١٢
آه من الصحفي الشقي لم يَعُد شقيًّا، العمل الآن مضمون. والفلوس تجري من بين أصابعه كما الغلة، والحارة التي يسكن فيها لم يَعُد يطيق منظرها: أي هوة عميقة تفصل بين الجو الخارجي والجو الداخلي لحياته، حارتنا مظلمة كقلب الكافر، قذرة كأنها مقلب زبالة! مصيبتي الكبرى أنني أصبحت مثل المجتمع المصري، مجتمع مثل العملة له وجهان، ومثل البيوت له واجهة وله خلفية.
الآن أنا أسهر في الفنادق الكبرى وأقضي بقية الليل في حديقة كوبري الجلاء، وأتنزَّه في الفجر في قارب يتأرجح على صفحة النيل، وأنا من بين معارفي وأصدقائي وزراء ومديرون بشوارب وموظفون بمكاتب وأدباء وشعراء، ولكن عندما أنفض كل هذه المظاهر وأعود إلى البيت في الصباح أشعر كأنني أختنق، ميدان الجيزة الراكد، ثم شارع عباس المليء بالحفر ثم حارتنا التي تفوح رائحتها كأنها جثة ملقاة على الطريق منذ ألف عام!
وتمنيت أن أخرج من الحارة إلى شارع أوسع وإلى بيت أحدث، وحاولت إقناع أمي ولكن المحاولة فشلت، قالت لي أمي وهي تحاورني: «أسيب بيتي واروح فين يا بني؟ دا اللي مالوش بيت مالوش أصل! وهوه بيتنا ماله؟ دا ما فيش أحسن منه …» ولم أعُد إلى محاولة إقناعها مرَّة أخرى.
ورحت أعيش حياتي بالمقلوب، أنام النهار في البيت، وأسهر الليل في الشارع، وهجرت قهوة محمد عبد الله في ميدان الجيزة ولم أعُد أتردَّد عليها إلا مرَّة كل أسبوع، فقد كان يجلس عليها صديقان أثَّرا في نفسي تأثيرًا عظيمًا، أولهما هو أنور المعداوي، والآخر هو الدكتور عبد القادر القط.
ولقد كان أنور المعداوي رجلًا من طراز فريد، كان معتدًّا بنفسه … وقورًا إلى درجة التَّزمُّت وكان ابن عائلة ريفية مبسوطة من أقاصي الدلتا، واشتهر في الوسط الأدبي وهو لم يزَل طالبًا في كلية الآداب، وهو أول من سلط الضوء على عبقرية نجيب محفوظ في الوقت الذي أنكره فيه كل النقاد وتجاهله كل محرِّري الصحف الأدبية، وعندما قامت الثورة كان أنور المعداوي أسعد الناس بها وكان يود من أعماقه أن يشترك في عمل أدبي كبير، مجلة، موسوعة، قاموس … أي شيء في ظل الثورة وفي اتجاهها.
ولكن الشلل منعت أنور من تحقيق أحلامه، ولأنه أيضًا كان قليل السعي شديد الأنفة والكبرياء والصلف، ولكنه كان من عادته أن يحضر إلى المقهى في الرابعة تمامًا بعد الظهر فيجلس قليلًا قبل أن يطلب الشاي، ثم ينادي على حميدو ليمسح له الحذاء، ثم يبدأ الأصدقاء في الحضور ويبدأ النقاش والحديث، وفي الثامنة تمامًا كان ينهض متجهًا إلى فرن أفرنجي فيشتري رغيف عيش فينو طويل للغاية وجبنة رومي، ثم يجلس يأكل ويطلب الشاي، ثم يعود إلى حلقة المناقشة حتى الحادية عشرة مساء ثم ينهض لينصرف ولا يعود إلا في الرابعة من بعد ظهر اليوم التالي.
ولقد كان من الممكن أن تسير حياته على هذا النحو حتى يموت، لولا أن الجهلاء الذين تولوا أمر إدارة الثقافة بوزارة التربية والتعليم أمروا بنقله مدرسًا بمدرسة السلحدار، وجنَّ جنون أنور المعداوي فلم يكُن يتوقَّع أن يحدث له شيء كهذا! واختفى لأول مرة من المقهى ثم عاد وقد تهللت أساريره؛ لأنه طلب تفرُّغًا من وزارة الثقافة وقد أجيب إلى طلبه بشرط أن يستقيل من وزارة التربية والتعليم، وفعلًا استقال أنور من وظيفته، ولكن طلب التفرُّغ لم يُقبَل على الإطلاق، ولقد أراد أن يكون موظفًا بالمجلس الأعلى للفنون والآداب ولكنه لم يستطع، بينما كان المجلس يعجُّ بالعشرات من الجهلاء والكونستابلات ونصابين الأدب! وأسقط في يد أنور وضاقت الدنيا به.
وترك قهوة عبد الله والجيزة كلها إلى الدقي، ووقف بعض الأصدقاء إلى جانبه في محنته حتى عاد إلى وظيفته الأولى في وزارة التربية، ولكن المحنة الشديدة التي مرَّ بها كانت قد تركت آثارها السيئة في نفسه؛ فسقط مريضًا ولم تقُم له قائمة بعدها ومات.
ولو أن أنور المعداوي استطاع أن يأخذ مكانه الطبيعي في مجلة «الرسالة الجديدة» مثلًا، فلربما صارت المجلة إلى مصير غير الذي انتهت إليه.
ولكن أنور المعداوي فشل في الحصول على عمل فيها بينما وثب على المجلة رجل اسمه عبد القوي كانت كل مهمته في الحياة قص الصور وتلزيق الورق ونفاق رئيس التحرير، وعلى هذا الجسر عبر عبد القوي طريقه إلى منصب مدير التحرير في المجلة، ولعل ذلك هو السبب في إغلاق أبوابها بالضبة والمفتاح.
وأغرب شيء أن عبد القوي كوفئ على هذا الفشل بأن أُسنِد إليه رئاسة تحرير إحدى المجلات، ولم تلبث هي الأخرى أن أغلقت أبوابها، ولعله اقتنع بعد هذا أنه لا يصلح للصحافة فهجر العمل الصحفي وعاد إلى وظيفته الأولى موظفًا في إحدى الشركات!
ولقد كانت قهوة محمد عبد الله من القهاوي الشهيرة التي لعبت دورًا هامًّا في الحياة الأدبية في مصر، وكان صاحبها رجلًا عصاميًّا جاء إلى الجيزة من الصعيد ليقف إلى جوار محطة السكة الحديد بعربة يد عليها بعض الجوز ووابور جاز وعدة أكواب وبراد شاي وكنكة قهوة، استطاع أن يفتح هذه القهوة، وصارت في الصباح مقرًّا لتجار القطن وأثرياء الريف الذين يأتون إلى الجيزة لمسائل قضائية أو طبية، وفي المساء تتحوَّل إلى مكان يجتمع فيه كبار الموظفين والأدباء والصحفيين.
ولقد ظلَّت عشرات السنين كما هي لم تتغير، حتى المقاعد التي اهترأت من كثرة الاستعمال لم يكلف عم محمد عبد الله خاطره ليعيد إصلاحها، والحيطان التي تآكل دهانها وتركت التشقُّقات آثارًا عميقة على شكل رسوم راحت تتسع يومًا بعد يوم حتى صارت كأنها مقصودة وكأنها للزينة … ولكن القهوة ظلَّت تضيق بزبائنها يومًا بعد يوم، ومكاسبها تزيد ساعة بعد أخرى، كل ذلك وعم محمد عبد الله رابض كالأسد العجوز خلف الكيس يتسلَّم الماركات ويقيد الحساب ويراجع المنصرف من كميات الشاي والسكر والجاز.
وكان للرجل خمسة أبناء رجال لا عمل لهم إلا القهوة، أحمد وكان أكبرهم، قصير وبدين ومهمته الوحيدة هي الطواف على الزبائن وتحية الجميع والسؤال عن المريض ومعرفة مصير الغائب.
وحسن وكان طويلًا وعريضًا وفي قوة سباع الغاب، كان يحضر كل يوم في القهوة ساعة العصاري، فيفرش بجوار النصبة وينام حتى التاسعة مساءً ويقوم من النوم فيشرب الشاي ويدخِّن الشيشة وهو جالس على الرصيف في التراوة الحلوة دون أن يفتح فمه بكلمة حتى تُغلَق أبواب المقهى فينصرف!
ومحمد كان أصغرهم، ولم يكُن يصنع شيئًا إلا الهنكرة ومشاغبة باعة الموز الذين يحتلون الرصيف المقابل، والخناق مع ماسحي الأحذية والمتسولين الذين يقتحمون المقهى كل ساعة بالعشرات.
أما الشقيقان الآخران فكانا لا يترددان إلا نادرًا ولكي يحصلا على شيء من النقود، ولم يكُن أحد منهم يعرف القراءة والكتابة، ولم يكُن لأحد منهم مورد رزق ولا عمل يجيده، وكانوا إذا رأوا أباهم قادمًا وقفوا جميعًا وضربوا تعظيم سلام كأنهم عساكر بوليس رأوا المأمور في طريقهم، وكان الرجل يشتمهم أمام الزبائن ويلعن جدودهم ويتهمهم بالخيبة والبلاهة، وكان يؤكِّد لكل رواد القهوة أنه لو مات فإن كل شيء سينهار وستباع المقهى في المزاد.
ولقد صحت نظرته البعيدة … فما إن مرضَ حتى بدأت القهوة تميل للكساد، وقبل أن يموت بأيام كانت القهوة قد بيعَت في المزاد، وعاد أولاد الرجل العصامي الطيب إلى أول الطريق الذي بدأه الوالد العصامي العظيم، راحوا يسرحون بعربة شاي في الجيزة، ثم استقروا أخيرًا بالعربة عند محطة السكة الحديد!
ولقد تعرفت في هذه القهوة على عدد من الأدباء والصحفيين في بداية حياتي.
الدكتور عبد القادر القط الطيب المسالم الذي يشق لنفسه طريقًا وسطًا في الحياة؛ لكي يجنِّب نفسه المتاعب، ولكن المتاعب تسعى إليه لأنه رغم طيبته صاحب نظرة موضوعية وفِكر حُر وعلاقات إنسانية أساسها الاحترام المتبادل وليس على أساس النظرية المعروفة يا بخت من نفَّع واستنفع!
وشاعر عظيم الشهرة، عظيم القدر، كان يجلس في القهوة أغلب الوقت يستحلب قطع الأفيون في هدوء، وصارت بينه وبين صاحب القهوة صداقة متينة بسبب الهواية المشتركة بينهما، وكان إذا جاء المساء جلس الشاعر الكبير المشهور على كرسي فوق الرصيف ينظر إلى الميدان في ذهول ويظل ساهمًا حتى منتصف الليل ثم ينهض لينصرف.
وكان المارة الذين يعرفون الشاعر يؤكِّدون أنه جالس في حالة تفكير دائم لكي يؤلِّف شعرًا عن الحياة والناس، لم يكُن أحد منهم يعرف أن الأفيون هو الذي ألقى عليه هذا الرداء من الهدوء والذهول، وأن تحليق الشاعر لم يكُن في سماء الشعر ولكن في سماء المخدِّر!
وأديب آخَر كانت كل مؤهلاته أن صحته جيدة، وبهذه الصحة الجيدة استطاع أن يطور نفسه من موظف صغير إلى موظف محترم، فقد جلس في القهوة يلتهم دروس ثانوي، ثم راح يلتهم دروس كلية الحقوق حتى انتهى منها، وربما ظن الأديب الجيد الصحة أن كل شيء في الحياة يتحقَّق بالصحة والعافية والعضل القوي، فقد جلس في القهوة بعد ذلك يكتب مسرحيات وقصصًا وسيناريوهات ثم تزوج بعد ذلك من أديبة فاشلة ومتجبرة ثم انفصل عنها فجأة ووقع في مشاكل الطلاق وما جره عليه من حجوزات ومطاردات واستدعاءات لأقسام البوليس.
وفي هذا المقهى أيضًا تعرفت إلى نعمان عاشور، ولقد كنت أعرفه وأنا طفل فقد كنت صديقًا لشقيقه الأصغر، وكان نعمان عندما تعرفت إليه في القهوة يكتب المقالات والقصص القصيرة، ثم كتب رواية ناجحة للمسرح اسمها «المغماطيس»، وبدا عليه الانبساط للنجاح الذي حقَّقه، وقرَّر عدم العودة إلى القصص القصيرة أو المقالات والتفرُّغ لهذا الميدان الجديد … المسرح!
ولقد التقيت بنعمان بعد ذلك في وزارة الشئون الاجتماعية، وكان يعمل سكرتيرًا صحفيًّا للوزير، وكنت أنا مندوب الجريدة في الوزارة، ورغم أن نعمان كان هو الطريق الرسمي الوحيد لمقابلة الوزير … فإنني لم أقابل الوزير قط عن طريقه، فقد كان يجلس في مكتبه قلقًا ومذعورًا كأن شيئًا مجهولًا يطارده، وكان لا يستقر على مقعده لحظة، دائم التساؤل عن أشياء غريبة وعجيبة وليس لها أي معنى.
وكنت إذا طلبت منه مقابلة الوزير نهض ونظر من كوة الباب ثم عاد واعتذر بحجة أن الوزير مشغول، ثم لا يلبث طويلًا حتى ينهض مرَّة أخرى؛ لينظر من الكوة ثم يعود إلى الجلوس ثم ينظر مرَّة أخرى من خلال باب الوزير، ثم يقف في النافذة إلى الشارع، ثم يغادر المكتب كله إلى الخارج.
وكان من عادته إذا رآنا نحن الصحفيين ندخل حجرته أسرع بإغلاق مكتبه حتى لا نسطو على الأخبار الهامة التي في الدرج، ولكن رغم كل هذه الاحتياطات الشديدة استطعت أن أسرق من مكتبه مشروع تعديل قانون العمل الفردي.
ولقد أحدث نشره في الجريدة هزَّة كبرى في جميع الأوساط، واضطر نعمان إلى الاعتكاف في بيته عدة أسابيع حتى هدأت الضجة.
وذات صباح جاء إلى الوزارة وزير جديد ومعه صول مهمته الإشراف على سيارة الوزير والسعاة والفراشين، وجاء الصول؛ ليجلس على مكتب صغير في مواجهة نعمان، ورغم أن نعمان هو رئيس المكتب فقد أصيب بذعر شديد من وجود الصول وكان لا يناديه إلا بلقب سيادة الصول، فإذا وقف الصول وقف نعمان، وإذا جلس ظلَّ نعمان واقفًا من فرط الأدب والاحترام!
وشيئًا فشيئًا راح الصول يزحف إلى الأمام، وأخيرًا احتلَّ مكتب نعمان بعد أن تنازل عنه بمزيد من القبول والرضا.
وقنع نعمان بالجلوس على مكتب الصول، لا يبرم أمرًا إلا بعد أن يستشير سيادة الصول، ولا يوقع على ورقة إلا بعد أخذ إذن سيادة الصول، ولم يلبث طويلًا حتى ترك الوزارة إلى عمل آخَر.
وأديب آخَر اسمه فؤاد عصفور، كان أنيقًا ورشيقًا ومعجبًا بنفسه على نحو ما! وكان شديد السخط على الاتجاهات الأدبية الحديثة، شديد الكفر بالأدباء القدامى والذين جفوا على حدِّ تعبيره!
وكان يزفر بشدة أحيانًا حتى كأن الذي يخرج من صدره نار محرقة، ويقول في أسى بالغ: «بس لمَّا تيجي الفرصة وأكتب، كل الناس دي مش هتلاقي تاكل عيش»!
وعندما جاءته الفرصة كتب كلامًا هايفًا للغاية … ثم تحول إلى مؤلف أغاني، ثم فشل أيضًا فقنع بتأليف أغنيات غاية في السوء يبيعها لمطربات الدرجة الرابعة، ولصالات شارع الهرم وكازينو صفية حلمي!
ولكن أغرب أدباء قهوة محمد عبد الله، لم يكُن أديبًا ولا صحفيًّا ولا حتى أفنديًّا، ولكنه كان بائع يانصيب، وكان اسمه عبادة وله لحية لم تُحلَق قط على طريقة قيس … وشعر رأسه يتدلَّى على قفاه كأنه شمشون الجبار، ويرتدي جلبابًا لا لون له، ويضع على كتفه أكثر من جلباب، حتى أنه ليبدو من بعيد كأنه أحد شعراء الرومان المشاهير، وكان يصفو أحيانًا فيتكلم كلامًا كله فلسفة وعقل، ويجن أحيانًا أخرى فيتحوَّل إلى مخبول، وكان يهزأ من كل شيء، ويسخر بكل شيء، ويعلن رفضه لكل شيء، ويقفز وسط ميدان الجيزة حرًّا طليقًا من كل قيد، ويصرخ ويصفق ثم يهدأ فجأة، ويقبع في ركن بعيد يبكي بحرقة وينبح كأنه كلب عجره أتوبيس في الميدان.
ولقد كان صديقًا لأنور المعداوي يسأل عنه إذا غاب، ويجلس معه بالساعات يناقشه في التاريخ والأدب، وكان أنور يقول عنه: «عبادة هو أعقل العقلاء».
ولما أُغلِقَت قهوة محمد عبد الله اختفى عبادة هو الآخَر، وكنت أحيانًا أراه في الطريق وقد ازداد قذارة وتهدم وأصبح شيخًا، فلما مات أنور المعداوي، لقيته في الميدان وأبلغته النبأ … فقال بلا مبالاة: مانا كنت عارف أنه هيموت!
ولقد تفرَّقت الشلة بعد أن انهدمت القهوة وقامت على أرضها عمارة شامخة بلا طعم، وكأن أنور المعداوي كان معها على ميعاد، تدهور حال أنور المعداوي أيضًا، فلما انهدمت القهوة مات أنور المعداوي رحمه الله.
ولقد كانت وفاته خسارة جسيمة للفكر والأدب، فقد كان طرازًا من الرجال يبيع ملابسه ولا يبيع كرامته، ويجوع ولا يسأل اللئيم!
ولقد أحببت أنور المعداوي واحترمته، وما أكثر الذين أحببتهم وما أقل هؤلاء الذين يستحقون الاحترام.
وبعد موته بزمن طويل ذهبت مع أحد الأصدقاء إلى قبره البعيد وجلست أبكي وأنا الذي لم تذُق عيناي إلا نادرًا طعم البكاء.
ولقد ودعت أنا الآخَر قهوة محمد عبد الله إلى حديقة كازينو الجلاء، وكنت قد حقَّقتُ لنفسي بعض الشهرة بين الصحفيين … وأصبح لي أصدقاء يمكن الاعتماد عليهم وقت الأزمات، وأصبحت أعمل في مجلة أسبوعية اسمها «صوت الشرق» إلى جانب عملي الرئيسي في جريدة القاهرة، ولكن ظلَّ حلمي القديم يراودني، أن أصبح يومًا مالكًا لشقة خاصة تطل على شارع عريض ومضيء، وأن أصبح عضوًا بنقابة الصحفيين، ولقد خُيِّل إليَّ أن تحقيق حلم النقابة أسهل بكثير من تحقيق حلم الشقة.
ولِمَ لا وأنا صحفي وأعمل في المهنة منذ زمن طويل؟! ولي كتابات منشورة، ولي أجر محترم، ومعي شهادات من الصحف تثبت أنني أعمل بالمهنة منذ أكثر من عشر سنوات!
منطق الحق والحقيقة!
ولكن، مَن قال إن الحق والحقيقة وحدهما هما الطريق الوحيد إلى نقابة الصحفيين.
كانت جريدة القاهرة تجربة مفيدة تثبت بالدليل القاطع أن الصحافة ليست بالعافية وأنها مهنة صعبة لا يجيد صنعها إلا أبناؤها، فلقد خرجت الجريدة إلى الوجود وعلى صدر صفحتها الأولى أسماء أربعة رؤساء تحرير ليس من بينهم واحد من أبناء المهنة، أحدهم كان قائدًا للجيش المصري في حملة فلسطين عام ١٩٤٨، والآخَر كان رئيسًا للمجمع اللغوي، والثالث كان من كبار المجاهدين … وهكذا! وكتب رئيس المجمع اللغوي افتتاحية العدد الأول تحت عنوان «غبوق الصباح» ولم يفهم أحد من القرَّاء ولا من المحرِّرين حرفًا واحدًا من مقال رئيس التحرير، ولذلك راحت الجريدة تتدحرج حتى وصلت في خلال شهر واحد إلى الحضيض!
ولقد كانت الجريدة فوق كونها تجربة مفيدة، تجربة فريدة أيضًا، فلقد تجمع فيها اليمين بدرجة مكثفة، وبينما كانت الصحف الأخرى التي عملت فيها من قبل تعج باليساريين والوطنيين والمعارضين، كانت جريدة القاهرة لا تضم بين جدرانها إلا اليمين وفلول الأحزاب القديمة، والمتطلعين إلى مناصب أكبر وفلوس أكثر وبعض أصحاب الهيافة الذين ليس لهم في الطور ولا في الطحين!
وكانت سكرتارية التحرير تضم ثلاثة من أغرب وأعجب من عرفت ورأيت خلال عملي في الصحافة أحدهم كان يتناول العمل الصحفي بأسلوب الموظف، يحضر في الثامنة صباحًا كل يوم، وينصرف في الثانية ظهرًا.
وكان إذا حضر سارع إلى خلع الجاكتة وعلقها على شماعة خلف المكتب، ثم شمر أكمام قميصه فشر ست فلاحة تستعد للعجين! ثم يطلب شايًا ويشعل لنفسه سيجارة قبل أن يبدأ في فرز أخبار المحرِّرين، وكان هذا الفرز لا يستغرق من وقته أكثر من خمس دقائق، بعدها يتفرَّغ لنفاق رئيس التحرير! ثم التعرض لزميليه بكلام لا يليق من رجل في مثله مركزه، وكان شديد الحرص على استعراض ثقافته أمام الحاضرين، وكانت هذه الثقافة لا تتعدى دائرة: هل الوضوء ينقض لو حمل المرء قربة فساء على ظهره؟
وهل تدخين السجاير مكروه أم ممنوع؟ ثم ماذا دار بالضبط بين سيدنا الهراس وسيدنا بعجر بن شمروخ؟!
وكان الآخر على عكسه تمامًا، يحضر في مواعيد منتظمة، وأكثر خبرة وفهمًا لعمله الصحفي، ولم يكُن يهتم من الثقافة إلا بما له اتصال بالعمل الصحفي، وكان يرى أن كل الصحفيين فاشلون وكلهم يستحقون الطرد، وكان دائمًا يردِّد أن باستطاعته إصدار الجريدة وحده، بشرط طرد جميع المحرِّرين … وكان يخاف رئيس التحرير ويدس له من وراء ظهره، وكان له فم واسع وأسنان حادة ومُدبَّبة، فإذا ضحك أو تكلَّم بدا كأنه ذئب جائع مسعور.
واستطاع بعد فترة من العمل الصحفي في الجريدة أن يسيطر على عقل إحدى المحررات وأن يتزوجها، وسرعان ما سقط صريع الذبحة الصدرية، ولما أنقذ بأعجوبة كان قد فقدَ منصبه في الجريدة فاكتفى بالجلوس في نقابة الصحفيين وسب جميع الآخَرين.
أما الثالث فكان دلدولًا بكل ما في الكلمة من معنى، وللأسف استطاع هذا الدلدول أن يشق طريقه إلى الأمام بسهولة، وظلَّ محتفظًا بمنصبه في الجريدة إلى أن أغلقت أبوابها.
أغرب شيء أنه تحوَّل بعد ذلك إلى كاتب، وأصبحت له كتب ومُؤلَّفات، شخصية غريبة تثبت أنه لا يبقى في النهاية إلا الذيول.
ولكن أعجب وأغرب الشخصيات في جريدة القاهرة لم تكُن من بين المحررين، ولكنها شخصيات كانت تلعب دورًا رئيسيًّا من وراء ستار وتتحكَّم في الجريدة وتحريرها وسياستها … وتوجهها إلى حيث تريد … أول هذه الشخصيات كان يُدعى إلياس … وكان مسئول الحسابات والمالية في الجريدة … وكان يمتُّ بصلة قرابة لصاحب الامتياز، وسلطاته كانت مطلقة، ورغباته كانت أوامر، وعقليته كانت أتفَه من عقلية حمار.
والرجل الآخَر كان اسمه مسعود وكانت وظيفته الرسمية سائق سيارة صاحب الجريدة، ومن خلال هذه العلاقة التي تربطه بصاحب رأس المال، استطاع أن يفرض نفسه على جميع المحرِّرين وأن يسهر معهم، ووعد بعضهم بعلاوات، وهدَّد البعض الآخَر بالفصل، ونجح في لعبته فكان يتلقَّى الهدايا، وينشر صورته في باب المجتمع ويحرِّر في باب بريد القرَّاء!
أما الرجل الثالث فكان يتمتَّع بشارب رفيع ووجه ثعباني وكان يتولَّى كل الأمور القانونية في الجريدة، وكان شديد الحذق كمحامٍ يجيد استغلال نصوص القانون لحسابه … ويعرقل سير العدالة بمزيد من الإجراءات والتعقيدات، ولقد استولى على قلب صاحب الجريدة عندما نجح في فصل خمسين محرِّرًا دفعة واحدة دون أن يعطي لأي منهم حقه المشروع، فلما لجئوا إلى القضاء نجح في كَسْب القضية ضدهم، وجعل من هذا الفصل حقًّا مشروعًا لصاحب الجريدة الساذج الغلبان.
ولقد استشرى نفوذه في الجريدة حتى أصبح يعين مَن يشاء ويفصل من يشاء دون رقيب ولا حسيب! ولقد كان هو السبب المباشر في فصلي من جريدة القاهرة حين اتصل تليفونيًّا بالجريدة يريد مخاطبة صاحبها … ولسوء حظي وقع في قرعتي، فطلب مني في صلف شديد أن أحوِّل المكالمة على مكتب صاحب الجريدة، ولم أردَّ عليه واكتفيت بإغلاق السكة في استهتار ملحوظ … ويبدو أنه اغتاظ بشدة فعاد وطلبني، ولما أجبت على التليفون راح يصيح في أذني مهددًا بفصلي … ولعنت له خاش جدود الذين نسلوا أبوه، وبصقت في سماعة التليفون احتقارًا لشأنه، وتوعدته بالأذية في أول فرصة تقع فيها عيناي عليه في الطريق!
ولكن الرجل الثعبان استطاع أن يفصلني من الجريدة بعد ذلك بشهر، يوم الفصل استدعاني صاحب المجلة وكان رجلًا عالمًا وفاضلًا ومجاهدًا عربيًّا قديمًا، ولكنه كان عجوزًا إلى درجة مضحكة … إذا تكلَّم قطع الحديث فجأة ونام وارتفع شخيره في الفضاء، ثم يستيقظ فجأةً ليستأنف الحديث من جديد، ولقد أبلغني قرار الفصل على أربع دفعات، وخلال هذه الفترة كان ينام ويستيقظ ثم ينام ليستيقظ ويستأنف الحديث من جديد.
ولقد عرض عليَّ خمسمائة جنيه لأتنازل عن القضية، ولكني ركبت رأسي وقرَّرت أن أمضي في الشوط إلى النهاية.
ولقد حكمت المحكمة في القضية بعد ذلك بستة أعوام … وحكمت ضدي وألزمتني بدفع مصاريف وأتعاب المحاماة … وبدلًا من الخمسمائة جنيه التي كنت سأتناولها، دفعت أنا عشرة جنيهات وخرجت من المولد بلا حمص.
رجل آخَر عرفته في جريدة القاهرة، وكان ناعمًا ولطيفًا وصاحب اتجاه في الصحافة هو نشر كل ما هو طريف وظريف … وكان فيما مضى من الزمان يدَّعي الثورية، وانضم فعلًا إلى حزب فاشي كان أنصاره يرتدون القمصان الملونة ويُحطِّمون البارات وبيوت الدعارة.
وعندما احترف الصحافة كان أول مَن مَدَّ يده للبنت لتدخل هذا الميدان، وهي حسنة تُذكَر له بالخير، غير أنه تمادى في هذا الاتجاه، فأصبحت كل الجرايد التي يعمل بها مفتوحة على البنت، ولكن ليس للولد فيها مكان … وكان رغم مركزه الكبير في الجريدة، لا يجلس في حجرة مستقلة، بل كان يفضل الجلوس في صالة كبرى وحوله عدد كبير من المحرِّرات المعطرات الأنيقات.
وانطبع هو بهذا الجو المحيط به فأصبح وكأنه واحدة منهن يقزقز اللب، ويتعطَّر بأجمل أنواع الكولونيا، ويقضي معظم الوقت في الحديث عن أصناف الطعام المفضَّلة لديه!
ولقد حدث للعبد لله مرَّة أن تعرفت على إحدى بناته المفضلات … وكانت بنت سنيورة، عيونها في لون البنفسج، وخدودها كتفاح لبنان، وكانت عفية وقوية، وكأنها بقرة سمينة معلوفة بالكسب التمام … وصارت علاقة غرام عنيفة ومواعيد حب على شاطئ النيل، وفي داخل النيل أيضًا، وعندما اكتشف المسألة جن جنونه، وثار وأحرج البنت أمام جميع الحاضرين، وظنَّت البنت أنني أنا الذي كشفتُ سرَّها، ومعذورة هي لأنها لم تكُن تعرف أن بيني وبينه ما صنع الحداد.
ولقد جن جنوني أنا الآخَر وحاولت جاهدًا أن أعيد العلاقة مع البنت ولكن دون جدوى، رفضت بإصرار وبشدة … وعاملتني بقسوة حرَّضتني على التمسُّك بموقفي المزري … وتصور منظري وأنا أطلب البنت كل خمس دقائق بالتليفون، وفي البداية كنت أتفاهم، ثم بعد ذلك أصبحت أتذلَّل وأرجو وأستعطف وكأنني شحات واقف على باب الحب!
وأعترف الآن أنني في حياتي لم أشعر بالبؤس مثلما شعرت به تلك الأيام، أنا الذي كنت أسخر من المحبين والمغرمين والعاشقين أصبحت واحدًا منهم، ورحت أطوف حول بيت البنت كأنني قيس وكأنها الست ليلى، وأحيانًا كنت أبكي، وأحيانًا كنت أتحدَّث مع نفسي في الطريق.
أغرب شيء أيضًا … أنه حدثت لي أزمة نفسية حادة جعلتني أتصوَّف.
وذات مساء دخلت مسجد سيدنا الحسين وحذائي تحت إبطي ورأسي منكسة، وقدماي لا تقويان على حملي … وجلست في صحن المسجد كالمتسوِّل وعيناي تبرقان بلا معنى وتنظران بلا إحساس … ولكزني الرجل الذي بجواري واكتشفت أنه صديقي الدكتور سعيد قدري، وتعجب الرجل لوجودي في هذا المكان … خصوصًا أنني رغم وجود مسجد في أعماقي وشيخ له عمامة، إلا أنني لست من هواة التردُّد على المساجد … وتظاهرت بأنني في المسجد في انتظار أحد أقربائي الفلاحين وتركت مكاني بجوار سعيد قدري وانصرفت إلى ركن آخَر.
وبعد الصلاة قمت مع المرحوم الشيخ محمد الصيفي إلى منزله في العباسية، وجلست معه حتى انتصف الليل، وحكيت له عن سبب تعاستي، فربت الرجل الطيِّب على كتفي وقرأ الفاتحة عدة مرات، ولم يزد على قوله: «كل شيء قسمة ونصيب».
وأعترف الآن أنني بعد لقاء الشيخ محمد الصيفي، شفيت من الغم الذي حط على نفسي، ولكني لم أشفَ تمامًا، ظلَّت صورة البنت في نفسي إلى فترة طويلة من الزمان، ولم أشفَ منها تمامًا إلا بعد أن صدر أول كتاب لي «السماء السوداء» وأحدث ظهوره ضجَّة كبرى في الوسط الأدبي.
عندئذٍ أفقت من ذهول الحب، وشغلني النجاح الأدبي فعدت من جديد رجلًا سويًّا.
ولقد الْتَقيتُ بها مرَّة بعد ذلك في الطريق … مصادفة! وصافحتها بفتور وانصرفت، واكتشفت أنني لم أكُن أحبها أبدًا ولكن المسألة كان لها وجه آخَر!
فلقد كان من عادتي أن أتعرَّف على البنات وأهجرهن! ولكن هذه البنت خالفت القاعدة فهجرتني، ولم تدرك البنت ولم أدرك أنا أيضًا أنها بهذا الهجر قد نكأت كلَّ الجراح التي في نفسي، وما أكثر الجراح التي في نفسي، فأنا أمضي في الحياة وكأني أجرُّ ورائي قطار سكة حديد من الجراح والذكريات المريرة.
طفولتي، وظروف حياتي الأولى، وفقري الذي كان نسيجًا وحده، فلا أنا فقير دقة فأتسول، ولا أنا قادر على مواجهة الحياة، ولا أنا أستطيع الكذب على نفسي، ولا أنا قادر في صباي المبكِّر على عدم الكذب على الناس! لم يكُن من أجل البنت نفسها، ولكن من أجل ظروفي وحياتي كلها، خصوصًا أنها كانت أول بنت أتعرَّف عليها من بنات هذه الطبقة! بيتها في جاردن سيتي، وأبوها له شوارب وله طين وله سيارة وفي السيارة سائق له بدلة خضراء وشرايط على ذراعه!
وكان قهري للبنت يعني شيئًا آخَر … هو قهري لهذه الطبقة، حَواري الجيزة تسيطر على شوارع جاردن سيتي … هذه هي القضية … فلمَّا رمتني البنت بقسوة، نضحت على نفسي كل أحزان الجيزة وكل آلام أهلها!
فلما حققت نجاحًا في مكان آخَر نسيت البنت ونسيت أمرها، ولكنها كانت على أية حال تجربة مفيدة ومريرة معًا!
ولقد صدر كتابي الأول الذي كان السبب في شفائي بطريقة لها العجب، تعرَّفت على موظف كبير في وزارة الشئون الاجتماعية اسمه صلاح نور، وهو من أسرة نور الثرية العفية، ولكنه هو نفسه كان من نسيج مختلف، وكان في جوهره فنان وصعلوك وابن بلد قذفت به الصدفة من أصلاب هذه الأسرة، وبينما كان مرتبه لا يزيد على ستين جنيهًا كان يوزع نصفه على سعادة الوزارة ويقوم بتسليف النصف الآخَر لصغار الموظفين … وكان قلقًا للغاية لا يدرك بالضبط ماذا يريد!
وكان يهوى الترف والأسفار والأدب، ويقرأ كثيرًا وبنهم، ولكن قراءاته كانت متعدِّدة وأفكاره لذلك كانت مشوشة، وأصدقاؤه كانوا من جميع الطبقات والأوساط، وبينما كنت تراه يجلس في قعدة أشبه بقعدات المصاطب والقهاوي في القرى، كان يسكن في شقة فاخرة على النيل وله سيارة كأنها قطار السكة الحديد، إلا أن أسعد لحظات حياته، كانت تلك التي يقضيها في الريف بالشبشب والجلباب، وكان يتحدَّث بطريقة واد ابن بلد مولود في حواري السيدة زينب، وإذا ثار بدا كأنه من سكان الدرب الأحمر، وإذا وقع في عاركة تصرف وكأنه ولد من أولاد بولاق.
وتوطدت الصداقة بيني وبين صلاح نور، وسرحت معه في الحسين وفي الريف وفي مكاتب الوزارة.
وذات مرَّة قرأ لي قصة قصيرة منشورة في جريدة القاهرة، وقال لي وهو يضحك، دا انت لو طلعت كتاب هتعمل ضجة.
واعتذرت له بأن اليد طويلة في الكتابة، قصيرة في الفلوس.
وقال صلاح نور: إذا كان العائق هو الفلوس فقط، فاعتبر الكتاب صدر والمطبعة تدور الآن.
وقمنا بالفعل … وبعد أيام كان الكتاب في السوق.
ولقد تحقَّقت نظرية صلاح، فأحدث الكتاب ضجَّة لدى النقاد والأدباء، ولكنه لم يحدث أي أثر عند القرَّاء، وبلغ عدد النسخ التي بيعَت من الكتاب مائة نسخة لا تزيد، ولكن الكتاب رغم الوكسة العريضة كان جواز المرور للعبد لله إلى دنيا الأدب والأدباء.