الكتاب الثاني عشر١
(١٢-٢) الله يرى عقولنا جميعًا مُجرَّدةً من غطائها المادي ومن قُشورها وخَبَثها، لا صلة له إلا بفكرنا الذي صَدَر منه وتدفَّق إلى هذه الأبدان. إذا عوَّدتَ نفسك أيضًا أن تَصنَع نفس الصُّنع فسوف تضع عنك كثيرًا من إِصرِك. إن من يصرف نظره عن الجسد البائس الذي يُغلِّفه قلما يكرثُ نفسه بالنظر إلى المَلبس أو المَسكن أو الصِّيت، أو أي شيءٍ من هذه الزَّخارف والمَشاهِد المسرحية.
(١٢-٤) كم تَعجَّبتُ من أن كل إنسانٍ يحب نفسه أكثر من أي شخصٍ آخر، بينما يضع رأيه في نفسه موضعًا أدنى من رأي الآخرِين فيه؛ فماذا لو ظهر له إلهٌ أو معلمٌ حكيم وسأله: ألا يضمر في نفسه أيَّ فكرةٍ أو نيةٍ لا يَودُّ أن تُذاع على الملأ في الحال؟ ما أَحسبُه يحتمل هذا الأمرَ يومًا واحدًا. حقًّا، إذن، إننا نُبالي بما سيراه فينا الآخرون أَكثرَ مما نراه في أنفسنا.
(١٢-٥) كيف يتأتَّى أن الآلهة بعد أن هيَّأت كل شيءٍ بكلِّ هذه الجودة وكلِّ هذا الحب للبشر، يفوتها هذا الشيء الوحيد؛ وهو أن بعضَ الناس، وخِيرةَ الناس جميعًا، أولئك الذين اتصلوا بالأُلوهة أوثقَ اتصال، وبلَغوا منها أقرب مكانٍ خلال أعمال التقوى والشعائر، أنهم فَورَ موتهم يُلاقون فَناءً أبديًّا ولا يعود لهم أيُّ وجود؟!
(١٢-٦) درِّب نفسك حتى على ما يئستَ من التمكُّن منه؛ فاليد اليسرى، لنقص الممارسة، خرقاءُ في أغلبِ المهام، غير أنها أشد إمساكًا باللجام من اليد اليمنى؛ فلقد تَدرَّبَت على ذلك.
(١٢-٧) تَفكَّر كيف يكون حال المرء، جسدًا وروحًا، بعد أن يُدركَه الموت، وتأمَّل في قِصَر الحياة، وفي الهُوة السحيقة للزمان الماضي والمستقبل، وفي هوانِ كل شيءٍ مادي.
(١٢-١٠) انظُر ماذا تكون الأشياء في ذاتها، مُقسِّمًا إياها إلى مادةٍ وصورةٍ وغرض (غاية).
(١٢-١١) أعلى مراتب الحرية والقوة هي ألَّا يفعل الإنسانُ إلا ما يُرضي الله، وأن يتقبَّل كلَّ ما يَقسِمه الله له.
(١٢-١٢) لا تلُم الآلهة؛ فهي لا ترتكب خطأ، لا عن عمدٍ ولا عن غير عمد.
ولا تلُم البشر؛ فهم لا يرتكبون الخطأ إلا عن غيرِ عمد.
(١٢-١٤) إمَّا أن الأمر قدرٌ مُحتَّم ونظامٌ لا يسمح بأيِّ حُيود. وإما عنايةٌ رحيمة.
وإمَّا فوضى لا غايةَ لها ولا مُوجِّه.
فإذا كان الأمرُ ضرورةً لا تُقهَر فلماذا تقاوِم؟
وإذا كان عنايةً تستجيب للدعاء فاجعل نفسَك أهلًا للعونِ الإلهي.
وإذا كان فوضى غيرَ محكومةٍ فافرح بأن لدَيكَ في مثل هذه العاصفة عقلًا مُوجِّهًا خاصًّا بك، وحتى إذا جَرفَك الطُّوفان فليأخذْ جسَدكَ البائس ونفَسَك الضئيل وكلَّ شيءٍ آخر، أمَّا العقل فلن يأخذه.
(١٢-١٥) يَظلُّ المصباح يضيء ولا يفقد بهاءَه حتى ينطفئ. فهل تخذُلُكَ الحقيقة والعدل والاعتدال قبل نهايتك؟
(١٢-١٦) إذا عَرضَ لي انطباعٌ بأن شخصًا ما قد ارتكب خطأً فكيف أعرف أن هذا كان خطأً؟ وإذا كان هذا خطأً حقًّا فكيف أعرف أنه لم يكن يُبكِّت نفسه، وهو بذلك كمن يُمزِّق وجهه نفسَه؟
(١٢-١٧) إذا لم يكن صوابًا لا تَفعَلْه، وإذا لم يكن صدقًا لا تقُلْه.
(١٢-١٨) بإزاء كل شيءٍ انظر دائمًا ماذا يكون هذا الشيءُ الذي أحدث في عقلك انطباعًا، وحلِّله بتقسيمه إلى الصورة، والمادة، والغاية، والأَمَد الزمني الذي لا بُدَّ أن ينتهي خلاله.
(١٢-١٩) أَدرِك أخيرًا أن بداخلك شيئًا ما أقوى وأكثر بهاءً من الأشياء التي تُولِّد شتى الانفعالاتِ التي تُحرِّكك بخيوطها كالدمية. ماذا لديك الآن في عقلك في هذه اللحظة بالضبط؟ هل هو خوفٌ؟ شَكٌّ؟ رغبة؟ شيءٌ آخرُ من هذا الصِّنف؟
(١٢-٢٠) أولًا: لا تفعل شيئًا من غير هدفٍ أو من غير غايةٍ.
ثانيًا: لا تقصِد إلى أية غايةٍ سوى الخير العام.
(١٢-٢١) تَذكَّرْ أنك بعد بُرهةٍ ستكون لا شيء وفي لامكان، وكذلك كل ما تراه الآن وكل مَن هو الآن حي. إنها طبيعة الأشياء جميعًا أن تتغيَّر، وأن تهلِك، وأن تتحوَّل؛ لكي يُتاح لِغيرها أن يأتيَ إلى الوجودِ على التتابُع.
(١٢-٢٣) ما من نشاطٍ يَضيرُه أن يتوقف ما دام قد توقف في الوقت المناسب، ولا فاعلُه يضيره شيئًا أن هذا النشاط المُعيَّن قد توقف؛ وعلى ذلك فإذا بَلغَت جملة أفعاله، التي تُشكِّل حياتَه، نهايتَها في الوقت المناسب فلا ضَيرَ عليها من مُجرَّد التوقُّف، ولا ضير على من خَتمَ هذه السلسلة من الأفعال في الوقت المناسب. أمَّا الوقت والأجل فتُحدِّدهما الطبيعة؛ طبيعة الإنسان أحيانًا كما في الشيخوخة، وطبيعةُ العالَم في كل الأحيان، والتي من خلال التغيير الدائم لأجزائها المُكوِّنة تُبقي العالم كلَّ صبيًا وعفيًّا.
وكل ما ينفع العالم فهو حَسنٌ وفي إبَّانه؛ لذا فلا بأس على الإطلاق بأن تنتهي حياة كلٍّ منا؛ فلا النهاية عيبٌ ولا اختيارٌ ولا هي ضد الصالح العام، بل هي خيرٌ؛ إذ تقع في التوقيت المُلائم ﻟ «الكل»، وتَصُبُّ في صالحه، وتنسجم معه؛ فكذلك أيضًا يمشي المرء بعون الربِّ إذا مضى باختياره ووِجهتِه على طريق الرب.
- أولًا: في أفعالك لا تفعلْ شيئًا بلا هدف، أو بهدفٍ غير ما تقتضيه العدالة. وفيما يُلم بك من الخارج فاذكُر أنه إمَّا يحدث بالمُصادَفة وإما بالعناية، وعليك ألا تلوم المُصادَفة ولا تتهم العناية.
- ثانيًا: تأمَّلْ ما يكونه كل كائنٍ منذ هو بَذرةٌ إلى أن يتلقَّى الروحَ، ومنذ تلقيه الروحَ إلى أن يُسلِمَها مرةً ثانية، وما هي العناصر التي كوَّنَته والتي سوف ينحل إليها في النهاية.
- ثالثًا: إذا ما رُفعتَ فجأةً إلى ارتفاعٍ هائلٍ وأمكنك أن تنظر تحتك إلى مشاغل البشر بشتى أصنافها؛ لأن مجال نظرك سوف يضم أيضًا حشدًا هائلًا من الأرواح التي تَأهَل الفضاء والسماء، ولأنك مهما أعدتَ الكَرَّةَ فسوف ترى الأشياء نفسها؛ الرتابة والزوال، هل هذه الأشياء تستدعي الزهو والخُيَلاء؟!١٥
(١٢-٢٧) استَحضِر في ذاكرتك دائمًا أولئك الذين كانوا يُفرِّطون في الغضب والشكاة، أولئك الذين بلغوا ذُرى المجد أو النكبة أو العداوة أو أيِّ صنفٍ آخرَ من الحظ. ثم تَوقَّفْ وفكر: أين كل أولئك الآن؟ دُخانٌ ورماد، حكاية رُوِيَت بل حكايةٌ نُسِيَت. واستَحضِر أيضًا في ذهنك طائفةً بأَسْرها من الأمثلة؛ فابيوس كاتولينوس في داره الريفية، لوسيوس لوبوس في بساتينه بالمدينة، ستيرتينيوس في بابي، تيبيريوس في كابري، فيليوس روفوس؛ وبصفةٍ عامةٍ كل سعيٍ محمومٍ تصحبه الخُيَلاء. تأمَّل كم هو عبثٌ كل هذا الجهد المُضنِي، وكم هو أَجدرُ بالحكيم أن يستخدم ما يَعرِض له لكي يجعل نفسه عادلًا، معتدلًا، مطيعًا للآلهة، وأن يفعل هذا ببساطةٍ تامة؛ فالزهو بالخُلوِّ من الزَّهو هو أثقل ضروب الزَّهو وأَصعبُها على الاحتمال.
(١٢-٢٨) إلى من يسألون: أين رأيتَ الآلهة؟ أو كيف عرفتَ أنهم موجودون فعبدتهم؟ أُجيب: أولًا، هم قد يُرَون حتى بالْعَين. ثانيًا، إنني لم أَرَ روحي أيضًا ومع ذلك أُوقِّرها. كذلك شأني مع الآلهة؛ فمن معاينتي الدائمة لآثارهم المرةَ تِلوَ الأخرى أتيقنُ من وجودِهم، وأُوقِّرهم.
(١٢-٢٩) الخلاص في الحياة يكمن في أن ترى كل شيءٍ في ذاته وفي جملته، مُدرِكًا مادتَه وصورتَه، وفي أن تُكرِّس كل نفسك لفعل الصواب وقول الحق. فماذا يبقى غيرُ مُتعتك بأن تحيا سلسلةً متصلةً من الأفعال الصالحة لا تَفصِل بينها أدنى فجوة.
(١٢-٣٠) ثَمَّةَ ضوءٌ واحدٌ للشمس وإن تَشتَّت على الجدران والجبال وما لا يُحصَى من الأشياء. ثَمَّةَ مادةٌ عامةٌ واحدة وإن تَكسَّرَت إلى ما لا يُحصَى من الأجسام لكلٍّ منها صورتُه وخصائصه. ثَمَّةَ روحٌ حيوانيةٌ واحدة وإن تَوزَّعَت بين ما لا يُحصى من الأنواع والأفراد، وروحٌ عاقلةٌ واحدة وإن بَدَت مُقسَّمة.
(١٢-٣٣) كيف يُوظِّف عقلُك نفسه؟ هذا هو السؤال. وكل ما عداه، سواء كان باختيارك أو لا، فمجرد رمادٍ ميِّتٍ ودخان.
(١٢-٣٦) أيها الإنسان الفاني، لقد عِشتَ كمواطنٍ في هذه المدينة العظيمة. ماذا يُهِمُّ إذا كانت هذه الحياة خمسة أعوام أو خمسِين؟ على الجميع تسري قوانين المدينة، فماذا يخيفك في انصرافك من المدينة؟ إن من يَصرِفك ليس قاضيًا مُستبدًّا أو فاسدًا، إنها الطبيعة ذاتها التي أتت بك. إنها أشبه بمدير الفرقة الذي أشرك ممثلًا كوميديًّا في الرواية وهو يَصرِفه من المسرح.
– «ولكني لم أُمثِّل مَشاهدي الخمسة، مثَّلتُ ثلاثةً فقط.»
– حقًّا، ولكن في الحياة قد تكون ثلاثةُ مَشاهد هي الرواية كلها.
استئناف الحياة إنما يُحدِّده الكائن الذي ركَّبك أول مرةٍ والذي هو الآن يُفنيك. وما لك من دَورٍ في أي من العلتَين، اذهب بسلامٍ إذن؛ فالإله الذي يَصرِفك هو في سلامٍ معك.