الفصل السابع
إيروس
التقتْ روبرت دونكان
١ مرةً واحدة، في ١٩٦٣م، بعد رجوعها من أوروبا مباشرة، دونكان وشاعرًا آخر أقل
أهميةً اسمه فيليب والن
٢ جاءت بهما وكالة المعلومات الأمريكية في جولة: كانت الحرب الباردة دائرة، وكانت
هناك أموال للدعاية الثقافية. قدَّم دونكان ووالن قراءةً في جامعة ملبورن. بعد القراءة
توجَّه الشاعران ورجل من القنصلية ومجموعة من الكتاب الأستراليين من كل الأعمار، بما
فيهم
هي، إلى بار.
قرأ دونكان مطوَّلته «قصيدة تبدأ ببيت لبندار»،
٣ في تلك الليلة، وقد أثَّرت فيها وحرَّكتها. انجذبتْ لدونكان، بشكله الروماني
الوسيم بشكل خطير؛ لم تفكِّر في نزوة معه، ولا حتى، في الحالة المزاجية التي كانت عليها
في
تلك الأيام فكَّرتْ في أن يكون طفلُه المحبوب ابنَها، كواحدة من أولئك السيدات الفانيات
في
الأسطورة، اللائي حبلن من إله عابر وتُركن لينجبن طفلًا نصف إلهي.
تتذكَّر دونكان لأنها مرَّت في كتاب أرسله صديق أمريكي للتوِّ برواية أخرى لقصة «إيروس
وسايك»،
٤ من تأليف سوزان ميتشيل،
٥ لم تقرأها من قبل. تتساءل: لماذا الاهتمام بسايك بين الشعراء الأمريكان؟ هل
يجدون شيئًا أمريكيًّا فيها، الفتاة التي لا بدَّ أن تُشعل مصباحًا، غير مقتنعة بالنشوة
التي يقدِّمها لها الزائر إلى سريرها ليلةً بعد ليلة، لتقشع الظلمة، وتنظر إليه عاريًا؟
هل
يرون، في توترها، في عجزها عن ترك البئر وحده، شيئًا من أنفسهم؟
وهي أيضًا ليست أقل فضولًا بشأن الممارسات الجنسية بين الآلهة والفانيات، مع أنها
لم تكتب
عنها قط، ولا حتى في كتابها عن ماريون بلوم وزوجها ليوبولد الذي طاردتْه الآلهة. تُثير
الميتافيزيقا فضولها أقلَّ ممَّا تُثيره الميكانيكا، التطبيقات العملية لاجتماعٍ عبر
فجوة
في الوجود. أمر بالغ السوء أن يكون هناك ذَكَر إوزٍّ عراقي ناضج يضرب ظهرك بأقدامه ذاتِ
الغشاء وهو يشق طريقه، أو ثور يزن طنًّا يميل بوزنه الرهيب عليك! كيف يتكيَّف الجسد الآدمي
مع عاصفة رغبة الإله حين لا يهتم بتغيير شكله ويبقى بالصورة التي تبعث الرهبة في
النفس؟
لنقل لسوزان ميتشل إن تلك الأسئلة لا تقلل منها. في قصيدتها، يتمدَّد إيروس الذي يبدو
أنه
جعل نفسه في حجم الإنسان لهذه المناسبة، في سرير على ظهره وجناحاه مضمومان إلى جانبيه،
والفتاة (التي يفترضها المرء) فوقه. يبدو أن بذرة الآلهة تتدفق هائلةً (لا بدَّ أن هذه
كانت
خبرة مريم نيتشه أيضًا، التي كانت لا تزال ترتجف رجفةً خفيفة بعد أن استيقظت من حلمها
ونَسْل الشبح المقدس ينساب في ردفيها). حين يأتي حبيب سايك، يبقى جناحاه مبلَّلين؛ أو
ربما
يقطِّران بذورًا، ربما يصيران عضوين يستهلكان نفسيهما. كان ينهار أحيانًا حين يصلان معًا
إلى الذروة، مثل (بكلمات ميتشل إلى حدٍّ ما) طائر أُصيب بطلقة وهو يطير (تريد أن تسأل
الشاعرة: ماذا عن الفتاة؟ إذا كنت تستطيعين أن تقولي ماذا كان الأمر بالنسبة له، فلماذا
لا
تخبريننا عن الأمر بالنسبة لها؟).
إلا أنَّ ما كانت تريد حقًّا أن تتحدَّث عنه إلى روبرت دونكان، في تلك الليلة في
ملبورن
حين حدَّد بصرامة أنها لا تجذبه مهما قدَّمتْ، لم تكن الفتيات التي تزورها الآلهة، لكن
الظاهرة الأكثر ندرةً الخاصة برجال تعطَّفت عليهم إلهات. أنخسيس، على سبيل المثال، عشيق
أفروديت ووالد إينياس.
٦ قد يفكِّر المرء، بعد حادث لا يمكن توقعه ونسيانه في كوخه على جبل إدا،
٧ أنخسيس — ولد بَهِيُّ الطلعة، إذا كان للمرء أن يصدِّق الترنيمة، وإلا فهو
مجرَّد راعي ماشية — أراد ألَّا يتحدَّث عن شيء آخر، إلى مَن يسمع مهما يكن: كيف ضاجع
إلهة،
الأكثر نضارةً في الإسطبل كله، ضاجعها طوال الليل، وحملت منه أيضًا.
الرجال وكلامهم الشهواني. ليس لديها أية أوهام عن طريقة تعامل كائنات فانية مع آلهة،
حقيقية أم مختلقة، قديمة أم حديثة، تسقط لسوء حظها في أيديهم. تفكِّر في فيلم رأته ذات
يوم،
ربما كتبه نتنيال ويست
٨ مع أن الأمر في الحقيقة ليس كذلك: تلعب يسيكا لانج
٩ دَور إلهة جنس من هوليود انهارت وينتهي بها الحال في عنبر عام في مصحة
للمجانين، مخدرة، وقد بُتر لها الفص الجبهي من المخ،
١٠ مربوطة في سريرها، بينما الممرضات يبعن تذاكر لقضاء عشر دقائق معها في كل مرة.
يلهث أحد زبائنهنَّ، دافعًا دولاراته إليهنَّ: «أريد أن أُضاجع نجمةً سينمائية!» في صوته
جانب سفلي بشع من الوثنية: الحقد والاستياء القاتل. جَلْبُ خالدة إلى الأرض، فُرْجتها
على
الحياة الحقيقية، الطَّرْق عليها حتى تصبح فِجَّة. خُذْ ذلك! خُذْ ذلك! مشهد حذفوه من
نسخة
معدَّة للتليفزيون، كان قريبًا إلى هذا الحدِّ من عظام أمريكا حتى تقطعه.
لكن الإلهة، في حالة أنخسيس، حذَّرت حبيبها، حين نهضت من سريره، بصراحة جميلة، من
أن يفتح
فمه. وهكذا لم يُترَك شيء لرفيق حصيف إلا أن يخسر نفسه، شيء أخير في الليل، في ذاكرة
مشوشة:
كيف كان الإحساس؟ لحم بشري امتزج في لحم إلهي؛ أم إنه، حين كان في حالة مزاجية أكثر صحوًا
وأكثر ميلًا للفلسفة؟! يتعجَّب: حيث إن الاندماج الجسدي لنوعين من الكائنات، وخاصةً تفاعل
الأعضاء البشرية مع ما يناظرها من أعضاء في بيولوجيا الآلهة، مستحيل بكل معنى الكلمة،
مستحيل طالما بقيت قوانين الطبيعة على حالها، أي نوع من الكائنات، أي هجين من جسد عبدٍ
وروح
إله؟! لا بدَّ أنها كانت أفروديت الضحوك وقد تحوَّلت إلى هذه الصورة، على مدى ليلة، لتنسجم
معه. أين كانت الروح العظيمة حين أخذ في ذراعيه الجسد الذي لا يُضاهى؟ استُهلكت في جزء
منعزل، في غدَّة ضئيلة في الجمجمة، على سبيل المثال؛ أو انتشرت بدون أذًى في الجسد كله
كومضة، بشارة. إلا أنه حتى لو توارت روح الإلهة، لمصلحته، كيف لم يشعر، حين مسَّته أطرافها،
بنيران الشهية الإلهية؟ شعر بها ولسعتْه. لماذا كان يجب أن يُكشَف له، في الصباح التالي،
عمَّا حدث حقًّا («لمس رأسها شعاع السقف، شعَّ وجهُها بجمالٍ خالد، قالتْ: استيقظ، انظر
إليَّ، ألَا أُشبه التي طرقت بابك الليلة الماضية؟») كيف يمكن لأي شيء من هذا أن يحدث
بدون
أن يكون الرجل تحت تأثير الفتنة من البداية إلى النهاية، فتنة مثل مخدِّر لتغطية المعرفة
المخيفة بأنَّ العذراء التي خلع عنها ملابسها، وعانقها، وباعَدَ ما بين فخذيها، واخترقها،
خالدة، غيبة لحمايته من اللذة التي لا تُحتمل، لذة ممارسة الحب كالآلهة، التي لا تسمح
له
إلا بالأحاسيس المملَّة لفانٍ؟ لماذا كان على إلهة، اختارت لنفسها حبيبًا فانيًا، أن
تضع
الحبيب نفسه تحت تأثير هذه الفتنة لفترة لا يكون فيها نفسه؟
هذا ما جرى مع أنخسيس المسكين المرتبك، كما يمكن للمرء أن يخمِّن، بقية حياته: دوامة
من
الأسئلة، لا يجرؤ أن يبوح بأيٍّ منها لرفاقه من رعاة الماشية إلا في أكثر الأشكال عمومية؛
خوفًا من أن يسقط ميتًا في طريقه.
إلا أنَّ الأمر لم يكن كذلك، لم يكن كما رواه الشعراء. إذا كان للمرء أن يُصدِّق الشعراء،
عاش أنخسيس حياةً طبيعية بعد ذلك، حياةً مميَّزة لكنها حياة إنسانية طبيعية، حتى جاء
يوم
أشعل غرباءُ مدينتَه وأُخذ إلى المنفى. مع أنه لم ينسَ تلك الليلة الرائعة، إلا أنه لم
يفكِّر فيها كثيرًا، لم يفكِّر فيها كما نفهم التفكير.
هذا هو الشيء الرئيسي الذي كانت تحب أن تسأل روبرت دونكان عنه، كخبير في المضاجعات
الاستثنائية، الشيء الذي تفشل في فهمه بشأن الإغريق، أو إذا لم يكن أنخسيس وابنه من الإغريق
بل من الطرواديين، من الغرباء، يكون بشأن الإغريق والطرواديين باعتبارهما من الشعوب
المتوسطية الشرقية القديمة ومواضيع لصنع الأساطير الهيلينية. ما تسميه افتقارهم للقدرة
على
الاستنباط. كان أنخسيس على علاقة حميمة بكائن إلهي، حميمة بقدر ما يمكن أن تكون حميمة.
لم
تكن خبرةً عامة. في كل الميثولوجيا المسيحية، إذا استبعدنا الأبوكريفا،
١١ يوجد حدث وحيد موازٍ، وهو في الشكل الأكثر شيوعًا، مع إله ذكر — يجب أن يقال:
غير شخصي بالأحرى، بعيد بالأحرى — تحمل منه المرأة الفانية. تُعظِّم نفسي الرب
١٢ (يُفترض أن هذا ما قالته مريم بعد ذلك، ربما سمع بشكل خطأ من عظَّمني الرب).
١٣ ذلك تقريبًا كل ما تقوله في الأناجيل، هذه العذراء التي لا نظير لها، كما لو
أنها أُصيبت بالبُكم بقية حياتها نتيجة ما نزل بها. لا أحد من حولها كان عديم الحياء
ليسأل:
ماذا كان يشبه، كيف بدا الإحساس به، كيف حملت به؟ إلا أن السؤال دار بالتأكيد في أذهان
الناس، صديقاتها في الناصرة على سبيل المثال. لا بدَّ أنهن تهامسن فيما بينهن: كيف حملت
به؟
لا بدَّ أن الأمر كان يشبه مضاجعة حوت. لا بدَّ أن الأمر كان يشبه مضاجعة الوحش؛ واحمرَّت
وجوههنَّ خجلًا وهنَّ ينطقن الكلمة، أولئك الأطفال الحفاة من قبيلة يهودا، مثلما هي،
إليزابيث كُسْتِلُّو، تجد نفسها غالبًا محمرَّة الوجه خجلًا أيضًا، وهي تدوِّنها على
الورقة. وقحة بما فيه الكفاية بين قوم مريم؛ مخلَّة بالأدب تمامًا بالنسبة لإنسان أكبر
بألفي عام وأكثر حكمة.
سايك، أنخسيس، مريم: لا بدَّ من طرق أفضل للتفكير، أقل شهوانية، وأكثر فلسفة، بشأن
مهمة
الإله والإنسان بِرُمَّتها. لكن هل لديها الوقت أو الأدوات، إذا تناسينا الميول، لفعل
هذا؟
الاستنباطية. هل يمكن أن نتوحَّد مع إله بعمق يكفي لفهم وجود إله والإحساس به؟ سؤال
يبدو
أنه لا أحد عاد يطرحه، إلا سوزان ميتشيل التي تكتشفها حديثًا، وهي أيضًا ليست فيلسوفة؛
سؤال
خرج عن المألوف أثناء حياتها (تتذكَّره يحدث، تتذكَّر دهشتها)، ولم يدخل في المألوف إلا
قبل
بداية حياتها بوقت قصير. أنماط أخرى من الوجود. ربما هناك طريقة ألطف للتعبير عنه. هل
هناك
أنماط أخرى من الوجود بجانب ما ندعوه الإنساني يمكن أن ندخلها، وإذا لم تكن هناك أنماط
أخرى، ما تأثير ما يقال عنَّا وعن حدودنا؟ لا تعرف الكثير عن كانط، لكنه يبدو لها سؤال
من
النوع الكانطي. إذا كانت أذنها محقَّة، فإن الاستنباطية بدأت مسارها مع رجل من كونجسبيرج
١٤ وانتهت، إلى حدٍّ ما، مع ويتجنشتاين
١٥ المدمر الفييني.
١٦
يكتب فردريك هولدرلين،
١٧ الذي قرأ مواطنه كانط: «الآلهة موجودة، لكنهم يعيشون حياتهم في مكان ما فوقنا
في عالم آخر، ولا يهتمون كثيرًا، على ما يبدو، بما إن كُنا نوجد أم لا.» نزلوا، في الأزمنة
الغابرة، إلى الأرض، وساروا بين الناس. لكننا نحن المعاصرين لم نعد نلمحهم، ولم نعد نُعاني
من حبهم. «أتينا متأخرين جدًّا.»
تقل قراءتها كلما كبرت. ليست ظاهرةً غير شائعة. ومع ذلك كان لديها دائمًا وقت لهولدرلين،
هولدرلين الروح العظيمة، كما يمكن أن تسميه إذا كانت إغريقية. ومع ذلك، لم يكن لديها
شكٌّ
فيما كتب هولدرلين عن الآلهة. تفكر: بريء جدًّا، مستعد تمامًا بدرجة لا تجعله يرى الأشياء
بقيمتها الظاهرية؛ ليس متيقظًا بما يكفي لمكر التاريخ. تودُّ لو أخبرته أن الأشياء من
النادر أن تبدو بقيمتها الحقيقية. حين نهتزُّ رثاءً لِفَقْدِ الآلهة، فمن المؤكد تمامًا
أنَّ الآلهة هي التي تهزُّنا. الآلهة لم تتراجع: لا تستطيع أن تتحمَّل.
غريب ذلك الرجل الذي يضع إصبعه في الأباثيا الإلهية،
١٨ عدم قدرة الآلهة على الإحساس، وبالتالي احتياجها لآخرين يُحسون من خلالهم، كان
يجب أن يفشل في رؤية تأثيرات الأباثيا على حياتهم الشهوانية.
الحب والموت. ابتكر الآلهة الخالدون الموت والتعفن؛ إلا أنهم باستثناء أو استثناءين
بارزين لم تواتِهم الشجاعة ليجرِّبوا اختراعهم على أنفسهم. وهذا سبب فضولهم، الذي لا
ينتهي،
لمعرفتنا. نَصِفُ سايك بأنها فتاة سخيفة متطفلة، لكن ماذا كان يفعل إله في سريرها أولًا؟
منحنا الآلهة، بتنبيهنا للموت، تفوُّقًا عليهم. من الاثنين، الآلهة والفانين، نحيا نحن
حياةً أكثر إلحاحًا، ونشعر بالأحاسيس الأكثر شدَّة؛ لهذا لا يمكنهم أن يكفوا عن التفكير
فينا، لا يمكنهم أن يستمروا بدوننا، يشاهدوننا بلا توقف وينقضُّون علينا. وهذا، في النهاية،
هو السبب الذي يجعلهم لا يُعلِنون حظرًا على ممارسة الجنس معنا، يضعون فقط قواعد لمكان
الممارسة وشكلها وعددها. مبتكرو الموت؛ مبتكرو السياحة الجنسية أيضًا. في النشوة الجنسية
للفانين، رعدةُ الموت، وتشويهاته، واسترخاؤه: يتحدَّثون عنها بلا نهاية حين كان لديهم
الكثير ليشربوه، ماذا كانت تشبه بالنسبة لمن جربوها أول مرة معهم؟ يتمنَّون لو كان لهم
تلك
الجعبة الصغيرة الفريدة في ذخيرتهم الشهوانية، ليثير كلٌّ منهم رفيقه. لكنهم لم يكونوا
على
استعداد لدفع الثمن. الموت، الإبادة: ماذا لو لم يكن هناك بعث؟ يتساءلون في شك.
نرى أولئك الآلهة مطلقي المعرفة، لكنهم في الحقيقة لا يعرفون إلا القليل جدًّا، وما
يعرفونه لا يعرفونه إلَّا بأكثر الطرق عمومية. ليس هناك مجال من المعرفة يمكن أن ينسبوه
لأنفسهم، لا فلسفة، بمعنى الكلمة. الكوزمولوجيا الخاصة بهم تشكيلة من الملاحظات المبتذلة.
خبرتهم الوحيدة في الطيران بين النجوم، عِلْمهم الوطني الوحيد الأنثروبولوجيا. يتخصصون
في
الجنس البشري بسبب ما لدينا وما يفتقرون إليه؛ يدرسوننا لأنهم حسودون.
كما بالنسبة لنا، هل يخمنون (أية سخرية!) أن ما يجعل عناقنا قويًّا إلى هذه الدرجة،
لا
يُنسى إلى هذه الدرجة، هي اللمحة التي يقدِّمونها لنا عن حياة نتخيَّلها كحياتهم، حياة
نسميها (حيث لا توجد في لغتنا كلمة أخرى) الآخرة؟ تكتب مارتا كليفورد
١٩ إلى صديقها بالمراسلة ليوبولد بلوم: لا أُحب ذلك العالم الآخر؛ لكنها تكذب:
لماذا تكتب عمومًا إذا لم تكن تريد أن يحملها عشيق شيطاني إلى عالم آخر؟
يتمشَّى ليوبولد، أثناء ذلك، حول المكتبة العامة في دبلن مختلسًا النظر، حيث لا أحد
ينظر،
بين سيقان تماثيل الإلهات. إذا كان لأبوللو ديك وكرات من الرخام، فهل لأرتميس،
٢٠ يتساءل، فتحات تناظرها؟ الأبحاث في علم الجمال، ذلك ما يريد أن يقول لنفسه إنه
مشغول به: إلى أي مدًى تمتد مهمة الفنان تجاه الطبيعة؟ إلا أن ما يريد حقًّا أن يعرفه،
ولديه وحده الكلمات للتعبير عنه، هو ما إن كان الجماع مع الإلهي ممكنًا.
وهي نفسها، كم تعلَّمت عن الآلهة في جولاتها حول دبلن مع ذلك الرجل العادي الذي لا
شفاء
منه، كأنها متزوجة منه تقريبًا! إليزابيث بلوم، الزوجة الثانية والشبح.
ما تعرفه على وجه اليقين عن الآلهة هو أنهم يختلسون النظر إلينا طوال الوقت، يختلسون
النظر حتى بين سيقاننا، مفعمين بالفضول، مفعمين بالحسد؛ ويتمادون أحيانًا حتى يُزعجوا
قفصنا
الأرضي. لكنها تسأل نفسها اليوم، إلى أي عمق يتدفَّق ذلك الفضول حقًّا؟ بصرف النظر عن
هباتنا الشهوانية، هل فضولهم تجاهنا، عيناتهم الأنثربولوجية، بدرجة فضولنا تجاه الشمبانزي،
أو تجاه الطيور، أو تجاه الذباب؟ برغم بعض الأدلة على العكس، تود أن تعتقد، في حالة
الشمبانزي. تودُّ أن تعتقد أن الآلهة يُعجَبون، مهما يكن بتذمُّر، بطاقتنا الأصيلة
اللانهائية التي نحاول أن نراوغ بها قَدَرَنا. تود أن تعتقد أن كلَّ واحد منهم يُنبِّه
الآخر إلى طعامهم اللذيذ: مخلوقات فاتنة، يشبهوننا من نواحٍ كثيرة إلى حدٍّ بعيد؛ عيونهم
خاصة معبرة جدًّا؛ لا أعرف:
٢١ أية شفقة يفتقرون إليها بدونها لا يمكنهم أبدًا الصعود والجلوس بجوارنا!
لكن ربما تكون مخطئةً بشأن اهتمامهم بنا، أو بالأحرى، ربما اعتادت أن تكون صائبة،
لكنها
الآن مخطئة. في عنفوانها، كانت تودُّ أن تعتقد، أنها يمكن أن تقدِّم لإيروس ذي الأجنحة
نفسه
سببًا لزيارة الأرض. ليس لأنها كانت على قدر كبير من الجمال، بل لأنها كانت توَّاقةً
للمسة
الإله، توَّاقةً لدرجة الألم؛ لأنها في تَوْقِها، الذي لا يمكن أن يكون له مقابل ومن
ثم
يكون هزليًّا حين تتصرَّف وَفقًا له، ربما وعدت بطعم أصيل لِمَا كان مفقودًا في الوطن
الأصلي على الأولمب. لكن يبدو أن كلَّ الأشياء تغيَّرت الآن. أين يجد المرءُ اليومَ في
العالم هذا التَّوْقَ الخالد كما اعتاد تَوْقُها أن يكون؟ ليس في الأعمدة الشخصية بالتأكيد.
«أرملة وحيدة، خمس أقدام وثماني بوصات، في الثلاثينيات، سمراء، تهوى التنجيم، والدراجات،
تبحث عن أرمل وحيد، ٣٥–٤٥ للصداقة، والمتعة والمغامرة.» لا يوجد في أي مكان: «أرملة لمرتين،
خمس أقدام وثماني بوصات، في الستينيات، تعدو إلى الموت، والموت يقابلها بسرعة، تبحث عن
إله،
خالد، الشكل الأرضي غير مهم، لنهايات لا تَفِي بها الكلمات.» قد يعبسون في مكتب التحرير.
قد
يقولون: رغبات غير لائقة، ويُلقون بها في السلة نفسها مع اللوطيين.
لم نعد ندعو الآلهة؛ لأننا لم نعد نؤمن بهم. تكره الجُمل المربوطة في «لأن». يُغلَق
فكَّا
المِصيدة، لكن الفأر هرب في كل مرة. ويا لها من طريقة غريبة على أية حال! كم أنا مضلَّلة!
أسوأ من هولدرلين! من يهتم بما نؤمن؟ السؤال الوحيد هو إن كان الآلهة سوف يواصلون الإيمان
بنا، إن كُنا نستطيع أن نحافظ على حياةِ آخر ومضة من اللهب الذي اعتاد ذات يوم أن يحرقهم.
«للصداقة والمتعة والمغامرة»: أي استغاثة هذه بإله؟ متعة أكثر ممَّا يكفي من حيث يأتون.
وجمال أكثر ممَّا يكفي أيضًا.
غريبة الطريقة التي ترى بها، حين تُرخي الرغبة قبضتها عن جسدها، كونًا تحكمه الرغبة
بوضوح
أكثر وأكثر. تود أن تقول للناس ووكالة التأريخ (تود أن تقول لنيتشه أيضًا إذا استطاعت
أن
تلتقي به): ألم تقرءوا نيوتن؟ تدير الرغبة الطريقين: أ يدفع ب لأن ب يدفع أ، والعكس بالعكس:
بهذه الطريقة تطوف في كون. أو إن كانت الرغبة ما زالت كلمةً بدائية جدًّا، فماذا عن الشهوة؟
الألفة والصدفة: ثنائي قوي، أكثر من قوي بما يكفي لبناء كوزمولوجيا، من الذرات والأشياء
الضئيلة ذات الأسماء التي لا معنى لها التي تتكوَّن منها الذرات إلى القنطروس ألفا
٢٢ وذات الكرسي
٢٣ والظهر المظلم العظيم للآخرة. الآلهة وأنفسنا، نلتفُّ بيأس برياح الصدفة، إلا
أننا نُدفع بالقوة نفسها باتجاه بعضنا البعض، ليس باتجاه ب، ت، ث، فقط ولكن باتجاه ﻫ،
و، ي،
وأوميجا أيضًا. ليس أقل شيء، ليس آخر شيء لكنه يُستدعى بالحب.
رؤية، افتتاحية، كما تُفتح السموات بقوس قُزَح حين يتوقَّف المطر عن السقوط. هل يكفي،
لشعب قديم، أن يكون له هذه الرؤى الآن ومرةً أخرى، أقواس قزح هذه، استراحة، قبل أن يبدأ
المطر في الهطول مرةً أخرى؟ هل لا بدَّ أن يكون للمرء صرير شديد لينضم للرقص قبل أن يستطيع
رؤية النمط؟