٨
كانت البنت مجربة وشجاعة وتتمتَّع بشخصية قوية أجبرتني في النهاية على الجلوس في ركن الحجرة كاليتيم البائس أعتذر لها بكلمات لا معنى لها، ولم أكُن في الحقيقة أقصد إهانتها، ولكني كنت أنجو بنفسي من مواجهة موقف لم أواجهه من قبل.
وجلست البنت بعد أن هدأت ثورتها تحكي لي قصة حياتها وجلستُ أنا أمامها أتصنَّع الاهتمام الزائد كمَن سيكتب هذه القصة يومًا ما، واكتشفتُ وهي تحكي أنها لا تحكي شيئًا من الواقع، ولكنها تُفبرك قصة صحفية سينمائية تصلح للشاشة وفي نفس المستوى الذي شاهدته البنت في أفلام تلك الأيام، وقالت إنها أحبَّت شابًّا طيارًا يسكن في حارتها! مع أنني أستطيع أن أقسم بأغلظ الأيمان أن أحدًا من سكَّان حارتهم لم يرَ الطيارة في حياته، وأن ركوبها بالنسبة لأي واحد منهم حلم لا يتحقَّق إلا بلقاء الجن أو العثور على خاتم سليمان!
المهم أن البنت وقعت في غرام الولد الطيار، والولد الطيَّار وقع في غرام البنت، وأنهما كانا يقضيان أغلب الوقت في حديقة الأورمان، وأحيانًا في حديقة الأندلس، ثم وعدها بالزواج ثم سلبها أعزَّ ما تملك، ثم يا فرحة ما تمَّت خطفها الغراب وطار، وطار الواد الطيار ولم يعُد، سقطت به الطائرة واحترقت، واحترق أملها الكبير مع الحطام!
ومن لحظتها أقسمَت ألا تتزوَّج، وألَّا تحب، فقد مات الذي كانت تحبه، وهي لذلك تقتحم ميدان العمل، ولذلك أيضًا اختارت السينما لكي تتمكَّن يومًا من إنتاج قصة حياتها على الشاشة! واقترحت في نهاية القصة أن أكتبها تحت عنوان «حب من غير أمل!»
وقلت لها إنها قصة عظيمة، وإنها ستحقِّق نجاحًا لا حدَّ له، وأرباحًا طائلة ليس لها نظير! وقضيت لحظات سعيدة طيبة مع البنت ثم جلستُ أنتظر حلمي وحيدًا في الشقة، ولما يئستُ من حضوره انصرفتُ تاركًا له ورقة بأنني سألقاه في صباح الغد.
ولقد استولت عليَّ الدهشة عندما الْتَقيتُ بحلمي في اليوم التالي ولكنه لم يفاتحني في شيء ممَّا حدث بالأمس! ولكنه قدَّم لي موضوعًا لأعيد صياغته من جديد ثم استأذن في الانصراف؛ لأنه على موعد هام في حزب النهضة … وكان حزب النهضة حزبًا نسائيًّا تديره امرأة قبيحة شمطاء … وكانت تتخذ من شقة في شارع دوبريه مقرًّا للحزب، وكانت هذه الشقة ملتقى بنات الذوات ورجال السلك السياسي والمشتغلين بالصحافة والأدب والفن، وكنت قد تردَّدتُ على هذا الحزب عدة مرات مع الرجل الطيب، وتعرَّفتُ هناك على بنت اسمها تهاني كان أبوها تاجرًا كبيرًا في وكالة البلح … وكانت يتيمة وحزينة وشاردة على الدوام … ولقد دعوتها ذات مرَّة على الغداء وجلست معها على شاطئ النهر، وخُيِّلَ لي أنها مُتيَّمة وأنها واقعة في حب العبد لله، فضممتُها إلى صدري وطبعتُ على فمها قُبلة، ولكن البنت التي ظننتُها مُتيَّمة وواقعة في حبي، بكت فجأة، وعبثًا حاولتُ أن أسكتها دون جدوى، وعندما قُمتُ معها لتوصيلها إلى المنزل غادرت التاكسي دون أن تنظر في وجهي، ولم أرَها بعد ذلك أبدًا، ولم تعُد تتردَّد على حزب نهضة مصر بعد ذلك.
وفي هذا الحزب تعرَّفتُ على بنت قبيحة عجفاء مشوَّهة كانت طالبة في إحدى الكليات، وقد ظلَّت طالبة لمدة عشرة أعوام، وقد وقع في حبها اثنان من أصدقائي وكان أحدهما خياليًّا إلى حدٍّ بعيد، وكان الآخَر عكسه تمامًا، ولذلك فاز الرجل الآخَر بالبنت المشوهة، وأثرت هذه الحادثة على قلب الرجل الحالم، ولعلَّها لا تزال تؤثِّر فيه حتى الآن.
ولقد عرفت البنت العجفاء أكثر شبَّان مصر وأكثر رجالها. وألقت بنفسها في أحضان أجيال متعاقبة، ولذلك ستجد في دفتر قلبها توقيعات بعض الشيوخ وبعض الرجال وبعض الشبَّان وبعض الصبيان أيضًا، ولقد كنت أعجب كيف استطاعت بنت شكلها مثل شكلي وجسمها في حجم جسم ولد صايع يتسكَّع في ميدان الجيزة، كيف استطاعت مثل هذه البنت أن تحصل على كل هؤلاء المعجبين؟!
ولقد ناضلت طويلًا داخل هذا الحزب حتى وقعت ذات مرَّة في امرأة مناضلة من مناضلات الحزب، كانت في الأربعين من عمرها، ولكنها كانت تبدو أصغر سنًّا، وكانت جميلة حقًّا وخفيفة الدم إلى درجة تجعل مَن يراها مرَّة لا يستطيع أن ينساها أبدًا.
وكانت متزوِّجة أكثر من مرَّة ولكن عندما عرفتها كانت وحيدة، وكانت قد هجرت زوجها الأخير منذ شهر واحد، وحكمة الله أن جميع أزواجها كانوا من العجائز الأثرياء، ولقد خرجت من كلِّ صفقة زواج بربح مادي كبير، فأصبحت هي الأخرى من كبار الأثرياء، وكان لها نفوذ كبير في دوائر الحزب، فقد كانت تمده بالمساعدات المادية … وكانت تقيم الولائم لعضواته، وهي ولائم كانت تجمع بين الكرم والترف، وكانت هذه الحفلات السياسية الهامة فرصة للتعارف بين الجنسين!
وذات حفلة كنت أتوسَّط حلقة وكانت السيدة صاحبة البيت تجلس في ركن قريب، عندما أصدرت فتوى خلاصتها أن المرأة تفقد سحرها بعد سن الخامسة والعشرين، وكان رأيًا فجًّا من شاب صغير عديم التجربة والخبرة، ولكن المرأة الثرية المجرِّبة أخذت المسألة مأخذ الجد فاقتربت مني وزجرتني بنظرة حادَّة ثم تجاهلتني بقية السهرة وقرَّرتُ أنا أن أختفي من دار الحزب، ومن حفلات السيدة الثرية، ولكنها الْتَقَت بي مصادفة بعد شهر، وسألتني عن سر غيابي وأعطَتْني رقم تليفونها وعندما اتصلت بها دعتني إلى منزلها، وسألتها في سذاجة: هوه في حفلة النهارده؟
وأجابت هي بالإيجاب ووعدتها بتلبية الدعوة، وحلقتُ شَعري الذي كان يغطِّي قفاي كالخنافس، ولمَّعتُ الحذاء مرتين وحرصت على أن أقترض ربطة عنق ملائمة، وتوجهتُ إلى الحفلة وفي نيتي أن أقع على صيد ثمين يعوِّضني جفاف الأيام التي مضت مني!
ولم أكتشف أنه لا حفلة هناك ولا يحزنون حتى بعد أن دخلت المنزل، وجلست وحيدًا في حجرة الصالون أنتظر قدوم الست المضيفة، وعندما حضرت غندورة كالعهد بها، رائعة الجمال كأنها تمثال في متحف … سألتها عن سر تأخُّر الضيوف فقالت في بساطة: مفيش ضيوف غيرك الليلة!
وشعرت عندئذٍ أنني على أبواب مغامرة لذيذة، وأنني مُقْبِل على القيام بدور لم يسبق لي القيام به من قبل!
وجلسَتْ أمامي تصب خمرًا في كأس وهي في ثوب شفَّاف يكشف عن مفاتنها وراحت تتحدَّث حديثًا فيَّاضًا في السياسة والأدب والعلم وسرعان ما طردتُ الخاطر السيئ الذي راودني وشرعت في الحديث بطلاقة ورُحتُ أرغي كأنني بالع راديو في أشياء شتى، ولكنها فجأةً ضحكت وجذبتني من شعري نحوها وانحنت فقبَّلتني وقالت وهي تضحك: دمك خفيف يا مضروب!
وانتهزتُ الفرصة كأي ساذج وجذبتها نحوي أنا الآخَر، ورحنا نتبادل القبلات والعناق! ولما كنت وقتئذٍ في العشرين وهي في الأربعين فقد كنتُ أصدَق منها في التعبير عما يجيش بصدري، وكانت هي أقدَر مني على قيادة نفسها بحكمة وحنكة ومعلمة ليس لها نظير، وعندما هممت بها ردَّتْني في لطف … ثم ردَّتْني في عنف، وانكسفت كما بنت بِكر فاجأها شاب عابث في الطريق … واعتذرتُ لها عن سوء سلوكي وقلة أدبي وفساد ظني، وقبلت الاعتذار على الفور ثم فتحَتْ حديثًا آخَر جادًّا غاية الجد، ودخلتُ أنا الآخَر في موجة الجد التي شملتها ولكنها بعد قليل ضحكت ضحكة أشعلتني ثم مدَّت يدها وقرصتني ومددتُ يدي أنا الآخَر وبادلتها القرص، ثم احتضنتها بشدة وقبَّلتُها كالمجنون، ثم هممتُ بها، ولكنها مرَّة أخرى ردَّتني في لطف ثم ردَّتني في عنف، ثم أنَّبَتني بشدة على مسلكي المتوحِّش … واعتذرتُ لها مرة أخرى وجلست مكسوفًا كتلميذ راسب عدة أعوام في مادة واحدة! وقبلت السيدة الكريمة اعتذاري ثم راحت تصبُّ لي كأسًا آخَر، ومع الكأس راحت تتحدَّث في السياسة.
وتكرَّر المشهد بعد ذلك أكثر من مرَّة، تبدأ هي بالمناغشة ثم أبادلها، ثم أندفع أكثر، ثم أقفز محاولًا الوصول إلى آخِر الشوط … ثم تنهرني بشدة وتنهاني بعنف ثم أجلس مكسوفًا وأعتذر … وحتى الفجر كنت قد اعتذرتُ عشرين مرَّة، وأدركتُ أنني لعبة الست الكريمة تلك الليلة، وأنها تردُّ على رأيي بأسلوب عملي؛ لكي أتعلَّم الأدب في الحديث في المستقبل.
كان الفجر على الأبواب عندما غادرتُ الفيلا سكران حزينًا شديد الهم، مكسوفًا أكاد أطلب من الأرض أن تنشق لتبتلعني وتخفيني بعيدًا عن الأنظار! ولقد ظللت أعوامًا طويلة بعد ذلك أغضُّ من بصري كلما واجهتها في أي مكان، ثم تحاشيت لقاءها بعد ذلك، ولم ينقذني منها إلا اختفاؤها هي نفسها من الحياة العامة.
ولكن الدرس الذي علَّمَتني إياه كان رهيبًا وقاسيًا على نفسي، ولقد أثَّر في نفسي إلى حدِّ أنني جبنت عدة سنوات عن أن أخطو الخطوة الأولى مع أي امرأة، وفقدت الثقة بنفسي إلى حدِّ أنني كنت أخشى مغازلة أي امرأة ولو كانت خدَّامة خشية أن ترفضني، ولم تضعف المرأة الخبيثة ثقتي بنفسي بالنسبة لها فقط بل إنني كنت أخشى النظر في عيني أي سيدة في حزب النهضة، فقد كنت أعتقد أنها روت قصتي لكلِّ مَن تعرفهم!
وعُدت إلى دار الهلال مهمومًا قلِقًا أريد أن أهرب من الدار ومن القاهرة كلها، وخطر لي أن أغادر مصر كلها على ظهر مركب، وفعلًا رُحتُ أسأل كلَّ مَن ألقاه عن أسلوب العمل في المراكب! وهل أصلح أنا للعمل في المراكب وخصوصًا وأنني معتل الصحة؟ وهل يوجد على ظهر المراكب عمل خفيف لائق؟ ثم تخلَّيتُ عن هذه الفكرة عندما استطعتُ أن أمسح من ذاكرتي أحداث تلك الليلة الغريبة.
ولكن حلمي لم يقطع صِلته بحزب النهضة، كما أنه كان على علاقات وثيقة ومتينة بكافة الأحزاب النسائية في مصر، وكانت هذه الأحزاب هي المنجم الخصب الذي يحصل منه حلمي على المواد الخام لسهرات الشاليه الذي يقع فوق الربوة عند الهرم … وكانت بعض سيدات السياسة المصرية يشعرن حقًّا بالسعادة؛ لأنهن سيقضين السهرة مع بعض رؤساء التحرير والمحرِّرين المسئولين في صحف دار الهلال!
ولقد طلبتُ من حلمي أن يصحبني معه مرَّة في إحدى هذه السهرات، ولكنه فتح فمه ونظر نحوي بدهشة وكأنني مجنون … وقال وهو يمسكني من كتفي ويهزني بشدة: إنت عاوز تخرب بيتي، دا رحمي بك لو شافك هيرفدني، دي قعدات خاصة ومقفولة، دا رحمي بك لو عرف إني بقولك يرفدني … يا خبر اسود، دا انت باين عليك مجنون!
ولم يدرك حلمي أنني لم أكُن أعرف حقيقة ما يدور في الشاليه منه وحده، لقد كنت أعرف الحقيقة كاملة من أكثر من مصدر، كان حلمي حقًّا هو أهم مصدر، ولكن كانت هناك مصادر أخرى غيره! وكانت أخبار هذه السهرات منتشرة في المدينة في الوقت الذي كان رحمي بك يظن فيه أنها جلسات مقفولة وخاصة.
وفي هذه السهرات كان رحمي بك يلعب القمار مع شلة المحرِّرين أصدقائه … وكان هؤلاء يتعمَّدون الخسارة ليكسب، وكانت هذه الخسارة بمثابة رشوة لرحمي بك لكي يرضى، ولذلك وصلت مُرتَّبات بعض هؤلاء المحرِّرين إلى مائتي جنيه في الشهر، وهو مبلغ يفوق ستمائة جنيه من عملة هذه الأيام، ولقد بلغت بي السذاجة حدًّا جعلني أحاول الثورة ضد نظام العمل في دار الهلال وفعلًا فاتحتُ عددًا من المحرِّرين المضطهدين بضرورة رفع أصواتنا بالشكوى من نظام العمل في الدار، وطالبتُ بأن يكون هدفنا إلغاء نظام القطعة ووَضْع مُرتَّبات ثابتة حتى لا يكون هناك مجال لأي تلاعب، وللقضاء على نفوذ رؤساء التحرير ومديري التحرير، ولقطع الطريق على الرشوة والمحسوبية.
واتخذت من مقهى في الجيزة مكانًا للقاء وإعداد الثورة المنتظرة، وهجم على المقهى عدد من المحرِّرين لم أكُن أنتظر منهم استجابة لهذا العمل الذي ننوي القيام به بالمرَّة، وظننتُ أنني قطعتُ شوطًا بعيدًا في سبيل تحقيق الأحلام، وفي هذه الجلسات التي كنتُ أعقدها كلَّ مساء في القهوة قلت كلَّ ما أعرفه مما يدور في الشاليه، والكرافتات التي طلبها مني صديق رئيس التحرير والموضوعات التي أكتبها باسم ميخائيل وحلمي، وبدلًا من أن تكون هذه الأسرار والأخبار وقودًا للثورة المنتظرة اكتشفتُ أن أسراري كلها وأخباري كلها تصل إلى رحمي بك أولًا بأول … وأنه يعلم خطواتنا كلَّ ليلة بدقة أكثر من الدقة التي يعلمها بعض المشتركين في الثورة.
أغرب شيء أن السذاجة بلغَتْ بنا حدًّا لم نكتشف معه أن بعض هؤلاء الذين أخذوا يتردَّدون على المقهى ويحضرون جلساتنا ويشتركون في المناقشات معنا، كانوا من بطانة رحمي بك … وكانوا من سماسرته … وأنهم من جلسائه كل ليلة في الشاليه، ومن المشتركين معه في الحوار السياسي الذي يدور كلَّ ليلة مع بعض سيدات السياسة المصرية! ولكن هكذا شاءت الأقدار لنا … أو إن شئتم الدقة هكذا شاءت غفلتنا وسذاجتنا وعدم خبرتنا بالحياة وبالناس!
وذات صباح، فوجئت بالبوَّاب يمنعني من دخول الدار، واكتشفت أن على الباب ورقة معلَّقة من الإدارة تعلن فيها أنه ممنوع دخول غير المحرِّرين المدونين في الكشوف الرسمية، ودخلت في حوار مع البوَّاب ثم في عراك … أصررتُ على الدخول لأجمع أشيائي التي في الدار، رغم أنه لم يكُن لي شيء في الداخل على الإطلاق … ولقد سمحوا لي بالدخول مع أحد الموظفين لأجمع حاجياتي المزعومة، ولمَّا لم يكُن لي أي شيء هناك، فقد اتهمتُ الدار بالسرقة، وأشعتُ جوًّا من الصخب والضجيج في أنحاء الدار … وانتهى صخبي بالخروج مطرودًا في صحبة الموظف حتى الباب.
وتذكَّرتُ بعد أيام وأنا جالس على المقهى في الجيزة وعد قاسم جودة … فقمت أسعى إلى مجلة النداء … واستقبلني قاسم بحفاوة … وقال وهو يهزُّ ذراعي في حماس: إنت فين يا راجل، دنا بادوَّر عليك، خلاص يا عم مبروك المدير وافق إنك تشتغل بمُرتَّب عشرة جنيه في الشهر.
وكان هذا هو أعظم خبر سمعتُه في حياتي … ها أنا ذا بعد تعب شديد أصبح لي مُرتَّب ثابت ووظيفة مُعيَّنة … وها أنا ذا الآن أستطيع أن أكتب في هدوء وأن أنشر على مهل، وأن أبذل أقصى جهدي لكي أرد لقاسم جودة جميله الذي يطوق عنقي، وأن أثبت للجميع أن موقف قاسم مني لم يكُن مجاملة وإنما لأنني أستحق هذا وأكثر منه بكثير!
وجاءني رجل عجوز من محرِّري المجلة القُدامى ونصحني بأن أتجه إلى الحصول على الأخبار لأنها الصحافة الحقيقية، وقال دعك من كتابة الموضوعات، إنها لا تضمن العيش حتى لأكبر الأدباء … وضرب أمثلة عديدة بإبراهيم عبد القادر المازني والشيخ عبد العزيز البشري والدكتور زكي مبارك، وقال الرجل العجوز وهو ينصحني … الكاتب كالفراش كلاهما يُمكِن الاستغناء عنه في أي لحظة، ثم نهض واتجه إلى مكتب آخَر أمامي وجلس وبسمَلَ وحمدَ الله، ثم أخرج أوراقًا بيضاء من مظروف كان يحمله تحت إبطه … ثم انهمك في الكتابة ولكن بصعوبة بدَتْ من خلال توقفه الطويل أحيانًا … وكان يلعق شفتَيه خلال هذه الفترات ويضغط على جبهته بيده، ويخبط على المكتب خبطًا شديدًا … وبعد ساعات نهضتُ من مكاني واقتربت منه، وألقيتُ نظرة على الورق الذي أمامه … كانت صفحة واحدة مكتوبة وتحت عنوان كبير … وأسلوب مثل أسلوب تلاميذ المدارس … وعندما اكتشف وجودي فوق رأسه، نظر نحوي ثم نظر نحو الورقة التي أمامه وقال وهو يهز رأسه: أهي دي الكتابة، دي الصحافة اللي تأكل عيش!
وهززتُ رأسي موافقًا وانصرفتُ.