٢
وخرجتُ من نداء الوطن وعدتُ أسرح خلف طوغان من جديد، وكان المشوار هذه المرَّة إلى مجلة الكشكول، وفي هذه المجلة الْتَقيتُ برجل من طراز عظيم، ولقد احترمتُه في أول لقاء — وما زلتُ أحترمه — كان اسمه محمد حمدي. وكان سمينًا وطيِّبًا وفي رأسه أحلام كثيرة، وكان دائم الحديث عن مشروعات ضخمة ودُور صحف تُقام، ومُرتَّبات بمئات الجنيهات، ونُسَخ بالملايين والبلايين، وكان ساحر الحديث يستطيع أن يقنع حتى الصخور وحتى الحمير! ولكن عند التجربة، كان حمدي يرحمه الله يسقط دائمًا، ولذلك اكتفى خلال رحلة حياته بإصدار الأعداد الأولى من الصحف الجديدة، ثم الاستقالة لإصدار مشاريع جديدة!
ورغم استقالة محمد حمدي فقد بقيتُ أنا في الكشكول، فقد كان على رأس الجريدة رجل طيِّب يُدعى سعيد إسماعيل، وكان سعيد على علاقة بالإخوان المسلمين، ولكنه كان صاحب مزاج! ولقد أرادوه درويشًا من دراويش الإخوان فأصبح درويشًا من دراويش الحياة … ولقد بقيتُ في الكشكول ثلاثة شهور نشرتُ فيها أزجالًا ومقالات ثم أُغلِقَت أبوابها، وشعرت بالحزن الرهيب فقد كان وقتًا قصيرًا كالحلم … ولكن فقدتُ فيه أعظمَ منبرٍ وقفتُ عليه تلك الأيام!
وعُدتُ من جديد أسعى وراء طوغان، وفي هذه المرَّة كان السَّعي إلى مجلة الوادي، وكان زكريا الحجاوي صديقنا القديم قد سبقَنا إلى مجلة الوادي، وفي اللحظة التي وقعَ فيها بصري على زكريا في المجلة، أدركتُ وأنا شديد الحسرة أن زكريا الحجاوي لا يصلح لهذه المهنة، ولا يصلح لمنصب المدير!! فلقد تخلَّى زكريا الحجاوي عن رداء الفنَّان الذي يصلح له ودخلَ في ثوب المدير، وراح يتكلَّم بحسابٍ ويُومئ بحساب، ويكبس الطربوش بعناية وهو داخل إلى مكتب رئيس التحرير!
وفي الوادي الْتَقيتُ بكثيرين: خليل الرحيمي، وأحمد عباس صالح، وعمر رشدي، وعبد الفتاح غبن، وآخَرين، وكانت الكتابة هي العُملة السهلة في مجلة الوادي، ولكن الأَجْر كان أصعب من الإسترليني والدولار!
ولم ألبث أنْ أصابني يأسٌ قاتل، هذه هي الصحافة؟! وذلك هو بلاط صاحبة الجلالة؟! خير منه الأسفلت والرصيف … وتركتُ كلَّ شيء فجأةً وعُدتُ من جديد إلى حواري الجيزة وشوارعها، إلى قهوة مَرْعي أحيانًا وقهوة أمين أحيانًا، وها أنا ذا أقف وحدي الآن في الحياة وكل شيء يمضي من حولي، فلا تلميذ أنا أصبحت، ولا موظف أنا أكون، ولا صحفيًّا أنا استطعت، ولا رغبة عندي في التلمذة، ولا رغبة في الوظيفة ولا مشاريع جديدة في بلاط صاحبة الجلالة!
وأصدقاء الطفولة الذين كنتُ قد تركتُهم خلفي في الجيزة تبدَّدوا جميعًا وراح كلٌّ منهم بأسلوبه يصارع الحياة، بعضهم استطاع أن يتلاءم مع ظروفه، وبعضهم استطاع أن يتلاءم عليها! ولكن أنا وحدي الذي لم أستطع أن أتلاءم معها، ولم أستطع أن أتلاءم عليها، فوقفتُ وحيدًا كما خيال مآتة مرشوق في بطن الأرض وسط حقل من الضياع والفشل والهوان!
واعترتني تلك الأيام لحظات يأس عنيفة، وفكَّرتُ أحيانًا في الانتحار، وشرعتُ ذات مرَّة في تنفيذ ما عزمتُ عليه، وذهبتُ إلى شاطئ النهر ووقفتُ أتفرَّج على التيار، كنت أحمل في يدي كرَّاسة قديمة جلدتها صفراء وبالحبر الشيني كتبتُ على الجلدة: «مسافر بلا وداع. مجموعة قصص مصرية تأليف الكاتب المشهور محمود السعدني. حقوق الطبع محفوظة للمؤلف.»
وكنت قد كتبتُ خلال بداية فترة الصياعة مجموعة من القصص القصيرة وكانت أول قصة فيها قصة جندي سافر إلى الحرب ولم يعُد، وجُنَّت أمه ووقفَتْ تنتظر عودته كلَّ مساء، ولكن القطار كان دائمًا يدخل إلى المحطة في المساء دون ابنها، ومع ذلك ظلَّت تذهب إلى المحطة وتنتظر، وذات مساء حضر القطار وفيه ابنها، ولكنها تعثَّرَت وسقطت تحت عجلات القطار في نَفْس اللحظة التي كان الابن الغائب يقفز من القطار إلى رصيف المحطة، وماتت الأم دون أن يراها ودون أن تراه.
قصة كنت معجبًا بها غاية الإعجاب، لأن أصدقائي كانوا يستمعون إليها بإعجاب وحماس، ولعلَّ السر في ذلك هي أنها كانت على طريقة «يوسف وهبة» في تأليف الروايات! وفكَّرتُ في أن أخلع ملابسي وأتركها عند الشاطئ ليعرف الناس أن شخصًا ما قد غرق في هذا المكان. وفكَّرتُ أيضًا في أن أضع الكرَّاسة فوق الملابس لكي يعثروا عليها فتنشرها الجرائد والمجلات، وإذا كنتُ أنا المؤلف لم أستطع الحياة، فلا أقل من أن تُوهَب الحياة لهذه القصص التي هي من صميم الحياة! أو هكذا كنت أعتقد تلك الأيام!
وأذكر أنني بكيت وأنا واقف عند الشاطئ أتأمَّل الأمواج والتيار، وقلت في نفسي وأنا أنظر إلى الحياة تموج من حولي: يا للعار! هذه المدينة المُترَفة الجبَّارة التي يبعثر أهلها ألوف الجنيهات كلَّ ليلة على موائد القمار لا تستطيع أن توفِّر لي عشرة جنيهات كلَّ شهر هي كل ما كنتُ أتمنَّاه من الحياة؟!
ولكن في اللحظة الأخيرة خانتني شجاعتي، وكان الظلام قد حلَّ على الكون، وأصبح الشاطئ أكثر وَحْشة وأكثر كآبة! فأطبقت بشدة على الكرَّاسة وعُدتُ من جديد إلى قهوة السروجي لألعب الكومي كما اعتدتُ كلَّ مساء.