٩
كانت مجلة النداء أشبه بسوق الثلاثاء، كل شيء فيها معروض للقرَّاء … كل شيء وكل لون وكل صِنف، وكانت مرآة صادقة لحزب الوفد، وكان حزب الوفد قد بلغ حدًّا من القوة جعل كلَّ الشعب فيه، وكان أيضًا قد بلغ حدًّا من الضعف جعل كل المتناقضات داخله.
وعلى صفحات النداء مثلًا كان ينشر سلامة موسى مقالاته عن العلم، وكان مصطفى محمد فهمي ينشر مقالاته في عالم الخرافة والهيلولة التي على قفا الشفق، وكان مصطفى محمد فهمي نموذجًا حيًّا على فساد العصر، كان عندما الْتقيتُ به حطام إنسان مدمن على كل أنواع الحشيش والأفيون، وكان يأكل الحشيش علنًا وكان يدَّعي أن بلسانه مرضًا خبيثًا لا يشفيه إلا المخدرات، وكان قبيح الوجه إلى درجة لا تُطَاق، شَعرُ رأسه تساقط منذ زمن بعيد، وفمه المفتوح دائمًا يشبه قبرًا مهجورًا نبشته الذئاب.
وقد تتضح أبعاد المأساة أمام القارئ إذا علم أن مصطفى محمد فهمي كان منذ عشرين عامًا سابقة على ذلك العام الذي الْتَقينا فيه، كان ألمَع وأجمَل شاب في مصر، وكان كاتبًا فريدًا من نوعه، وكان صاحب أسلوب لاذع للغاية، ساخر غاية السخرية وكان عدوًّا للوفد، شن حملة هوجاء ضد الوفد ورئيسه، جعلت بعض الألاضيش يُدبِّرون له كمينًا دخل بسببه السجن … وكانت التُّهمة الموجَّهة له: إحراز المخدرات، وخرج مصطفى من السجن شخصًا آخَر، تحول الكاتب اللامع الساخر العظيم إلى شخص هلامي وعلى باب الله، منظره منظر شحات، وعقله عقل مجذوب، وتصرُّفاته تصرُّف مدمن أهلكته المخدرات! وراح يتدحرج شيئًا فشيئًا حتى وصل إلى القاع.
وعندما وصل إلى مجلة النداء كان قد سقط من القاع إلى شيء يُشبه الفضاء، وراح يدور مع الريح مغمى عليه حتى غادر الدنيا ذات صباح في حجرة عارية من الأثاث في زقاق مظلم بارد كئيب، ولحظة صعود روحه إلى خالقها لم يكُن معه في الحجرة سوى قطة مريضة كانت تربطه بها صِلة صداقة عميقة امتدَّت عدة سنوات.
وكان سلامة عيسى نموذجًا آخَر لفساد العصر ولكن على نحوٍ آخَر، كان واسع الثقافة، وصاحب موقف اجتماعي، وكان شديد الثورة على كل القيم البالية والمقدسات القديمة، ولكنه كان يكتب في النداء أي كلام، ويقبل أي معاملة نظير حفنة جنيهات لا تزيد على عشرة، وكان هو في غِنًى عنها تمامًا؛ إذ كان ميسور الحال قليل النفقات، لا يدخِّن ولا يسهر ولا يشرب الخمر.
ولقد تعجَّبتُ من مسلكه هذا، وتعجَّبتُ أكثر لهذا الرجل المثقَّف إلى هذا الحد، الذي كان في أعماق أعماقه متعصِّبًا إلى هذا الحد.
ولعلَّ هذا نفسه هو الذي دفعه في نهاية حياته إلى العمل في دار صحيفة كبرى كان يُناصبها العداء ويهاجم أفكارها بشدة، ولعلَّه نفس الموقف الذي دعاه في النهاية إلى أن يكتب كلامًا كان يرفضه ويحاربه من قبل.
وإلى جانب هؤلاء الأعلام كان يعمل عشرات الأرزقية هم في الأصل محاسيب بعض الشيوخ والنواب المحترفين، وكان يعمل أيضًا عشرات من الصحفيين المحترفين يكتبون ما يُطلَب إليهم بالأجر ولم يكُن لهؤلاء أدنى اهتمام بشيء، وكان كل همهم تحقيق مصالح شخصية على حساب المجلة.
وكان فيها أيضًا شباب يتفجَّرون بالحماس والنشاط، وفي أدمغتهم تدور أفكار جديدة، ولديهم طموح من نوع خاص.
كانت جريدة النداء إذَن عالمًا خاصًّا مستقلًّا، ولم يكُن لها نظير بين دور الصحف الأخرى، وكانت شيئًا وسطًا بين دار الهلال ومسامرات الجيب، فهنا مُحرِّرون محترفون يعملون بالأجر، وهنا أيضًا صياع وعلى باب الكريم، وهنا أساتذة وأصحاب رأي علموا الأجيال المتعاقبة، وهنا كل شيء وأي شيء يحتفظ بالشكل أما الجوهر فلا شيء يهم.
الجريدة تظهر كلَّ أسبوع كالمعتاد، والمحرِّرون يعملون كلَّ يوم كالمعتاد، ومع ذلك فليس للمجلة قارئ واحد مواظب، وإنما تقع في أيدي القرَّاء مصادفة وتمضي بهم ولا تؤثِّر فيهم.
ورغم أنني نشرت فيها عشرات المقالات خلال شهر واحد، فإنني لم أسمع من أحد على الإطلاق كلمة استحسان واحدة، أو كلمة استهجان واحدة، أغرب شيء أن المحرِّرين أنفسهم لم يكونوا من قرَّاء المجلة، وكان يوم الصدور بالنسبة لهم يوم عيد لا لشيء إلا لأنه يوم الإجازة!
وكان أمام باب المجلة بقَّال نشيط كلَّ بضاعته جبنة وطرشي وعيش بلدي، وكانت مرتبات المحرِّرين تذهب كلها إلى هذا البقَّال، فقد كان أغلب المحرِّرين عزَّابًا ولم يكُن لهم بيوت وكان كل طعامهم من عند البقَّال، ولمَّا كانت الجبنة والطرشي تقطع القلب وتحتاج إلى شاي تقيل ليقتل سمها فقد توسع البقَّال فأصبح بقَّالًا وقهوجيًّا، ولمَّا كان الشاي بعد الجبنة يحتاج إلى تدخين سجاير، فقد توسَّع البقَّال فأصبح تاجر سجاير أيضًا.
من خلال الجبنة والشاي والسجاير استطاع البقَّال أن يستولي على مرتبات المحرِّرين كلَّ شهر، وأصبح التعامل بينه وبين الإدارة مباشرة بعد أن تكررت مماطلة المحرِّرين وزوغانهم أول الشهر، واستطاع أن يصِل إلى اتفاق مع الإدارة للحصول على الديون بشرط أن يقدِّم أوراقًا بإمضاء المحرِّر.
ولقد تطوَّرت تجارة السيد البقَّال تطوُّرًا خطيرًا بعد ذلك فأصبح يبيع الحشيش والأفيون، وأغلب الأوراق الممضاة من المحرِّرين التي قدمها البقَّال للإدارة كانت ثمنًا لهذه الأصناف الممنوعة.
ولكن أغرب شيء وقتها خلال الشهر الذي قضيته في المجلة هو أن محرِّرًا طيِّب القلب استطاع العثور على حجرة مهجورة فوق سطوح المجلة، واستطاع الحصول على سرير سفري صغير واحتلَّ الحجرة دون علم أحد، وأصبح يبيت في المجلة كلَّ ليلة وكان يمكنه الاستمرار دون أن يدري أحد، لولا حادثة وقعت ذات مساء عندما حضر ذات ليلة إلى المجلة ومعه فتاة كومبارس، وسمح له البواب باصطحابها، ثمَّ أغلق البوابة وصعد هو الآخَر إلى السطح مُعلِّلًا النفس بقضاء سهرة لطيفة، غير أن المحرِّر رفض أن يشارك البوَّاب في قضاء السهرة، ونهره بشدة وطرده شرَّ طردة.
وفي الصباح كان خبر الحجرة التي فوق السطوح قد بلغ صاحب المجلة، وثار صاحب المجلة بشدة وهدَّد المحرِّر بالطرد ثم أنذره في النهاية بأن يدفع أجر الحجرة وبأثر رجعي أو يستقيل فورًا من الجريدة.
وقبل المحرِّر الاقتراح الأول ودفع أجر الحجرة وأقام فيها بعد ذلك وأصبح ساكنًا وله شأن وأصبح من حقه دعوة مَن يشاء إلى الحجرة دون أن يكون للبوَّاب حق مشاركته السهرة أو الاقتراب من الحجرة في أي وقت!
وفجأة وقبل نهاية الشهر بقليل جاء إلى الجريدة رجل فلاح وموظف بالحكومة، وعلى صدغه عصفورة ناصحة وتكاد تهم بالطيران، جاء الرجل ليتولَّى منصب مدير عام المجلة، وأُعلِنَت الطوارئ في الحال، فقد أُشيعَ أنه جاء ومعه مشروع كامل للتنظيم.
وعندما جاء أول الشهر نزلت ووقفت أمام أحمد عبد العزيز صرَّاف المجلة، وكان رجلًا باردًا كسمكة ميتة، وراح الرجل يتفرَّسُني كأنني عجيبة من مخلوقات الرب انقرضت منذ زمن بعيد، وهزَّ أحمد عبد العزيز رأسه عدة مرَّات وأعلن الخبر الذي لم أكُن أتوقَّعه أبدًا، اسمي ليس في كشف المحرِّرين، بمعنًى آخَر أنا ما زلتُ على باب الكريم وبلا مرتَّب، وحسبت الأمر مجرَّد مزاح، ولكني تأكَّدت أن الأمر جد كلَّ الجد عندما الْتَقيتُ بالمرحوم قاسم جودة وبدا قاسم بائسًا ويائسًا وغير ذي نفوذ.
وخرجت من مكتب قاسم لا أكاد أرى شبرًا واحدًا أمامي، ورغم أنني لم أكُن قد تجاوزت العشرين من العمر، فإنني رُحتُ أجرُّ رجلي جرًّا كأنني قفزت إلى سن المائة فجأة، وأحسستُ بالدموع تنزلق من عيوني إلى جوفي وبأنني أختنق، ورحت أمشي على غير هدى ولم أتنبَّه إلا وأنا على كوبري قصر النيل، وهواء مارس البارد المنعش اللذيذ يضرب وجهي بقسوة.
كانت المشكلة التي أواجهها أكبر من أن تُحَل … ففي خلال الشهر الذي مضى أحسستُ بزهو لم أحسَّ به من قبل، ولأول مرَّة في حياتي أشعر بنوع من الاستقرار لم أشعر به في حياتي، كنت قد أصبحتُ محرِّرًا وبعشرة جنيهات في الشهر، وأتاح لي هذا المرتَّب الوهمي حرية أوسَع في التعامل مع الناس، وعلى الطريق الموصل إلى بيتي اقترضت من البقَّال ومن القهوجي ومن دكَّان السجاير، وكان الجميع في انتظاري أول يوم في الشهر، وكانوا على أحرِّ من الجمر لعدة أسباب … أولها: للحصول على ما في ذمتي من نقود.
والسبب الثاني: إن أحدًا منهم لم يكُن يثق في أنني قد استوظفت فعلًا، وأنني يومًا ما سأقبض بأصابع يدي الخمسة على عشرة جنيهات مرة واحدة.
ولقد تحقَّق ظنهم فعلًا، اتضح أنهم كانوا أعلم مني بمهنة الصحافة، وأدرى مني بالأحوال في مجلة النداء.
وما زلت أذكر ما حدث في ذلك اليوم المهبب بالتفصيل، ذهبت كعَّابي إلى حديقة الأورمان واقتحمتها فجأةً، رغم أنني لم أكُن من هواة الحدائق ولم يسبق لي الذهاب إلى أي حديقة إلا لغرض أكل البلح أو معاكسة فتيات المدارس، واخترتُ مكانًا تحت شجرة وجلست كالعاشق الولهان أحدِّق في لا شيء وعقلي يعمل ولكن بلا انتظام كأنه ساعة روسكوف خسرانة، وأحسستُ فجأةً بأنني أحمل عمارة الإيموبيليا فوق رأسي، وأن سيفًا ملتهبًا يخترق عظام رأسي ويستقرُّ في مخي، في أكثر الأجزاء حساسية من مخي، وشعرت بأنني أكاد أسقط مغشيًّا عليَّ، كانت الشمس قد مالت إلى المغيب عندما استيقظت لأجد نفسي تحت الشجرة وحارس الحديقة يهزُّني بعنف لكي أنهض وأمضي، فقد أغلقت الحديقة أبوابها منذ فترة.
وألقى الرجل الطيِّب على مسامعي سؤالًا وأنا أتحرَّك نحو باب الخروج: هوه إنت غريب يا بني؟
وهززتُ رأسي في فتور وأنا أزحف كسلحفاة عجوزة نحو الخارج. ورحت أتسكَّع في شارع مراد فترة قبل أن أزحف من جديد نحو الجيزة، وعلى أقرب كرسي في قهوة محمد عبد الله جلست وطلبت واحد شاي مظبوط للغاية، وعندما حضر عم عبده ومعه الشاي وقف أمامي وراح يتفرسني وعلى فمه ابتسامة، وقال وهو يهز رأسه برفق: الشاي ده هتدفعه راخر ولَّا من حساب الشهر الجديد؟
ووخزتني كلمة «راخر» فهي تعني ببساطة أن عم عبده قد أصدر حكمًا لا يقبل النقض أن فلوس الشهر الماضي ستُدفَع حتمًا، وأزعجني شعور عم عبده الواثق من نفسه، فهذه الثقة الزائدة عن الحد ستدفعه حتمًا إلى ارتكاب جريمة في اللحظة التي يكتشف فيها أن ثقته لا مبرِّر لها، وأنني لا أملك نقودًا من أي نوع على الإطلاق.
وجلست أفكِّر في وسيلة للهروب من عم عبده، ثم الهروب من البقَّال وبتاع السجاير، فإذا لم أتمكَّن إلا من الهروب من عم عبده، فمعنى ذلك أن على العبد لله أن يبحث لنفسه عن مأوًى ينام فيه تلك الليلة.
وفجأة قطع حبل تفكيري يد هزت كتفي بعنف، وارتعش بدني كله فقد ظننتُ أنه البقَّال، وعندما الْتَفتُّ مذعورًا وقد رسمت على شفتي ابتسامة نفاق مريضة، وجدت صديقي الشاعر كمال العسلي أمامي، وكان كمال قد هجر العمل معنا في مجلة مسامرات الجيب، ثم زهد الحياة في المدينة وآثر العودة إلى مسقط رأسه في الصعيد الجواني، ومضت عليه سنوات لا نسمع عنه خبرًا حتى فوجئت به تلك الليلة، يقف منتفشًا كالديك الرومي، عليه علامات سرور دفينة، وهو الذي يبدو مكتئبًا على الدوام.
وسألني كمال عن الأحوال فحكيت ليه باختصار، ومطَّ شفتَيه في ازدراء وقال بطريقته المشمئزة: لسة الصحافة فيها الوساخات دي؟ هه … شيء حقير قوي.
وسألته عن أحواله فقال وهو شديد الانبساط أنا كسبت الجايزة الأولى من مجمع اللغة العربية، ودون أن أسأله، قال على الفور: الجائزة ثلاثمائة جنيه!
وسألته في براءة: وهتقبض الجايزة إمتى؟
فقال على الفور: أنا قبضتها خلاص!
وهتفتُ بدون وعي: كذاب!
ولما مطَّ شفتَيه احتقارًا قلتُ متحدِّيًا: طيِّب وريني.
وانتزع كمال رزمة أوراق مالية من فئة العشرة جنيهات! ووقع قلبي في قدمي، ها هو شعار عم سعد بياع العرقسوس يتحقَّق «فرجه قريب»!
وها هو الفرج يتحقَّق فعلًا ومن حيث لا أحتسب ومن حيث لم أكُن أدري!
وقال كمال: انهض بنا نسهر ليلة من ليالي العمر.
وقلت لكمال: أعطني عشرة جنيهات قبل كل شيء وعندئذٍ أستطيع أن أتحرَّك.
وناولني كمال المبلغ واستأذنتُ عدة دقائق دفعت خلالها ديون البقَّال وبتاع السجاير، وعُدت مرَّة أخرى لأدفع لعم عبده، ثم انطلقت مع كمال العسلي لنقضي أيامًا من أحلى أيام العمر، فلقد كنا نملك الشباب والأمل والمستقبل كله، ولأول مرة كنا نملك مع كلِّ هذه الأشياء المال، ولكن المال الذي كان مع كمال العسلي لم يلبث أن تبخَّر، وعدنا من جديد نبحث عن عمل، وما زلتُ أذكر تلك الليلة الممطرة الموحلة التي سبقت رحيل كمال العسلي إلى الصعيد.
كان الوقت شتاءً، وعاصفة رهيبة تصفع وجه القاهرة بشدة، وعبثًا حاولنا اللجوء إلى مكان يحمينا من البرد وبشرط ألا يكلفنا شيئًا، ثم تذكرنا فجأة أن زميلًا من زملاء مسامرات الجيب قد فتح الله عليه فاشتغل في جريدة يومية ميتة لم يكُن يقرؤها أحد على الإطلاق، ولم تكُن تظهر في السوق، ولكنها كانت تطبع مائة نسخة لزوم استهلاك أعضاء الحزب والسفارات الأجنبية، وكان مغرورًا ككل فاشل، فاستعان بزميلنا إياه مديرًا لمكتبه، مع أن البيه رئيس التحرير نفسه لم يكُن في مكتبه شيء أكثر من المقال الفاشل الذي ينشره كلَّ يوم.
ودخلنا على صديقنا في الليل وفي البرد، واستقبلنا في مكتب فاخر، وأكثر من مدفأة تنفث الدفء في أرجاء المكان، وعلى الباب فراش مستعد، وطلب لنا الشاي ثم راح يشرح لنا ما خفي من عبقريته، وما هي العوامل اللازمة للنجاح؟ ولماذا تتوافر فيه هذه العوامل بينما لا تتوافر في أحد سواه؟
وقضينا الليل كله نسمع ولا نعلِّق، والحق أننا قضينا الليل بطوله نشرب الشاي وندخِّن السجاير ونستمتع بالدفء.
وفي الفجر غادرت مكتبه إلى الشارع، وغادره كمال العسلي إلى الصعيد.
كانت تلك هي آخِر ليلة لكمال في القاهرة قبل أن يغادرها لمدة عامين كاملين ثم يعود من جديد ولكن بعزم جديد وفِكر جديد وثقة بالنفس لا حدَّ لها.
فقد كان كمال قد حصل على جائزة الشعر، وكان ديوانه اسمه «الأنداء المحترقة» وقد استغرق الاسم ثلاث ساعات كاملة من وقت اللجنة لكي تتعقب الأصول اللغوية لكلمة الأنداء منذ فجر اللغة.
وفعلًا، عدت من جديد إلى النداء ولكن بمُرتَّب حقيقي، ثمانية جنيهات كلَّ شهر، ونصحني الرجل الفلاح أبو عصفورة الذي هو مدير الإدارة أن أنتبه جيدًا في عملي وأن أحصل على مناشت وهو جمع مكسر غير سالم لكلمة مانشيت!
ولقد وعدت بالحصول على مناشت كثيرة، وضحكت في سرِّي من جهله العظيم، لأنه لو كان قد اشتغل بالصحافة من قبل ولو لمدة يوم واحد لأدرك أن المانشيت يحصل عليه الصحفي المحترف المدرَّب مرَّة كلَّ عدَّة شهور!
وكانت حرب فلسطين قد هدأت وتوقف صوت الرصاص، وكفت صرخات الجرحى عندما أصبحت محررًا وله مرتب … ولقد بدأت العمل بسلسلة تحقيقات صحفية عن شهدائنا في المعارك، وقدمت أكثر هؤلاء الشهداء في لحظاتهم الأخيرة، وفي أكثر من عشرين صفحة كاملة وكان عملًا صحفيًّا مجيدًا رغم أن أحدًا من الناس لم يشعر به، حتى أُسَر هؤلاء الشهداء أنفسهم لم يشعروا لحظةً واحدة أن هناك مجلة سيارة تكتب قصص أبنائهم! ومع ذلك مضت الحياة هيِّنة لأول مرة، وشعرت لأول مرَّة في حياتي بأنني فعلًا قد أصبحت صحفيًّا، وشعرت أيضًا بواجب القيام بدور الصحفي النشيط في المجتمع! فأسهر حتى الصباح وأنام حتى الظهر، وأكتب في المساء، ثم أنطلق في الحياة بغير حدود!
وذات مساء هبط في مطار القاهرة زعيم من زعماء العالم، وعَلَم من أعلام الفكر والسياسة في العصر الحديث، وقائد لأمة من أكبر أمم أسيا والكرة الأرضية … هبط مطار القاهرة الزعيم نهرو، ولقد أُتِيح لي أن ألقاه مصادفة، وأن أحصل منه على كلام هزَّ مصر كلها هزًّا وأشعل نار معركة حامية الوطيس بين القصر والوفد، ولكن كيف الْتَقيتُ به وكيف دارَ الحديث بين الزعيم الكبير والصحفي الشقي الذي كان منظره يوحي لمَن يراه أنه تلميذ عابث أو صبي جرسون في كافيتريا المطار؟!
إنها قصة وقعت فعلًا، ولكنها أغرب من الخيال.
ولقد حدث لي خلال الأسابيع الأولى لعملي المستقر في الصحافة عدة حوادث هامة للغاية، سيكون لها أثر بعيد في نظرتي للأمور عامة وللحياة السياسية في مصر على نحو خاص … وكانت الحادثة الأولى تتلخَّص في أن رجلًا تركيًّا مهروش المخ أبله لا يكاد يفرِّق بين لاعب الكورة وحمار الوحش، وصل إلى مصر فجأة في زورق شراعي في طريقه إلى رحلة بحرية حول العالم … وما إنْ وصل التركي الأبله إلى القاهرة ورسا بزورقه على ضفة النيل الغربية بالقرب من كوبري الجلاء حتى ثارت ضجة هائلة في المدينة حول الأمير الأشقر الوسيم صاحب النظرات الحالمة والذقن المدبَّب، وتهافتت عليه بنات الطبقة الراقية (!!) حتى أصبح الأمير التركي ولا أمير من أمراء المماليك، دعوات وسهرات وحفلات وحوادث طلاق كل يوم وحوادث انتحار وحوادث هروب من بيت الزوجية … ثم حطَّ الأمير في النهاية على بيت الأمير محمد علي رءوف وأصبحت كل جهوده في دنيا الغرام حكرًا للأميرة نسل شاه أجمل وأشهى بنات أسرة محمد علي!
ولقد قُدِّر لي أن أرى هذا الأمير ذات ليلة من ليالي شهر يونيو الحارة حينما دعا سموه إلى مؤتمر صحفي على ظهر زورقه، ولم يكن في المؤتمر الصحفي سوى محرِّر آخَر مثلي وعشرات من مندوبي الإعلانات جاء كل منهم يسعى على رزقه، وبينما سكت أنا وزميلي الصحفي، راحت الأسئلة تنهمر على رأس الأمير من مندوبي الإعلانات، وسمو الأمير إياه يجيب وقد رسم على شفتَيه ضحكة عريضة بلهاء ليس لها مناسبة.
والحق أن الرجل كان تافهًا غاية التفاهة، جهولًا غاية الجهل، ولكنه كان في الوقت نفسه وسيمًا غاية الوسامة، جميل الصورة كأنه يوسف الصديق، مفتونًا بنفسه كأنه نجمة سينما عالمية مدلَّلة وكان يتمتَّع بشارب دوجلاس، بدا من النظرة الأولى أنه محور حياة صاحبه، وأنه أهم موهبة يتمتَّع بها الأمير.
ولقد كانت الأسئلة التي أخذت تنهمر على رأس الأمير الهايف أكثر هيافة من سموه، وكانت كلها من طراز، هل تنوي سموك مقابلة ملوك العالم؟ هل تنتهز هذه الفرصة لحل بعض المشاكل العالمية؟ ما رأي سموك في مشكلة فلسطين؟
ولقد أجاب سمو الأمير على هذا السؤال بجواب يليق بحجم المشكلة، قال سمو الأمير ونفس الابتسامة البلهاء مرتسمة على وجهه: مشكلة فلسطين بعدين مش تمام، بعدين لازم مشكلة فلسطين لازم! وقد أبدى أحد مندوبي الإعلانات إعجابه الشديد بالتصريح الخطير بأن صاح معجبًا كأنه من سمِّيعة أم كلثوم، الله، الله يا أمير! في الوقت الذي انطلقت منِّي ضحكة مجلجلة رغم أنفي، وقد انتهت الضحكة بشخرة غير متعمدة، ولقد تأزَّم الموقف للغاية ولكن سمو الأمير ضحك هو الآخَر وشخر، ثم قال وهو يهز رأسه: فلسطين … ها ها ها!
ولقد انتهى المؤتمر الصحفي بعد ساعة، وانصرف مندوبو الإعلانات بعد أن وقَّع الأمير على أذونات نشر تُدفَع بعد ذلك … وانصرفت أنا والصحفي الآخَر، ولكنَّه توقَّف عند الباب واستأذن مني لدقائق، ثم غاب عند الزورق وعاد والضِّيق يبدو عليه، وراح يزفر بشدة ونحن نتمشَّى على الشاطئ، ثم فجأةً قال في غيظ شديد، يلعن أبو الأُمَرا اللي بالشكل ده! واستطرد دون أن أسأله، قال أمير قال، دا شحَّات ولا يسوا، دنا رجعت له بحسب عنده دم، ولكن ولا حياة لمَن تنادي … أنا افتكرته هيناولني ظرف لكن لا فيه ظرف ولا حتى جواب.
وعندما سألتُه عن سر الظرف الذي ينتظره، قال في براءة: ظرف فيه فلوس، ما هي دي العادة، لما يكون راجل أمير زي ده لازم يفرق ظروف على الصحفيين، لكن دا باين عليه شحَّات! ولم يكُن سموه يبدو عليه في الحقيقة أنه شحَّات، ولكن كان يبدو عليه أنه نصَّاب، وأنه ولد حلنجي كما الثعبان، وأنه صايع تركي مغامر، استطاع أن يركب على أكتاف الطبقة المصرية الراقية (!) وأن يعبث بأجمل بنات تلك الطبقة وأن يتقاضى منهن الحساب!
ولقد كان يوم مغادرته مصر يومًا صعب وقفاته كما يقول مطرب الأرغول، خرجت مئات من البنات والنساء إلى الشاطئ ومناديلهن مبلَّلة بالدموع … وأغلب الظن أن الأمير الصايع ركن الزورق في ترعة المحمودية واستقلَّ أول سفينة إلى إسطنبول! بعد أن عاش في مصر عامًا كأعوام هارون الرشيد، وخرج منها بثروة تكفيه بقية العمر.
ولقد أدركت من خلال هذا الحادث البسيط أن الحياة في مصر عفنة إلى الحد الذي سمح لنصَّاب تركي وسيم أن يبيع فيها الكذب والحب، ولست أدري حتى هذه اللحظة ما الذي أعجب ستات الزمالك في هذا التركي الأبله؟ ثقافته أم درايته أم فهمه الواسع العميق؟ أم خفة دمه؟ أم لعلَّه الشارب الدوجلاس هو الذي جذب كلَّ هذا العدد الهائل من الستات الراغبات في البهجة … والبنات الساعيات إلى الفرفشة، خصوصًا إذا كان الرجل المفرفش يتمتَّع إلى جانب موهبة الشنب بموهبة أخرى هي لقب الأمير!
أما الحادثة الأخرى فكانت أعجب وأغرب، فقد تلقَّيتُ دعوة من صديق صحفي كان لامعًا تلك الأيام بأن أتوجَّه معه إلى حفلة شاي في الخامسة مساء في مكتب بشارع سليمان باشا، وقال يشجعني على الحضور أن علي ماهر باشا سيحضر الحفل، ولمَّا كانت ملابسي لم تكُن تسمح بحضور حفلة يحضرها رجل صاحب مقام رفيع فقد اعتذرت … ولكن الصديق ألحَّ وأصرَّ عليَّ أن أحضر … وقال يُغريني على الحضور … ستتعرف على الباشا في الحفلة وسيُفيدك هذا في عملك الصحفي.
وفعلًا ذهبت إلى المكان ومعي طوغان فقد كان معزومًا هو الآخَر … ولم نجِد هناك إلَّا سبعة أشخاص يبدو عليهم جميعًا أنهم من الطلبة … وثلاثة أشخاص في المعاش، علمنا بعد ذلك أن أحدهم عضو في مجلس النوَّاب عن دائرة في الصعيد، ثم خمسة من محرِّري الصحف الغلابة أمثالنا، ورغم هذا العدد الضئيل من الحاضرين فقد كانت الموائد عامرة بكل أنواع التورتة والجاتوه والفواكه … وبدا على الحاضرين جميعًا عندما بدءوا في شرب الشاي أنهم لم يتذوَّقوا طعامًا على الإطلاق منذ أول أمس!
وراح بعضهم يرشف بصوت عالٍ، وبعضهم يمضغ بطريقة مقزِّزة كأنه طاحونة دبش فوق جبل المقطم، وفجأةً قطع عليهم لذتهم دخول علي ماهر فجأة، وترك الجميع الأكل والرشف والزلط جانبًا ووقفوا يصفقون للباشا الأنيق الذي ارتسمت على محيَّاه تعبيرات صارمة كأنه روميل على أبواب معركة العلمين!
وفجأةً قال الباشا يخاطب الحاضرين يا شعب مصر، لقد دقَّت ساعة البداية وحانت ساعة العمل، وإني أعلن عليكم قيام جبهة مصر، لتعمل على تطهير البلاد، ونموها السريع، وإقرار السلام والعدل في ربوع العالم! وعليكم (يقصدنا نحن) أن تتمسكوا بمبادئ جبهتكم، وأن تناضلوا «برضه إحنا» نضال الأبطال من أجل تحقيق برنامجكم، وسننتصر بإذن الله وبفضل تضحياتكم «إحنا أيضًا»!
ولمَّا كنتُ لا أنوي التضحية بأي شيء! ولأنني كنت أحبُّ مصطفى النحاس ولا أحد سواه، ولأنني كنت أرى أن علي ماهر رجل مثل مدينة طنجة، على الحياد في كل شيء، فقد أدركت أنني لست المقصود بكلمة أنتم، ولذلك نظرت خلفي، فإذا بالخمسة عشر شخصًا الآخَرين ينظرون خلفهم بحثًا عن هؤلاء الذين سيؤمنون أولًا ثم يُضحُّون بعد ذلك! وخرجت دون أن أهتم بما جرى، وحسبت الأمر كله حفلة شاي وهزار ورجل وزير طيب أطعمنا دون أن يريد منا جزاءً ولا شكورًا!
ولكن في صباح اليوم التالي خرجت الصحف اليومية بعناوين بارزة للغاية وعلى عرض الصفحة، علي ماهر يعلن تأليف جبهة مصر، الجماهير الغفيرة تحضر المؤتمر وتعاهد علي ماهر على الالتفاف حول مبادئ الجبهة والتضحية من أجل النصر! حشود غفيرة! هل كان بين الخمسة عشر رجلًا واحد اسمه حشود وأبوه اسمه غفيرة! أين هذه الجماهير التي عاهدت والتي ضحت؟
أغرب شيء أن بعض الجرائد نشرت صورة الباشا وهو يخطب ثم صورة الخمسة عشر رجلًا وهم يُصفِّقون، وعلى هذه الصورة قام حزب جبهة مصر بزعامة علي ماهر باشا، ولكنه قام لينفض! ولفظ الحزب أنفاسه قبل أن ينتهي علي ماهر من إلقاء خطابه الخطير في الحفل!
هكذا إذَن تصور الجرايد ما يجري في الحياة للناس … أمور كلها نصب واحتيال وأحسن من السرقة وكافة شيء يغضب الرحمن.
أمَّا الحادث الثالث فقد هزَّني بعنف، وقلب أمعائي من الداخل كأنه طعام فاسد، ولقد كان بطله صديقًا صحفيًّا شابًّا طيِّبًا وساذجًا، وقد همس في أذني ذات صباح أنه أصبح مكافحًا وطنيًّا وأنه أصبح عضوًا في منظمة شيوعية اسمها حدتو … ولقد كنت تلك الأيام أسمع عن الشيوعيين في مصر وأنفر منهم، ولكني كنت معجبًا بهم على نحو ما.
وقال صديقي أنه سيتسلم هذا الصباح منشورات تدعو إلى الثورة ضد النظام الملكي، وأنه سيتولى قيادة منطقة في وسط القاهرة، وأنه سيكون مسئولًا عن أربع خلايا، كل خلية مكوَّنة من أربعة أفراد، وراح يحكي لي عن هدف الثورة القادمة، وبرنامج المنظَّمة، وكفاحها وتاريخها الحافل الطويل!
ولقد اندهشت لهذا التطوُّر المفاجئ الذي طرأ على صديقي، فلقد كنت أعرفه حق المعرفة، وكنت أعلم أنه يؤمن في السياسة بالظهور في الصور إلى جانب الزعماء دون أن يكون مؤمنًا بمبادئ هؤلاء الزعماء، وكانت بوصلته تبدو دائمًا خربانة في بحر السياسة المصرية الهائج المتقلِّب، ولذلك كان فاقدًا الاتجاه الصحيح في كل الأحيان … ورغم هذا كله فقد صدَّقتُه، وذهبتُ معه وانتظرنا أكثر من ساعة عند باب سينما مترو حتى أقبل في النهاية شاب أصلع يضع نظارات طبية بشنبر سلك رفيع ويرتدي بدلة قديمة خفيفة رغم الشتاء القارس، ويتأبَّط رزمة أوراق ملفوفة بعناية في جريدة قديمة، وعندما أصبح في محاذاة صديقي غمز له بعينه فمضى هذا خلفه بحركة لا إرادية كأنه منوَّم مغناطيسيًّا … وانحرفا معًا داخل عطفة في نهاية شارع سليمان باشا، ثم سلمه الأوراق ولم يتبادلا كلمة واحدة وافترقا على الفور.
وراح صديقي الذي أصبحت الأوراق في عهدته يمضي سريعًا في الشارع دون أن يخاطبني بكلمة، وبدت عليه أهمية مفاجئة كأنه عمرو بن العاص على أبواب مصر، وعندما حاولت التحدُّث إليه شخط شخطة عنترية وأمرني بالصمت، وراح يضرب على غير هدى حتى وصلنا إلى ميدان باب اللوق، وركبنا الترام معًا لكن في صمت وفي مقاعد متباعدة … وكان صديقي ينظر باهتمام شديد إلى كل راكب جديد يصعد الترام ثم يغمز لي بعينه مؤكدًا لي عن طريق الإشارة أنه مخبر نشيط يتعقبه!
ورحنا نعبر شوارع الجيزة وحواريها حتى وصلنا إلى منزل صديقي، وصعدنا في حذر وأغلقنا الباب، وتنهَّد الصديق بعمق وزفر زفرات حارة وبدا كأنه تخلَّص من كابوس شديد … وعاد من جدد يحكي لي قصة كفاحه وجهاده! ثم سألني في براءة منقطعة النظير … مش لمَّا الشيوعيين ياخدوا الحكم أنا أبقى رئيس تحرير؟ ولم أُجِبه بشيء، وسألته أنا الآخَر عن مصدر المنشورات التي معه، وفوجئت بأنه لا يدري، وأنه يعاني من وجودها معه، وأنه يخشى لو تركها في البيت أن تُضبَط هناك ويكون مصيره السجن لا محالة … ثم صمت طويلًا قبل أن يقول: إيه رأيك لو حرقتها؟
ولم يكُن ينتظر منِّي جوابًا، كما لو أن سؤاله هذا لم يكُن سؤالًا، ولكنه كان قرارًا أصدره وانتهى الأمر، وفعلًا نهض الصديق وأحضر علبة كبريت وراح يحرق الأوراق الخطيرة أمامي … وفجأة والدخان يعمي عيوننا انطلقت مني ضحكة رغم أنفي، ضحكة طويلة عميقة صافية، كانت هي خير تعليق على الرواية كلها، وسألني صديقي وهو يغالب الضحك، أنت بتضحك ليه؟ وقلت في هدوء: إنت يظهر مش في منظمة حدتو، أنت في منظمة حرقتو!
وضحك هو الآخَر، ثم ظلَّ يحرق الأوراق في هدوء وبأعصاب قاتل محترف معتاد!
أما الحادث الأخير فقد كان أنكى وأمر!
أوفدتنا المجلة الوفدية التي نعمل بها إلى المنصورة؛ لنقوم بعمل تحقيق صحفي عن أملاك إبراهيم عبد الهادي باشا رئيس الوزراء السعدي، وذهبت ومعي صديقي حلمي للصحفي إياه الذي كان معنا في دار الهلال، والذي ترك العمل هناك وتفرغ للعمل في مجلة النداء وبمرتب ثمانية جنيهات كلَّ شهر.
ولم أفهم السبب الذي دعا مدير التحرير إلى الإصرار على ضرورة سفره معي، مع أن هذه الأمور لم تكُن ضمن اهتماماته … ثم اكتشفت بعد ذلك بزمن طويل أن مدير التحرير اقتسم معه قيمة بدل السفر، وأن حلمي وعده بهدية زبدة فلاحي عند عودته من المنصورة! كانت الرحلة ناجحة وموفقة لولا تصرُّفات الأخ حلمي … ففي أول لقاء لنا مع عمدة طلخا وهو نائب وفدي متحمِّس أقسم الرجل أن نقضي الليل في منزله، ولكني اعتذرتُ له بشدة، وأخيرًا وافق الرجل على أن يتركنا نمضي وشأننا، وعند باب الدوار دسَّ العمدة يده في جيبه وأخرج أوراقًا مالية دسَّها في يد حلمي، وتناولها حلمي على الفور ورفع يده نحو السماء وراح يدعو الله على طريقة الشحاتين: إلهي ما يجوعلك كبد ولا يعرِّيلك جسد يا حضرة العمدة! وعندما عاتبته على هذا التصرُّف المعيب، راح يُلقي على مسامعي محاضرة طويلة عن أسلوب التعامل مع الناس والسلوك الطيب في الحياة، وكانت خلاصة مفاهيمه أن الحياة تعاون، وأن الناس في خير ما تعاونوا!
ولقد قضينا في المنصورة عشرة أيام كاملة … ارتكبنا فيها كلَّ الجرائم واستعملنا كل الوسائل، حتى حصلنا على كلِّ المستندات الدالة على استغلال الباشا لنفوذه؛ كي يضمن لأرضه الري المريح والخصب الدائم.
مستندات حكومية أشبَه بالروايات الكوميدية! مستندات تحمل توقيعات الباشا رئيس الوزراء، والباشا وزير الأشغال والبيه مدير الري والأفندي الملاحظ والولد الغفير!
وفي آخِر ليلة لنا في المنصورة جاء الموظف الذي سرقنا الدوسيه من عُهدته يبكي ويلطم في اللوكاندة ولكننا ادَّعَينا البراءة، وأبلغناه أن الدوسيه أُرسِل إلى القاهرة، وطلبنا منه أن يصحبنا إلى المجلة ووعدناه بردِّ الدوسيه وبمكافأة كبيرة!
وفي تلك الليلة الأخيرة أيضًا حدث للعبد لله حادث غريب للغاية، فقد كان يسكن في الحجرة المجاورة لحجرتنا في اللوكاندة رجل في حوالي الستين من عمره، يرتدي جلبابًا وبالطو أصفر وطربوشًا ويضع تحت الطربوش منديلًا محلاويًّا عريضًا، ويمسك في يده بمظلة، وكانت معه زوجته وهي في السادسة والثلاثين من عمرها، شابة مليحة ممتلئة عفيَّة، جمالها متوحِّش، نظراتها وحركاتها كأنها لبؤة تبحث لها عن أسد جامد وقوي وخطير … وكان صديقي حلمي الذي تجذبه رائحة النساء من على بُعد ألف ميل قد لضم معها في كلام ليس له مدلول!
وجلست أنا ليلتها مستمعًا، وكنت لم أزَل صبيًّا في الثانية والعشرين من العمر، ولقد لفتَ نظري ليلتها أن المرأة العفيَّة المستوية كانت تختلس النظر نحوي بين الحين والحين، وكان لوقع نظراتها تأثير عجيب على نفسي، فقد كانت عيناها واسعتين عميقتين سوداوين ولامعتين كأنهما من الزفت المغلي!
المهم أنني في تلك الليلة الأخيرة الْتَقيتُ بالمرأة في بهو الفندق المتواضع، وكان الزوج في الخارج وكان من عادته أن يخرج كل صباح ليعود في المساء، ويظلُّ يسعل حتى تنقطع أنفاسه ويسقط مُغمًى عليه من شدة السعال! وتفاهمنا بسرعة أخذت تشكو وتضج بالشكوى من الْتهاب في الأعصاب، وراحت تحكي للعبد لله وهي تبكي كيف أرهقها المرض إلى حد أن الزوج اصطحبها معه إلى المنصورة لتشم الهواء وتسرِّي عن نفسها قليلًا، ولكنه جاء بها إلى البندر وتركها في اللوكاندة وانشغل عنها بأصدقائه في المنصورة.
وفرحَت الست لهذا الوضع وسرحَت هي على كيفها، وكانت ليلة ليلاء انتهت بزغرودة طويلة من الست المشتاقة إلى ذكر يروي عطشها الشديد إلى الحنان والحب والمتعة! وأدركتُ سرَّ انشغال زوجها عنها في المنصورة … لعلها حركة ذكاء من جانبه … ولعلَّ كل شيء يدور من خلف ظهره وهو يدري!
المهم أننا عدنا في الصباح إلى القاهرة. وقابلنا صاحب المجلة الوفدي وسلمناه فضيحة رئيس الوزراء السعدي، ولكن هذا الموضوع اختفى إلى الآن فلم يُكتَب له أن يُنشَر قط!
يبدو أن الفساد كان سِمة العصر، وما يحدث في جانب حزب السعديين يحدث مثله في جانب حزب الوفد!
ولقد علمت بعد ذلك بسنوات أن الموضوع كله سلَّمه صاحب المجلة لرئيس الوزراء وقد تمَّت الصفقة بين الطرفَين وانتهى الأمر … وضاع الموظف المسكين ففصلوه بعد ذلك، وضاع نشاطنا الصحفي الرهيب فلم يُسفر إلا عن خيبة الأمل والفشل والهم!
وعدتُ من جديد أدور في نفس الساقية التي أنا مربوط إليها! عُدتُ أكتب أي كلام وأنشر أي شيء وذات يوم فوجئت بأنني في المحكمة فقد قاضاني أحد القرَّاء المشاهير الكبار … وكنت قد كتبتُ عنه كلمة ساخرة وقصيرة وقلت بالحرف الواحد، والشيخ فلان يشرب الكوكولا … و… ويدخِّن السجاير و… هل أقول؟ لا، فأنا شخصيًّا من عشاق الشيخ! وكانت هذه أول قضية صحفية في حياتي، ولقد علمتني الكثير وزودتني بتجارب غنية ولكن يوم نظر القضية لم يغمض لي جفن، وظللت طول الليل أفكر في المصير الأسود الرهيب الذي سأنتهي إليه!
وذات مساء هبط مطار القاهرة المرحوم نهرو، كما قلت، ولم يكُن في استقباله سوى حكمدار القاهرة مندوبًا عن رئيس الوزراء، وعدد من الصحفيين وموظفي السفارة الهندية، ورجل اسمه فخر الدين كان يمثل أندونيسيا في القاهرة، وكانت بلاده في ثورة ولا ثورة فيتنام هذه الأيام!
وكنت أقف في المطار إلى جانب فخر الدين وطوغان، وكان منظري لا يسرُّ عدوًّا ولا حبيبًا، بدلتي شتوي رغم أننا كنا في عز الصيف، وجيوبي منتفخة بأوراق ليس لها لزوم، وفي يدي أوراق وأقلام لزوم الصحافة، وتقدَّمت نحو المرحوم نهرو وصافحتُه وسألته باللغة الهندية عن الصحة والأحوال، فابتسم نهرو وربت على كتفي وشدني من يدي معه إلى استراحة العظماء، وانخدع الحكمدار فظنني مسئولًا كبيرًا في سفارة الهند، أو لعلَّه ظنَّ أنني عميد الجالية الهندية في القاهرة، وأنني ممصوص وممقوت من أثر الجهد البالغ أيام الكفاح! المهم أن الحكمدار الطيِّب رفع يده تعظيم سلام للعبد لله. وأغرب شيء أن نهرو هو الآخَر انخدع مثل الحكمدار، فقد ظنَّ أنني أحد كبار المسئولين المصريين بدليل أن الحكمدار مندوب رئيس الوزراء قد رفع يده للعبد لله بالتحية والإجلال، وجلستُ في استراحة العظماء بين نهرو والحكمدار ساعة زمان، ونهرو يتكلَّم في السياسة ويتكلَّم في أمور الحياة، وكانت في مصر معركة حامية الوطيس على الضمان الجماعي العربي، وقال نهرو كلامًا ضد هذا الضمان ثم نهض ووقف إلى جانب الطائرة وقال كلامًا شاعريًّا لم أفهمه، وصافحنا جميعًا ثم ركب الطائرة وانصرف في سلام!
وقضيت ساعة مع فخر الدين في المطار أسأله عن الكلام الذي قاله نهرو في استراحة العظماء، ونقلت الحديث كما ذكره فخر الدين، ثم قضيت الليل بأكمله في بوفيه بمحطة السكة الحديد، ثم توجَّهت ومعي الحديث إلى جريدة صباحية كبرى، وعندما اطَّلَع مدير التحرير على الحديث رحَّب بي بشدة … ولكنَّه رفض نشر الحديث إلا إذا حصلت على توقيع من السفارة الهندية بأن الحديث صحيح وأنهم لا يمانعون في نشره!
وأخذت بعضي وتوجهت إلى دار السفارة الهندية واكتشفتُ أنه لا يوجد بالسفارة سوى موظَّف هندي فعلًا لا يعرف من العربية حرفًا! ولمَّا أوضحتُ له المسألة برمتها، وشرحتُ له الموقف بصراحة، وافق على الفور على نشر الحديث ووضع خاتم السفارة على الأوراق كلها.
وهكذا نُشِر الحديث فعلًا في أكبر صحيفة يومية في مصر ولكن بلا توقيع، وقد أحزنني هذا الموقف بشدة، ومع أنهم منحوني عشرة جنيهات في الحديث، إلا أنني تمنَّيتُ أن أدفع عشرة جنيهات أخرى وأضع توقيعي أسفل الحديث!
فلقد كان هذا العمل هو أول خبطة صحفية في حياتي، ولقد أقام الدنيا وأقعدها بعد ذلك، وهاجم صدقي باشا السراي واستشهد بالحديث، وهاجم جلاد باشا صدقي باشا في جريدة الزمان، ولم يكتفِ بهذا بل هاجم نهرو أيضًا … وأصبحت أزمة دولية كبرى، واضطر نهرو بعد أسبوعين من نشر الحديث إلى تكذيبه وهو في باريس، وقال للصحفيين الفرنسيين: لا أذكر أنني الْتَقيتُ بصحفي مصري في مطار القاهرة.
وكان نهرو على حق، فهو لم يعرف لحظة واحدة أنني صحفي … ولا الحكمدار المصري مندوب رئيس الوزراء كان يعلم صفتي.
ولكن الجريدة اليومية الكبرى الْتَقطَت القفاز كما يقولون، وتحدث نهرو ونشرت الحديث مختومًا بخاتم السفارة، واضطرَّت السفارة إلى السكوت فلم تعلِّق على الموضوع بشيء!
ولقد خُيِّل إليَّ أن حديث نهرو فرصة للعمل في الجريدة … ولكنهم رفضوا بشدة، واقترحوا أن أعمل معهم بالقطعة … وهو نظام كان يجعل من الصحفي شيئًا يشبه الشيَّال في محطة مصر، فأنت عليك كل الواجبات نحو الجريدة … ولكن ليس على الجريدة أي واجب نحوك … وبينما لا تستطيع تمثيلها أو التحدُّث باسمها في أي مكان فإنك تستطيع أن تنشر فيها إنتاجك، وضع مقلوب رفضتُه بشدة أنا الآخَر وعُدتُ للعمل في هدوء في مجلة النداء.
وذات يوم تلقَّيتُ دعوة من صديقي فخر الدين لحضور حفلة استقبال كبرى في فندق سميراميس احتفالًا بإعلان استقلال إندونيسيا، وكانت أول مرَّة أدخل فيها سميراميس، وأول مرَّة أيضًا أحضر فيها حفلة استقبال من هذا النوع، ولذلك دخلتُ الحفل أتلفَّتُ خلفي كأنني فلاح يدخل بيت العمدة لأول مرة.
وأحسستُ بخجل شديد عندما رأيتُ كلَّ الرجال في ملابس أنيقة، وكل النساء في رشاقة الطاووس، ولمحَني فخر الدين فأقبل نحوي وسحَبني من يدي ووقف يتكلَّم معي عدة دقائق، ولكنها كانت كافية لإعادة الثقة إلى نفسي!
ووقفتُ في الحفل وحيدًا بعد ذلك حتى افتُتِح البوفيه … فاتجهت نحوه في خوف شديد كأنني ذاهب إلى مدرِّس اللغة العربية … وعندما رأيت إدجار جلاد باشا استأنستُ ووقفت إلى جواره … ولم أكُن أعرف جلاد باشا ولم يحدث أي لقاء بيننا من قبل … ولكنها الخيبة العريضة أوحَتْ إليَّ أنه ما دام جلاد باشا صحفي، وما دام وجهه مألوفًا لديَّ فهو أهوَن من الآخَرين الذين يملئون الحفل … ورحت أزحف خلفه ألتقط من البوفيه نفس الأشياء التي يأكلها، واكتشفتُ أن كلَّ شيء الْتَقطَه كان مملحًا، ومع ذلك لم أجرؤ على أن أتناول شيئًا آخَر … وعندما جاء دور الشاي طلب الباشا فنجال شاي بدون سكر … وكذلك فعلت أنا الآخَر … ووقفت أتجرَّع فنجال الشاي كأنه سم أزرق.
واكتشفتُ بعد ذلك بسنوات أن جلاد باشا مريض بالسكر بينما كنت أنا أشكو من مرض الملح!
وعندما خرجتُ من الحفل الفاخر توجَّهتُ إلى أقرب مقهى في ميدان التحرير وطلبت واحد شاي بسكر ثقيل لكي أكسر سم الشاي الآخَر الذي شربتُه هناك … ولعلَّها كانت أول حفلة وربما الأخيرة ولسنوات قادمة.
وفي هذا العام تألفت وزارة جديدة برئاسة حسين سري باشا لإجراء انتخابات جديدة، وخاض الوفد الانتخابات بكل قواه … وتقدَّم للترشيح عدد من كبار الصحفيين كان أحدهم رئيس تحرير الجريدة اليومية الكبرى إيَّاها التي نشرت بها حديث نهرو، وأصدرت المجلة ملحقًا يوميًّا عن الدايرة وتولَّى الإشراف على تحريره زكريا الحجاوي، ثم تطوَّر الملحق خلال المعركة إلى ملحق للجريدة وعهدوا بالإشراف عليه إلى محرِّر آخَر، وقبلت العمل في الملحق الجديد بالقطعة، وسافرت إلى الإسماعيلية مع محرِّر آخَر اسمه هلال كان أشقر مثل عساكر الاحتلال، طويلًا وطيبًا وساذجًا على نحو ما، وكان يعمل بالصحافة بدون حماس وبلا طموح وكان كل آماله أن يزيد دخله عدة جنيهات تُعينه على الحياة في مستوى أفضل! وكان يعمل مدرِّسًا للغة الفرنسية في إحدى المدارس الثانوية وكان يبدو فخورًا ومتعاليًا بمهنته الأخرى، وكنا إذا دعوناه للسهر معنا اعتذر عن القبول؛ لأنه على حدِّ تعبيره «مانا مش زيكوا برضه، أنا مدرس ثانوي»! وكانت عبارة أنا مدرِّس ثانوي هذه يردِّدها في كل مناسبة، وأحيانًا كان يردِّدها فقط دون مناسبة على الإطلاق.
المهم أنا ذهبتُ مع هلال إلى الإسماعيلية لنكتب موضوعًا عن المدينة المصرية التي يدخلها المصري بجواز سفر ويحكمها إنجليز، وكانت الإسماعيلية في ذلك الزمان نسيج وحدها بين مدن مصر، كان الإنجليز يسكنون أغلب عماراتها وكانت الحياة تسير داخل المدينة على نحو إنجليزي، وحتى المارة في الشوارع جميعًا إنجليز!
وفي الليل كانت الإسماعيلية تنقلب إلى كباريه، العساكر يرقصون في الشارع، والضباط الإنجليز يرقصون في البارات، الغناء إنجليزي والصراخ إنجليزي، كأننا في مدينة مارجيت على شاطئ بحر الشمال! وقضينا الليل في بار اسمه بيكاديللي، وفجأة وقع بصر هلال على ولد أسترالي كما فحل الجاموس المعتبر جالس وقد فتح صدره وبان الشعر الكثيف يغطِّي جسمه! ويداه المفتولتان القويتان تتدلَّيان بجواره وقد غطَّى الذراعين وَشْم أخضر شديد الاخضرار، نبات أشجار ونخيل، وقد تدلَّى رأسه الكبير على صدره وراح في نوم عميق، ومع الولد الأسترالي الفحل، تجلس بنت سنيورة جاويش في الجيش، ما أحلاها وما أطعمها!
ونهض هلال كالضبع، وتوجَّه نحو البنت الجاويشة، وجلس على المقعد المجاور، وسأل البنت كام سؤال، والبنت تسمع وتجيب، ثمَّ سألته بعد فترة: لماذا هذه الأسئلة؟ وقال هلال: أنا صحفي في القاهرة وسأنشر حديثك! واعترضت البنت لأنها مجرَّد جاويش في الجيش وطلبت منه أن يذهب إلى القائد البريطاني … ويبدو أن البنت كانت ساذجة وكانت صادقة، وحسبها هلال بنت عايقة ولئيمة وشقية، فأقسمَ لها بدون مناسبة أنه لا يُجري حديثًا إلا معها؛ لأنها في الواقع وبالنسبة لهلال أعظم من كل ملوك إنجلترا!
واستيقظ الولد الأسترالي على صوت هلال المسرسع، فنظر نحوه بنصف عين ثم أشار له برأسه بأن ينصرف، ثم لم يلبث أن نام من جديد.
ولم يهتم هلال بالولد الأسترالي وعاد إلى مناقشة البنت الحلوة، ولكن الأسترالي استيقظ مرَّة أخرى ونهر هلال وأمَرَه بالانصراف ثم نام وارتفع شخيره في الفضاء، ولكن هلال مضى في طريقه مع البنت، غير أن البنت أبدَت نفورًا من هلال فسَّرَه هو لخيبته بأنه مجرَّد دلال، وعندما استيقظَ الفحل الأسترالي للمرة الثالثة، كانت البنت يبدو عليها الضِّيق الشديد ولم يتكلَّم الأسترالي هذه المرَّة ولم يحتج، فقد أعذر من أنذر، رفع يده الغليظة وطاح بهلال فإذا به مع المقعد خارج بكاديللي، وإذا بهلال حمامة في الطريق إلى محطة الإسماعيلية والواد الأسترالي خلفه وأنا خلف الجميع وصوت هلال للجو، وصوتي أنا الآخَر يرنُّ حتى أبو صوير.
ولسوء حظي انتبه الواد الأسترالي إلى أنني أجري خلفه، فظنَّ أنني أريد به سوءًا فانحرف نحوي فجريت في الظلام نحو منتصف الشارع، ولم ألحَظ أن بالشارع حديقة وأنها مُحاطة بسياج، لهذا انكسرت رجلي على هذا السياج، ولكنَّه كان قدرًا أخف من قدر كما تقول أمي، فقد انكسرت رِجلي ولكني أُنقذت من الموت بأعجوبة! إذ إنني عندما سقطت على الأرض، لم يرني الواد الأسترالي فاستأنف سعيه خلف هلال!
ولقد قمت بعد ذلك أحجل كالغرب إلى لوكاندة بسطا. وعندما الْتَقيتُ بهلال ضحكت حتى كدت أموت بالاختناق، فقد كان منظره يُضحك الأرامل … وجهه شوارع، وبدلته تحولت إلى هرابيد، والدم يغطِّي كل جزء في جسمه، ثم يا للهول هلال أفندي المدرس الثانوي يبكي! وقضينا الليل في قسم البوليس، ورغم أننا ذهبنا إلى البيكاديللي في صحبة أحد الضباط فإن الولد الأسترالي رفض أن يذهب معنا إلى القسم، وفي النهاية كاد يعتدي على ضابط البوليس نفسه!
ولم أرَ هلال منذ تلك اللحظة لا أعرف أين ذهب ولا أدري أين ذهبت به الأيام! ولذلك كتبت أنا موضوع الإسماعيلية ونُشِرَ باسمي وفي تلك الليلة التي علمت فيها أن اسمي سيُكتَب في الجريدة الكبرى ظللت ساهرًا حتى الفجر في محطة السكة الحديد، أنتظر الجرائد حتى تُصدَر، وعندما حصلت على نسخة من الجريدة توقفت تحت عمود نور أقرأ المقال وأقرأ اسمي، ورغم أن اسمي كان أسفل المقال، وبالبنط ٩ الذي لا يُرى إلا بصعوبة، فقد أحسستُ بلذة لم أشعر بها في حياتي، لا قبل ذلك ولا بعد ذلك.
ورحت أقرأ المقال عدَّة مرات، فأحسستُ بأنني أكاد أهمُّ بالطيران وأحلِّق في الجو، ثم رحت أتمشى نحو الجيزة، وأثناء المشي رحت ألتهم المقال! وجفا النوم عيوني تمامًا فظللتُ سائرًا حتى سقطت في المساء مُغمًى عليَّ، رغم أنني تقاضيتُ على المقال ثلاثة جنيهات فإنني اعتبرت نفسي من كبار الصحفيين! ورحت أتردَّد على نادي العوالم في آخِر الليل حيث كان يسهر هناك بعض الفتوات وبعض الصحفيين وبعض الفنانين!
وكانت الانتخابات في عنفوانها، وأخبار اليوم تشنُّ حملة صحفية على حزب الوفد أفقدت حزب الوفد نفسه الثقة في نفسه! واتهمت الحزب بالفساد والرشوة واتهمت رئيسه بكل ما يشين الرجال … وانتهت إلى أن الجماهير قد انصرفت عن الوفد إلى أحزاب الملك والأقلية … ولكن نتيجة الانتخابات كانت مذهلة … فقد اكتسح الوفد جميع الدوائر، وانضم الشعب بجميع طوائفه إلى حزب الوفد، وعاد النحاس إلى الحكم، وأصبحت الجريدة اليومية الكبرى مُنتدًى لرجال السياسة والحُكم والفن!
وأصبحت سهرتي كلَّ مساء في حديقة دار الجريدة … ومن خلال هذه السهرات تعرَّفتُ على فنان مصري متشرِّد وأصيل، ونموذج لن يتكرَّر، حياته تكاد تكون متشابهة مع حياتي مع فارق واحد هو أن حياته أعرَض وأخصَب، ولقد توثقت الصلة بيني وبينه بسرعة … ومن لحظتها، ولكنني أحببته دومًا، ولقد أحببت فيه شجاعته وانفعاله الدائم وقدرته الفذة على مواجهة المشاكل وطاقته التي بلا حدود، واقتحامه لأصعب المسائل ببساطة المقامر الفنان … وكان الرجل وقتئذٍ صاحب ألمَع الأسماء في الحقل الأدبي، وكانت برامجه في الإذاعة سريعة الانتشار وكان صاحب صِيت يدوي كالطبل في أنحاء مصر والعالم العربي … وفي أول ليلة سهرت فيها معه أنفق أكثر من عشرة جنيهات … ثم اقترض مني عشرة قروش ليدفع أجرة التاكسي!
وربما لهذا السبب أحببت عبد الرحمن الخميسي وصادقته، ولأنه كان متفائلًا رغم ظروفه السيئة … لا يبالي بما سوف يحدث غدًا رغم أعبائه المالية الضخمة … وفي تلك الأيام كان الخميسي غارقًا لشوشته في حب شجرة، ثم تحوَّل عنها إلى حب طالبة في الجامعة، وكان يبكي كلما تذكَّرَها، ثم يعكف وحده أحيانًا لتأليف قصائد غزل في الحبيب الذي يتبغدد!
ولقد اهتمَّ الخميسي بكتاباتي وأسدى لي النصيحة بإخلاص، واقترح عليَّ مرة أن أكتب قصة … ولكني زعمت له أنني لستُ من هواة القصة، وأخفيت عنه أنني أكتب القصة فعلًا ولكني لا أنشرها … ثم فجأة تحوَّل الخميسي عن مجراه لسبب لا أدريه وتخلَّى عن أسلوبه الرومانسي وراح يكتب بطريقة تعليمية أقرب إلى الخطابة منها إلى الفن الذي كان طابعه القديم.
ولم أشعر بالارتياح تجاه أسلوبه الجديد … ولكنه عندما دخل معركة صحفية مع محمد التابعي حول الفن والجمال … ارتحت لرأي الخميسي وإن كنت قد أعجبت بأسلوب محمد التابعي … ثم اختفى الخميسي بعد ذلك فلم نعُد نراه ثم علمنا أنه تزوَّج … ولكنه قبل أن يفارقنا إلى بيت الزوجية كنت قد تعرَّفتُ من خلاله على أعداد وفيرة من المثقفين والصحفيين والفنانين … فقد كان واسع الاتصال بالناس، على صِلة صداقة متينة بالألوف من جميع الأوساط والطبقات … مولعًا بالموسيقى والغناء … ولكن أغرب أصدقائه على الإطلاق كانوا من الذين ضيَّعَتهم الأيام … هؤلاء الذين حلموا يومًا بالمجد والنجاح والشهرة ثمَّ انكسروا أمام التحديات، وكان يبث في هذا النوع من الناس الأمل، ويجدِّد فيهم الثقة رغم تأكده من أنهم لا يصلحون لشيء … ولكنه كان يسعى دائمًا لكي يوجد لهم أعمالًا مستقرة … ولكن أحدهم رفض كل الأعمال التي عُرِضَت عليه، وفضَّل أن يبقى إلى جانب الخميسي ولا يزال يتبعه كظله حتى الآن! ولعل هذه الميزة هي أبرز ميزة في الخميسي، ميزة المسح بعطف على جراح الفاشلين والساقطين في الحياة.
ولكن أبرز رجل عرفتُه من خلال الخميسي، كان صحفيًّا وشاعرًا وكاتبًا وفنانًا وظريفًا، وكان رجلًا ولا كل الرجال، وكان مرآة متحرِّكة لمصر تلك الأيام، وكان بعضًا من تاريخها وقبسًا من روح مصر الذكية القلقة العابثة على نحو ما … وأدركتُ أن الخميسي، يحب كامل الشناوي لنفس الأسباب التي أحببتُ من أجلها الخميسي، ثم علمت بعد ذلك ومن الخميسي نفسه، أن لكامل الشناوي أفضالًا كثيرة عليه … وعند أول لقاء لي مع كامل الشناوي عاملني بازدراء شديد، وأهملني بشكل يكاد يكون متعمدًا، وفي اللقاء الثالث سألني عن مسقط رأسي فلما أجبته: المنوفية … قال مندهشًا: أنت أول فنان تنجبه المنوفية! وعندما استنكرت ذلك بشدة، وعدَّدتُ له أسماء عشرات الفنانين المشاهير وكلهم من المنوفية، نظر نحوي في احتقار ممزوج بالطيبة … وقال وهو يهز رأسه: أنا باقولك فنان … فنان … فاهم؟ اللي انت ذكرتهم دول كلهم شعراء، وكتَّاب، ولكن مش فنانين … فاهم؟ وعندما لم أتكلَّم، قال بصوت خفيض: انت مش فاهم حاجة أبدًا!
لم تكد تمضي أسابيع على عملي في الجريدة الكبرى حتى صدمت صدمة كبرى في أحلامي، فلقد كانت الجريدة مجرَّد بناء أجوف، وهرم من الرمال الناعمة، وكانت الأوضاع فيها أكثر اعوجاجًا منها في أي مكان آخَر، وتعرَّفت خلال العمل على عشرات من أصحاب الأسماء اللامعة حياتهم أكثر بؤسًا من حياتي، ومرتباتهم لا تكاد تكفيهم ثمن الدخان والشاي، وعشرات من الموهوبين الأصلاء لا يجدون حتى هذا الأَجْر التافه.
ولكن في الناحية الأخرى كان هناك عشرات من الهلافيت التافهين كل مواهبهم أنهم أصدقاء صاحب الجريدة وأنهم يسهرون أحيانًا معه يقصون عليه أحدث النكت وآخِر أنباء المجتمع، ويتقاضون مقابل ذلك مئات الجنيهات باعتبارهم محرِّرين وليس باعتبارهم ندماء، وأدركت خطر الجريدة التي تستطيع أن تخلق أصنامًا يعبدها الناس، وتستطيع أن تخلق من الفسيخ شربات!
وتعجَّبتُ أكثر لهذا الجهاز الخطير الذي اكتشفه البشر والذي اسمه الإدارة، والذي يستطيع تحويل الموهوبين إلى متسوِّلين، بينما يجزل العطاء وبسخاء لكل مَن يستطيع الحصول على إعلان من مدير شركة، ولكل مَن يستطيع أن يعقد صِلة صداقة متينة مع نائب أو محسوب أو شيخ يملك مئات الأفدنة وألوف الناخبين تحت أمره!
وكانت هذه القشرة اللامعة من الصحفيين تسهر كلَّ مساء حتى الصباح في نادي نقابة الصحفيين تلعب القمار وتخسر عشرات الجنيهات كلَّ ليلة، وكان أبرزهم رجل من الأقاليم يملك جريدة أسبوعية تصدر في الصعيد بينما كان هو مقيمًا على الدوام في القاهرة … وكان الرجل خفيف الدم كريمًا إلى درجة السفه … وكان مشهورًا بألوان مُعيَّنة من الأطعمة المفضلة … وكان صاحب نفوذ كبير في نقابة الصحفيين … فقد كان على علاقة وثيقة بسكرتير عام النقابة وكبار الصحفيين وجميع المسئولين في الصحف، وكان في استطاعة هذا الرجل السمين الذكي أن يجعل من أي إنسان في مصر عضوًا في نقابة الصحفيين، وكان دائمًا على استعداد ليمنح أي إنسان شهادة بأنه محرِّر في المجلة الإقليمية التي يملكها في الصعيد … وكان سكرتير عام النقابة على استعداد لاعتماد الشهادة، وبعد أيام يصبح هذا المخلوق — أي مخلوق — عضوًا بنقابة الصحفيين له كافة الحقوق وليس عليه إلا واجب السهر في النقابة ولعب القمار حتى الفجر!
وإلى جانب هذه الشلة المقامرة من أعضاء النقابة كانت هناك شلل أخرى كثيرة أبرزها على الإطلاق شلة أصحاب الصحف الميتة، وكان كل واحد من أفراد الشلة يملك امتيازًا بإصدار صحيفة، غير أن هذه الصحف وقفت عند هذه المرحلة فقط ولم تصدر قط.
وبالرغم من ذلك كان أصحاب هذه الصحف يتقاضون مصاريف سرية كلَّ شهر من الحكومة، ويتقاضون أيضًا إعانات شهرية من النقابة! وكان هؤلاء الصحفيون رغم تفاهة دورهم الصحفي يتمتَّعون بنفوذ واسع داخل النقابة وكانوا يستطيعون فرض أي مرشح … ولذلك كانوا يشعرون حقًّا بالسعادة كلما حدثت انتخابات جديدة، فقد كانت الانتخابات فرصة للتهليب، كما كانت أيضًا فرصة للعمل، والسبب أن حضرات المرشحين وكانوا جميعًا من أصحاب الصحف وكبار المسئولين فيها، يقومون بتعيين عشرات من العاطلين قبل كل انتخابات تُجرَى لضمان أصواتهم في المعركة … وكانت خطابات الفصل تصل إلى هؤلاء المحرِّرين فور ظهور النتيجة ليعودوا عاطلين مرَّة أخرى في انتظار انتخابات أخرى تفتح أمامهم أبواب الرزق … ولقد كان أبرز أعضاء هذه الشلة ثلاثة … أحدهم كان مستشارًا صحفيًّا للخديوي توفيق، وكان الصحفي الوحيد الذي حضر مذبحة دنشواي … وقد وصف ذلك اليوم الأغبر بأسلوب ينم عن جهل صاحبه بحقيقة المأساة … فقد وصف الموكب الرسمي وعساكر الإنجليز، وسعادة قاضي التنفيذ، ووصف الجلاد أيضًا، وفي النهاية كتب عدة أسطر عن الفلاحين الأشقياء الذين أعلنوا العصيان ضد السلطة الشرعية وضد الحاكم الشرعي للبلاد!
وعندما تعرَّفت إليه أول مرة كان في الثمانين من عمره … وكان حريصًا على أن يبدو متصابيًا وشابًّا … وإذا صافح إنسانًا تعمَّد أن يضغط على يده بشدة، استعراضًا لقوته التي يتغنَّى بها على الدوام.
وكان عبد الستار الخطيب هو الرجل الثاني في الشلة … وكان في الخمسين من عمره … قضى منها في مهنة الصحافة عشرين عامًا، ولكنه لم يمارس العمل حقًّا سوى شهر واحد وتفرغ بعد ذلك للجلوس في نادي النقابة مع شلة المعاشات، وكان عبد الفتاح يبدو ممرورًا غاية المرارة، حزينًا غاية الحزن، شديد السخط على كلِّ شيء … على الحكومة وعلى الشعب وعلى الصحافة وعلى الفول المدمس وعلى قطار السكة الحديد … ولكنه لم يتحرَّك حركة واحدة في حياته بعد الشعور بالسخط.
وكان يتكلَّم ويتحرَّك كأنه زعيم من زعماء الشعب المصري أجبرته الظروف على الانزواء في ركن … وأحيانًا عندما كان يلتقي بعشرات من الشبَّان المتردِّدين على نادي النقابة، كان يجلس معهم منفوشًا كالديك ويقضي الساعات الطويلة يسرد على مسامعهم كفاحه الطويل في عالم السيرك، وتجاربه الحافلة في دنيا الصحافة، وكان دائمًا على حق بينما كل الآخَرين دائمًا على خطأ … وكان إذا انطلق في تلك اللحظات القليلة السعيدة في حياته فلا أحد في الوجود يستطيع وقفه! خصوصًا إذا صادف نفوسًا بريئة وآذانًا صاغية.
وذات مرَّة حكى لنا كيف نصح رئيس الوزراء سري باشا بكذا وكيت ولكنه لم يستمع لنصحه … ومع ذلك فقد أسدى نفس النصيحة لصدقي باشا … ولكنه لسوء حظه — حظ صدقي — لم يستمع لنصحه … وظلَّ يتكلَّم عن موقفه من الوزراء والبشوات ونصائحه المتكرِّرة لهم دون جدوى.
وعندما انتصف الليل كان قد وجه نصائحه لجميع البشوات في مصر حتى لم يبقَ منهم باشا واحد لم ينصحه! ولكنه استطاع أن يخرج من المأزق ببراعة وبعد لحظة صمت وتفكير عميق قال عبد الفتاح فجأةً لقطيع الشبَّان البائسين الملتفين حوله: «وعلى كل حال أنا نصحت جلالة الملك، وإن شاء الله هيعمل بالنصيحة!»
ولم أتمالك نفسي فضحكت! ولكنه كان ذكيًّا إلى الدرجة التي لم تجعله يلتفت إلى هذه الضحكة الساخرة الشاخرة من ولد عابث مثلي!
تجاهل الأمر كله ومرَّ عليه مرور الكرام … وعندما نهضنا للانصراف كانت وكسة ولا وكسة دنكرك … انتحى عبد الستار بالجرسون ركنًا وراحا يتهامسان، لكن الهمس لم يستمر طويلًا، سرعان ما ارتفع الهمس فأصبح ضجيجًا ثم عراكًا ثم ضربًا بالركبة وبالرأس … وترنَّح عبد الفتاح في أول لحظات الصدام وتمدد على الأرض يصرخ ويتوجع، وانتشى الجرسون بخمرة النصر السريع على عبد الفتاح، وانتابته حالة جنون مريعة، فهجم علينا يريد أن يتقاضى الحساب منا، ويعلم الله لم يكُن معنا شيء على الإطلاق، ولولا الفلس الأغبر لما احتملنا أكاذيب عبد الستار.
ولقد انقطعت صِلتي به بعد ذلك حتى الْتَقينا مرَّة أخرى في مجلة الصريح، وقد تغيَّر عبد الفتاح فأصبح أكبر سنًّا وأكثر همًّا! ولقد حضر ومعه مقال يريد نشره … ونشرناه فعلًا ليس لأنه يستحق النشر، ولكن لأن انتخابات نقابة الصحفيين كانت على أشدها، وكان رئيس تحرير المجلة على رأس قائمة المرشحين.
ولقد احترنا في المبلغ الذي يجب أن نعطيه عبد الستار ثمنًا للمقال، وقدرت أنا أن خمسة عشر جنيهًا كافية لمثل هذا العمل التافه، ولكن عبد الفتاح رفض بشدة واستنكر هذه الفعلة كأنني أتيت ذنبًا لا يغفره الله … وعندما سألته عن المبلغ الذي يطمع فيه قال بهدوء: مائة جنيه!
وتصوَّرتُ أنه جُنَّ؛ لأن الدكتور طه حسين بجلالة قدره قد يفكِّر عدة مرَّات قبل أن يطلب مبلغًا مثل هذا ثمنًا لمقال واحد … ووعدته خيرًا وانصرف على أن يعود في يوم آخَر!
وعندما أبلغت رئيس التحرير بالأمر على أنه نكتة، فوجئت بأنه موافق على المبلغ المطلوب! وأدركت أن المائة جنيه ليست ثمنًا للمقال ولكنها ثمن لسكوت عبد الستار خلال المعركة!
وأدركت أيضًا أن عبد الستار يستخدم ذكاءه بذكاء! وأنه يعلم أن الانتخابات هي فرصته الوحيدة! وأنه خلال كل انتخابات يسعى كثعبان الغاية ليلتهم خنزيرًا بريًّا أو غزالة ثم ينام يجترها في هدوء ولمدة شهور حتى تسنح فرصة أخرى!
وكان ثالثهم رجل شديد اللطف، خفيف الدم، صاحب موهبة حقيقية … ولو أنه اتجه إلى التمثيل مثلًا لكان نجمًا ولا نجيب الريحاني، وكان كريمًا ظريفًا ساحر الحديث، سريع النكتة بارع القفشة، صاحب ضحكة مميزة ترن كأنها أجراس كنيسة صباح يوم عيد.
كان عبيد السايس قصيرًا ونحيفًا ويرتدي «بابيون» ويضع على رأسه طربوشًا ويدخِّن سجاير توسكاني خبيثة الرائحة إلى درجة لا تُطاق! وكان يعمل في جريدة مسائية ويتقاضى مبلغًا لا يكاد يكفي ثمن السجاير التوسكاني!
وعندما تصدر الجريدة يبدأ رحلته الأبدية متردِّدًا على جميع البارات الفقيرة في العاصمة … وكان يطلق على شلته «شلة المشائين» … وكان شعاره الذي يرفعه: من كل بستان زهرة! إذ كان ممنوعًا في مذهبه أن يتناول أكثر من كأس واحدة في البار الواحد! وآخر الليل كان يحضر إلى نادي النقابة سكران للغاية مبسوطًا تمام الانبساط يدندن بأغاني شعبية قديمة، وفي الفجر كان يستقل عربة حنطور وكان يصر على أن يركب إلى جوار العربجي، وأحيانًا كان يتولَّى هو قيادة الحنطور حتى بيته! فإذا وصل إلى البيت كان من عادته أن يقف وسط الشارع وبشائر الصبح تطل من خلف الأفق ليقضي حاجته في الطريق العام!
ولكم سببت له هذه العادة الغريبة مشاكل شتَّى! وبسببها نام في أقسام البوليس عدة أيام وتحرَّرت ضده عدة محاضر … وأحيانًا كان العسكري الجلف يعتدي بالضرب على الفنان الضائع.
وعقب كل خناقة من هذا النوع كان يلزم البيت عدة أيام حتى يشفى من جراحه!
وعندما أغلقت الجريدة أبوابها لم يتخلَّ عن عادته أبدًا، الطواف طول الليل على البارات، ثم السهر في نادي النقابة، ولكنه حرم نفسه من لذاته الكبرى وهي ركوب الحنطور، إذ لم يكُن يملك في أيامه الأخيرة أجر الحنطور من النادي في قلب القاهرة إلى منزله في مصر القديمة! وكان يقطع المشوار على قدميه، ثم يقف وسط الشارع أمام منزله ليقضي حاجته كالعادة.
وذات مساء، وكان المساء الأخير الذي شاهد فيه الناس الرجل الفنان في نادي النقابة … فقد حضر عم عبيد وكان سكران إلى درجة الترنح، وفي النقابة حفلة ساهرة تضم أصحاب الصحف الأثرياء وكبار الصحفيين المتريشين وعددًا من البشوات والوزراء وأصحاب الطين … وجلس عبيد في التراس يشرب قهوة سادة، وبعد أن انتهى من شرب القهوة هَمَّ بدخول القاعة التي تشهد الحفلة الأنيقة، ولكن الرجل الطويل العريض الذي يحرس باب القاعة منعه من الدخول؛ لأن الدخول بالملابس الرسمية وعاد عبيد إلى التراس وجلس يفكِّر لحظات، ثم نهض فجأة وخلع ملابسه كلها، واقتحم الحفل عاريًا تمامًا كما ولدته أمه. وارتاع الوزراء والبشوات وأصحاب الطين وصرخت نساؤهم بشدة لمنظر الرجل المسلوع الذي اقتحم المكان عاريًا تمامًا إلا من حذائه وطربوشه، وباظت الحفلة وخرج عم عبيد إلى منزله ولم يعُد أبدًا.
ومات عم علي بعد ذلك بأيام، بعد حياة قصيرة عريضة ذاق فيها كل ألوان البؤس والفقر، ولكنه رغم كل شيء كان أحد أبناء الجيل الذي اقتحم غابة الصحافة في عهدها الأول، وتعرض لكل أخطارها وذاق كل مرِّها وشرها وبذل دمه، نقطة وراء نقطة، لكي يشيد أصحاب الصحف دورًا جديدة ويكدسوا ثروات هائلة.