ويست. مَشاهد لا يجب أن تظهر في وضح النهار، ويجب حماية عيون الأطفال والعذارى منها.
من فندقها تتجوَّل على قناة، امرأة عجوز في سترة المطر، لا تزال تشعر ببعض الدوخة، تترنح قليلًا على قدميها، بعد رحلة طيران طويلة من الطرف الآخر من الدنيا. مشوشة: هل تنتابها هذه الأفكار السوداء لأنها، ببساطة، فقدت اتساقها مع نفسها؟ إذا كان الأمر كذلك، فربما يكون عليها أن تقلِّل من السفر، أو تكثر.
•••
بحثها المعتاد عن الرقابة يحمل أفكارًا ليبرالية، وربما لمسة التشاؤم الثقافي الذي ميَّز تفكيرها مؤخرًا: حضارة الغرب قائمة على إيمان بمسعًى غير محدود وغير قابل للتحديد، الوقت متأخر جدًّا لنعمل شيئًا بهذا الشأن، لا بدَّ أن نتمسك به ونذهب إلى حيث تأخذنا الرحلة. يبدو أن آراءها تتغير تمامًا في موضوع غير قابل للتحديد. وقد ساهمت قراءتها لكتاب ويست في ذلك التغيُّر، كما تظن، مع أنه من المحتمل أن التغيُّر حدث بأي طريقة، لأسباب أكثر غموضًا بالنسبة لها. لم تعد، بشكل خاص، موقنةً من أن الناس يُصبحون دائمًا أفضل بالقراءة. بالإضافة إلى أنها ليست موقنةً من أن الكُتَّاب الذين يتجرءون على الدخول في المناطق الأكثر ظلمةً من الروح يعودون دائمًا دون أن يتعرَّضوا للأذى. بدأت تتساءل إن كانت الكتابة التي يحبها المرء شيئًا طيبًا في ذاته أكثر من القراءة التي يحبها.
تنتقل عينها إلى القائمة. لم تسمع عن معظم الرفاق المشاركين في المؤتمر. ثم يلفت نظرها الاسم الأخير في القائمة، يرتجف قلبها. «بول ويست، روائي وناقد». بول ويست: الغريب الذي تضحِّي عن حالة روحه بصفحات عديدة. تسأل في محاضرتها: هل يمكن لأحد أن يتوغل بعمق مثلما يفعل بول ويست في غابة الهلع النازي ويخرج دون أن يصاب بأذًى؟ كيف تقدِّم الكلمة، كيف تطرح مثل هذا السؤال، وبول ويست نفسه يجلس بين المستمعين؟ سيبدو هجومًا، هجومًا وقحًا، بلا مبرر، وفوق كل شيء هجومًا شخصيًّا على رفيق من الكُتَّاب. مَنْ يصدق الحقيقة: لم تتعامل مع بول ويست قط، لم تقابله قط، ولم تقرأ له إلا هذا الكتاب؟ ماذا تفعل؟
من بين عشرين صفحةً يتكون منها نص كلمتها، نصفها تمامًا مكرَّس لكتاب فون ستوفنبرج. بالحظ لم يكن الكتاب قد تُرجِم إلى الهولندية؛ وقد بلغ الحظ مداه حيث لم يكن أحد من المستمعين قد قرأه. يمكنها ألَّا تذكر اسم ويست، وتُشير له فقط بوصفه «مؤلف كتاب عن الفترة النازية». يمكنها حتى أن تجعل الكتاب نفسه افتراضيًّا: رواية افتراضية عن النازيين، ألحقتْ كتابتها الأذى بروح كاتبها المفترض. ولن يعرف أحد، بالطبع إلا ويست نفسه، إذا كان موجودًا، إذا اهتمَّ بالحضور لسماع كلمة لسيدة من أستراليا.
الرابعة بعد الظهر. لا تنام، عادة، في رحلات الطيران الطويلة، إلا نومًا متقطعًا. إلا أنها جرَّبت في هذه الرحلة قرصًا جديدًا ويبدو أنه أثَّر. تشعر أنها في حالة طيبة، وعلى استعداد للانغماس في العمل. هناك وقت كافٍ لتنقيح الكلمة، وإزاحة بول ويست وروايته إلى الخلفية العميقة، تاركةً البحث واضحًا، البحث الذي يمكن أن تكون كتابته نفسها، كمغامرة أخلاقية، خطيرة. لكن أي كلمة يمكن أن تكون بحثًا بدون أمثلة؟
قالت ذات مرة: كل الشرف لكاتب يحمل على عاتقه تتبُّع هذه القصة إلى أكثر ثناياها ظلمة. الآن ليست متأكدة. هذا ما يبدو أنه تغيَّر فيها. على أية حال، سيلين ليس على هذه الشاكلة، سيلين لن يكون مناسبًا.
على ظهر مركب راسٍ قبالتها يجلس زوجان إلى طاولة يتحدثان ويشربان البيرة. يُثير ركَّاب الدراجاتِ جلبة. بعد ظهيرة عادية في يوم عادي في هولندا. هل قطعت آلاف الأميال لتسبح بدقة في هذا التنوع العادي؟ هل لا بدَّ أن تتخلى عنه لتجلس في غرفتها تكافح مع نصٍّ لمؤتمر يُنسى خلال أسبوع؟ ولأي هدف؟ لتنقذ رجلًا لم تقابله قط من الارتباك؟ في التخطيط الأعظم للأشياء ماذا تعني لحظة من الارتباك؟ لا تعرف كم يبلغ بول ويست من العمر — أليس مكتوبًا على غلاف كتابه، ربما تعود الصورة الفوتوغرافية لسنوات مضت — لكنها على يقين من أنه ليس صغيرًا. ربما هو وهي، بطريقتين مختلفتين، ليسا كبيرين بما يكفي ليبتعدا عن الارتباك؟
تعود للفندق فتجد رسالةً للاتصال بهنك بادنجز، رجل من الجامعة الحرة كانت تراسله. يسأل بادنجز: هل كانت الرحلة طيِّبة؟ هل تقيم إقامةً مريحة؟ هل تودُّ الانضمام إليه هو وواحد أو اثنين من الضيوف الآخرين على العشاء؟ ترد: أشكرك، لكن لا. تُفضِّل ليلةً مبكرة. وقفة، ثم تطرح سؤالها. الروائي بول ويست: هل وصل إلى أمستردام؟ نعم، يأتي ردُّ بادنجز: لم يصل بول ويست فقط، ولكن يسعدها أن تعرف أنه يُقيم معها في الفندق نفسه.
إذا كانت في حاجة لشيء يثيرها، فهو هذا. من غير المتوقع أن يجد بول ويست نفسه يتشاجر مع امرأة تعنِّفه على الملأ كساذج خدعه الشيطان. عليها أن تحذفه من الكلمة أو عليها أن تنسحب، هذا كل شيء.
تبقى طوال الليل تكافح مع المحاضرة. تحاول في البداية حذف اسم ويست. تسمِّي الكتاب، رواية جديدة، تصدر عن ألمانيا. لكن ذلك بالطبع غير مناسب. حتى لو خُدِع معظم مستمعيها، فسيعرف ويست أنها تقصده.
ماذا لو تحاول أن تخفِّف من حدة بحثها؟ ماذا لو تقترح، في تمثيل أعمال الشر، أن الكاتب قد يجعل الشر، بدون قصد، يبدو جذابًا، فيؤذي أكثر ممَّا ينفع؟ هل سيُخفِّف ذلك من العاصفة؟ تشطب الفقرة الأولى من الصفحة الثامنة، بداية الصفحات السيئة، ثم الثانية، ثم الثالثة، وتبدأ في كتابة التعديلات في الحواشي، ثم تحدِّق بفزع في الفوضى. لماذا لم تنسخ نسخةً قبل أن تبدأ؟
الشاب الذي يجلس على طاولة الاستقبال ويضع سماعات، يهزُّ كتفيه من جانب إلى آخر. ينتبه حين يراها. تقول: «آلة تصوير. هل توجد آلة تصوير يمكن أن أستخدمها؟»
يأخذ مجموعة الأوراق، ويلقي نظرةً على العنوان. الفندق يُعقد فيه الكثير من المؤتمرات، لا بدَّ أنه اعتاد على الغرباء الغارقين في تنقيح محاضراتهم في منتصف الليل. حياة النجوم الصغيرة. محصول ينتج في بنجلاديش. الروح وفسادها المتنوِّع. الكلُّ سواء بالنسبة له.
تتقدَّم، والنسخة في يدها، لتخفيف حدَّة كلمتها، لكن الشك يزداد ويزداد في قلبها. الكاتب كساذج يتبع الشيطان: أي هراء! بشكل لا يمكن تجنُّبه تتجادل مع نفسها وكأنها رقيب من الطراز القديم. ما مبرِّر كل هذا الجُبْن على أية حال؟ لإحباط فضيحة تافهة؟ من أين يأتي خوفها من الاتهام؟ ستموت عمَّا قريب. ما القضية إذن إذا أزعجت ذات مرة شخصًا غريبًا في أمستردام؟
تتذكَّر أنها وهي في الثامنة عشرة، سمحت لنفسها أن تُلتَقَط من على جسر في شارع سبنسر بالقرب من المياه في ملبورن، وكانت منطقةً وعرة في ذلك الوقت. كان الرجل عاملًا في حوض للسفن، في الثلاثينيات من عمره، جميل بشكل فجٍّ، كان يسمِّي نفسه تيم أو توم. كانت طالبةً في الفنون ومتمرِّدة، متمردةً أساسًا على خلفيتها: الاحترام، البرجوازية الصغيرة، الكاثوليكية. لم يكن أصيلًا في عينيها، في تلك الأيام، إلا الطبقة العاملة وقيم الطبقة العاملة.
أخذها تيم أو توم إلى بار وبعد ذلك إلى البنسيون الذي كان يعيش فيه. لم تكن قد فعلت ذلك من قبل، النوم مع رجل غريب؛ في الدقيقة الأخيرة لم تستطع أن تسايره. قالتْ: «آسفة، آسفة حقًّا، يمكن أن نتوقف.» لكن تيم أو توم لم يكن ليسمع. حين قاومتْ، حاول أن يرغمها. لوقت طويل، في صمت، لاهثة، قاومته، بالدفع والخربشة. اتخذها لعبةً منذ البداية. ثم أُرهِق من ذلك، أو أُرهِقتْ رغبته، وتحوَّل إلى شيء آخر، وبدأ يضربها بعنف. رفعها من على السرير، ضربها في ثدييها، ضربها في بطنها، ضربها ضربةً رهيبة بكوعه في وجهها. حين ملَّ من ضربها مزَّق ثيابها وحاول أن يُشعل النار فيها في سلة النفايات. عارية تمامًا، زحفت واختبأت في الحمام على السلم. وبعد ساعة، حين تأكَّدت أنه نائم، زحفت عائدةً واستردَّت ما بقي. أشارت لتاكسي وهي لا ترتدي إلا خِرَقًا محروقة من ملابسها. بقيت في البداية لأسبوع مع صديقة، ثم مع أخرى، رافضةً أن تفسِّر ما حدث. انكسر فكُّها؛ وكان لا بدَّ من خياطته؛ عاشت على اللبن وعصير البرتقال، وكانت تمصه من خلال ماصَّة.
كان أول اصطدام لها بالشر. أدركت أنه لم يكن أقل من الشر، حين خمد تحدِّي الرجل وحلَّت مكانه غبطة ثابتة في إيذائها. أحبَّ إيذاءها، كان يمكنها أن ترى ذلك؛ ربما أحبَّ ذلك أكثر مما أحب الجنس. ومع ذلك ربما لم يكن يعرف ذلك حين الْتقطها؛ أنه اصطحبها إلى غرفته ليؤذيها بدلًا من أن يمارس الحب معها. بمقاومتها له خلقتْ فتحةً انبثق منها الشر، انبثق على شكل غبطة، في البداية من ألمها (همس وهو يثني حلمتيها: «تحبين ذلك، أليس كذلك؟ تحبين ذلك؟») ثم في التدمير الصبياني الخبيث لملابسها.
لماذا يعود تفكيرها إلى هذا الماضي البعيد وحادثة غير مهمة، حقًّا؟ الإجابة: لأنها لم تكشفها قط أكثر من ذلك، ولم تستخدمها قط. لا يوجد في قصَّة من قصصها اعتداء جسدي لرجل على امرأة انتقامًا لرفضها. ما حدث في البنسيون يخصها، ويخصها وحدها، إلا إذا كان تيم أو توم نفسه قد بقي على قيد الحياة حتى بلغ خرف الشيخوخة، إلا إذا حفظت لجنة المراقبين الملائكيين دقائق ما حدث في تلك الليلة. على مدى نصف قرن استقرت الذكرى في أعماقها مثل بيضة، بيضة من الحجر، بيضة لن تُفتح أبدًا، لن تفقس أبدًا. ترى ذلك حسنًا، يسرها صمتها هذا، صمت تتمنى أن تحافظ عليه حتى القبر.
هل ما تحتاج إليه من ويست قدرًا مساويًا من التكتم: قصةً عن مؤامرة اغتيال لا يقول فيها ما حدث للمتآمرين حين سقطوا في أيدي أعدائهم؟ لا، بالتأكيد. ماذا تريد إذن أن تقول بالضبط لهذا الجمع من الغرباء بعد — تُلقي نظرةً على ساعتها — أقل من ثماني ساعات؟
تُحاول أن تُصفِّي ذهنَها، أن تعود للبدايات. ماذا انبثق داخلها بغضب ضد ويست وكتابه حين قرأته أول مرة؟ كتقريب أولي، أعاد هتلر وسفاحيه إلى الحياة، ومنحهم نفوذًا جديدًا على العالم. حسن جدًّا. لكن ما الخطأ في ذلك؟ ويست روائي، مثلها؛ كل منهما يكسب قوته بحكي القصص أو إعادة حكيها، وفي قصصهما، إذا كانت قصصهما على قدر من الجودة، شخصيات، حتى سفاحون، يعيشون حياتهم الخاصة. كيف يمكن إذن أن تكون أفضل من ويست؟
الإجابة، بقدر ما يمكن أن ترى: لم تعد تؤمن أن حكي القصص حسنٌ في ذاته، بينما يبدو أن السؤال لم يكن مطروحًا على ويست، أو على الأقل ويست كما كان حين كتب كتاب ستوفنبرج. إذا كان عليها، كما في هذه الأيام، أن تختار بين حكي قصَّة وعملٍ خيِّر، فستفضِّل، كما تعتقد، عملَ الخير. سيفضِّل ويست، كما تعتقد، حكي قصة، مع أنه قد يكون عليها أن تُعلِّق الحُكْم حتى تسمعه من شفتيه.
ثمة أشياء كثيرة تشبه عملية حكي القصص؛ أحدها (هذا ما تقوله في فقرة لم تشطبها بعدُ) قارورة بها جن. حين يفتح راوي القصة القارورة، ينطلق الجنُّ في العالم، وستكون إعادته إلى القارورة مرَّةً أخرى باهظة التكلفة. وضعها، وضعها المعدَّل، وضعها في شفق الحياة؛ أفضل، على العموم، أن يبقى الجنُّ في القنينة.
حكمة التشبيه، حكمة القرون (وهذا سبب تفضيلها أن تفكِّر بالتشبيه بدلًا من فهم الأشياء بالعقل)، أن تقود الجن في صمت وتغلق عليه القارورة. تقول: من الأفضل أن يبقى الجنُّ سجينًا.
جنٌّ أو شيطان. ليس لديها أدنى شك في الشيطان، مع فكرتها الواهية عمَّا قد يعنيه الإيمان بالرب. الشيطان في كل مكان تحت جلد كل شيء، يبحث عن مخرج للنور. دخل الشيطان العامل في حوض السفن في تلك الليلة في شارع سبنسر، دخل الشيطان سفاح هتلر. ومن خلال العامل، طوال ذلك الزمن، دخلها الشيطان: يمكن أن تشعر به جاثمًا في الداخل، جاثمًا مثل طائر، في انتظار فرصة للطيران. ومن خلال سفاح هتلر دخل شيطانٌ بول ويست، وقد أعطى ويست في كتابه ذلك الشيطان حريَّته، وأطلقه على العالم. شعرتْ بحركة جناحه الجلدي، بنعومة، وهي تقرأ تلك الصفحات السوداء.
ماذا يمكن أن تقول في الرد؟ كان من الأفضل لو بقيَ بطلُنا في البيت، أو على الأقل احتفظ بمآثره لنفسه؟ في الأوقات التي يتشبَّث فيها الفنانون بأسمال الكرامة التي تركوها، أي عرفان بالجميل يجلبه لها هذا النوع من الإجابة بين الرفاق الكُتَّاب؟ سيقولون: تهوي بنا إلى الحضيض، إليزابيث كُسْتِلُّو تحولت إلى الأم جرندي العجوز.
تتمنَّى لو كانت معها «الساعات الغنية جدًّا للكونت فون ستوفنبرج». هل يمكن أن تُلقي مجرد نظرة على تلك الصفحات، تمرِّر عينيها عليها، فتتلاشى كل شكوكها، إنها متأكدة، على الصفحات التي يعطي فيها ويست للسفاح، الجزار، نسيت اسمه لكن لا يمكن أن تنسى يديه. بالضبط كما حمل ضحاياه ذكرى هاتين اليدين، وهما تتحسسان أعناقهم، معهم إلى الأبدية، حيث يعطي الجزار صوتًا، سامحًا له أن يهزأ بطريقة قاسية، أسوأ من قاسية، لا يمكن وصفها، بارتجاف مسنين على وشك أن يقتلهم، يهزأ من الطريقة التي ستخدعهم بها أجسادهم وهي تقاوم بعناد وترقص في نهاية الحبل. أمر مرعب، مرعب بطريقة لا توصف: مرعب وجود مثل هذا الرجل، والأكثر رعبًا سحبه من القبر وقد ظننا أنه ميت في أمان.
فحش. تلك هي الكلمة، كلمة ذات أصل مختلَف عليه، لا بدَّ أنها تحتفظ بها كطلسم. تختار أن تؤمن بأن تلك البشاعة تعني بعيدًا عن الأنظار. لنحمي إنسانيتنا، بعض الأشياء التي قد نريد رؤيتها (ربما نريد رؤيتها لأننا بشر!) يجب أن تبقى بعيدًا عن الأنظار. كتب بول ويست كتابًا فاحشًا، كشف ما لا يجب كشفه. يجب أن يكون هذا خيط كلمتها حين تواجه الحشد، الذي يجب ألَّا تتركه ينصرف عنها.
يغلبها النوم على طاولة الكتابة، بكامل ثيابها، ورأسها على ذراعيها. في السابعة يدقُّ جرس المنبِّه. مترنِّحة، منهكة، تفعل ما تستطيع لتصلح وجهها وتنزل في ذلك المصعد الصغير المضحك إلى اللوبي. «هل وصل مستر بول ويست؟» تسأل الولد الذي عند الطاولة، الولد ذاته.
– «مستر ويست … أجل، مستر ويست في الغرفة ٣١١.»
تتدفق الشمس من نافذة غرفة الإفطار. تُحضر لنفسها قهوةً وبعض الكعك، تعثر على مقعد بالقرب من نافذة، تتفحَّص بعض الطيور الأخرى المبكرة. هل يمكن أن يكون الرجل القصير الممتلئ الذي يلبس نظارةً ويقرأ الجريدة ويست؟ لا يشبه الصورة الفوتوغرافية التي على غلاف الكتاب، لكن ذلك لا يدلُّ على شيء. هل تذهب إليه وتسأل؟ «مستر ويست، كيف حالك؟ أنا إليزابيث كُسْتِلُّو، ولديَّ قضية معقَّدة أودُّ أن أطرحها، إذا استمعتَ إليَّ. تتعلق بك وبتعاملك مع الشر.» كيف يمكن أن يكون شعورها إذا فعل غريب ذلك معها وهي تتناول فطورها؟
•••
في الثامنة والنصف يتَّصل بها بادنجز. يتمشيان معًا عبر بضعة مبانٍ إلى المسرح حيث يُعقَد المؤتمر. في قاعة الاجتماعات يُشير إلى رجل يجلس وحده في الصف الخلفي. يقول بادنجز: «بول ويست. هل تودين أن أقدِّمك له؟»
مع أنه ليس الرجل الذي رأته على الإفطار، لا يبدو الاثنان مختلفين في البنية، ربما حتى يبدوان متشابهين.
تُهمهم: «ربما فيما بعدُ.»
يستأذن بادنجز، يمضي ليتولَّى مهمته. هناك عشرون دقيقةً قبل أن تبدأ الجلسة. تعبر القاعة. تقول بألطف ما تستطيع: «مستر ويست؟» سنوات على آخر مرة قامت فيها بما قد يسمَّى الخداع الأنثوي، لكنها ستستخدم الخداع إذا كان سيفي بالغرض. «هل يمكن أن أتكلَّم معك لحظة؟»
ويست، ويست الحقيقي، يرفع عينيه عمَّا يقرأ، الذي يبدو، يا للغرابة! نوعًا من الكتب المصورة.
تقول: «اسمي إليزابيث كُسْتِلُّو»، وتجلس بجانبه. «الأمر ليس سهلًا بالنسبة لي؛ لذا دعني أدخل في الموضوع. تحتوي محاضرتي اليوم على إشارات إلى أحد كتبك، كتاب فون ستوفنبرج. في الحقيقة، المحاضرة إلى حدٍّ كبير عن هذا الكتاب، وعنك كمؤلف له. حين أعددتُ المحاضرة لم أتوقَّع أن تكون في أمستردام. لم يخبرني المنظمون. لكن بالطبع، لماذا يخبرونني؟ لم تكن لديهم فكرة عمَّا أنوي قوله.»
تتوقف. يحدق ويست بعيدًا، ولا يقدِّم لها أي عون.
«أستطيع، أفترض»، تُواصل، وهي الآن لا تعرف حقًّا ما يأتي بعد ذلك، «أطلب عفوك مقدمًا، أطلب ألَّا تأخذ إشاراتي بشكل شخصي. لكن ربما تتساءل، بشكل مبرَّر تمامًا، لماذا أُصِرُّ على وضع إشارات تحتاج مقدَّمًا إلى اعتذار، لماذا لا أحذفها ببساطة من المحاضرة.»
«فكرتُ فعلًا في حذفها. جلستُ معظم الليلة السابقة، بعد أن سمعتُ أنك ستكون هنا، محاوِلةً أن أجعل إشاراتي أقل حدَّة، أقل إزعاجًا. حتى إنني فكرتُ في أن أغيب تمامًا، متظاهرةً بأنني معتلة. لكن ذلك ليس عدلًا بالنسبة للمنظِّمين، ألَا تعتقد ذلك؟»
افتتاحية، فرصة ليتكلم. يسلِّكُ حنجرته، لكنه لا يقول شيئًا، يواصل التحديق بعيدًا، مقدِّمًا لها صورةً جانبية جميلة إلى حد ما.
تقول: «ما أقوله»، ملقيةً نظرة على ساعتها (عشر دقائق متبقية، بدأ المسرح يمتلئ، لا بدَّ أن تندفع مباشرة، لا وقت لتحرِّي الدقة)، «ما أُناقشه هو أننا يجب أن نكون حذرين من هلع على شاكلة ما تصفه في كتابك؛ نحن ككتَّاب. ليس فقط لمصلحة قرائنا؛ لكن نتيجةً لاهتمامنا بأنفسنا. يمكن أن نُعرِّض أنفسنا للخطر بما نكتب، أو هذا ما أُومِنُ به؛ لأنه إذا كان لِمَا نكتبه القدرة على أن يجعلنا أفضل فمن المؤكَّد أن له القدرة على أن يجعلنا أسوأ. لا أعرف ما إن كنتَ توافق.»
تستقر مجموعة من الشباب، ربما طلبة، في المقاعد أمامهما مباشرة. لماذا لا يرد ويست؟ تتوتر؛ تنتابها رغبة ملحَّة في رفع صوتها، وهزِّ إصبعها النحيل في وجهه.
«تأثرتُ بعمق بكتابك؛ أي إنه أثَّر عليَّ كما يؤثر حديد متوهج. بعض الصفحات احترقت بنيران الجحيم. يجب أن تعرف ما أتحدث عنه. مشهد الشنق خاصة. أشكُّ في أنني أستطيع أن أكتب مثل تلك الصفحات بنفسي؛ أي إنني قد أستطيع كتابتها، لكنني لن أكتبها، لن أسمح لنفسي، لا أكثر، ليس كما أنا الآن. لا أعتقد أن أحدًا يمكن أن يبتعد دون أن يتعرَّض للأذى، ككاتب، من استدعاء مثل هذه المشاهد. أعتقد أن كتابةً من هذا النوع يمكن أن تؤذي المرء. هذا ما أنوي قوله في محاضرتي.» تُمسك بالملف الأخضر الذي به نصها، تنقر عليه. «هكذا لا أطلب منك العفو، حتى لا أطلب منك التساهل، فقط أفعل الشيء اللائق وأخبرك، محذِّرةً إياك، ممَّا هو على وشك الحدوث؛ لأن …» (وفجأةً تشعر أنها أقوى، أكثر ثقةً في نفسها، أكثر استعدادًا للتعبير عن توتُّرها، وحتى عن غضبها، أمام هذا الرجل الذي لا يبالي بالردِّ عليها) «لأنك رغم كل شيء لست طفلًا، لا بدَّ أنك تعرف الخطر الذي تتعرَّض له، لا بدَّ أن تدرك أن هناك نتائج، نتائج غير متوقعة، والآن، انظرْ» — تقف، تضمُّ الملف على صدرها كما لو كانت تحمي نفسها من اللهب الذي يومض حوله — «وصلت النتائج. هذا كل شيء. أشكرك على سماعك لي، مستر ويست.»
بادنجز، في مقدمة القاعة، يشير بحذر. حان الموعد.
الجزء الأول من المحاضرة روتيني، يغطي أرضيةً مألوفة: التأليف والسُّلطة، ادعاءات الشعراء على مرِّ العصور بأنهم يتحدثون عن حقيقة أسمى؛ حقيقة تكمن سلطتها في الإلهام، ويَدَّعون أكثر، في العصور الرومانسية، التي يتصادف أن تكون عصور استكشافات جغرافية بشكل فريد، الحقَّ في المغامرة بالدخول في الأماكن الممنوعة أو المحرَّمة.
تواصِل: «السؤال الذي أطرحه اليوم، إن كان الفنان هو المستكشف البطل تمامًا كما يتظاهر، إن كنا مُحقين دائمًا حين نُرحِّب به وهو يخرج من كهفه بسيف مُضرَّج بالدماء في يد ورأس الوحش في الأخرى. لأوضِّح حالتي أُشير إلى إنتاج المخيلة الذي ظهر منذ بضع سنوات، كتاب مهم وجريء من نواحٍ عديدة عن أقرب شبه، في عصرنا المتحرر من الأوهام، إلى وحش الأسطورة، أقصد أدولف هتلر. أُشير إلى رواية بول ويست «الساعات الغنية جدًّا للكونت فون ستوفنبرج» وخاصةً إلى الفصل التصويري الذي يحكي فيه مستر ويست تنفيذ إعدامات يوليو ١٩٤٤ في المتآمرين (باستثناء فون ستوفنبرج، الذي أَطلق النار عليه ضابط عسكري متحمس جدًّا، لتكدير هتلر، الذي كان يريد لعدوه أن يموت ميتةً بطيئة).
«إذا كانت هذه محاضرةً عادية لَقرأتُ لكم هنا فقرةً أو فقرتين، لتشعروا بهذا الكتاب غير العادي (ليس سرًّا، بالمناسبة، أن مؤلِّفه بيننا. دعوني أستجدي عفو مستر ويست على جرأتي على إلقاء محاضرة عنه في وجوده: حين كتبتُ كلمتي لم أكن أعرف بوجوده هنا). كان عليَّ أن أقرأ لكم من تلك الصفحات المرعبة، لكنني لن أقرأ؛ لأنني لا أومن بأنه سيكون عملًا طيبًا لكم أو لي أن نسمعها، حتى إنَّني أؤكِّد (وهنا أدخل في الموضوع) أنني لا أعتقد أنه كان من المناسب لمستر ويست، إذا سامحني على هذا الكلام، أن يكتب تلك الصفحات.
«هذا بحثي اليوم: هناك أشياء معينة ليس من المناسب أن نقرأها أو نكتبها. ولصياغة القضية بطريقة أخرى: أتعامل بجدية مع ادعاء أن الفنان يتعرَّض لقدر كبير من الخطر بالمغامرة بالدخول إلى الأماكن المحرمة: يعرِّض نفسه بشكل خاص للخطر؛ وربما يعرض الجميع للخطر. أتعامل مع هذا الادعاء بجدية لأنني أتعامل بجدية مع تحريم الأماكن المحرمة. القبو الذي شُنِق فيه المتآمرون في يوليو ١٩٤٤ من هذه الأماكن المحرمة. لا أعتقد أنَّ علينا، على أيٍّ منَّا، دخول ذلك القبو. لا أعتقد أن على مستر ويست أن يذهب إلى هناك، وإذا اختار أن يذهب رغم ذلك، أعتقد أن علينا ألَّا نتبعه. على العكس، أعتقد أنه يجب وضع حواجز على مدخل القبو، مع لوحة تذكارية برونزية مكتوب عليها هنا مات … بعدها قائمة بالموتى وتاريخ موتهم، هكذا يجب أن تكون الأمور.»
«مستر ويست كاتب، أو اعتادوا أن يقولوا ذات يوم إنه شاعر. أنا أيضًا شاعرة. لم أقرأ كل ما كتب مستر ويست، لكن يكفي أن أعرف أنه يتعامل مع حرفته بجديَّة. وهكذا لا أقرأ مستر ويست، حين أقرؤه، باحترام فقط، بل بتعاطف.»
«قرأتُ كتاب فون ستوفنبرج بتعاطف، لا أستثني (يجب أن تصدقوني) مشاهد الإعدام، لدرجة أنني قد أكون مثل مستر ويست الذي أَمسك بالقلم وتتبَّع الكلمات. أُرافقه إلى الظلام كلمةً كلمة، خطوةً خطوة، نبضةً نبضة. أسمعه يهمس، وأهمس أنا أيضًا، كأن نفَسي ونفَسه امتزجا: لم يكن هنا أحد من قبلُ؛ لم يدخل أحد هذا المكان منذ دخله الرجال الذين ماتوا والرجل الذي قتلهم. موتنا هو الموت الذي سيموت، يدنا هي اليد التي ستعقد الحبل (أمر هتلر رجله: «استخدم حبلًا رفيعًا. اشنقهم. أريد أن يشعروا بأنهم يموتون.» وأطاع رجلُه، صنيعه، وحشُه).»
«أي غطرسة أن نراهن على ادعاء معاناة هؤلاء الرجال الجديرين بالشفقة وموتهم! ساعاتهم الأخيرة تخصُّهم وحدَهم، ليست ساعاتنا لندخلها ونمتلكها. إذا كان ذلك ليس شيئًا حسنًا نقوله عن زميل، إذا كان ذلك سيُسهِّل اللحظة، يمكن أن نتظاهر بأن الكتاب لم يعد كتاب مستر ويست بل كتابي، صار كتابي بجنون قراءتي. بصرف النظر عن التظاهر الذي نحتاج إلى تبنيه، دعونا بحق السماء نتبنَّاه ونواصل.»
ثمة صفحات أخرى عليها أن تقرأها، لكنها تتوتَّر فجأةً ولا تستطيع مواصلة القراءة، أو تخذلها الروح. محاضرة دينية: لتنتهِ هنا. الموت مسألة خاصة؛ ليس للفنان أن يقتحم موت الآخرين. موقف شنيع بقسوة في عالم اعتاد تسليط عدسات الكاميرات على وجوه الجرحى والمحتضرين.
تُغلق الملف الأخضر. موجة هادئة من التصفيق. تنظر إلى ساعتها. خمس دقائق على انتهاء الجلسة. اندهشت طويلًا من قلة ما قالته بالفعل. وقت لسؤال، أو اثنين على الأكثر، شكرًا للرب. رأسها يلف. تأمل ألَّا يطلب أحد أن تقول المزيد عن بول ويست، الذي، تراه (تضع نظارتها)، في مكانه في الصف الخلفي (تفكِّر: رفيق يعاني طويلًا، وتشعر تجاهه، فجأة، بمزيد من الود).
يرفع رجل بلحية سوداء يده. يقول: «كيف تعرفين؟ كيف تعرفين أن مستر ويست — يبدو أننا نتكلم كثيرًا عن مستر ويست اليوم، آمل أن يكون لمستر ويست الحق في الرد، من الممتع أن نسمع رده» — ابتسامات بين الجمهور — تعرَّض للأذى بما كتب؟ إذا كنتُ أفهمك فهمًا صحيحًا، تقولين إنك لو كتبتِ أنتِ نفسك هذا الكتاب عن فون ستوفنبرج وهتلر لأصابكِ الشر النازي. لكن ربما يعني كل ذلك أنك، إذا جاز التعبير، إناء هَش. ربما خُلق مستر ويست من مادة أصلب. وربما نحن — قرَّاءه — خُلقنا من مادة أصلب أيضًا. ربما نستطيع قراءة ما يكتب مستر ويست والتعلم منه، ونخرج أقوى لا أضعف، وأكثر عزيمةً على ألَّا ندع الشر يعود. هل تهتمين بالتعليق؟»
تعرف الآن أنه كان عليها ألَّا تأتي أبدًا، ألَّا تقبل الدعوة أبدًا. ليس لأنها ليس لديها ما تقوله عن الشر، مشكلة الشر، مشكلة تسمية الشر مشكلة، وليس حتى لسوء الحظ وحضور ويست، ولكن لأنه تم الوصول إلى أقصى، أقصى ما يمكن أن يُنجَز مع مجموعة من المثقفين الحديثين المتوازنين في قاعة محاضرات نظيفة وجيدة الإضاءة في مدينة أوروبية جيدة التنظيم والإدارة في فجر القرن الحادي والعشرين.
– «لستُ، على ما أعتقد»، تقول ببطء، تخرج الكلمات كلمةً كلمة، كالحجارة، «إناءً هشًّا، ولا مستر ويست على ما أظن. الخبرة التي تقدِّمها الكتابة، أو القراءة — إنهما الشيء ذاته، بالنسبة لأهدافي، هنا، اليوم» — (لكن هل هما الشيء نفسه، حقًّا؟» تفقد مسارها، ما مسارها؟) «الكتابة الحقيقية، القراءة الحقيقية، ليست نسبية، نسبية بالنسبة للكاتب وقدرات الكاتب، نسبية بالنسبة للقارئ» (لا يعلم إلا الرب منذ متى لم تَنَمْ، ما مرَّ عن النوم على الطائرة ليس نومًا). «مَسَّ مستر ويست، حين كتب تلك الفصول، شيئًا مطلقًا؛ شرًّا مطلقًا. نعمته ونقمته، كما يمكن أن أقول. بقراءته نُقِل هذا المسُّ الشرير إليَّ، كالصدمة، كالكهرباء.» تنظر إلى بادنجز، واقفًا في الكواليس. تقول نظرتها: ساعدني، ضعْ نهايةً لهذا. «شيء لا يمكن توضيحه»، متحولةً مرَّة أخيرة لسائلها. «شيء يمكن تجربته فقط. ومع ذلك، أنصح بألَّا تُحاول أن تجرِّبه. لن تتعلَّم من تجربة بهذا الشكل. لن تكون طيبةً بالنسبة لك. هذا ما أردتُ قوله اليوم. شكرًا.»
تُحاول، والجمهور ينهض ويتفرَّق (حان الوقت لكوب من القهوة، كفاية من هذه المرأة الغريبة من أستراليا المحيِّرة، ماذا يعرفون عن الشر هناك؟)، أن تثبِّت عينيها على بول ويست في الصف الخلفي. إذا كانت هناك أية حقيقة فيما قالت (لكنها مفعمة بالشك، واليأس أيضًا)، إذا كانت كهرباء الشر قفزت حقًّا من هتلر إلى جزار هتلر، ومنه إلى بول ويست، فمن المؤكد أنه سيعطي إشارة. لكن ليست هناك إشارة يمكن أن تحدِّدها، من هذه المسافة، مجرد رجل أسود يرتدي ملابس سوداء في طريقه إلى آلة القهوة.
بادنجز عند كوعها. يهمهم، قائمًا بمهمة المضيف. تصافحه، ليس لديها أي رغبة في أن تهدأ. ورأسها إلى أسفل، لا تلتقي بعينِ أيِّ شخص، تشقُّ طريقها إلى غرفة السيدات وتغلق على نفسها في مهجع.
ابتذال الشر. هل هذا سبب عدم وجود أية إشارة أو بادرة؟ هل تقاعد الأبالسة الكبيرة، أبالسة دانتي وميلتون إلى الأبد، وأخذت مكانهم زمرة من الشياطين الصغيرة المُغبَرَّة التي تجثم على كتف المرء مثل الببغاوات، ولا تقدِّم أيَّ وهج، لكنها، على العكس، تمتصُّ الضوء؟ أم إن كل ما قالتْ، كل إشاراتها واتهاماتها، لا يتسم بالعناد فقط لكنه جنون، جنون مطلق؟ ما مهمة الروائي — رغم كل شيء، ماذا كانت مهمة حياتها هي نفسها؟ — إلَّا أن يبث الحياة في المادة الخاملة؛ ولم يفعل بول ويست، كرجل برمح حاد، إلا أن بثَّ الحياة، أعاد الحياة، في تاريخ ما حدث في ذلك القبو في برلين؟ ما جاءت إلى أمستردام لتعرضه على هؤلاء الغرباء المُحيِّرين ليس إلا هاجسًا، هاجسًا يخصها وحدها ولا تفهمه بجلاء؟
فحش. العودة إلى الكلمة السحرية، القبض عليها بثقة. القبض بثقة على الكلمة، والوصول إلى الخبرة التي وراءها: كانت تلك هي القاعدة التي تتبعها دائمًا حين تشعر أنها تنزلق إلى التجريد. ماذا كانت خبرتها؟ ماذا حدث وهي جالسة تقرأ الكتاب الملعون على العشب في صباح ذلك السبت؟ ماذا أزعجها إلى هذا الحد حتى إنها بعد ذلك بسنة ما زالت تقتلع جذوره؟ هل يمكن أن تجد طريق العودة؟
عرفتْ، قبل أن تبدأ الكتاب، قصة متآمري يوليو، عرفت أنه قُبض عليهم بعد أيام من محاولتهم اغتيال هتلر، على معظمهم، وحوكموا وأُعدموا. وعرفت، عمومًا، أنهم ماتوا بالوحشية الخبيثة التي تخصَّص فيها هتلر وأزلامه. ومن ثم لم يأتِ شيء في الكتاب بدهشة حقيقية.
تعود إلى السفاح، بصرف النظر عن اسمه. في هُزئه برجالٍ كانوا على وشك الموت بين يديه بطاقةٍ مبهجة فاحشة زادت من جريمته. من أين أتت هذه الطاقة؟ بالنسبة لها سمَّتْها شيطانية، لكنها ربما تتخلَّى عن تلك الكلمة الآن؛ لأن الطاقة جاءت، بمعنًى معين، من ويست نفسه. ابتكر ويست الهُزء (الهزء الإنجليزية، لا الألمانية)، ووضعه في فم السفاح. توافق الكلام مع الشخصية: ما الشيطاني في ذلك؟ تفعل هي نفسها ذلك طوال الوقت.
العودة، العودة إلى ملبورن، إلى صباح السبت حين شعرت، يمكنها أن تقسم، بلمسة جناح الشيطان، الجناح القوي الساخن. هل كانت تهذي؟ قالت لنفسها: لا أريد أن أقرأ هذا؛ إلا أنها واصلت القراءة، مستثارةً رغمًا عنها. الشيطان يقودني: أي عذر هذا؟
لم يفعل بول ويست إلا واجبه ككاتب. كان يفتح عينيها، في شخصية سفاحه، على فِسق بشري في شكل آخر من أشكاله المتعدِّدة. كان يذكِّرها، في شخصيات ضحايا السفاح، بالمخلوقات المسكينة المشتتة المرتجفة التي هي نحن جميعًا. ما الخطأ في ذلك؟
ماذا قالت؟ لا أريد أن أقرأ هذا. لكن أي صواب في أن ترفض؟ أي صواب في ألَّا تعرف، بكل معنى الكلمة، ما كانت تعرفه بالفعل؟ ماذا كان يريد أن يقاوم فيها، أن يرفض الكأس؟ ولماذا شربته رغم ذلك؛ شربته كله حتى إنها بعد عام ما زالت تحتجُّ على الرجل الذي وضعه على شفتيها؟
لو كانت هناك مرآة على ظهر هذا الباب بدلًا من مجرد خُطَّاف، إذا كان لها أن تخلع ملابسها وتركع أمام المرآة، هي، بثدييها المرتخيين وردفيها المُغَضَّنَين، قد تبدو أكثر شبهًا بالنساء في تلك الصور الفوتوغرافية الحميمة، الأكثر من حميمة، من الحرب الأوروبية، أولئك الناظرات إلى الجحيم، اللائي ركعن عارياتٍ على حافة خندق سيسقطن فيه، في الدقيقة التالية، في الثانية التالية، ميتات أو محتضرات بطلقة في المخ، باستثناء أن أولئك النساء لم يكنَّ في معظم الحالات مسنَّات مثلها، منهكات فقط من سوء التغذية والرعب. لديها شعور بأولئك الأخوات الميتات، وبالرجال أيضًا الذين ماتوا في أيدي الجزارين، رجال مسنين مروَّعين بما يكفي لأن يكونوا إخوتها. لا تحبُّ أن ترى أخواتها وإخوتها مُهانين، بالطريقة التي يسهل بها إهانة المسنين، بتعريتهم، على سبيل المثال، وخلع أطقم أسنانهم، والسخرية من أجزائهم الخاصة. إذا كان إخوتها، في ذلك اليوم في برلين، على وشك أن يُشنَقوا، إذا كانوا سيهتزون في نهاية حبل، تحمرُّ وجوههم، وتتدلَّى ألسنتهم وتجحظ عيونهم، فإنها لا تريد أن ترى. اعتدال أخت. دعني أحولْ عيني بعيدًا.
دعني لا أنظر. كان ذلك هو الالتماس الذي وجَّهته إلى بول ويست (إلا أنَّها لم تكن قد رأت بول ويست حينذاك، كان مجرد اسم على غلاف كتاب). لا تجعلني أمضي معه! لكن بول ويست لم يلطف بها؛ جعلها تقرأ، أثارها لتقرأ؛ لذلك لن تسامحه بسهولة، لذلك طاردته عبر البحار بطول الطريق إلى هولندا.
هل هذه هي الحقيقة؟ هل هذا يقدِّم تفسيرًا؟
إلا أنها تفعل الشيء نفسه، أو اعتادت عليه. إلى أن فكَّرت فيه بشكل أفضل، لم يكن لديها ارتياب في انزعاج الناس لِمَا جرى، على سبيل المثال، في المجازر. إذا لم يكن الشيطان متحفِّزًا في المجزر، مُسقطًا ظلال أجنحته على البهائم التي بركت على قوائمها الأمامية، وقد امتلأت أنوفها برائحة الموت، تجاه الرجل الذي يحمل البندقية والسكين، رجل قاسٍ وتافه (مع أنها بدأت تشعر أن تلك الكلمة أيضًا يجب أن تتوارى، كانت لها أيامها) مثلما كان رجل هتلر (الذي تعلَّم حرفته، مع ذلك، على البقر)، إذا لم يكن الشيطان متحفزًا في المجزر، فأين يكون؟ عرفتْ، ليس أقل من بول ويست، كيف تلعب بالكلمات لتجعلها مناسبة، الكلمات التي قد تُرسِل صدمةً كهربية في نخاع القارئ. جزارون بطريقتنا الخاصة.
ماذا حدث لها الآن إذن؟ الآن صارت متزمِّتةً فجأة. لم تعد الآن تحب أن ترى نفسها في المرآة؛ لأنها تجعلها تفكر في الموت. الأشياء البشعة تفضِّل لفَّها وتخزينها في دُرْج. عجوز تعيد الساعة إلى الوراء، إلى ملبورن الأيرلندية الكاثوليكية في طفولتها. هل هذا كل ما تعنيه؟
العودة إلى الخبرة. خفق الجناح القوي، جناح الشيطان: ما الذي منحها هذه القناعة التي شعرتْ بها؟ وإلى أي مدًى تستطيع أن تحتلَّ مهجعًا من المهجعَين الموجودين في هذه الغرفة الصغيرة الضيقة المخصَّصة للنساء قبل أن يقرِّر شخص حَسَن النية أنها أُصيبتْ بانهيار ويستدعي البواب لكسر القفل؟
رجال مسنون، إخوة، موتى مشنوقون وبناطيلهم حول كواحلهم، مثيرون. في روما كان الأمر مختلفًا. في روما صنعوا عرضًا للإعدامات: سحبوا ضحاياهم بين جماهير صائحة إلى موضع الجماجم وخوزقوهم أو سلخوهم أو غطوهم بالزفت وأشعلوا النار فيهم. النازيون، بالمقارنة، معتدلون بسطاء يُطلقون البنادق الآلية على الناس في ميدان، يقتلون بالغاز في غرف محصنة، يشنقونهم في قبوٍ. ومن ثم ما الذي كان كثيرًا جدًّا في الموت على أيدي النازيين ولم يكن كثيرًا جدًّا في روما، حين كان كل كفاح روما أن ينتزعوا من الموت أقصى قدر ممكن من الوحشية والألم؟ هل مجرَّد حقارة ذلك القبو في برلين، حقارة تشبه كثيرًا جدًّا الشيء الحقيقي، الشيء الحديث، أكثر من أن تحتملها؟
يشبه حائطًا تقابله مرةً بعد أخرى. لم تكن تريد أن تقرأ لكنها قرأت؛ عنف تم معها لكنها ساهمت في الاعتداء. تقول جعلني أفعلها، إلا أنها تجعل آخرين يفعلونها.
كان عليها ألَّا تأتي أبدًا. المؤتمرات لتبادل الأفكار، هذه، على الأقل، الفكرة من وراء المؤتمرات. لا تستطيع تبادل الأفكار حين لا تعرف ما تفكِّر فيه.
باستعجال تعثر على الفتحة، تفتح الباب، تظهر. تقول: «آسفة»، متجنِّبةً عيون الأم وابنتها.
ماذا كانت تقول الطفلة؟ لماذا تستغرق كل هذا الوقت؟ إذا كانت تتكلَّم اللغة لكان باستطاعتها أن تُفهِم الطفلةَ؛ لأنك كلما كبرتِ استغرق الأمر وقتًا أطول؛ لأنك تحتاجين أحيانًا إلى أن تكوني وحدك، لأن هناك أشياء لا نفعلها على الملأ، ليس إلَّا.
إخوتها: هل تركوهم يستخدمون التوليت مرةً أخيرة، أم كان تبرُّزهم على أنفسهم جزءًا من العقاب؟ هذا، على الأقل، أمر وضع عليه بول ويست نقابًا؛ لتحل به الرحمة من أجل ذلك، شكرًا.
لم يكن أحد لينظفهم، رغم كل شيء. عمل النساء في ذلك الوقت موغل في القدم. لا وجود للمرأة في مهمة القبو. الدخول يقتصر على الرجال فقط. لكن ربما حين انتهى كل شيء، حين لمستْ أصابع الفجر الوردية السموات الشرقية، وصلت النساء، نساء النظافة الألمانيات الخارجات من أعمال بريخت، وأخذن ينظِّفن الفوضى، ويغسلن الجدران، ويفركن الأرضية، جاعلات كلَّ شيء يبدو نظيفًا تمامًا، بحيث لا يمكنك أبدًا أن تخمِّن، حين فعلن ذلك، أية لعبة لعبها الأولاد في الليل. لا يمكن التخمين أبدًا حتى أتى مستر ويست وفتحه تمامًا من جديد.
الحادية عشرة. الجلسة التالية، المحاضرة التالية، لا بدَّ أن تبدأ بالفعل. أمامها اختيار: يمكن أن تذهب إلى الفندق وتختبئ في غرفتها، وتواصل أساها؛ أو تتسحَّب إلى القاعة وتحتل مقعدًا في الصف الخلفي وتفعل الشيء الثاني الذي من أجله أتوا بها إلى أمستردام: تسمع ما على الناس الآخرين أن يقولوه عن مشكلة الشر.
كان يجب أن يكون هناك بديل ثالث، شكل من قضاء الوقت المتبقي من الصباح وإعطائه شكلًا ومعنًى: مواجهة تؤدِّي إلى كلمة أخيرة. كان يجب أن يكون هناك ترتيب بحيث تلتقي بشخص في الدهليز، ربما بول ويست نفسه؛ يجب أن يحدث شيء بينهما، فجأةً كالبرق، سينير المشهد لها، حتى لو عاد بعد ذلك إلى ظلمته الأصلية. لكن الدهليز خاوٍ، على ما يبدو.