١٥
وكما ورقة شجرة هشَّة تتقاذفها الريح هكذا كنت أنا في مطلع عام ١٩٥٤، والثورة لم يتبلور اتجاهها بعد، ولم تكشف عن هويتها بعد، والأحزاب القديمة لا تزال في عنفوانها ولكنها تبدو على السطح هامدة في انتظار فرصة، وبينما كانت الأحزاب القديمة تعرف اتجاهها بدقة، كانت الثورة تبدو مضطربة، فهي أحيانًا حركة، وهي نهضة، وهي ثورة! وهيئة التحرير التي كان شعارها «كلنا هيئة التحرير» لم تستطع أن تنفذ إلى صفوف الشعب، ولم تستطع أن تجعل ولو «بعضنا هيئة التحرير» وظلَّ تنظيم الثورة مجرَّد بناء ولكن بلا روح!
ولذلك ما إنْ تفجَّرَت أزمة مارس عام ١٩٥٤ حتى هاج الشارع كله ضد السلطة، وكم كان غريبًا حقًّا أن يتحالف أقصى اليمين مع أقصى اليسار في سبيل تحقيق هذا الهدف.
ولقد أخطأ الشيوعيون خطأهم التاريخي الثاني خلال تلك الأزمة، وكان خطؤهم الأول في عام ١٩٤٨ حين دعوا إلى قبول تقسيم فلسطين؛ لأن المشكلة الأساسية في اعتقادهم كانت في الداخل! ولقد هاجموا حرب فلسطين باعتبارها مؤامرة لصرف الأنظار عن فساد النظام الرأسمالي، ولقتل زهرة شباب الأمة في حرب ليس من ورائها أي طائل!
وكان خطؤهم الثاني حين تحالفوا مع أقصى اليمين للإطاحة بالثورة، ووزعوا منشورات دعوا فيها الشارع إلى ضرب السلطة باعتبارها عميلة للإمبريالية الأمريكية، ولكن هكذا هم الشيوعيون دائمًا سيظلون يخطئون الحساب رغم نواياهم الطيبة … وسيبقون دائمًا في معزل عن الجماهير؛ لأنهم لا يحسنون بالضبط تحسُّس رغباتها! ولأنهم يعيشون في سطور الكتب ولا يعيشون في حركة الناس، ولأنهم يطبِّقون نظريات محفوظة على واقع ليس له علاقة بهذه النظريات!
ولكن أين كان العبد لله تلك اللحظات التاريخية من عمر الوطن؟ لم أكُن مع السلطة، كنت مجرَّد متفرِّج لا يعي بالضبط ما يدور حوله، شيء واحد فقط شككني في الحلف الذي انبثق ضد الثورة … هو أن الجميع سارعوا إلى دخول الحلف ما عدا مصطفى النحاس، ولم يصدر بيانًا ولم يفتح فمه بكلمة، صحيح أن قطاعات كثيرة من الوفد تحركت، ولكن مصطفى النحاس لم يتحرك، لعله كان يدرك بغريزته الطيبة أنها حركة حق يُراد بها باطل، وبقدر ما كانت تلك الأيام عصيبة … بقدر ما كانت مفيدة، فقد كشفت نوايا كثيرة كانت مستترة! وأظهرت أطماعًا كانت مختفية، وتحولت الديمقراطية إلى علم يختفي تحته كثير من المصالح الطبقية والأطماع الشخصية.
ولكن جماهير العمال حسمت الموقف في النهاية لمصلحة الثورة، وأمام محكمة الثورة وقف عشرات من رجال الأحزاب القديمة وبعضهم يستغفر، وبدا هؤلاء الآلهة الصغار كدُمى أطفال، لا إيمان بشيء، ولا استعداد للدفاع عن معتقداتهم.
ولقد دُعيتُ للشهادة أمام محكمة الثورة ولكني رفضت بشدة، والسبب أن المتهم كان صاحب جريدة عملت معه فترة قصيرة في بداية الثورة ثم تركتُ العمل معه في منتصف عام ١٩٥٣ وذهبت للعمل كمحرِّر في جريدة القاهرة، ولقد خاض الرجل عدة معارك ضد حزب الوفد وضد أحزاب الأقلية ولكنه كان يحيط نفسه ببطانة سيئة جرَّت عليه المتاعب وجلبت له المصائب، ولأنه كان متهمًّا بالخيانة العظمى وأنا لا أشهد على خائن إلا إذا كنت متأكدًا من خيانته، وأيضًا … لأن الذي دعاني إلى الشهادة ضده كان صحفيًّا مشبوهًا يستحق السجن المؤبد بسبب جرائمه الوطنية!
وقد حضر إليَّ ذات مساء في جريدة القاهرة وحرضني على الذهاب للشهادة ضد الرجل الذي عملنا معه فترة من الزمن، وراح يغريني بوعود هايفة، فلمَّا التزمت جانب الرفض طلب مني أن أذهب إلى النيابة لأنها تطلبني، ولكني لم أذهب حتى استدعتني النيابة رسميًّا، ولقد كنت تلك الأيام أعمل مندوبًا للجريدة في محكمة الثورة، وكانت النيابة في مبنى المحكمة فذهبت إليها والتقيت بأحد أفرادها، وحكيت للرجل كل ما كان يدور في الجريدة خلال فترة عملي هناك، وحكيت له بصدق ولم أخفِ شيئًا، ولكنه سألني سؤالًا مباشرًا عن واقعة الخيانة فنفيت له علمي بشيء مثل هذا، ولو أنني كنت أعلم وسكت، فأنا خائن أيضًا.
وكفَّ وكيل النيابة عن سؤالي وطوى أوراقه ولم يكتب حرفًا، وانصرفت من مكتبه في سلام فقد استغنت النيابة عن شهادتي، وعلمت بعد ذلك أن أربعة فقط من المحررين قد شهدوا ضد الرجل في واقعة الخيانة، أما الآخرون فقد امتنعوا عن الشهادة مثلي، ولم يكُن هذا موقفًا منهم لإخفاء الحقيقة، ولكن لأنهم فعلًا لم يكونوا يعلمون شيئًا! وسارت القضية في طريقها العادي وقضت المحكمة بسجن المتهم وأسفت المحكمة في الوقت نفسه للموقف المزري لبعض المحررين.
وكان اسم العبد لله في قائمة المحررين الذين وضعوا أنفسهم في الموقف المزري، وطالبت المحكمة بإحالة أمر هؤلاء المحررين إلى نقابة الصحفيين، ولكن أغلب هؤلاء المحررين لم يكونوا أعضاء في النقابة … وكنت أنا واحدًا منهم، ولقد كانت القائمة تضم عددًا من الشباب الذين تتفق مصالحهم مع مصلحة الثورة، ولكن الثورة في بداية الأمر لم تكُن تهتم بهذا الأسلوب في فرز الناس.
وكانت تعتمد اعتمادًا كليًّا على هذا النفر القليل من الثوار الذين خرجوا ليلة ٢٣ يوليو، ومن هنا جاء أسفها على موقف بعض الشبان الذين كانوا يقفون في الواقع في صف الثورة ويحملون سلاحها، وبدلًا من احتضانهم … حكمت الثورة ضدهم، وأغلبهم صحفيون واعون وفنانون بحق، الشاعر كمال النجمي والشاعر محمد الفيتوري وإبراهيم البعثي والأمير المليجي ويوسف فكري والعبد لله.
أغرب من هذا أن القائمة ضمَّت رجلًا لم يكُن يومًا ما على علاقة بالمتهم ولا بالجريدة التي كان يصدرها … هو الفنان عبد الرحمن الخميسي، وكان لهذا الحكم على نفسي وقع الصاعقة، وقضيت عدة أيام هائمًا على وجهي في شوارع القاهرة، وخُيِّل إليَّ أن هذا الحكم بمثابة حكم بالإعدام على مستقبلي الصحفي، يا للأيام السود التي عشتها بعد صدور هذا الحكم حتى كدت أعتزل العمل الصحفي وأتوارى في عمل آخَر في الظلام! ولكن الأيام مضت بي بعد ذلك ولم يلحق بي أي أذى، بل إن أحدًا لم يلفت حتى نظري لا من المسئولين في النقابة ولا من المسئولين في الجريدة، وعندما فُصِلت من عملي في جريدة القاهرة أخذت طريقي بسهولة إلى مجلة التحرير — مجلة الثورة — دون أن يعترض أحد، ولم أدخلها كمحرِّر عادي إلا لمدة أسبوعين ثم أصبحت مديرًا لتحريرها فترة طويلة من الزمن، ولكني قبل أن أترك جريدة القاهرة أتيح لي فترة من الوقت كافية لأنشر على الناس دراسة عن النكتة المصرية وظرفاء مصر منذ عبد الله النديم إلى كامل الشناوي.
واكتشفت أن أغلب هؤلاء الظرفاء اشتغلوا بالسياسة، وكانت النكتة سلاحًا من أسلحتهم، واكتشفت أيضًا أنهم كانوا زعماء جماهيريين بحق لأنهم دخلوا مزاج الناس من خلال الكلمة الضاحكة واللفتة الذكية والنكتة الحلوة.
ولقد قادتني هذه الدراسة إلى حقيقة باهرة، هي أن الذين يتصدون لقيادة الشعب المصري ينبغي أن يعرفوه حق المعرفة، وأن الذي يتصدى لهذه القيادة ينبغي أن يخاطب الشعب المصري باللغة التي يجيد فهمها، ولا يمكن قيادة شعب مثل شعبنا بالكلمات المرصوصة والنصوص المحفوظة، ولعل هذا هو السر في غياب الشيوعيين عن مجلس قيادة الشعب المصري في مختلف مراحل كفاحه منذ عام ١٩٢٤ حتى يومنا هذا، ولعل هذا السر هو الذي جعل الجماهير تهب لحرق مقر الحزب الشيوعي في عام ١٩٢٤ بينما كان زعماؤه يزعمون أن الشعب يمشي خلفهم، لعله كان يمشي خلفهم ليؤدبهم لأنهم كانوا — ولا يزالون — يتناولون الأشياء بطريقة تخالف الطريقة التي يتناولها بها شعبنا.
ولقد أتيح لي أن أنشر دراسة عن فن قراءة القرآن منذ عمنا الشيخ أحمد ندا إلى عمنا الشيخ مصطفى إسماعيل، ولقد استقيت معظم معلوماتي عن قرَّاء الجيل الماضي من المرحوم الشيخ محمد الصيفي، وكان الرجل عالِمًا في هذا المجال بحق، وأيضًا من رجل أديب وظريف هو المرحوم مصطفى حمام، وكان حمام صحفيًّا يهوى الشعر، وشاعرًا يهوى الصحافة، وكان محدثًا بارع الحديث حلو النكتة راوية للشعر القديم، وكان ذا صوت حسن يقلِّد به مشاهير القرَّاء، الشيخ الفيشاوي والشيخ القهاوي والشيخ منصور بدار، وكان يبدو وهو يقرأ معجبًا بنفسه على نحو ما، كان يصيح عقب كل قراءة مهللًا: يا سلام! الله أكبر! صلِّ على النبي كده واشرع! ولكني لاحظت اختلافًا جوهريًّا بين رواية الشيخ الصيفي ورواية حمام … والسبب أن الصيفي، كان ينظر إلى الموضوع من زاوية دينية، بينما كان حمام ينظر إليه من زاوية فنية، ولقد استفدتُ بحق من وجهتَي النظر المختلفتين، كما أنني اعتمدت على نفسي في دراسة قرَّاء القرآن الكريم من أبناء هذا الجيل ولقد كنت — وما زلت — أعتقد أن الشيخ مصطفى إسماعيل فلتة من فلتات هذا الفن، وأعتقد أنه لن يكون له مثيل من بين القرَّاء في المستقبل القريب.
ولقد أحببت الشيخ مصطفى وسرحت خلفه في كل مكان، من جامع إلى مأتم، ومن سهرة إلى مولد، وذات مولد وكان في بولاق ذهبت خلف الشيخ مصطفى إسماعيل، واقتحمت المسجد مع شلة من الأصدقاء، وجلست بجوار الدكة التي يجلس عليها الشيخ مصطفى، ولم يكُن المسجد مزدحمًا؛ فقد كان الوقت عصرًا وجموع المريدين لم تحضر بعدُ، وبدأ المسجد يزدحم، والحلقة تضيق حولنا حتى لم يعُد هناك مكان لقدم، وعندما حانت صلاة المغرب، هب الجميع ونحن معهم فأدينا الصلاة ثم عُدنا إلى أماكننا في انتظار قدوم الشيخ ولكن مرَّ الوقت والشيخ لم يحضر … وفجأة هب أحد الحاضرين واقفًا وصرخ بشدة وهو يصفق بيديه: الله حي، الله حي!
ولم يلبث أن هبَّ الجميع وقوفًا صارخين مثله، فقد بدأت حلقة الذكر، وبدلًا من أن نستمع إلى الشيخ مصطفى إسماعيل وجدنا أنفسنا رغمًا عنا وقوفًا وسط الحلقة، نتمايل في حركات منتظمة ونصفِّق على الواحدة كأننا جميعًا ضباط إيقاع، حركات غريبة لم نتوقعها ومصير لم يكُن في الحسبان! وحانت مني الْتِفاتة إلى أحد أفراد الشلة فإذا به يضحك … ولم أستطع أن أغالب الضحك فانفجرت ضاحكًا أنا الآخَر.
وامتدت عدوى الضحك إلى كل الشلة فانفجر الجميع ضاحكين وفورًا امتدت ألف يد تصافح أقفيتنا، ثم امتدت ألف برطوشة نحونا واختلط الناس، لا أحد يعرف بالضبط مَن الذي ينبغي أن يُضرَب … فضرب الناس بعضهم بعضًا، جنون ينتاب الجماهير المحتشدة عندما يثور بينها حادث مفاجئ لم يكُن أحد يتوقعه.
واستطعنا وسط الفوضى أن نشق لأنفسنا طريقًا نحو الخارج، ولكن بلا أحذية، وخرجنا نرمح في الشارع مجموعة أفندية حفاة نطلب الأمان بعيدًا عن بطش الجماهير، وأقسمت من يومها ألا أذهب خلف الشيخ مصطفى إسماعيل … واكتفيت بإشباع هوايتي في الراديو وفي المآتم المحترمة حيث الاحتمال بسيط في أن تثور فجأة عاركة بالبراطيش!
ولقد استمعت إلى الشيخ عبد الباسط عبد الصمد في أول عهده بالقاهرة، وقد استقبلته بفتور، وخُيِّل إليَّ أنه سيلمع فترة ثم لا يلبث أن يزول، ولكن الشيخ عبد الباسط فرضَ نفسه فرضًا بعد ذلك، حتى استطاع أن يحتلَّ في نفسي المكان الثاني بعد الشيخ مصطفى إسماعيل، وهناك من القرَّاء الذين لم يحققوا شهرة عريضة مَن يحتل مكانة سامية في نفسي من هؤلاء المرحوم الشيخ محمد فريد السنديوني، الذي مات شابًّا بعد أن اعتزل القراءة وافتتح لنفسه مقهى في حي شبرا يستقبل فيه المعجبين، ولم أزَل حتى هذه اللحظة أبكي كلما استمعت إليه.
ولا يوجد بين قرَّاء القرآن الكريم مَن ينزف صوته دمًا مثل صوت الشيخ السنديوني العظيم، والشيخ محمود عبد الحكم، ولا أدري لماذا لم يأخذ حظه من الشهرة … رغم أن صوته كان ينبغي أن يتيح له هذا الصيت العريض!
ولكن الشيخ محمد رفعت ظلَّ له المكان الأول في نفسي رغم كل شيء … ربما كان السبب هو أنه كان أول مَن استمعتُ إليه في صباي، حين كان يسحبني أحد أقاربي إلى قهوة في شارع أبو السباع ليدخن الشيشة ويستمع إلى الشيخ رفعت طول السهرة، ولقد تعرَّفت إلى الشيخ رفعت بعد ذلك ولكن لفترة قصيرة، لم يلبث بعدها أن مرض ثم مات يرحمه الرحمن الرحيم.
ولقد أتيح لي أيضًا أن أنشر في جريدة القاهرة مجموعة قصص مصرية قصيرة، كانت من خير ما أنتجتُ في حياتي كلها، ولقد ظهرت في تلك الفترة التي كانت فيها القصة المصرية مزدهرة وباهرة … وجاءت عقب قصص زكريا الحجاوي القصيرة التي كانت هي الكوبري بين القديم والجديد … ولا أدري لماذا توقَّف زكريا الحجاوي رغم أن بدايته كانت عملاقة وكانت تبشِّر بخير كثير، ولكنها على أية حال كانت بداية الطريق الذي ظهر عليه يوسف إدريس.
ولقد أُصبت بما يشبه الدوار عند قراءتي لقصص زكريا الحجاوي، ثم أُصبت بالذهول عند قراءتي لقصص يوسف إدريس، وكان إحساسي الحقيقي تجاه هذه القصص أنني أكتب كلامًا مثل هذا ولكني أخشى نشره، ولكن قصص يوسف إدريس القصيرة كانت خير مشجع لي على نشر ما عندي من قصص، فقد فتح هو الطريق.
ولو قُدِّر للقصَّاص في مصر أن يأكل عيشه من إنتاجه، ولو تفرغ زكريا الحجاوي ويوسف إدريس وبعض كتَّاب القصة القصيرة الذين ظهروا في الخمسينيات لكتابة القصة فلربما كان لدينا الآن إنتاج قصصي عظيم.
ولكن أعظم كتَّاب القصة القصيرة هجروها الآن إلى مجالات أخرى في الأدب والفن، ولم يبقَ في الساحة إلا نجيب محفوظ رغم أن هوايته الأولى هي الرواية، ولكن قبل يوسف وزكريا جذبَ انتباهي بشدةٍ إحسان عبد القدوس في مجموعته: بائع الحب وصانع الحب. كما أدهشني كثيرًا إبراهيم الورداني في مجموعته: نحن بشر. كذلك كان إحساسي مع قصص يوسف غراب ويحيى حقي ومحمود تيمور وطاهر لاشين.
ولقد كان النقاد في وادٍ بعيد عن الأدباء الشبان ولولا تشجيع المرحوم أنور المعداوي والدكتور عبد القادر القط لتوقفت تمامًا بعد أول قصة … بل إن الدكتور القط كتب عني فصلًا كاملًا في كتاب له، وقد حفزني هذا على الاستمرار في الطريق، وما أكثر الذين مدحوني شفاهة ولكن ما أقلَّ هؤلاء الذين أبدوا رأيهم تحريرًا في إنتاجي!
ولقد كتب لي يوسف السباعي مقدمة مجموعة قصصي الثانية «جنة رضوان» وهو عنوان القصة التي وصفها الدكتور علي الراعي شفاهة ذات يوم بأنها أعظم قصة مصرية قرأها في حياته، ثم لحس هذا الرأس بعد ذلك وناصَبَني العداء لخلافٍ بينه وبين الخميسي لم أكُن أنا طرفًا فيه!
أمَّا السبب الذي جعل يوسف السباعي يكتب مقدمة مجموعة جنة رضوان فهو سبب يستحق أن يُروى، وهو سبب جعلني أؤمن بأن الجو الأدبي في مصر هو مجرد غابة، وإنك لكي تضمن لإنتاجك أن يظهر وأن ينمو فلا بد أن تكون من أقوى الوحوش.
ولقد بدأت القصة حين أبلغني يوسف السباعي أن الأستاذ توفيق الحكيم ذكرني في معرض الحديث عن الأدباء الشبان وأنه أبدى استعداده لأن يكتب لي مقدمة مجموعتي الجديدة … وطلب مني يوسف السباعي أن أذهب لمقابلة توفيق الحكيم.
وحين ذهبت مسرورًا إلى دار الكتب لمقابلة الأديب العظيم … وفي أول لقاء معه أعاد ما سبق أن قاله لي يوسف السباعي، وطلب مني إحضار أصول المجموعة الجديدة لكي يكتب رأيه فيها … وخرجت من دار الكتب تكاد الأرض لا تحملني، ويكاد الفضاء أن يضيق بي!
ولم أتكتَّم الخبر بل نشرته في كل مكان وذكرته لكلِّ مَن قابلني. وبعد أيام حملت أصول الكتاب إلى دار الكتب، ووضعت القصص بين يدي توفيق الحكيم، ولم أكُن أدري أنه خلال تلك الأيام التي فصلت بين لقائي الأول ولقائي الثاني، حدثت أشياء أقل ما توصف بها أنها عجيبة وغريبة ورهيبة، وليس لها مثيل.