١١
أخيرًا تأكد أصحاب هذه الأقلام أن كل شيء قد انتهى بالفعل فتحولوا إلى دود يأكلون من الجثة التي تحوَّلت إلى جيفة! وطاف بنفسي المذعورة خاطر كئيب، وهو أن كل شيء سيبقى في غابة الصحافة على ما هو عليه … الوحوش في الصدارة والموهوبون يتخبَّطون في الظلام.
إلى أين أذهب الآن وأنا مفلس وعاطل وضائع، ويبدو أنه لم يعُد لديَّ أمل في العودة مرة أخرى إلى عالم الصحافة … وأنا رجل في أعماقي متشائم وحزين رغم ما يبدو عليَّ من سعادة ليس لها نظير.
وعدت من جديد إلى مكاني على باب القيادة رغم أنني لم أعُد أمثل أحدًا إلا نفسي وفوجئت بزميل آخَر جاء يمثِّل المجلة في دار القيادة، ولذلك اكتفيت بالجلوس دون أن أسأل أحدًا أو أتكلَّم مع أحد!
إذَن لماذا جلست عند الباب؟ لا أدري … سوى أنني لم أكُن أعرف شيئًا آخَر أصنعه، على الأقل أنا من هذا المكان أتفرَّج على عشرات من الأشخاص الذين يصنعون التاريخ في تلك اللحظات من عُمر الوطن، ولكن أنا لست من هذا الطراز من الناس الذي يستطيع أن يجلس في مكان ولا يلفت إليه الأنظار، إنني من طراز آخَر يلفت الأنظار رغم أنفه، وأيضًا يجر على نفسه المصائب.
فلقد رحت أقلد محمد نجيب وهو يخطب في حركات كاريكاتيرية … وكان الصحفيون يلتفون حولي وأنا أخطب للجماهير الوهمية المحتشدة أمامي، وجذبت الضجة ألوانًا أخرى من الناس خارج دائرة الصحافة … عساكر وضباط وبعض الزوار ولكني لم أتوقف، وعيبي الكبير أنني لا أجيد تقدير الأشياء تقديرًا حقيقيًّا، أحيانًا أبالغ في تضخيم الشيء وأحيانًا أبالغ في تحقيره والناس في نظري نوعان، عدو حتى الموت أو صديق حتى النهاية.
ولقد كان لي رأي في بعض مندوبي الصحف في القيادة، ورحت أجهر بهذا الرأي في كل مكان، أحدهم وكان مندوب جريدة كبرى كان مرتشيًا ومغامرًا وأفَّاقًا، وكان له موقف مريب خلال معركة القناة، وكان وثيق الصلة بضباط القسم المخصوص وبوليس السراي، وكان يقوم بخدمات في الظلام لجميع الأجهزة التي كانت تحكم مصر في العهد البائد، وعندما قامت الثورة هرع إلى القيادة العامة، وكان أنشط الجميع وأعلاهم صوتًا، وكان يقف على باب القيادة يرحب بالقادمين كأنه صاحب الفرح، ويتحدَّث عن قادة الثورة، باعتبارهم رفاق الصبا وأصدقاء الطفولة! ولقد حُوكِم هذا الصحفي بعد ذلك أمام محكمة الثورة وأُدين وذهب إلى اللومان ليقضي مدة العقوبة.
وصحفي آخَر بدأ حياته في حانات شارع عماد الدين، ولما انتقل نبض الحياة الثرية الطرية في مصر من صالات شارع عماد الدين إلى صالات الأحزاب السياسية، انضم إلى الحزب السعدي وأصبح فتوة للمرحوم حامد جودة رئيس مجلس النواب، فلما غربت شمس الحزب السعدي وتولى الوفد مقاليد السلطة … انتقل هو الآخَر إلى حزب الوفد وأصبح فتوة لأحد الوزراء، فلما قامت الثورة انتقل على الفور ليعمل فتوة لصاحب مجلة كانت وقتئذٍ مشهورة بعدائها لكل الأحزاب! ولم يجد صاحب المجلة من يرسله مندوبًا عنه إلى القيادة سوى الفتوة الخاص، وكان الزميل إياه يتصرف هناك على أنه عليم ببواطن الأمور، وكان حديثه كله يجري ويدور حول حضرة الصاغ الذي لا أحد منا يعرفه على الإطلاق والذي كان زميلنا إياه حريصًا على إخفاء اسمه … أصل حضرة الصاغ قال كيت، حضرة الصاغ كلمني النهارده في التليفون وقال كذا، وكنا إذا سألناه عن الوقت أجاب … الساعة كذا لكن ساعة حضرة الصاغ مقدمة شوية.
أما الزميل الذي حل محلي فقد كان شأنه أعجب من العجب … كان صاحب صالون حلاقة في سالف الزمان وكانت كل بضاعته في الحياة وسامة وأناقة كأنه مطرب مشهور، ولم يكن في رأسه أي شيء، ولم يكن قد قرأ شيء حتى كتب المطالعة، وكان ضعيفًا في الإملاء، يرسم الحروف والكلمات ولا يكتبها، وكان يقسم خلال حديثه بالنهار العظيم، وحياة دا النهار العظيم ولَّا ينكسر وسطي … وكان يُطلق على دور الصحف وصف محلات، وكان يسأل كل زميل يقابله: انت بتشتغل في أي محل؟ يقصد جرنال.
وكان دائمًا يردِّد عبارة مشهورة: أنا كل ما روح محل ألاقيه عاكس زي ما يكون حد عامل لي عمل … وكان من عادته كل أسبوع كتابة تحليل للموقف السياسي الراهن، ويوم تحرير المقال يذهب إلى كازينو أوبرا ويجلس في التراس ومعه زميل غلبان يطلب له كباب وسلطة طحينة وواحد شاي ويشتري له علبة سجاير، ثم يجلس هو في هدوء يدخن الشيشة حتى ينتهي الزميل من عشائه، وعندئذٍ يطلب إليه أن يكتب له مقالًا؛ لأنه مرهق وهو السبب الذي كان يسوقه كل أسبوع، أو «مرهك» على حدِّ تعبيره هو نفسه.
ولقد أخذني ذات ليلة حارة إلى كازينو أوبرا وبعد أن تعشيت وشربت الشاي وأشعلت سيجارة وحمدت الله، جذب نفسًا من الشيشة، وناولني قلم حبر باركر لم أكُن قد استعملت مثله في حياتي، وقال: هيه … اسمع بقى أنا أصلي مرهك ومش عارف أكتب … أنا هقولك على الأفكار وانت بس تعمل شوية إنشا بس وحياة والدك تكتبهم كويس، ثم راح على الفور يشرح لي الخطوط العريضة في السياسة المصرية لكي أصوغها أنا في مقالي: اسمع، شوف بقى، هيه المسألة إيه؟ السفارة الإنجليزية زعلانة، أي كده وحياة دا النهار العظيم، وهيحصل كده شوية نكد، لكن ربنا يسلم إن شاء الله، واخد بالك؟ اكتب بقى.
وحدقت في هذا الرجل الغلبان الذي لو استمرَّ في صالون الحلاقة فلربما صادف نجاحًا لا مزيد عليه، ما الذي جعله يهجر مهنته الأولى ويقتحم غابة الصحافة؟ ما الذي دفعه إلى احتلال هذا المكان الذي يوجد فيه الآن؟! وما هي مقاييس النجاح إذَن؟ وما قيمة الجهد الذي بذله هؤلاء المؤلفون السذج في تأليف الكتب الضخمة عن دليل الرجل الناجح في المجتمع، وابتسم تبتسم لك الحياة، إلى آخِر هذا الكلام الفارغ؟ وما قيمة هذه العبارات المنمقة الجميلة التي تحتل أغلفة كراريس وزارة المعارف والتي تنصح: اسهر الليالي في طلب المعالي، والتي تؤكِّد أن من يطلب العلا يعلى؟ هذا الصحفي الجالس أمامي يكذب كل النصائح وكل الكتب وكل القيم وكل المقاييس التي تعارف عليها الناس، لم يسهر الليالي ولم يطلب العلا ولم يسعَ للمكان الذي يشغله الآن، ومع ذلك فقد وجد نفسه فيه، وهو كاتب سياسي يحرِّر الموقف السياسي في مجلة ذائعة الصيت، أو الموكف كما كان يسمِّيه.
هل المسألة حظوظ؟
أم أنه ليس بالكفاءة وحدها ينجح الإنسان، وإنما بالصدفة أحيانًا وبالفلوس و… بأشياء أخرى أغلب الأحيان.
لقد قرأت مرَّة لجوركي عبارة على لسان أحد أبطاله يقول فيها: اذهب إلى الميناء واشترِ لنفسك بنطلونًا جديدًا، إنك ببنطلون جديد ترتفع في أعين الناس، فإذا سقط عنك البنطلون، سقطتَ أنت الآخَر، إذَن بالبنطلون الجديد تستطيع أن ترتفع في أعين الناس، وبالشقق و… تستطيع أن ترتفع في الوظائف، ولكن حتى في مهنة الكتابة؟
يجوز أن يرتفع كاتب رديء بهذه الوسائل إلى مكانة الكتَّاب العظام، ولكن أن يرتفع رجل جهول يحتاج إلى وقت طويل في فصول محو الأمية، فهذا هو الشيء الذي لا يزال في حاجة إلى تفسير.
ولقد كان الرجل طيبًا إلى حدِّ أنه نصحني مرَّة بألا أشغل نفسي كثيرًا بالكتابة … ارحم نفسك شوية، مانتش شايف طه حسين جراله إيه، أهو فضل يكتب لحد ما عمي!
وذات صباح من شهر أغسطس سلخت الأستاذ إياه في القيادة العامة وسخرت منه بشدة، ويبدو أنه وشى بي عند أحد الحراس؛ لأن أحدهم جاءني بعد فترة يسألني لماذا أتواجد في هذا المكان، وفي أي الجرائد أعمل؟
ولم أستطع أن أفسِّر وجودي بالفعل، ولم أستطع إثبات أنني أعمل في أي مكان، ولكن رجل الحراسة كان طيبًا رغم كل شيء فنهرني بشدة وأمرني بالذهاب على الفور وعدم العودة إلى هذا المكان. وحمدت الله على أن المسألة انتهت عند حدِّ الزجر والطرد ولا شيء آخَر.
وخرجتُ أجري من القيادة وقلبي يدق بسرعة وبدني كله يرتعش أنا ابن الجيل الذي كان يحلم بهذا اليوم … يوم ٢٣ يوليو والذي ساهم بجهد متواضع فيه، والذي كان ينتظر أن ينفتح أمامه الطريق؛ لكي يمضي على طريق الثورة إلى حيث تلتقي إرادتها وإرادته، أنا الذي تحولت إلى عاطل ومفلس ومطرود أيضًا من داخل القيادة، لأنني فعلًا بلا عمل، ووجودي هنا مريب.
وعند الباب فوجئت بعربة سوداء كبيرة تقف، وينزل منها الأستاذ الكبير محمد التابعي، فقد كان على موعد مع محمد نجيب وأنا كنت أعرف محمد التابعي معرفة جيدة، رغم أننا لم نلتقِ إلا مرَّة واحدة ولعدة دقائق لا تزيد.
فلقد كنت مدمنًا على قراءة مقالاته، وأعترف أنني تعلَّمتُ منه الكثير، وأنه الوحيد من بين كُتَّاب الصحف الذي بهرني بشدة وخلب لبي وجعلني أتتبعه كالمجنون! يا له من أسلوب رشيق وأنيق ولاذع كان يكتب به التابعي تلك الأيام! وعندما رأيته أول مرَّة في عام ١٩٤٨ حين جاء يزور معرض طوغان، صافحتُه بحب وهممتُ أن أقبِّل يده، هذه اليد التي تكتب مثل هذا الكلام بمثل هذا الأسلوب لا بد أن تكون يدًا من نوع آخِر مختلف، وعندما طلبت منه أن أراه دعاني لزيارته في أي وقت أشاء!
وصدقت أنا وقبلت الدعوة وذهبت بعد ذلك بأيام إلى بيته في الزمالك، وصعدت السلم وثبًا فقد رفض البوَّاب أن أصعد في الأسانسير بحُجة أنه مُعطَّل!
وعندما وصلت إلى باب الشقة كنت قد نزفت آخِر أنفاسي وطرقتُ الباب بخوف وبأدب شديد، وخرج لي عملاق أسمر من الداخل وسألته عن الأستاذ فقال: موجود … مين انت؟
وقلت على الفور وبزهو شديد للغاية: محمود السعدني … ونطقتها كأنني أقول نابليون بونابرت أو الجنرال ديجول أو المستر تشرشل!
وغاب الرجل دقيقة وعاد ليقول الأستاذ: مش موجود … وأغلق الباب ونزلتُ مجروحًا أكاد أبكي وأنا أزحف على السلم، ثم توقفت فجأةً وأخرجتُ قلمًا وانتزعت ورقة من جيبي، وكتبت عليها بالحرف الواحد: «تابعي» إن لي قلمًا كقلمك ولكنه أروع وأرفع، وعندما يحين الوقت المناسب سأنشر على الناس قصة الذين يسكنون الزمالك ويكتبون عن الناس في زينهم وحوش بردق.
وصعدتُ السلالم من جديد وهممتُ بطَرْق الباب لأعطي الورقة للخادم … ولكن لم أفعل … خشيت أن يضربني الرجل العملاق ويسلِّمني للبوليس، فنزلت وأنا أزحف على السلم والورقة في جيبي، ولعنتُ نفسي لأنني صدقت الأستاذ وزرته، وها هو التابعي أمامي بلحمه ودمه على باب القيادة وأنا أيضًا على بابها، ولكن ما أبعد الفارق، رجل الحراسة الذي طردني جاء مسرعًا وضرب تعظيم سلام للتابعي … بينما رحت أنا أزحف في شارع الجيش إلى حيث لا أدري.
عشرة أسابيع وأنا قعيد البيت كالولية الخايبة أكاد أتمزَّق غيظًا، بينما مصر تموج بالحياة والحركة، وكانت أمي لا تكف عن النقار والشجار وقد غرقت في بحر من الغم؛ لأن ابنها الكبير قد أصبح عاطلًا، وعاد معظم أقربائي يُلحُّون عليَّ في أن أستوظف في الحكومة لأضمن دخلًا ثابتًا ثم أهوى الصحافة بعد ذلك كما أشاء، وفعلًا رحت أكتب طلبات لمديري المصالح أسترحم سعادتهم أن يلحقوني بعمل مناسب حيث إني أعول عائلة كبيرة … وبالطبع لم تجد هذه الطلبات شيئًا فقررت السفر إلى زفتى حيث كان يعمل أحد أصدقائي هناك ملاحظ مباني.
ولا أدري كيف اقتنعت بأن ملاحظ المباني سوف يستطيع إلحاقي بوظيفة مناسبة، وفعلًا سافرت في قطار الصباح إلى زفتى وعندما رآني صديقي الملاحظ لم يُبدِ ترحيبًا كبيرًا بي، وعندما انتهى من عمله سحبني إلى حيث يقيم، واكتشفت أنه يقيم مع ثلاثة من زملائه في حجرة رطبة عارية من الأثاث، وجلسنا جميعًا نحن الخمسة في صمت كئيب، ثم سحب أحدهم حلة ووابور جاز ثم حدثت حركة مريبة، فقد خرج أحدهم من الحجرة ثم نادى على صديقي الملاحظ ثم خرج الجميع بعد ذلك وتركوني وحيدًا في الحجرة واستمعت وأنا جالس في الظلام والصمت نقاشًا عاليًا فهمت من خلال الكلمات المتناثرة أن الخناقة كلها حولي، ومَن الذي سوف يدفع ثمن عشائي هذه الليلة ولقد احتدم النقاش بينهم بينما أصرَّ صديقي الملاحظ على أن يتحمَّل الجميع ثمن عشائي لأنه سبق له أن دفع نصيبه في عشاء صديق أحدهم مرَّة من قبل، وأحسست أنني أذوب من شدة الخجل، وتمنَّيتُ لو انشقت الأرض وابتلعتني كي أتخلَّص من هذا الموقف الرهيب الذي وقعت فيه، ولا أدري ما الذي اتفقوا عليه؟ ولكنهم عندما عادوا استأذنت منهم لحظة بحجة شراء علبة سجاير، وخرجت من الحجرة هائمًا على وجهي في حواري زفتى، وفي المحطة اكتشفت أن ما معي من النقود لا يكفي لعودتي إلى القاهرة بالقطار وفي الدرجة الثالثة!
وعُدتُ إلى القاهرة في الفجر في عربة نقل مُحمَّلة بالفواكه، ولم تكَد تمضي أيام على عودتي حتى مرَّ عليَّ في البيت الصديق الطيب يوسف فكري ودعاني للعمل معهم في جريدة الجمهور المصري … وكان هناك محمد حمدي أول صحفي محترم صادفته في أول حياتي الصحفية، وكان هناك أيضًا فتحي الرملي وكمال النجمي وطوغان وسعد زغلول، فؤاد، وإبراهيم البعثي والأمير المليجي، وكان هؤلاء الصحفيون الوطنيون يعملون مع مجموعة من الصحفيين القدامى أحدهم كان ينتحل لقب دكتور، كان يزعم أنه وثيق الصلة بالحركات السياسية في مصر، في الوقت الذي كان يعمل فيه سكرتيرًا شخصيًّا للنبيل عباس حليم، وكان على صلة في الوقت نفسه بعدد من رجال السفارات الأجنبية، وكان يحمل مسدسًا في جيبه وكان يلوِّح به دائمًا إذا احتدم النقاش بينه وبين صاحب المجلة!
ومحرِّر آخَر عجوز كان يعمل بالصحافة منذ عام ١٩٢٥ وكان على صلة بالبوليس السياسي وسبق له تزوير وثائق سياسية هزَّت مصر هزًّا خلال حكم الملك فؤاد، وكان صالح — وهذا اسمه — خنزيرًا بكل ما في الكلمة من معنى، ورغم اشتغاله بالصحافة كل هذا الوقت الطويل فإنه لم يكُن قد قرأ في حياته حرفًا في جريدة أو كتاب.
وكان إلى جانب عمله الصحفي يحترف عدة مهن أخرى، مستشارًا صحفيًّا لأحد أبناء الدول الشقيقة … مديرًا لإعلانات إحدى المؤسسات الوهمية، وكان صامتًا دائمًا، يبدو في أحسن صحة على الدوام … لا يناقش أي أمر صادر إليه … ويتقبل أي إهانة تُوَجَّه له، ويقبل العمل بأي مرتب يُعرَض عليه.
ولقد زاملته مرَّة واحدة في حياتي في تحقيق صحفي عن رجل يُدعَى أبو الحسن الفقي، كان أكبر تاجر للحشيش في مصر، ويوم الإفراج عنه ذهبت مع صالح إلى باب ليمان طرة وانتظرناه حتى خرج … وجلس الرجل معنا على قهوة أمام باب السجن يحكي كلامًا يصلح مادة لتحقيق صحفي خطير عن تجارة المخدرات.
ثم نهض معنا إلى قهوة إيزافيتش في ميدان التحرير وطلب لنا إفطارًا، ومن عادتي ألَّا أتناول طعام الإفطار … ولذلك اعتذرت، ولكن صالح غمزني في وركي ثم طلب سجاير رغم أنه لا يدخِّن، وأرسل الرجل المهرب أحد أعوانه فاشترى له خرطوشة سجاير كرافن ثم انتحى به جانبًا وهمس في أذنه بكلام ثم أخرج الرجل شيئًا من جيبه ودسَّه في يد صالح.
وانصرفنا لكي نكتب التحقيق الصحفي الخطير وفعلًا كتبت تحقيقًا من واقع كلام الرجل المهرب وسلمته لرئيس التحرير، ولكن هذا التحقيق لم يرَ النور قَطُّ ونُشِر بدلًا منه تحقيق آخَر بقلم صالح كله تمجيد في الرجل المهرب وإشادة به ونصائح منه موجَّهة للشعب المصري الكريم وكأنه الجنرال نابليون وقد فرَّ هاربًا من جزيرة كورسيكا.
ثم علمت بعد ذلك أن هذا التحقيق نُشِر كإعلان، وأن صالح تعهد بالحصول على مائة جنيه أجرًا للنشر، ولكن عندما طالبته المجلة بالدفع اعتذر المهرب؛ لأنه دفع عشرة جنيهات للأستاذ صالح وهو كل ما يستطيع دفعه مقابل نشر هذا الكلام.
واضطر رئيس التحرير إلى نشر مقال آخَر بدون توقيع كله هجوم على المهرب وتحريض للبوليس ضده … وخصم مرتب شهر كامل من صالح ومع ذلك لم يعترض ولم يحتج فقد كان يحصل على أضعاف مرتبه عن طريق التهديد والنصب.
محرِّر ثالث كان شابًّا وخريج جامعة، ولكنه كان طموحًا بلا موهبة مُتطلِّعًا بلا مبادئ وكان يبدو دائمًا نافشًا كالديك، يتكلَّم من طراطيف أنفه بينما السيجارة ملك مصر ترتعش دائمًا بين شفتيه ويفتي في أخطر المسائل باعتباره عليمًا ببواطن الأمور.
وكان دائم التهديد لزملائه باعتباره وثيق الصلة بكبار المسئولين في المخابرات وكان صاحب المجلة يكرهه ويطمع في رضاه.
ولقد انتهى هذا الشاب المغرور نهايةً مُفجعة وقاده عدم إيمانه بأي شيء إلى كثير من المواقف الشائنة ثم ضُبِط في النهاية مُتلبِّسًا بجريمة خلقية تشين الرجل، وقد ترك الصحافة بعد ذلك إلى الأبد.
إلى جانب هذه المجموعة المتنافرة المتباينة كان يعمل الصحفي إياه صاحب صالون الحلاقة، والآخر الذي كان فتوة في صالات شارع عماد الدين.
وعندما ظهر أول أعداد المجلة طرد محمد حمدي (يرحمه الله) بلا شفقة، وتم تخفيض جميع المرتبات … وتناقص مرتب العبد لله من ثلاثة عشر جنيهًا إلى عشرة جنيهات … وجاء سكرتير تحرير جديد أفتى بأن عصر المقالات قد انتهى، وأن الصحفي الجيد هو المخبر الجيد … وأن الشهر القادم سيكون امتحانًا لكل العاملين بالمجلة … فالذي يحصل على أخبار جيدة سيبقى، والذي يفشل سيتوكَّل على باب الله!
ولقد وُفِّقت بطريق الصدفة في الحصول على أخبار غاية في الخطورة والأهمية، وأصل الحكاية أنني كنت في زيارة لمجلة الدعوة التي كان يصدرها صالح عشماوي أحد أقطاب الإخوان المسلمين الذين كان في خلاف مع الجماعة!
وبينما كنت أجلس في الحجرة في انتظار طوغان الذي كان ينشر رسومًا هناك، دخل الحجرة أفندي منظره يوحي بأنه خواجا وأنه غلبان وأنه لم يخلع هذه البدلة من عشرة أعوام على الأقل!
وجلس الرجل متردِّدًا كأنه يدخل المكان أول مرَّة، وعندما سألته عمَّا إذا كان يريد أحدًا، ابتسم في هدوء وقال أنا محرِّر هنا!
وبدا من لهجته أنه خواجا فعلًا … وازدادت دهشتي أكثر عندما علمت أنه يهودي أيضًا وأنه فعلًا يعمل محرِّرًا في مجلة تنطق من بعيد باسم الإخوان المسلمين!
وقال الرجل الخواجا وهو يبرِّر لي هذا الموقف، أنه كان على صلة بالمخابرات البريطانية وأنه يعرف أسرارها جيدًا، وأنه يعلم كل حركات وتحركات الجيش البريطاني في القناة، وتأكيدًا لكلامه أطلعني على الأخبار التي حصل عليها لتُنشَر في أول عدد من الدعوة.
وكانت الأخبار — لو صحَّت — هامة فعلًا وخطيرة، تنقلات بين كبار رجال المخابرات البريطانية في مصر، تأجير عشرين شقة في القاهرة لعملاء المخابرات البريطانية … وصول طائرة شحن ضخمة إلى قاعدة أبو صوير البريطانية وعليها شحنة من الأسلحة الذرية، هل هذه حقائق أو أوهام أم أخبار مدسوسة؟
أنا شخصيًّا لم أفكِّر طويلًا في هذا الأمر، حفظت الأخبار عن ظهر قلب، وعندما خرجت من مجلة الدعوة أعدت صياغتها من جديد، وقدمتها لسكرتير التحرير النشيط ففرح بها كثيرًا وخرجت مجلة الجمهور المصري وكل عناوينها الضخمة من إنتاج العبد لله، ومع ذلك لم تشفع لي هذه الهمة في سرقة الأخبار، فقد فُصِلتُ في نهاية الشهر بحجة أنني غير منتج … والسبب الحقيقي أنني لم أكن مؤمنًا بعبقرية الأستاذ سكرتير التحرير، ولكنني عدت بعد ذلك بشهر واحد إلى المجلة وبثلاثة عشر جنيهًا كل شهر.
كان في المجلة مخبر بوليس من قسم الموسكي عُيِّن لحراسة رئيس التحرير بعد أن تلقَّى عدة خطابات تهديد من القرَّاء … ولأن التهديد لم يكُن جديًّا، فقد تحول المُخبر بعد فترة إلى فرَّاش، ثم تحول إلى تاجر مخدرات يبيع لمَن يرغب وعلى الحساب، ولما كانت الرقابة مفروضة وقتئذٍ على الصحف، فقد عهد إلى المخبر بحراسة الرقيب أيضًا، فأصبح حارسًا للرقيب ولرئيس التحرير في الوقت نفسه!
وكان رقيب المجلة شيخًا معممًا ثائر الأعصاب على الدوام، ينتفض إذا تكلم، ويرتعش إذا صمت، وكان مدرسًا في الجامعة الأزهرية وصحفيًّا في الوقت نفسه … فلما فشل في الصحافة أصبح رقيبًا على الصحفيين، وكانت الرقابة فرصة ليفرز عقده النفسية وليضطهد زملاءه السابقين … ليس خدمةً للحكومة، ولكن خدمة لأغراضه الشخصية، وكنت أنا أكثر المناوئين له وأقدرهم على إثارته، وذات مرَّة سافرت إلى القناة وعدت بتحقيق صحفي عن القوات البريطانية هناك.
وراح الشيخ الرقيب يقرأ ويشطب حتى شطب المقال كله إلا عدة سطور، ولم تكُن هناك تعليمات بالشطب، ولكن الشيخ عثر على فرصة ليغيظني، وعندما وصل إلى إمضائي أسفل المقال قام بشطبه أيضًا، وعندما سألته هل لديه تعليمات بشطب الاسم أيضًا باعتباره من الممنوعات، صاح بأعلى صوته ونادى على المخبر، وأمَرَه بأن يطردني فورًا ليس من الحجرة فقط، ولكن من دار المجلة.
ووقف المخبر حائرًا لا يدري ماذا يفعل، فهو صحيح مُعَيَّن لحراسة الرقيب ولكنه في الوقت نفسه صديق، ثم بعد فترة، انسحب المخبر من الحجرة في هدوء، وكانت فرصة لأبدي رأيي للرقيب عمليًّا … وأضطر في النهاية إلى الخروج جريًا إلى الشارع والدم ينزف من أنفه وأسنانه … وأقسم ألف يمين أنني لا بد ذاهب إلى السجن وأنني لن أعمل بعد اليوم في الصحافة، ولقد جرى تحقيق معي أمام محمد أمين حماد مدير الرقابة وقتئذٍ، ولكن التحقيق انتهى بنقل الشيخ الرقيب نفسه.
أولًا: لأنه شطب اسمي، وثانيًا: لأنه شطب مقالًا ضد قوات الاحتلال والتعليمات التي لديه عكس ذلك تمامًا، وثالثًا: لأنه شطب في نفس اليوم خبرًا عن مملكة القطن … لأنه كان يحمل تعليمات بعدم نشر أي شيء عن سوق القطن في الإسكندرية! ولم أعمِّر بعد ذلك طويلًا في المجلة، فقد تركتها بعد هذه الواقعة بخمسة شهور … وبالتحديد في مارس عام ١٩٥٣، فقد اتصل بي أستاذي المرحوم أحمد قاسم جودة وطلب مني أن أقابله في بار الأنجلو.
وبعد دقيقة واحدة من اللقاء كان قد عرض عليَّ عملًا في جريدة يومية كبرى اسمها القاهرة وبمرتب خمسين جنيهًا في الشهر؟ وخرجت من بار الأنجلو لا تكاد ساقاي تقويان على حملي.
ها أنا ذا أصبحت محرِّرًا مطلوبًا وفي جريدة كبرى وبخمسين جنيهًا كل شهر! لا بد أنه حلم من الأحلام … أو لا بد أن قاسم جودة كان يهذي! ولكن قاسم جودة عودني دائمًا الصدق وكان دائمًا مثالًا للرجل الجاد، إذَن المسألة حقيقية؟ وإذَن سيصبح في مقدوري الآن أن أحقِّق الحلم الذي راودني طويلًا، وهو أن أصبح مالكًا لشقة خاصة ومكتبة وربما سيارة أيضًا، ولِم لا؟ وأنا الآن سأتقاضى خمسين جنيهًا كل شهر، ولم أستطع النوم عدة ليالٍ متتالية، وأصبح حديثي المفضل هو العرض الذي قدمه لي قاسم جودة والمرتب الذي حدَّده!
وكنت أحيانًا أسرح أكثر من اللازم فأسأل محدثي: إيه رأيك؟ أقبل العرض؟ هه، نكتة طريفة، كأنني كنت فعلًا مترددًا في قبول العرض! ولقد تمنَّيتُ على الله أن يحفظ قاسم جودة من كل مكروه، فقد خشيت أن يناله سوء قبل أن تتم الصفقة، في نفس الوقت كانت جريدة الجمهورية قد بدأت في الاستعداد للظهور، وانتقل للعمل فيها عدد من الكُتَّاب والمحرِّرين من دور الصحف الأخرى.
وكنت على صلة وثيقة بأحد المسئولين عن التحرير فيها، ومع ذلك لم يعرض عليَّ العمل معه وبأي أجر، وقد حزَّ الموقف في نفسي كثيرًا لأنني كنت أنا الوحيد الذي وقف إلى جانبه من بين كل أصدقائه، وعندما طردوه من جريدة الجمهورية قبل أن تصدر بأيام، وُفِّقتُ في إلحاقه بعمل في جريدة القاهرة، ثم اشتدَّ عليَّ مرض مزمن دخلت من أجله المستشفى … وانتهز الرجل فرصة وجودي في المستشفى فاقترح فصلي من الجريدة … ولكن اقتراحه لم يُنفَّذ؛ لأنه فُصِل بعد ذلك بأيام!
المهم أن قاسم جودة استدعاني ذات مساء لمقابلة مدير جريدة القاهرة، واكتشفت أن الرجل صحفي فلسطيني قديم، وأنه عديم الخبرة بالصحافة، وأنه استشار عددًا من كبار الصحفيين في القاهرة … فرشح له كل منهم عددًا من الصحفيين، ولم يرشِّح قاسم جودة إلا اثنين فقط، أنا وعلي جمال الدين رئيس تحرير وكالة أورنيت برس في بيروت.
واكتشفت أيضًا أن جميع أعضاء نقابة الصحفيين قد رُشِّحوا للعمل في الجريدة وبمرتبات خيالية … أحدهم وكان في سن الثمانين رُشِّح للعمل بمائة وخمسين جنيهًا في الشهر، وذلك لخبرته في دنيا الصحافة! مع أن الرجل العجوز كان قد اعتزل الصحافة منذ ربع قرن!
وبعد ربع ساعة خرجت من مكتب مدير الجريدة بعد أن وقعت عقدًا للعمل ولمدة عام، وبمرتب سبعة وثلاثين جنيهًا ونصفًا! ولا أدري ما الذي أنقص المبلغ من خمسين جنيهًا إلى هذا الرقم، يبدو أن منظري وقلة حجمي لم تقنع المدير بأنني سأكون على مستوى المسئولية!
ويبدو أنه فعل نفس الشيء مع الجميع، المهم أنني خرجت من مكتبه وأنا أسعد أهل الأرض … وكانت جريدة القاهرة فرصة العمر بالنسبة لي، وعلى صفحاتها نُشِرَت أول قصة في حياتي، ثم نشرت مجموعة قصص كاملة أصدرتها بعد ذلك في كتاب، ونشرت أيضًا دراسة عن الظرفاء، ونشرت دراسة أخرى عن قارئي القرآن في مصر، وأتاحت لي الفرصة السفر إلى مختلف أقاليم مصر، وعن طريقها تعرفت إلى عدد كبير من الوزراء وكبار الموظفين.
فقد كان من مهام عملي في الجريدة إلى جانب نشر القصص والمقالات، الحصول على أخبار وزارة الشئون الاجتماعية. وكان أول الوزراء الذين تعرفت إليهم هو المرحوم فؤاد جلال، وكنت قبل ذلك أعتقد أن الوزراء من طينة أخرى غير طينة البشر … وكنت أتصورهم مطهومين دائمًا عصبيين، دائمًا أصحاب سلطة بلا حدود، وأنهم لا يأكلون إلا صنف الملبس ولا يرتدون إلا الحرير ولا ينامون إلا على ريش النعام.
صورة ساذجة بددتها زيارة واحدة لمنزل المرحوم فؤاد جلال في الروضة، وكدت أجن عندما اكتشفت أنه يعيش مثل أي فرد، وأن في صالة المنزل ينام بعض أقاربه الذين جاءوا لزيارته من الريف.