لماذا زيورخ؟
في كافيتريا فندق «الأمباسادور» … جلس الأصدقاء «أحمد» و«إلهام» و«عثمان» و«ريما» يتناولون عشاءهم … بعيدًا عن برودة الجو خارج الفندق … وبعيدًا أيضًا عن عيون «سوبتك» … وما زالت عملية «حرب الأقمار» تشغل بالهم وتستحوذ على جل تفكيرهم، وضحك «عثمان» وهو يقول لهم: لقد قمنا بعملية كاملة … لكي نصل إلى أرض العملية الأصلية.
وعلَّقَت «ريما» ضاحكة بقولها: نحمد الله أن هذا لم يحدث مع رحلتنا من «جينيف» إلى «زيورخ».
كان «أحمد» شاردًا بعيدًا … عندما سألته «إلهام» عن رأيه في قرار الحضور إلى «زيورخ»: أليست العملية الأصلية في «أنماس»؟!
هكذا قالت «إلهام» له … وعندما لم يُجب لجأت إلى حيلة شقية كي تخرجه من شروده، فاتصلت به على ساعة يده … وعندما شعر بالوخز ونظر إلى شاشة الساعة … الْتفتَ إليها باسمًا … فبادرته قائلة: أين كنت؟
فقال لها متسائلًا: هل لديكِ تفسير لمغادرتنا «جينيف» وحضورنا إلى «زيورخ»؟
اندهشت «إلهام» وقالت له: لقد كنت أسألك نفس السؤال … ولكن ألم يكُن هذا قرارك؟!
أحمد: لا بل قرار رقم «صفر».
هنا … وهنا فقط … تدخَّل «عثمان» قائلًا: قد يكون الطريق إلى قرية «أنماس» مغلقًا في «جينيف» … وسنذهب إليها عن طريق «زيورخ»!
أثار هذا التفسير حنَق «ريما» فاندفعت تقول له: أتذهب إلى قرية على الحدود الفرنسية من مدينة على الحدود الألمانية يا «عثمان»؟!
ابتسم «أحمد» وقال لها: ليست هذه المرة الأولى التي يأتي فيها «عثمان» إلى «زيورخ» يا «ريما» ويسافر منها إلى «ألمانيا» إنه يقول هذا ليثيرك.
تدخَّلَت «إلهام» تُبرِّر ما قالته «ريما» قائلة: إنها متوترة يا «أحمد» … فالغموض حتى الآن يحيط بكل ما نقابله من أحداث وما نتلقاه من أوامر.
وكان هذا ضوءًا أخضر لتطرح «ريما» كلَّ ما يدور في ذهنها … فقالت: هل يمكنكم تفسير ما حدث للطائرة التي أقلتنا إلى «جينيف» … وكيف عرف هذا اللواء المدعو «زائيفي» بأننا فيها؟!
وهل يمكنكم تفسير طلب رقم «صفر» منا أن نذهب إلى «زيورخ» رغم أن الهدف المطلوب التصدي له موجود في «أنماس»؟!
وقبل أن تشرع في طرح بقية أسئلتها … لحقها «أحمد» قائلًا: أولًا «زائيفي» الآن عضو في جماعة «سوبتك» … وتعرفون أن لها مصالح كثيرةً في المنطقة العربية.
وتدخَّلَت «إلهام» تكمل قائلة: ولسابق خبرتها معنا … فهي لا يمكنها التحرك في المنطقة بحرية ما دُمنا موجودين فيها.
فقال «أحمد»: ولا تنسوا أن لهم عندنا أكثر من ثأر … ولكل ذلك فقد اتخذوا القرار بالتخلص منا وتعريض المنطقة لأخطار التسرب الإشعاعي … وهم يعلمون أن هذا سيثيرنا وسيدفعنا للذهاب إليهم ومواجهتهم … وهذا يعني أن لهم أكثر من خطة لنا.
وكانت أول خطة هي إسقاط الطائرة.
ريما: والثانية مواجهتنا في «سويسرا».
إلهام: والثالثة شغلنا بأكثر من عملية هنا ليتحركوا هم بحرية هناك.
ران الصمت على الجميع … وأطالوا النظر ﻟ «إلهام» للحظات، قطعه «أحمد» قائلًا: لا تنسوا أن لنا هناك زملاء لا يقلون عنا مهارة وجسارة … وستكون فرصة لهم لمواجهتهم هناك.
مرَّة أخرى اتصل رقم «صفر» وكانت فرصة لهم لسؤاله عن سبب حضورهم إلى «زيورخ» فقال لهم: أولًا: أنتم في حاجة للراحة بعد ما لاقيتموه في الطائرة … حتى تستعيدوا لياقتكم البدنية والنفسية والعقلية … وهم كانوا ينوون اصطيادكم وأنتم منهكون.
الأمر الآخَر … هو أنكم كنتم صيدًا سهلًا لأنهم يرونكم وأنتم لا ترونهم … فهم يعرفون ميعاد الطائرة، ويعرفون أنكم فيها وسيمكنهم مراقبتكم بيُسر والإيقاع بكم مبكرًا … لذلك كان قرار سفركم إلى «زيورخ» في ظروف غامضة وبوسائل مضلِّلة هو الحل الأمثل.
ابتسم الشياطين إعجابًا بزعيمهم … وكانوا أكثر شغفًا وإنصاتًا له عندما أكمل قائلًا: الآن أنتم بعيدون عن أعينهم … وهم في حيرة من أمرهم … يتخبَّطون في تحركاتهم … يتضاربون في قراراتهم … وسيظلون هكذا لأنهم لا يعرفون أين أنتم … وعليهم أن يبحثوا في كل «سويسرا» وعلينا اصطيادهم.
ولأن ما قاله رقم «صفر» يعني أن عليهم السكون لفترة … فقد آثَرَت «إلهام» أن يقوموا بزيارة ﻟ «ألمانيا» وعندما سألها رقم «صفر» عن السبب قالت له: تعرف يا زعيم أننا كائنات متحركة يقتلها السكون.
ضحك رقم «صفر» لهذا التعبير البليغ، وقال لها: لكم ما شئتم على أن تعودوا خلال ثمانٍ وأربعين ساعة.
أحمد: ولماذا ثمانٍ وأربعون ساعة يا زعيم؟!
رقم «صفر»: لأنكم بعدها ستعودون إلى «أنماس» … سأنتظر اتصالكم من «ألمانيا» … رحلة سعيدة!
كانت الرحلة إلى «ألمانيا» عبر «زيورخ» كعادتها رائعة … وكان الهدف هو ولاية «بادن» لأنها الأقرب لهم الآن … فهي تقع على الحدود السويسرية … وأيضًا لأن لهم فيها مقرًّا محبوبًا في «هايدلبرج» … تلك الفيلَّا الساحرة التي تطل على نهر «النيكر» … تحيطها الأشجار كثيفة الخضرة من كل جانب.
وقد آثروا النزول من السيارة قبل أن يَصِلوا إليها بمسافة كافية؛ لأن هذا السائق الألماني لا يعرف موقعها … فهم لا يعرفونه؛ لأنه ليس من أعوان المنظمة … بل هو سائق لسيارة استأجروها للوصول إلى المقر … وقد استمتعوا بالسير فوق المرتفع المطل على نهر «النيكر» الذي يقطع ولاية «بادن» وتطل عليه «هايدلبرج» تلك المدينة التاريخية التي تقع بها قلعة الصناعة الألمانية «شتوتجارت» التي تنتج مصانعها — «دايملر، بتر، بوش، بورش» — أعرق السيارات وأفخمها وقبل أن يَصِلوا إلى بوابة فيلَّا المقر بخطوات … عَبَرَت بجوارهم السيارة التي غادروها منذ دقائق ومن نافذتها رأوا السائق يرفع يده يحييهم.
أثار هذا الموقف دهشتهم … فأين كان هذا السائق كل هذا الوقت … هل كان يسير خلفهم ويراقبهم عن بُعد؟!
لم يشغلهم الموقف كثيرًا … فقد آثروا أن يستثمروا الساعات القليلة التي منحها المبنى الرئيسي لهم … وقبل أن يضع «أحمد» بطاقته الأمنية في فتحة التحكم انفتح الباب … ومن خلفه رأوا كلبًا ضخمًا يُزمجر ولم يروا غير ذلك … فهل يعمل هذا الكلب في المنظمة وهل يعرفهم؟ وهل سيسمح لهم بالدخول؟ وهل هو وحده في الفيلَّا … أم هناك موظفون؟ قالت «إلهام» في دهشة: المفروض أن المقر به الكثير من الموظفين … نعم هناك مَن يغادره بعد انتهاء فترة العمل … ولكن هناك مَن يبيتون به.
فعلَّقَت «ريما» قائلة: لم يحدث يومًا أن وجدنا المقر بلا موظفين.
غير أن «عثمان» لم يرتح لِمَا يدور، وقال لهم: يا سادة اتخذوا قرارًا الآن … هل نجري من هذا الكلب … أم ندخل وأكون أنا آخِرُكم.
ورغم زمجرة الكلب المخيفة … ضحكت «ريما» وابتسم «أحمد» وهو يقول متسائلًا: كيف فتح هذا الكلب الباب؟!
ومن جهاز معلَّق بجوار الباب سمعوا من يقول لهم: لماذا لم تدخلوا حتى الآن.
تبادل الشياطين نظرات متسائلة قبل أن يقرروا الدخول رغم بقاء هذا الكلب مكانه دون حركة.
وكانت «إلهام» في مقدمة الداخلين ومن خلفها «ريما» وتبعهم «عثمان» في ثقة بالغة ليس لأنه يثق في الكلب … بل لأن «أحمد» كان مصوبًا مسدسه إلى رأس الكلب … وقد دخلوا جميعًا في حمايته.
وبعدما استقروا جميعًا في مقاعدهم … طاف عليهم هذا الكلب يحييهم واحدًا بعد الآخر ويستمتع بربت أصابعهم على رأسه … وتسللها بحنان بين ثنايا شعره لتدغدغ حواسه.
ولم تُعجب «أحمد» طريقة الاستقبال … فرفع صوته يقول لمَن يسمعه: ليست هذه هي الطريقة الجيدة لاستقبال الشياطين … فأنا لا أرى سببًا لمداعبتنا على هذا النحو.
فرد عليه مَن يسمعه قائلًا: ولكني أرى سببًا لهذا!
تصايح الشياطين في سعادة فقد عرفوا صاحب الصوت … إنه رقم «صفر» … وبالطبع هي مفاجأة سارة لهم للغاية وبالذات ﻟ «ريما» التي صاحت تقول في بهجة: الزعيم هنا … أليس كذلك … أقسمُ إنه الزعيم!
وفي وقار ضحك رقم «صفر» وقال: نعم … هو أنا يا «ريما»: هل أنت سعيدة حقًّا؟!
فأسرعت «ريما» تؤكد ذلك قائلة في حماس: نعم بالطبع يا زعيم … ولست وحدي بل كلنا.
رقم «صفر»: رغم علمكم بأن مجيئي يعني بدء العملية الجديدة وقطع ساعات الراحة والمتعة؟
- أولًا: كان من المهم أن ألقاكم بعد نهاية العملية الأخيرة «حرب الأقمار» بنجاح يُهنئِّكم الجميع عليه.
- ثانيًا: الحرب مع «سوبتك» الآن أصبحت حربًا مع «زائيفي»، ذلك اللواء المارق، فبينه وبينهم اتفاق تعرفونه — وهو يتخلص منكم … وهم يدفعون له.
- ثالثًا: «زائيفي» كان ضابطًا بالجيش وله معارف كثيرون … وله اتصالات أكثر وهو بعد أن فقدكم أخيرًا … باستطاعتكم الخروج من الطائرة والهروب من مراقبتهم لن يبحث عنكم في «سويسرا» فقط … بل سيوسع دائرة البحث لتمتد إلى دول مجاورة ﮐ «ألمانيا» و«فرنسا» … أقصد الدول التي تشترك مع «سويسرا» في الحدود … وأنا أعتقد أن السائق الذي استعنتم بسيارته للوصول إلى هنا له صلة ﺑ «زائيفي» والقضية الآن هي أنهم لا يجب أن يعرفوا شيئًا عن هذا المقر … هذا أولًا … وثانيًا يجب ألا يحصلوا عليكم بسهولة.
واندفع «أحمد» يقول له: إذَن نعود الليلة إلى «سويسرا».
رقم «صفر»: ليس هذا هو الحل، فكل الطرق الآن مراقبة … نحن فقط سوف ننقلكم إلى مقر آخَر … وهذا لا يعني إطالة فترة السكون … لا بل سنبدأ العمل من هناك … عنوان المقر الآخَر مُسجَّل على ذاكرة كمبيوتر السيارة التي ستقلكم إلى هناك، السيارة موجودة في جراج المقر … ما عليكم إلا ركوبها وهي ستكمل الباقي … سألقاكم قريبًا … وستجدونني في كل مكان لنا فيه عمل … وفقكم الله!
كانت هذه إشارة لأن يبدءوا التحرك فورًا … وكانت «ريما» أول المغادرين للمقر وتبعها بقية الشياطين ومن خلفهم وقف الكلب المضيف بالباب … لا هو خرج وراءهم ولا سمح لهم بإغلاق الباب خلفهم … وعندما هَمَّ «أحمد» بدفعه إلى الداخل لإغلاق الباب … سمع صوتًا يقول له: دعه يا «أحمد» … فهو يعرف ما يفعله!
عاد «أحمد» إلى زملائه وكانوا ينتظرونه في السيارة فنظر لهم وفي عينَيه تعبير أثار ضحكهم، وجلس خلف عجلة القيادة وهو يقول بأسًى مصطنع: كان يودعني!
ضحك الأصدقاء … وعاد «أحمد» يُعلِّق على هذا الموقف الطريف قائلًا: هل نظرتم في عينيه؟ هل رأيتم تأثره؟
ضحكت «ريما» ومن خلال ضحكاتها قالت له: هل هو عضو جديد بالمنظمة؟!