على البوابة
بعد ظهيرة حارة. ميدان مزدحم بالزوَّار. يُلقي بعض الناس نظرةً على امرأة بيضاء الشعر تنزل من الأتوبيس وحقيبتها في يدها. ترتدي عباءةً زرقاء من القطن؛ يحمرُّ عنقها، في الشمس، وتظهر عليه قطرات من العرق.
تَصِرُّ عجلات الحقيبة على الحجارة، بجانب طاولات الرصيف، بجانب الشبان، تشق طريقها إلى البوابة حيث يقف رجل في الحراسة بزيِّه، دائخًا، مستندًا على البندقية التي يُمسك بعقبها أمامه.
تسأل: «هل هذه هي البوابة؟»
تحت القبعة البارزة يرمش مؤكِّدا.
«هل يمكن أن أَمُرَّ منها؟»
يشير بحركة من عينيه إلى كوخ على جانب.
الكوخ، من ألواح خشبية مجهَّزة، حار خانق. يجلس في الداخل، خلف طاولة صغيرة منصوبة، رجل في ذراعيه كُمَّا قميص، يكتب. تدفع مروحة كهربية صغيرة تيارًا من الهواء في وجهه.
تقول: «اعذرني.» لا يعيرها انتباهًا. «اعذرني. هل يمكن أن يفتح أحد البوابة لي؟»
مشغول بشكل ما. بدون أن يتوقف عن الكتابة، يقول: «عليك أولًا أن تقدِّمي إقرارًا.»
– «أقدِّم إقرارًا؟ لمن؟ لك؟»
بيده اليسرى يدفع ورقةً إليها. تترك الحقيبة وتلتقط الورقة. إنها بيضاء.
تكرِّر: «قبل أن أتمكَّن من المرور يجب أن أقدِّم إقرارًا. إقرارًا بماذا؟»
– «بالإيمان. بِمَ تؤمنين؟»
– «إيمان! هل هذا كل شيء؟ ليس إقرارًا بالولاء؟ ماذا إذا كنتُ لا أومن؟ ماذا إذا لم أكن مؤمنة؟»
يهزُّ الرجل كتفيه. يتطلع إليها مباشرةً للمرة الأولى. «إننا جميعًا نؤمن. لسنا ماشية. لدى كل منا ما يؤمن به. سجليه، ما تؤمنين به اكتبيه في الإقرار.»
لم يعد لديها شك في المكان الذي توجد فيه، وفي حقيقتها. إنها متوسِّلة على البوابة. الرحلة التي أتت بها إلى هنا، إلى هذه البلاد، إلى هذه البلدة، التي بدا أنها انتهت حين توقف الأتوبيس وفُتِحتْ أبوابه في الميدان المزدحم، لم تكن نهايتها على الإطلاق. الآن تبدأ محاولة من نوع مختلف. مطلوب منها فعل شيء، توكيد وُصِف بشكل غير محدد، قبل أن تُعتبر طيبةً ويمكنها أن تمر. لكن هل هذا هو الشخص الذي سيحكم عليها، هذا الرجل المتورِّد الثقيل الذي يرتدي زيًّا غامضًا إلى حدٍّ ما (زيًّا عسكريًّا؟ زيَّ حارسٍ مدني؟) لا يمكن أن تحدِّد أية علامة على رتبة، لكن مروحة، لا تلف يسارًا أو يمينًا، تصبُّ عليه برودةً تتمنَّى لو أنها تُصَبُّ عليها؟
تقول: «أنا كاتبة. ربما لم تسمع عني هنا، لكنني أكتب، أو كتبتُ، تحت اسم إليزابيث كُسْتِلُّو. ليست مهنتي أن أومن، أكتب فقط. ليست شغلتي. أقلِّدُ، كما قال أرسطو.»
تتوقف، ثم تنطق بالجملة التالية، الجملة التي ستحدِّد إن كان هذا هو الذي يحكم عليها، الشخصَ المناسب للحكم عليها، أو، على العكس، مجرد الشخص الأول في صف طويل إلى، من يعرف، موظف خامل في سكرتارية سفارة في قلعة. «يمكن أن أقلِّد المعتقد، إذا أحببْتَ. هل يفي ذلك بأغراضك؟»
لاستجابته رائحة نفاد الصبر، كما لو كان هذا عرضًا قُدِّم له مرَّاتٍ كثيرةً من قبل. يقول: «اكتبي الإقرار كما هو مطلوب. ردِّيه حين يكتمل.»
– «حسن جدًّا، سأفعل ذلك. متى تنتهي من مهامك؟»
يرد: «أنا هنا دائمًا.» من ذلك تفهم أن هذه البلدة التي تجد نفسها فيها، حيث حارس البوابة لا ينام أبدًا ويبدو أن الناس في المقاهي ليس لديهم مكان يذهبون إليه، لا التزام سوى أن يملئوا الهواءَ بثرثرتهم، ليست حقيقيةً أكثر من ذلك: ليست حقيقيةً أكثر وربما ليست أقل.
تجلس على إحدى طاولات الرصيف تؤلِّف بسرعة ما يمكن أن يكون إقرارها. يقول الإقرار: أنا كاتبة، أُتاجر في القصص. أتبنَّى المعتقدات بشكل مؤقت فقط: قد تقف المعتقدات الراسخة في طريقي. أُغيِّر المعتقدات كما أُغيِّر مسكني أو ملابسي؛ طبقًا لاحتياجاتي. على هذه الخلفيات — المهنية، الوظيفية — أطلب الإعفاء من قاعدة أسمعها الآن لأول مرة، أعني تمسُّك كلِّ مَن يلتمس المرور من البوابة بمعتقدٍ أو أكثر.
تُعيد إقرارها إلى مقرِّ الحراسة. رُفِض، كما كانت شبه متوقعة. لا يحوِّله الرجل الذي يجلس إلى الطاولة إلى سلطة أعلى، من الواضح أنه لا يستحق ذلك، يكتفي بهزِّ رأسه ويترك الصفحة تسقط على الأرض، ويدفع إليها بورقة جديدة. يقول: «ما تؤمنين به.»
تعود إلى مقعدها على الرصيف. هل أنا على وشك أن أُصبح مؤسسة، تتساءل: المرأة العجوز التي تقول إنها كاتبة معفاة من القانون؟ المرأة التي تكتب، وحقيبتها السوداء بجوارها دائمًا (ماذا تحتوي؟ لم تعد تستطيع أن تتذكر)، التماسات، واحدًا بعد الآخر، تضعها أمام الرجل في مقر الحراسة ويدفعها ذلك الرجل الذي في مقر الحراسة جانبًا؛ لأنها ليست مناسبةً بما يكفي، ليست المطلوب قبل أن يتمكن المرء من العبور؟
تقول مع محاولتها الثانية: «هل يمكن فقط أن أُلقي نظرةً خلالها؟ أُلقي نظرةً على ما يقع في الجانب الآخر؟ لأرى إن كان يستحق كل هذا القلق.»
ينهض الرجل من طاولته متثاقلًا. ليس كبيرًا في السن مثلها، لكنه ليس صغيرًا أيضًا. يلبس حذاءً رياضيًّا، على بنطلونه الأزرق الصوفي شريط أحمر على الجانبين. تفكِّر، أي حَرٍّ يشعر به! وفي الشتاء، أيُّ برد! ليست وظيفةً هيِّنة أن تكون حارس البوابة.
يأخذها بعدُ العسكري الذي يميل على بندقيته، حتى وقفا أمام البوابة ذاتها، هائلة بما يكفي لردِّ جيش. من محفظة في حزامه يأخذ مفتاحًا بطول ساعده تقريبًا. هل ستكون البوابة عند هذه النقطة التي يشير إليها مخصَّصةً لها، ولها وحدها، ومع ذلك قُدِّر ألَّا تمرَّ منها على الإطلاق؟ هل تُذكِّره، وتجعله يعرف أنها تعرف النتيجة؟
يدور المفتاح مرتين في القفل. يقول الرجل: «هناك، اقنعي.»
تضع عينها على شق. يفتح الباب ملليمترًا أو ملليمترين، ويغلقه مرةً أخرى.
يقول: «رأيتِ؟ سوف توضِّح المدوَّنة ذلك.»
ماذا رأت؟ توقعتْ، رغم عدم إيمانها، أن يوجد خلف هذا الباب المصنوع من خشب الساج والنحاس ولكنه بدون شك من أنسجة لا يمكن أن تتخيَّلها قصة مجازية: ضوء شديد حتى إنه قد يُذهِل الأحاسيس الأرضية. لكن الضوء ليس مستحيل التخيُّل على الإطلاق. إنه ساطع، أكثر سطوعًا ربما من كلِّ الأضواء التي عرفتها حتى الآن، لكنه ليس من مرتبة أخرى، وليس أكثر سطوعًا، مثلًا، من وميض الماغنيسيوم الذي يبقى بلا نهاية.
يربِّت الرجل على ذراعها. إيماءة مدهشة، وقد أتت منه، مدهشة بشكل شخصي. تتأمل: مثل واحد من أولئك المعذِّبين الذين يدَّعون أنهم يتمنَّون ألَّا يعرِّضوك لأذًى، إنهم فقط يقومون بمهمتهم الحزينة. يقول: «الآن رأيتِ. الآن تحاولين بشكل أكثر جدية.»
•••
في المقهى تطلب مشروبًا بالإيطالية — تقول لنفسها: اللغة المناسبة لمثل هذه البلدة في أوبرا هزلية — وتدفع ثمنه من أوراق نقدية تجدها في محفظتها، أوراق نقدية لا تتذكَّر من أين حصلت عليها. تبدو، في الحقيقة، مثيرةً للريبة مثل فلوس اللعب: على أحد وجهيها صورة لملتحٍ جدير بالقرن التاسع عشر، وعلى الوجه الآخر الفئة، ٥، ١٠، ٢٥، ١٠٠، في ظلال من الأخضر والكرزي. خمسة ماذا؟ عشرة ماذا؟ إلا أن النادل يقبل الأوراق النقدية: لا بدَّ أنها صالحة بمعنًى ما.
مهما تكن النقود، لم يكن معها الكثير منها: أربعمائة وحدة. يكلِّف المشروب خمس وحدات بالبقشيش. ماذا يحدث حين تنتهي النقود التي مع المرء؟ هل هناك إدارة عامة يمكن للمرء أن يعوِّل على هِباتها؟
تثير المسألة مع حارس البوابة. تقول: «إذا ظَلِلت ترفض إقراراتي فسيكون عليَّ أن أُقيم معك في كوخك. لا أستطيع تحمُّل مصاريف فندق.»
نكتة، تُحاول فقط أن تهزَّ هذا الرفيق الصارم إلى حدٍّ ما.
يرد: «بالنسبة لمقدمي الالتماسات لوقت طويل، يوجد مبنًى لإقامتهم، مزوَّد بمطبخ ووسائل للغُسْل. تم التنبؤ بكل الاحتياجات.»
تسأل: «مطبخ أم مطعم للمحتاجين؟» لا يظهر عليه رد فعل. من الواضح أنهم ليسوا معتادين في هذا المكان على أن يهزل معهم أحد.
•••
المبنى عبارة عن غرفة بلا نوافذ، طويلة ومنخفضة. مصباح وحيد عارٍ ينير الممر. على كلِّ جانب أسرَّة في طابقين، مصنوعة من خشب يبدو قديمًا، ومدهونة بلون الصدأ القاتم، تُذكِّرها بالجذوع الملتفة. يمكنها في الحقيقة وبنظرة أكثر دقَّةً أن ترى حروفًا مكتوبةً بالإستنسيل: ١٠٠٣٧٧/٣ سي جيه جي ٢٨٢٢٢٠ / ٠ سي إكس إكس … معظم الأسرَّة عليها فراش من القش: قش في أكياس تفوح منه، في الحرارة المكتومة، رائحة الدهون والعرق القديم.
تسأل المرأة التي قادتها إلى الداخل: «ما هذا المكان؟»
لم تكن بحاجة إلى أن تسأل. ستعرف الإجابة قبل أن تسمعها: «إنه حيث تنتظرين.»
تقول: «هل لي أن أختار سريري، أم أن هذا أيضًا محدَّد سلفًا بالنيابة عني؟»
تقول المرأة: «اختاري.» وجهها غامض.
بتنهيدة تختار، تحمل حقيبتها، تفكها.
•••
يحضر لها رجل، تعتقد أنه حاجب المحكمة، مقعد، ويشير إلى إمكانية أن تجلس. تجلس، تنتظر. كل النوافذ مغلقة، الغرفة خانقة. تُلمِّح لحاجب المحكمة، تقوم بحركة تعني أنها تريد أن تشرب. يتظاهر بأنه لا يلاحظ.
لا تحتاج تنبيه حاجب المحكمة (أتى خلفها الآن) لتقف. سيُطلَب منها أداء دورها؛ تتمنى أن تلتقط مفاتيح الكلام.
يومئ إليها القاضي الذي في المنتصف إيماءةً صغيرة؛ ترد عليه بإيماءة.
يقول: «أنتِ …؟»
– «إليزابيث كُسْتِلُّو.»
– «أجل. مقدمة الطلب.»
– «أو المتوسلة، إذا كان ذلك يحسِّن من فرصي.»
– «وهذه جلستك الأولى؟»
– «أجل.»
– وتريدين …؟»
– «أريد أن أمر من البوابة. أن أمر خلالها. أن أتعرف على ما يأتي بعد ذلك.»
«أجل. هناك مسألة المعتقَد، كما لا بدَّ أنك عرفْتِ الآن. معك إقرار تكتبينه لنا؟»
– «معي إقرار، نُقِّح، نُقِّح بكثافة، نُقِّح مرات كثيرة. أغامر وأقول نُقِّح في حدود قدراتي. لا أعتقد أن أستطيع تنقيحه أكثر. لديكم نسخة، أعتقد.»
– «لدينا نسخة. منقحة في حدود، كما تقولين. يرى بعضنا إمكانية أن يتم تنقيح آخر. أرينا. هل يمكن أن تقرئي لنا إقرارك، من فضلك؟»
تقرأ.
«أنا كاتبة. قد تعتقدون أنه يجب أن أقول، بدلًا من ذلك، كنتُ كاتبة. لكن أنا كاتبة أو كنت كاتبةً لأن هذه حقيقتي أو ما كانتْ حقيقتي. لم أعد أنا، حتى الآن، أو هذا ما يبدو لي.»
«أنا كاتبة، وما أكتبه هو ما أسمعه. أنا سكرتيرة المحجوب، واحدة من سكرتيرات كثيرات على مر العصور. تلك دعواي: سكرتيرة الإملاء. ليس لي أن أتساءل، أن أحكم على ما يُمنح لي. أدوِّنُ الكلماتِ فقط ثم أختبرها، أختبر دقتها، لأتأكد من صحة ما سمعتُ.»
تتوقف، هنا حيث تتوقع أن يقاطعوها. تتوقع أن يسألوا: من أملاها؟ إجابتها جاهزة: قوًى أبعد منا. لكن ليست هناك مقاطعة، لا سؤال. وبدلًا من ذلك يحرِّك المتحدث باسمهم قلمه الرصاص تجاهها: «استمري!»
تقرأ: «قبل أن أتمكن من المرور مطلوب مني أن أحدد معتقداتي. أردُّ: على السكرتيرة الجيدة ألَّا يكون لها معتقدات. إن ذلك لا يتلاءم مع الوظيفة. على السكرتيرة أن تكون مستعدةً فقط، في انتظار النداء.»
مرةً أخرى تتوقع مقاطعة: من ينادي؟ لكن ليس هناك من أسئلة، على ما يبدو.
«المعتقد في عملي عائق، عقبة. أحاول أن أتخلَّص من العوائق.»
– «بدون معتقدات لا نكون بشرًا.» يأتي الصوت من أقصى اليسار، صوت الشخص الذي لقَّبته بشكل خاص بالهرة العجوز، رفيق ضئيل ذاوٍ بالغ القصر حتى إن ذقنه تصل المنصة بالكاد. توجد في كل منهم، في الحقيقة، سمة هزلية بشكل مزعج. تفكر، أدبية بشكل مفرط. فكرة رسام كاريكاتير عن منصة القضاة.
يكرر: «بدون معتقدات لا نكون بشرًا. ماذا تقولين عن ذلك، إليزابيث كُسْتِلُّو؟»
تتنهَّد. «بالطبع، أيها السادة، لا أدَّعي أنني مجرَّدة من كلِّ المعتقدات. لديَّ ما أعتقد أنها آراء وأحكام مسبقة، وهي لا تختلف في النوع عمَّا يُعرف عادةً بالمعتقدات. حين أدَّعي أنني سكرتيرة نقية من المعتقد فأنا أُشير إلى ذاتي المثالية، ذات قادرة على إبعاد الآراء والأحكام المسبقة التي تعتنقها، والكلمة التي تتصرف فيها بحكم وظيفتها، تمر خلالها.»
يقول الرجل الضئيل: «قدرة سلبية. هل تفكرين في القدرة السلبية، التي تدَّعين امتلاكها؟»
– «أجل، إذا أحببتَ. بتعبير آخر، لديَّ معتقدات لكنني لا أومن بها. ليست مهمةً بما يكفي لأومن بها. قلبي لا ينشغل بها. قلبي وإحساسي بالواجب.»
يزمُّ الرجل الضئيل شفتيه. يلتفت إليه جاره ويرمقه بنظرة (يمكن أن تُقْسِمَ إنها تسمع حفيف الريش). يسأل الرجل الضئيل: «وما تأثير عدم الإيمان، فيما تعتقدين، على إنسانيتك؟»
– «على إنسانيتي؟ هل ذلك من النتائج؟ يفوق ما أقدمه لمن يقرءونني، ما أُساهِمُ به في إنسانيتهم، على ما آمل، خوائي من هذه الناحية.»
النزعة الكلبية! كلمة لا تُحبها، لكنها في هذه المناسبة مستعدة للاحتفاء بها. بالحظ، ستكون الفرصة الأخيرة. بالحظ لن يكون عليها أن تعرض نفسها مرةً أخرى للدفاع عن النفس والأبهة التي تصاحبها.
– «عن نفسي، أجل. ربما أكون كلبية، بالمعنى التِّقْني. لا أستطيع أن أحتمل التعامل مع نفسي، أو دوافعي، بجدية شديدة. ولكن فيما يتعلَّق بالآخرين، فيما يتعلَّق بالجنس البشري أو الإنسانية، لا أومن بأنني كلبية على الإطلاق.»
يقول الرجل الذي يجلس في الوسط: «لستِ إذن غير مؤمنة؟»
– «لا. عدم الإيمان إيمان. كافرة، لو كنت ستقبل التمييز، مع أنني أشعر أحيانًا بأن الكفر يصبح عقيدةً أيضًا.»
ثمَّة صمت. يقول الرجل: «استمري. أكملي إقرارك.»
– «هذه نهايته. لا شيء لم تتم تغطيته. عرضتُ حالتي.»
– «حالتك أنك سكرتيرة، سكرتيرة المحجوب.»
– «ولا أستطيع أن أحتمل الإيمان.»
– «لأسباب مهنية؟»
– «لأسباب مهنية.»
– «وماذا لو لم يعتبرك المحجوب سكرتيرته. ماذا لو كان تعيينك قد انتهى منذ فترة طويلة، ولم تعد الرسالة تصل إليك؟ ماذا لو لم يكن قد تمَّ تعيينك أبدًا؟ هل وضعتِ هذا الاحتمال في اعتبارك؟»
– «أضعه في اعتباري كلَّ يوم. مضطرة إلى وضعه في الاعتبار. لو لم أكن ما أقول؛ فأنا زائفة إذن. إذا كان ذلك هو قرارك المبجَّل؛ أنني سكرتيرة زائفة، لا أستطيع إذن إلا أن أحني رأسه وأَقْبله. أفترضُ أنكَ وضعْتَ سجلِّي في الحسبان، سجلَّ حياتي. إنصافًا لي لا يمكنك أن تتجاهل ذلك السجل.»
– «ماذا عن الأطفال؟»
الصوت مشروخ ومتقطع. في البداية لا يمكنها أن تحدِّد مِن أيٍّ منهم يصدر. هل هو رقم ثمانية، الشخص ذو الخدين السمينين والألوان الزاهية؟
– «الأطفال؟ لا أفهم.»
التسمانيون؟ هل كان يحدث شيء في تسمانيا، في الفاصل، شيء لم تسمع به؟
ترد: «ليس لدي آراء خاصة عن التسمانيين. وجدتُهم دائمًا أُناسًا مهذبين تمامًا.»
يلوِّح بنفاد صبر: «أقصد التسمانيين القدماء الذين أُبيدوا. هل لديك آراء خاصة عنهم؟»
– «هل تقصد، هل وصلت أصواتهم إلي؟ لا، لم تصل، حتى الآن. ربما لا تكون لي قيمة، في عيونهم. ربما استخدموا سكرتيرةً خاصة بهم، إنهم مؤهَّلون لذلك.»
يقول الرجل: «لم أقل شيئًا عن الأصوات. سألتُك عن أفكارك.»
أفكارها عن تسمانيا؟ إذا انتابتْها الحيرة، فقد انتابتْ بقية هيئة المستشارين أيضًا، حتى إن سائلها يلتفت إليهم ويشرح. يقول: «تحدث أعمال شنيعة: اعتداء على الأطفال الأبرياء. إبادة الشعب كله. ماذا تعتقد بشأن هذه الأمور؟ أليس لديها معتقدات تُرشدها؟»
إبادة التسمانيين القدماء على أيدي مواطنيها، أسلافها. هل هذا ما يكمن في النهاية وراء هذه الجلسة، هذه المحاكمة: مسألة الذنب التاريخي؟
تأخذ نفَسًا: «هناك أمور يتكلَّم عنها المرء، وأمور من المناسب أن يصمت عن الخوض فيها، حتى أمام محكمة، حتى لو كانت محكمةً نهائية، إذا كنتم كذلك. أعرف ما تُشيرون إليه، وأرد فقط بأنه إذا كانت النتيجة التي خرجتم بها ممَّا قلتُ اليوم أمامكم أنني لا أعي هذه الأمور، فأنتم مخطئون، مخطئون بكل معنى الكلمة. دعوني أُضِفْ، لتنويركم: المعتقدات ليست دعاماتنا الأخلاقية وحدها. نستطيع أن نعتمد على قلوبنا أيضًا. هذا كل ما في الأمر. ليس لديَّ شيء آخر أقوله.»
الاستهانة بالمحكمة. تقترب بسرعة من الاستهانة بالمحكمة. هذا الميل للاشتعال، أمر يتعلَّق بها لم تحبه قط.
– «لكنك ككاتبة، لا تقدِّمين نفسك اليوم بشخصك ولكن كحالة خاصة، قَدَر خاص، كاتبة لم تكتب فقط لمجرد التسلية، بل تكتب كتبًا تستكشف تعقيدات السلوك الإنساني. تُصدرين في تلك الكتب أحكامًا متتالية، لا بدَّ أنها كذلك. ماذا يرشدك في هذه الأحكام؟ هل تُصرِّين على القول إنها كلها مسألة تتعلَّق بالقلب فقط؟ أليست لديك معتقدات ككاتبة؟ إذا كان الكاتب مجرد كائن بشري بقلب بشري، ما الخاص في حالتك؟»
– «السكان البدائيون لتسمانيا يُعَدُّون اليوم من المحجوبين، المحجوبين وأنا سكرتيرتهم، واحدة من كثيرات. كل صباح أجلس إلى طاولتي وأستعد لاستدعاء اليوم. هذا أسلوب حياة السكرتيرة، وحياتي. حين يستدعيني التسمانيون القدماء، إذا اختاروا أن يستدعوني، فسأكون مستعدةً وسأكتب، بأفضل ما أستطيع.»
«وبالمثل مع الأطفال، حيث إنكم تذكرون الأطفال المنتهكين. لم يستدعني طفلٌ حتى الآن، لكنني مرةً أخرى مستعدة.»
«إلا أنَّني أنبِّهكم: إنني منفتحة على كلِّ الأصوات، لا أصوات القتلى والمنتهَكين فقط.» تحاول هنا أن تحافظ على هدوء صوتها، تحاول ألَّا تتفوَّه بملاحظة قد تقع تحت طائلة القانون. إذا كان هناك قتلة ومنتهِكون يختارون أن يستدعوني بدلًا من ذلك، ليستخدموني ويتكلموا من خلالي، لن أُغلِق أذني، لن أحاكمهم.»
– «هل ستتكلمين من أجل القتلة؟»
– «سأتكلم.»
– «لا تحكمين بين القاتل وضحيته؟ هل هكذا تكون السكرتيرة: أن تكتبي كل ما يقال لك؟ أن تكوني إفلاس الضمير؟»
تعرف أنها محاصرة، ولكن ماذا يعني أن تكون محاصرة، إذا كانت ما تبدو أنها مبارزة خطابية، إلى حدٍّ بعيد، أقرب إلى نهايتها؟! تقول: «هل تعتقد أنَّ مَنْ يشعرون بالذنب لا يعانون أيضًا؟ هل تعتقد أنهم لا يجأرون من لهيبهم؟ لا تنسني! هذا ما يصيحون به. أي ضمير ذلك الذي لا يكترث بصرخة الألم الأخلاقي؟»
يقول الرجل السمين: «وهذه الأصوات التي تستدعيك، لا تسألين من أين تأتي؟»
– «لا. لا، طالما تنطق بالحقيقة.»
– «وأنتِ، أنتِ، مستشيرةً قلبك فقط، من تحكم على تلك الحقيقة؟»
تومئ بنفاد صبر. تفكِّر، مثل استجواب جان دارك. كيف تعرفين من أين تأتي أصواتك؟ لا تستطيع أن تصمد لأدبيتها على الإطلاق. ليسوا من الفطنة ليأتوا بجديد؟
خيَّم الصمت. يقول الرجل مشجعًا: «استمري!»
تقول: «هذا كل شيء. سألتَ فأجبتُ.»
– «هل تعتقدين أن الأصوات تأتي من الرب؟ هل تؤمنين بالرب؟»
هل تؤمنين بالرب؟ سؤال تفضِّل أن تبتعد عنه بحذر. لماذا، حتى بافتراض أن الربَّ موجود — بصرف النظر عن معنى موجود — هل يجب إزعاجه في سباته الملكي المهيب من أسفل بصخب يؤمن ولا يؤمن، وكأننا في استفتاء عام؟
تقول: «مسألة حميمة جدًّا. ليس عندي ما أقوله.»
– «ليس هنا إلا أنفسنا. أنت حرَّة في أن تُفصحي عمَّا في قلبك.»
– «لا تفهمني. أقصد، أتوقَّع أنَّ الربَّ لا يتطلَّع بعطفٍ إلى مثل هذه الفرضية، فرضية الحميمية. أفضِّل أن أدع الرب وشأنه. كما آمل أن يدعني وشأني.»
صمت. تعاني من صداع. تفكِّر مع نفسها: الكثير جدًّا من الأفكار التجريدية المتهورة، تحذير من الطبيعة.
ينظر الرئيس حوله. يسأل: «مزيد من الأسئلة؟»
لا أسئلة.
يتحول إليها: «ستعرفين رأينا. في الوقت المناسب. عبر القنوات الرسمية.»
•••
تعود إلى المبنى، تستلقي على سريرها. تفضِّل أن تجلس، لكن الأسرَّة مصنوعة بحوافَّ مرتفعة مثل الصواني، لا يمكن للمرء أن يجلس.
تكره هذه الغرفة الحارة الخانقة التي خُصِّصتْ لها بيتًا. تكره الرائحة، تشمئز من لمس المفارش الدهنية. والساعات هنا تبدو أطول من الساعات التي اعتادت عليها، خاصةً في منتصف النهار. كم مضى عليها في هذا المكان؟ فقدت الإحساس بالزمن. يبدو أنها أسابيع، وربما حتى شهور.
تفكر مع نفسها: بالضبط، ما يمكن أن يتوقَّعه المرء في بلدة حدودية إيطالية أو إيطالية نمساوية في عام ١٩١٢. مشهد من كتاب، بالضبط كما أنَّ المبنى بمفارشه المصنوعة من القش ومصباح الأربعين فولتًا مشهد من كتاب، وكل ما يجري في قاعة المحكمة أيضًا، حتى الحاجب الدائخ. هل يتم هذا كله من أجلها؛ لأنها كاتبة؟ هل فكرة شخص عمَّا سيكون عليه جحيم كاتبة، أو المَطْهر على الأقل: مطهر الأكليشيهات؟ مهما تكن الحالة، لا بدَّ أن تكون في الخارج في الميدان، لا هنا في هذا المبنى. يمكنها أن تجلس على إحدى الطاولات في الظلِّ بين لغط العشاق، وأمامها مشروب بارد، في انتظار أُولى لمسات النسيم على خدها. شيء مألوف بين الأشياء المألوفة، لكن ماذا يعني ذلك إذا استمرَّ فترةً أطول؟ ماذا يعني إذا كانت سعادة الرفاق الشباب سعادةً مختلَقة، وضجر الحارس ضجرًا مختلَقًا، والنغمات الزائفة التي ينفخها عازف البوق بأعلى صوت نغماتٍ زائفةً مختلَقة؟ هذه هي الحياة منذ وصولها إلى هذا المكان: مجموعة مدروسة من أشياء مألوفة متداخلة، بما في ذلك الأتوبيس المقعقع بالمحرِّك التعبان والحقائب المحزومة على السطح، بما في ذلك البوابة نفسها بمساميرها الهائلة البارزة. لماذا لا تخرج وتلعب دَورها؛ دَور مسافرة تهبط في بلدة محكوم عليها بألَّا تغادرها أبدًا؟
من يستطيع القول، حتى وهي تتوارى في المبنى، إنها لا تلعب دورًا؟ لماذا عليها أن تعتقد أنها وحدها تستطيع النأي بنفسها عن المسرحية؟ وهل يمثِّل العناد الحقيقي، العزيمة الحقيقية، على أية حال إلا مواصلة الأداء، مهما يكن؟ دع الفرقة تعزف نغمةً راقصة، دع الرفاق ينحني كلٌّ منهم للآخر ويخطون إلى الأرضية، وهناك، بين الراقصين، لتكنْ، إليزابيث كُسْتِلُّو، العضو العجوز، في ثيابها غير المناسبة، تدور بطريقتها الجامدة إلا أنها ليست سمجة. وإذا كان ذلك أكليشيهًا أيضًا — إنها صاحبة مهنة، تلعب دورها — فليكن أكليشيهًا. ماذا يؤهِّلها للارتجاف من الأكليشيهات حين يبدو أن الآخرين جميعًا يُرحِّبون بها ويتعايشون معها؟
الوضع مماثل في مسألة الإيمان. ما كان يجب أن تقوله لقضاتها: أومن بالروح الإنسانية المتعذَّر كبتُها. ربما جعلها ذلك تجتازهم، وبتصفيق شديد أيضًا. أومن أيضًا بأن الجنس البشريَّ كله واحد. يبدو أن الآخرين كلهم يعتنقونه، يؤمنون به. حتى هي تؤمن به، من حين لآخر، طِبقًا لحالتها المزاجية. لماذا لا يمكنها أن تتظاهر ولو مرةً واحدة؟
الْتَقَتْ، وهي صغيرة، في عالم ضاع الآن وانتهى، أناسًا يؤمنون بالفن، أو على الأقل بالفنان، الذي حاول أن يسير على خطى الأساتذة العظماء. بصرف النظر عن فشل ذلك الرب، والاشتراكية: كان هناك دوستويفسكي ليرشده، أو ريلكه، أو فان جوخ بأذنه المضمَّدة التي تمثِّل العاطفة. هل حملت هذا الإيمان الطفولي إلى سنواتها الأخيرة، وما وراءها: الإيمان بالفنان وحقيقته؟
تميل في البداية إلى أن تقول لا. لا تدل كُتبها على أي إيمان بالفن. تستطيع الآن وقد انتهى وتحقَّق عبء الكتابة طوال العمر، إلقاء نظرة عليها بهدوء تام، تؤمن، بهدوء تام، أنَّها ليست مخدوعة. كتبها لا تعلم شيئًا، ولا تبشِّر بشيء؛ توضِّح، بأوضح ما يمكن، كيف عاش الناس في زمن معين ومكان معين. توضِّح، بتعبير أكثر تواضعًا، كيف عاش شخص واحد، واحد من بلايين: شخص تسميه لنفسها، هي، ويسميه الآخرون إليزابيث كُسْتِلُّو. إذا كانت تؤمن، في النهاية، بكتبها نفسها بأكثر ممَّا تؤمن بذلك الشخص، فهو إيمان فقط بالمعنى الذي يؤمن به نجار بطاولة ثابتة أو صانع براميل ببرميل متين. تعتقد أن كتبها أفضل منها إذا قورنت بها.
تعرف من تغيُّر الجوِّ، تغيُّرًا يخترق حتى الفضاء الخامل في المبنى، أنَّ الشمس تغرب. تركتْ بعد الظهيرة كلها تنزلق منها. لم تذهب للرقص ولم تعمل في الإقرار، شعرت بالملل فقط، وضيَّعت وقتها.
تنتعش، في الكنيف البسيط الضيِّق في الخلفية، بأفضل ما تستطيع. تجد، حين تعود، قادمةً جديدة، امرأةً أصغر منها، تستلقي على سرير وعيناها مغلقتان. رأتها من قبل، في الميدان، في صحبة رجل يرتدي قبَّعةً بيضاء من القش. اعتبرتها من السكان المحليين. لكن من الواضح أنها ليست كذلك. من الواضح أنها ملتمسة أيضًا.
ليست المرة الأولى، يخطر السؤال على ذهنها: هل هذه هي حقيقتنا: كلنا: متوسلون في انتظار محاكماتنا الخاصة، بعضنا جديد، والبعض، الذين أسمِّيهم محليين، لهم فترة طويلة هنا تكفي لاستقرارهم، استقروا هنا، وأصبحوا جزءًا من المشهد الجميل؟
ثمَّة شيء أليف في المرأة التي على السرير هنا، شيء لا يمكنها الإمساك به. حتى حين رأتها أول مرة في الميدان بدت مألوفة. لكن من البداية كان هناك شيء مألوف في الميدان نفسه، البلدة كلها. كما لو أنها نُقِلتْ إلى فيلم تتذكره بصورة باهتة. عاملة التنظيف البولندية، على سبيل المثال، إذا كانت بولنديةً حقًّا: أين رأتها من قبلُ؟ ولماذا تربطها بالشِّعْر؟ هل هذه المرأة الصغرى شاعرة أيضًا؟ هل ذلك سبب وجودها هنا: ليست على الأرجح في المطهر بل في حديقة في موضوع أدبي، تخضع للتحول وهي تنتظر، مع ممثلين في مكياج ليبدو كأنهم كتاب؟ ولكن إذا كان الأمر كذلك، لماذا المكياج بهذا الفقر؟ لماذا لا يتم إنجاز الأمر كله بشكل أفضل؟
ذلك، أخيرًا، هو المخيف جدًّا في هذا المكان، أو المخيف إذا لم يكن إيقاع الحياة فاترًا إلى هذه الدرجة: الهوَّة بين الممثلين والأدوار التي يلعبونها، بين العالم الذي يُقدَّم لها لتراه وما يمثله هذا العالم. إذا كانت الحياة الآخرة — إذا كان كذلك، إذا أطلقنا عليه ذلك الاسم للحظة — إذا تبيَّن أن الحياة الآخرة ليست سوى تهريج، زيف من البداية إلى النهاية، لماذا يفشل الزيف بكل هذا الثبات، لا يفشل فشلًا هيِّنًا — بحيث يمكن للمرء أن يتسامح معها — بل يفشل فشلًا ذريعًا؟
تشبِّه أعمال كافكا، الجدار، البوابة، الحارس، من كافكا مباشرة، وأيضًا الاحتياج إلى اعتراف، وقاعة المحكمة؛ بالحاجب الدائخ وهيئة قضاة من الرجال المسنين في عباءاتهم السوداء لِلَفت الانتباه وهي تتقلَّب في شِباك كلماتها. كافكا، لكن المظاهر الخارجية لكافكا فقط؛ كافكا مختَصَرًا ومسطحًا في محاكاة ساخرة.
•••
الصباح، وهي عند طاولتها على الرصيف، تعمل في إقرارها، محاوِلةً بطريقة جديدة. حيث إنها تتباهى بأنها سكرتيرة المحجوب، فلتركِّز انتباهها، وتحوِّله إلى الداخل. أي صوت يمكن أن تسمعه من المحجوب اليوم؟
لا تسمع، للحظة، إلا صوت الدماء بطيئًا في أذنيها، ولا تشعر إلا بلمسة رقيقة للشمس على جلدها. ليس عليها أن تبتكر هذا على الأقل: تحوَّلَ هذا الجسد الأخرس المؤمن الذي رافقها في كل خطوة من طريقها، هذا الشبح الدمث المتثاقل الذي أُعطي لها ليرعاها، هذا الظل، إلى لحم يقف على قدمين مثل دب ويغتسل باستمرار من الداخل بالدماء. ليست وحدها في هذا الجسد، شيء لم تكن لتحلم به ولو بعد ألف سنة، أبْعَدُ بكثير من قدراتها، إنها بشكل ما هذا الجسد؛ وكل ما حولها في الميدان، في هذا الصباح الجميل، هؤلاء الناس، هم أجسادهم أيضًا بشكل ما.
بشكل ما، لكن كيف؟ كيف لا يمكن للأجساد على هذه الأرض أن تحافظ على نظافتها إلا باستخدام الدم (الدم!)، لكنها تتأمل سر وجودها وتعبِّر عنه بكلمات، وربما تنتشي من حين لآخر نشوةً بسيطة؟ هل يُعَدُّ معتقدًا، مهما تكن خاصيته التي تسمح لها بالاستمرار في أن تكون هذا الجسد حين لا تعرف كيفية حدوث الخدعة؟ هل يَقْنَعون — منصة القضاة، هيئة الممتحنين، منبر القضاة، مَنْ يطلبون منها الكشف عن معتقداتها — هل يَقْنَعون بهذا: أومن بأنني أنا؟ أومن بأنَّ من تقف أمامكم اليوم أنا؟ أم إن هذا يشبه الفلسفة إلى حد بعيد، يشبه غرفة السيمينار إلى حد بعيد؟
تجلس امرأة قبالتها. لا تبدو مشغولة.
«هل تعملين في اعترافك؟»
المرأة التي رأتها في المبنى، المرأة ذات اللكنة البولندية، المرأة التي تظن أنها كابو. ترتدي هذا الصباح ثوبًا من القطن، منقوشًا بزهور، أخضر ليمونيًّا، ثوبًا من طراز قديم، بحزام أبيض. يناسبها، يناسب شعرها الأشقر القوي وجلدها الذي حرقته الشمس وهيكلها العريض. تبدو مثل فلاحة في موسم الحصاد، قوية، قادرة.
– «لا، ليس اعترافًا، إنه إقرار بالمعتقد. هذا ما طُلِب مني.»
– «نسميها اعترافات هنا.»
– «حقًّا؟ لا أسميها كذلك. ليس بالإنجليزية. ربما باللاتينية، ربما بالإيطالية.»
الرفيقان الجالسان على الطاولة المجاورة يُشبكان إصبعيهما الصغيرين معًا. يشد كل منهما الآخر بضحك؛ يخبطان جبهتيهما، يتهامسان. ليس لديهما اعترافات يكتبانها على ما يبدو. لكن ربما لا يكونان ممثِّلَين، ممثلين بكل معنى الكلمة مثل المرأة البولندية أو المرأة التي تمثِّل دَور امرأة بولندية؛ ربما كانا مجرد شخصين إضافيين، طُلب منهما أن يفعلا ما يفعلانه كل يوم في حياتهما ليملآ نشاط الميدان، ليمنحاه احتمال الصدق، التأثير الواقعي. لا بدَّ أنها حياة لطيفة، حياة الشخص الإضافي. لكن لا بدَّ أن يبدأ القلق في الزحف بعد سنٍّ معينة. بعد سنٍّ معينة، تبدو، بالضرورة، حياة الشخص الإضافي وكأنها تضييع لوقت ثمين.
«ماذا تقولين في اعترافك؟»
– «ما قلتُ من قبل: لا يمكن أن أحتمل الإيمان. على المرء في مهنتي أن يُعلِّق الإيمان. هذا الإيمان تدليل، ترف، عقبة في الطريق.»
– «حقًّا؟ قد يصف بعضنا الترف الذي لا يمكن أن نحتمله بأنه كفر.»
تنتظر المزيد.
تواصل المرأة: «الكفر — مفكرةً في كل الاحتمالات، متنقلةً بين المتناقضات — دليل على وجودٍ مترف، وجود ترفي. على معظمنا أن يختاروا. وحدها الروح الخفيفة تحلق في الهواء.» تتكئ أكثر. «من أجل الروح الخفيفة، دعيني أقدِّم نصيحة. قد يقولون إنهم يحتاجون إلى إيمان، لكنهم عمليًّا يرضون بالعاطفة. أَريهم العاطفةَ وسيَدَعونك تمُرِّين.»
تكرِّر: «عاطفة؟ العاطفة الحصان الأسود؟ كنتُ أعتقد أن العاطفة تُبعد المرء عن الضوء، وليس باتجاهه. إلا أن العاطفة في هذا المكان، كما تقولين، مناسبة جدًّا. أشكرك على المعلومة.»
نبرتها ساخرة، لكن رفيقتها لا ترفض. على العكس، تستقر أكثر هدوءًا في مقعدها وتومئ إيماءةً بسيطة، وتبتسم ابتسامةً بسيطة، كما لو كانت تبتكر السؤال الذي يأتي الآن.
«أخبريني، كيف يمكن لكثير منَّا أن يمروا، أن يجتازوا الامتحان، أن يمروا عبر البوابة؟»
تضحك المرأة، ضحكةً هادئة، جذابةً بشكل غريب. أين رأتها من قبل؟ لماذا كلُّ هذا الجهد لتتذكَّر، مثل إحساس المرء بطريقه عبر الضباب؟ تقول المرأة: «عبر أية بوابة؟ هل تعتقدين أنه لا توجد إلا بوابة واحدة؟» تهزها ضحكة جديدة، رجفة طويلة مترفة في الجسد تجعل ثدييها الثقيلين يهتزان. تقول: «هل تدخِّنين؟ لا؟ هل تفكِّرين؟»
من علبة سجائر ذهبية تأخذ سيجارة، وتُشعل عود ثقاب، تنفث. يدها غليظة وعريضة، يد فلاحة، إلا أن الأظافر نظيفة وملونة ببراعة. من هي؟ وحدها الروح الخفيفة تحلق في الهواء. يبدو وكأنه اقتباس.
تقول المرأة: «من يعرف ما نعتقده حقًّا. إنه هنا دفين في قلبنا.» بخفة تضرب ثديها. «دفين حتى عن أنفسنا. ليس الإيمان ما تبحث عنه اللجان. التأثير كافٍ، تأثير الإيمان. أظهري لهم أنك تحسين وسيرضون.»
– «ماذا تعنين باللجان؟»
– «لجان الممتحنين. نسميهم لجنة، ونسمِّي أنفسنا الطيور المغردة. نغني للجان، لبهجتهم.»
تقول: «لا أقدم استعراضات. لستُ مغنية.» ينجرف دخان السيجارة إلى وجهها؛ تُبعده. «لا يمكن أن أخترع ما تسمينه العاطفة حين لا توجد. لا يمكن أن أفتحها وأغلقها. إذا لم تفهم لجانكم ذلك …» تهز كتفيها. كانت على وشك أن تقول شيئًا عن تذكرتها، عن إعادة تذكرتها، لكن ذلك سيكون عظيمًا جدًّا، أدبيًّا جدًّا، في مناسبة بهذه التفاهة.
تطفئ المرأة سيجارتها. تقول: «يجب أن أذهب. أحتاج لشراء بعض الأشياء.»
قد لا تُفصح عن طبيعة هذه الأشياء. لكن يصدمها، إليزابيث كُسْتِلُّو (هنا تبهت الأسماء: حسنًا، لا يبهت اسمها بأي شكل)، مدى السلبية التي آلت إليها، مدى لا مبالاتها. هناك أشياء تودُّ هي الأخرى شراءها. تحتاج، بعيدًا عن فنتازيا الآلة الكاتبة، إلى كريم واقٍ من الشمس، وصابون خاص بها، لا صابون الفينول المزعج الموجود في الكنيف. إلا أنها لا تأتي بأي حركة لتسأل عن المكان الذي يشتري المرء منه أشياءه في هذا المكان.
ثمة شيء آخر يصدمها؛ فقدت شهيتها تمامًا. منذ الأمس تتذكَّر بصعوبة أنها لم تتناول سوى جيلاتي ليمون ومكرونة مع القهوة. تنفر اليوم تمامًا من فكرة الأكل نفسها. تشعر أن جسدها ثقيل بشكل بغيض، مادي بشكل بغيض.
هل يبدأ مسار جديد في الدعوة: كواحدة من أناس نحاف، صائمين بشكل قهري، فنانين جائعين؟ هل سيُشفق عليها قضاتها حين يرونها تضمر؟ ترى نفسها، نحيفةً كالعصا على منصة عامة وفي بقعة من ضوء الشمس تكتب باستعجال عن غايتها؛ غاية لن تكتمل أبدًا. تهمس لنفسها: يحفظني الرب! أدبية جدًّا! أدبية جدًّا! لا بدَّ أن أخرج من هنا قبل أن أموت!
تعود العبارة إليها مرةً أخرى في العتمة، وهي تقوم بجولة حول سور البلدة، تشاهد طيور السنونو تنقضُّ وتهبط فوق الميدان: روح خفيفة. هل هي روح خفيفة؟ ما الروح الخفيفة؟ تفكِّر في فقاعات الصابون تطفو مرتفعةً بين طيور السنونو، ترتفع إلى السماء الزرقاء. هل هكذا تراها المرأة، المرأة التي وظيفتها أن تمسح الأرضية وتنظِّف الكنيف (لم ترها قط تفعل هذه الأشياء)؟ من المؤكد أن حياتها لم تكن حياةً صعبة، بمعظم المعايير، لكنها أيضًا لم تكن سهلة. ربما كانت هادئة، ربما آمنة: حياة في الناحية الأخرى من الكرة الأرضية، بعيدة عن أسوأ تاريخ؛ لكنها مدفوعة أيضًا، الكلمة ليست قوية. هل عليها أن تبحث عن المرأة وتعرف حقيقتها؟ هل ستفهم المرأة؟
تتنهد، تواصل المشي. كم هو جميل هذا العالم، حتى لو كان مجرَّد صورة مقلدة! على الأقل هناك ما تستند عليه.
•••
قاعة المحكمة نفسها، والحاجب نفسه، لكن هيئة القضاة (اللجنة، كما لا بدَّ أن تتعلم الآن تسميتها) جديدة. يوجد سبعة منهم، لا تسعة، بينهم امرأة؛ لا تعرف وجهًا من هذه الوجوه. والمنصات العامة لم تعد خاوية. لها مشاهِد، مؤيد: المرأة المنظفة، تجلس وحدها وحقيبة من الخيوط في حِجْرها.
«إليزابيث كُسْتِلُّو، مقدمة طلب، الجلسة رقم اثنين»، ينطق المتحدث باسم لجنة اليوم (القاضي الرئيسي؟ كبير القضاة؟). «نقحتِ إقرارك، نفهم. من فضلك ابدئي!»
تخطو إلى الأمام. تقرأ بصوت ثابت، كطفل يسمِّع ما حفظه: «ما أعتقده، أنني وُلدتُ في ملبورن، لكنني قضيتُ جزءًا من طفولتي في فيكتوريا، في منطقة قارية: جفاف محرق تتبعه أمطار غزيرة تملأ الأنهار بجثث الحيوانات الغريقة. على أية حال، هذا ما أتذكره.»
«من أين تصل فجأة، هذه الآلاف من الضفادع؟ الإجابة: إنها هناك دائمًا. تذهب في موسم الجفاف تحت الأرض، تختبئ أبعد وأبعد من حرارة الشمس حتى تصنع كل منها قبرًا صغيرًا لنفسها. وتموت في هذه القبور، إذا جاز التعبير. تقل نبضات قلوبها، يتوقَّف تنفُّسها، تتحوَّل بلون الطمي. وتصمت الليالي مرةً أخرى.»
«تصمت حتى تأتي الأمطار التالية، فتدق، إذا جاز التعبير، على الآلاف من أغطية التوابيت الضئيلة. وفي تلك التوابيت تنبض القلوب، وتنتفض الأطراف، تلك التي كانت بلا حياة لشهور. يستيقظ الموتى. وحين تلين كتل الطمي، تشق الضفادع طريقها إلى الخارج، وبسرعة يظهر صوتها من جديد بابتهالات سعيدة تحت قبة السموات.»
«سامحوني على لغتي. أنا، أو كنتُ، كاتبةً محترفة. أراعي عادةً إخفاء غلوِّ التخيُّل. لكنني فكَّرتُ اليوم، بهذه المناسبة، ألَّا أُخفي شيئًا، أن أكشف كلَّ شيء. الفيضان الغامر، كورس النقيق المبهج، الذي يتبعه انحسار المياه والتراجع إلى المقبرة، ثم الجفاف بلا نهاية على ما يبدو، ثم الأمطار الجديدة وبعث الموتى؛ هذه قصة أقدِّمها بشفافية، دون قناع.»
«لماذا؟ لأنني لستُ اليوم أمامكم ككاتبة، بل كامرأة عجوز كانت طفلةً ذات يوم، أحكي لكم ما أتذكَّره عن مسطحات طمي الدلجانون في طفولتي وعن الضفادع التي تعيش هناك، بعضها صغير في حجم أنملة إصبعي الصغير، كانت عديمة الأهمية تمامًا وبعيدةً تمامًا عن اهتماماتكم الأسمى حتى إنكم ربما لم تسمعوا عنها من قبل. أظن أن دورة حياة الضفدعة، أتوسَّل عفوكم لسقطاتها الكثيرة، قد تبدو مجازية، لكنها بالنسبة للضفادع نفسها ليست مجازية، إنها الحقيقة، الحقيقة الوحيدة.»
«بمَ أُومِن؟ أُومِنُ بتلك الضفادع الصغيرة. أين أجد نفسي اليوم، في سني الكبيرة وربما سني الكبرى، لستُ متأكدة. ثمة لحظات أشعر أنها تبدو مثل إيطاليا، لكنني قد أكون مخطئةً بسهولة، قد يكون مكانًا مختلفًا تمامًا. البلدات في إيطاليا ليس فيها، بقدر ما أعرف، منافذ (لن أستخدم الكلمة المتواضعة، بوابة، في وجودكم) يمنع المرور خلالها. لكن القارة الأسترالية، حيث وُلدتُ في هذا العالم، أرفس وأصرخ، حقيقة (حتى لو كانت بعيدةً جدًّا)، الدلجانون ومسطحات الطمي حقيقية، الضفادع حقيقة. إنها موجودة سواء حكيتُ لكم عنها أو لم أحكِ، سواء آمنتُ بها أو لم أومن.»
تتوقف. من خلفها، صوت تصفيق لطيف، من يدين اثنتين فقط، يدَي المرأة المنظِّفة. يتضاءل التصفيق ويتوقف. كانت هي؛ أي المرأة المنظفة، التي هيَّأتها لذلك، هذا الفيضان من الكلمات، هذه الثرثرة، هذه الحيرة، هذه العاطفة. حسنًا، لنرَ أي نوع من الاستجابة تتلقاه العاطفة.
يميل أحد القضاة، الرجل الذي إلى أقصى اليمين، إلى الأمام. يقول: «دلجانون. هل هذا نهر؟»
– «أجل، نهر. إنه موجود. لا يمكن تجاهله. تجده على معظم الخرائط.»
«وقد قضيتِ طفولتك هناك، على الدلجانون؟»
تصمت.
«لأنه لا يُذكَر شيء هنا، في جعبتك، عن طفولة على الدلجانون.»
تصمت.
«هل الطفولة على الدلجانون قصة أخرى من قصصك، مسز كُسْتِلُّو؟ إضافةً إلى الضفادع وأمطار السماء؟»
– «النهر موجود. الضفادع موجودة. أنا موجودة. ماذا تريد أكثر من ذلك؟»
المرأة التي بينهم، نحيلة، بشعر فضي جميل ونظارة بإطار فضي، تتكلم: «هل تؤمنين بالحياة؟»
– «أومن بكل ما لا ينشغل بالإيمان بي.»
تومئ القاضية إيماءةً بسيطة تنمُّ عن نفاد الصبر: «الحجر لا يؤمن بك، الدغل، لكنك لا تختارين أن تحدثينا عن الحجارة والأدغال، بل عن الضفادع، تنسبين لها قصَّة حياة مجازيةً جدًّا، كما تستنتجين. تجسِّد ضفادعك الأسترالية روح الحياة، التي تؤمنين بها كقاصة.»
ليس سؤالًا، إنه، في الحقيقة، حكم. هل يجب أن تقبله؟ تؤمن بالحياة: هل تعتبر ذلك الكلمة الأخيرة عنها، مرثيتها؟ تميل تمامًا إلى الاعتراض: تريد أن تصرخ: تافهة! إنني جديرة بما هو أفضل من ذلك! لكنها تكبح نفسها. ليستْ هنا لتكسب مناقشة، إنها هنا لتكسب مرورًا، ممرًّا. بمجرد أن تمر، بمجرد أن تودِّع هذا المكان، سيكون ما تتركه خلفها، حتى لو كانت مرثية، عديم الأهمية إلى أقصى حد.
تقول باحتراس: «إذا أحببتِ.»
تنظر القاضية، قاضيتها، بعيدًا، تزمُّ شفتيها. يخيِّم صمت طويل. تستمع إلى طنين ذبابة يُفتَرَض أنه يُسمَع في مثل هذه المناسبات، لكن لا يبدو أنَّ هناك ذبابةً في قاعة المحكمة.
هل تؤمن بالحياة؟ هل تؤمن حتى، من أجل هذه المحاكمة العبثية ومتطلباتها، بالضفادع؟ كيف يمكن للمرء أن يعرف ما يؤمن به؟
تحاول اختبارًا يبدو أنه فعَّال حين تكتب: أن ترسل كلمةً في الظلام وتستمع لصداها. مثل صائغ ينقر جرسًا: هل هو مشروخ أم سليم؟ الضفادع: ما النغمة التي تُصدرها الضفادع؟
الإجابة: لا نغمة على الإطلاق. لكنها حذرة جدًّا، تعرف المسألة تمامًا، ليخيب أملها حتى الآن. ضفادع طمي الدُّلجانون رحلة جديدة بالنسبة لها. امنحوها وقتًا: ربما مع ذلك صُنعت لترنَّ رنةً حقيقية؛ لأن هناك شيئًا بشأنها يشغلها بشكل غامض، شيئًا عن توابيت الطمي وأصابع أيديها، الأصابع التي تنتهي بِكُرَات صغيرة، رقيقة، رطبة، مخاطية.
تفكِّر في الضفدعة تحت الأرض، تنتشر وكأنها تطير، وكأنها تهبط بمظلة في الظلام. تفكِّر في الطمي يأكل عند أنامل تلك الأصابع، يحاول أن يمتصها، أن يذيب الغشاء الرقيق حتى لا يستطيع أحدٌ بعد ذلك أن يميِّز (بالتأكيد ليست الضفدعة نفسها، وقد ضاعت في نومها البارد في البيات الشتوي) بين الأرض واللحم. أجل، ذلك ما يمكن أن تؤمن به: التحلل، العودة إلى العناصر؛ ويمكنها أيضًا أن تؤمن باللحظة المضادة، حين تسري الرجفة الأولى لعودة الحياة في الجسد وتنقبض العضلات، وتنثني اليدان. يمكن أن تؤمن بذلك، إذا ركَّزت بدقة كافية، كلمةً كلمة.
يهمس الحاجب بكلمة للتنبيه. يُشير باتجاه المنصة، حيث ينظر كبير القضاة إليها بنفاد صبر. هل كانت في غيبة، أو حتى نائمة؟ هل نعستْ في وجوه قضاتها؟ يجب أن تكون أكثر حذرًا.
«أحيلك إلى ظهورك الأول أمام المحكمة، حين قلتِ إن وظيفتك «سكرتيرة المحجوب»، وقلتِ العبارة التالية: «السكرتيرة الجيِّدة يجب ألَّا يكون لها معتقدات. إنها لا تُناسب وظيفتها»؛ وبعد وقت قصير، «لي معتقدات لكنني لا أومن بها».»
«في تلك الجلسة بدا أنك تستخفين بالإيمان، واصفةً إياه بأنه معوِّق لحرفتك. إلا أنك، في جلسة اليوم، تُظهرين إيمانك بالضفادع، أو بشكل أكثر دقةً بالمعنى المجازي لحياة الضفدعة، إذا كنتُ أفهم اندفاعك. سؤالي هو: «هل غيرتِ أساس الدعوى من الجلسة الأولى إلى الجلسة الحالية؟ هل تتخلين عن قصة السكرتيرة وتقدمين قصةً جديدة، مؤسَّسةً على ثبات إيمانك بالخلْق؟».»
هل غيَّرتْ قصَّتها؟ سؤال خطير، لا شكَّ في ذلك، إلا أنَّ عليها أن تكافح لتثبِّت انتباهها عليه. قاعة المحكمة حارَّة، تشعر أنها مخدَّرة، ليست متأكدةً ممَّا يمكن أن تحتمله من هذه الجلسة. ما تودُّ أن تفعله أكثر هو أن تضع رأسها على مخدة وتغفو، حتى لو كانت المخدة القذرة في المبنى.
– «يعتمد»، تقول، مضيعةً الوقت، محاولةً أن تفكر (تقول لنفسها: تعالَي، تعالي! حياتك تعتمد على هذا!) «سألت ما إن كنتُ غيرتُ دعواي. لكن من أنا، من هذه الأنا، هذه الأنت؟ نتغير من يوم ليوم، ونبقى أيضًا كما كنَّا. لا أنا، ولا أنت أساسيان أكثر من أي شخص آخر. ربما تسأل أيضًا أيهما إليزابيث كُسْتِلُّو الحقيقية: التي قدَّمت الإقرار الأول أم التي قدَّمت الثاني. إجابتي هي، كلتاهما حقيقيتان. كلتاهما. ولا واحدة منهما. أنا أخرى. سامحني للجوئي إلى كلمات ليست كلماتي، لكن لا يمكنني تحسينها. أمامك الشخص الخطأ. إذا كنت تعتقد أن أمامك الشخص الحقيقي فإن أمامك الشخص الخطأ. إليزابيث كُسْتِلُّو الخطأ.»
هل هذا صحيح؟ قد لا يكون صحيحًا، لكن من المؤكد أنه ليس خطأً. لم تشعر قط في حياتها أكثر من ذلك بأنها الشخص الخطأ.
يلوِّح مستجوبها بنفاد صبر: «لا أطلب رؤية جواز سفرك. جوازات السفر لا أهمية لها هنا، كما أنا متأكد من أنك تُدركين ذلك. السؤال الذي أسأله هو: أنت، وأقصد بها هذا الشخص الذي أمام عيوننا، هذا الشخص الذي يلتمس المرور، هذا الشخص الذي هنا وليس في أيِّ مكان آخر، هل تكلمين نفسك؟»
– «نعم. لا، بالتأكيد لا. نعم ولا. كلاهما.»
يلقي قاضيها نظرةً يسارًا ويمينًا إلى زملائه. هل تتخيلها، أم إن ومضة الابتسامة تمر بينهم، وكلمة مهموسة؟ ما الكلمة؟ مرتبكة؟
يلتفت إليها. «أشكرك. هذا كل شيء. تعرفين رأينا في الوقت المناسب.»
– «هذا كل شيء؟»
– «هذا كل شيء، اليوم.»
– «لستُ مرتبكة.»
– «أجل، لستِ مرتبكة. لكن من الذي ليس مرتبكًا؟»
لا يستطيعون السيطرة على أنفسهم، هيئة قضاتها، لجنتها. يضحكون في البداية ضحكةً مكبوتة كالأطفال، ثم يتخلون عن وقارهم ويعوون بالضحك.
•••
تتجوَّل عبر الميدان. الوقت، كما تخمِّن، بعد الظهر مباشرة. الصخب أقل من المعتاد. لا بدَّ أن السكان المحليين في قيلولتهم. الشاب في ذراعي شخص آخر. تقول لنفسها، ليس بدون مرارة: إذا عشتُ حياتي مرَّةً أخرى، فسوف أقضيها بشكل آخر. بشكل أكثر متعة. أيُّ خير قدَّمتْه لي حياة الكتابة، وهي توشك الآن على البرهان الأخير؟
الشمس حامية. يجب أن تضع قبعةً على رأسها، لكن قبعتها في المبنى، وفكرة دخول هذا المكان المكتوم مرةً أخرى تصدها.
مشهد مبنى المحكمة لم يفارقها، عاره، خزيه. إلا أنَّها تبقى في ظلِّ هذا كله، بشكل غريب، تحت سحر الضفادع. إنها اليوم، كما يبدو، ميَّالة للإيمان بالضفادع. ماذا سيكون عليه الحال غدًا؟ الذباب؟ الجنادب؟ تبدو مواضيع إيمانها عشوائيةً تمامًا. تأتي بدون مقدمات، مدهشةً وفريدة، برغم مزاجها الكئيب، وتُبْهِجها.
تنقر الضفادع نقرةً بظفرها. النغمة التي ترتد واضحة، واضحة مثل جرس.
تنقر كلمة إيمان نقرة. كيف يُقاس الإيمان؟ هل يصلح اختبارها مع المجردات أيضًا؟
الصوت الذي يرتد عن الإيمان ليس بالوضوح نفسه، لكنه واضح بما يكفي على أية حال. اليوم، في هذا الوقت، في هذا المكان، من الواضح أنها ليست بدون إيمان. إن ما تفكِّر فيه الآن، ما تعيشه، بمعنًى معين، بالإيمان. يبدو أن ذهنها، حين تكون نفسها حقًّا، ينتقل من إيمان إلى آخر، وقفة، اتزان، ثم حركة. تأتي إلى ذهنها صورة فتاة تعبر تيارًا؛ تأتي مع بيت لكيتس: محافظةً على ثبات رأسها المثقل عبر غدير. تعيش بالإيمان، تعمل بالإيمان، إنها مخلوق إيماني. يا لها من راحة! هل تعود وتُخبرهم؛ أي قضاتها، قبل أن يخلعوا ملابسهم (وقبل أن تغير رأيها)؟
تندهش لأن محكمةً تُنصِّب نفسَها للاستجواب بشأن الإيمان ترفض مرورها! لا بدَّ أنهم استمعوا لكُتَّاب آخرين من قبلُ، مؤمنين كافرين أو كافرين مؤمنين. الكُتَّاب ليسوا محامين، من المؤكد أنهم لا بدَّ أن يسمحوا بذلك، يسمحوا بغرابة التقديم. لكن هذه بالطبع ليست محكمة قانون، وليست حتى محكمة منطق. كان انطباعها الأول صحيحًا: محكمة تخرج من كافكا أو «أليس في بلاد العجائب»، محكمة المفارقة. سيكون الأول أخيرًا والأخير أولًا، أو بالعكس. إذا سُلِّم مقدَّمًا أن المرء يستطيع أن ينفث في سمع المرء حكايات من طفولته، متنقلًا برأس محمَّل من معتقد إلى آخر، من الضفادع إلى الحجارة إلى الآلات الطائرة، بقدر ما تغيِّر امرأة قبعتها (الآن من أين أتى ذلك السطر؟)، ثم يأخذ كل ملتمس سيرةً ذاتية، ويغرق كاتب اختزال المحكمة في تيارات من التداعي الحر.
إنها أمام البوابة مرةً أخرى، أمام بوابتها بوضوح وبوابتها وحدها، مع أنها لا بدَّ أن تكون مرئيةً لأي شخص يهتم بإلقاء نظرة عليها. إنها، كما كانت دائمًا، مغلقة، لكن الباب إلى الكوخ مفتوح، ويمكنها أن ترى بالداخل البوابَ، الحارس، مشغولًا بأوراقه كالعادة، التي تهتز قليلًا في هواء المروحة.
تشير: «يوم آخر حار.»
يهمهم، ولا يتوقف عن عمله.
تواصل، محاولةً ألَّا تُمنَع: «كلما مررتُ بك أراك تكتب. أنت أيضًا كاتب، بمعنًى ما. ماذا تكتب؟»
– «سجلات. أحدِّث السجلات.»
– «انتهيتُ للتو من جلستي الثانية.»
– «أمر طيب.»
– «غنيتُ لقضاتي. كنتُ اليوم طائرًا مغردًا. هل تستخدمون هذا التعبير: طائرًا مغردًا؟»
يهز رأسه بشكل تجريدي: لا.
«لم تكن أغنيتي جيدة، أنا خائفة.»
– «مِمَّ؟»
تقول: «أعرف أنك لستَ قاضيًا. مع ذلك، في رأيك، هل أمامي أي فرصة للمرور؟ وإذا لم أمر، إذا اعتُبِرتُ غير جيدة بما يكفي للمرور، هل أقف هنا إلى الأبد، في هذا المكان؟»
يهز كتفيه. «أمامنا كلنا فرصة.» لم يتطلع إليها، ولو مرة. هل يعني هذا شيئًا ما؟ هل يعني أنه يفتقر إلى الشجاعة للنظر في عينها؟
تؤكد: «لكن ككاتبة، ما الفرصة التي أمامي ككاتبة، مع المشاكل الخاصة بكاتب، الوفاء الخاص؟»
الوفاء. الآن تبينت الأمر، تعرف أنها الكلمة التي يتعلق بها كل شيء.
يهز كتفيه مرةً أخرى. يقول: «لا أحد يعرف. إنها مسألة ترجع لِلِّجان.»
– «لكنك تحتفظ بالسجلات؛ من يمر ومن لا يمر. لا بدَّ أنك، بمعنًى ما، تعرف.»
لا يردُّ.
«هل رأيتَ أناسًا كثيرين مثلي، أناسًا في موقفي؟» تُواصِل بشكل ملحٍّ، بدون سيطرة على نفسها، تسمع نفسها بدون سيطرة؛ تكره نفسها من أجل ذلك. في موقفي: ماذا يعني ذلك؟ ما موقفها؟ موقف من لا تعرف رأيها هي نفسها؟
ترى شيئًا على البوابة، الجانب البعيد من البوابة، الجانب الذي تنُكَر عنده. أسفل البوابة، مُغلِقًا الطريقَ، يتمدد كلبٌ، كلب عجوز، جلده بلون جلد الأسد به ندب من تشوهات لا تُحصى. عيناه مغلقتان، مستريح، نائم. لا شيء وراءه إلا صحراء من الرمال والحصى، إلى ما لا نهاية. إنها رؤيتها الأولى منذ فترة طويلة، ولا تثق فيها، لا تثق خاصةً في الجناس التصحيفي جود-دوج. تفكِّر مرَّةً أخرى، أدبي جدًّا. لعنة على الأدب!
من الواضح أن الرجل خلف الطاولة تَلَقَّى ما يكفي من الأسئلة. يضع قلمه، يثني يديه، ينظر إليها برزانة. يقول: «طوال الوقت. نرى أناسًا مثلك طوال الوقت.»
يساوي، في مثل تلك اللحظات، حتى مخلوق تافه: كلب، فأر، خنفسة، شجرة تفاح معوقة، طريق لعربات الكارو يلتف على هضبة، حجر عليه طحالب؛ يساوي بالنسبة لي أكثر من ليلة من السعادة مع أجمل السيدات وأكثرهنَّ إخلاصًا. هذه المخلوقات البكم، وفي بعض الحالات غير الحية تضغط باتجاهي بالاكتمال والحب، بحيث لا يكون هناك شيء في مجال عيني المنتشية لا يتمتع بالحياة. وكأن كل شيء، كل ما يوجد، كل ما يمكن أن أتذكر، كل ما يلمسه تفكيري المشوش، له معنًى.
«رسالة لورد كَنْدوس إلى لورد بكون» (١٩٠٢م).