الفصل الثاني: رواقية ماركوس أوريليوس قراءة في «التأمُّلات»
(١) رُواقيةٌ مُعدَّلَة
كانت رُواقية ماركوس أوريليوس رُواقيةً مُعتدلةَ ومُعدَّلة؛ فقد اطَّرح ماركوس بعضَ مبادئ الرُّواق، ولم يَغلُ في بعضها الآخر غُلُوَّ القُدامى، وتجنَّب الخوض في المنطق والطبيعيات، ودوَّن خواطره الشخصية بأسلوبٍ بسيط، في الأغلب الأعم، تجنَّب فيه ذكر المُصطلَحات الفنية والتخريجات المُعقَّدة، بذلك قدَّم للرُّواقية صِيغةَ سلسلةً سائغةً قريبة المأخذ، فكانت «آخر رسالة بعث بها العالم القديم إلى الأجيال المُقبلة.»
من ذلك أنه رفض زعم الرُّواقيِّين بإمكان المعرفة اليقينية، وأخذ برأي مُنتقدِيهم القائل بأن الحكيم الذي يملك المعرفة اليقينية لا وجود له: «لكأنما أُلقِيَ على الأشياء حجابٌ كثيف حتى لقد بدَت لعددٍ غير قليل من كبار الفلاسفة غيرَ قابلةٍ للفهم على الإطلاق. وحتى الرُّواقيون أنفسهم بدَت لهم الحقائق عصيةً على الفهم، وبدا لهم كلُّ تصديقٍ عقلي لإدراكاتنا شيئًا عُرضة للخطأ؛ فليس هناك من هو معصوم …» (٥-١٠).
ومن ذلك أنه رفض أن تُوضَع الآثام جميعًا في مرتبةٍ واحدة، فقد ذهب قُدامى الرُّواقيِّين إلى أن الفضيلة «كلٌّ» واحدٌ بسيطٌ لا يتجزأ، تملكها كلها أو لا تملك منها شيئًا، وكذلك الأمر في الرذيلة، ورفضوا فكرة التدرُّج الأخلاقي، وجاءوا في ذلك بتشبيهٍ مُعجب فقالوا بأن الإنسان إمَّا أن يكون فاضلًا وإمَّا غير فاضل، ولا يُعَد فاضلًا من لم يبلُغ الفضيلة بتمامها، كما أن الغريق لا يكون أقل غرقًا على بعد شبر من سطح الماء منه إذا كان في قاع البحر. يقول ماركوس: «إن ارتكاب الخطيئة بدافع الرغبة لأَشدُّ من ارتكابها بدافع الغضب؛ إذ يبدو أن مَن أَثارَه الغَضبُ إنما يحيد به عن العقل شيءٌ من الألم والتشنُّج غير الإرادي، أمَّا مَن دَفعَته الرغبة إلى الخطيئة فاستسلم للذة فيبدو أكثرَ تهتُّكًا في إثمه وأقلَّ رجولة. إن الأول أشبه بشخصٍ أُوذي فاضطره الألم إلى الغضب، أمَّا الثاني فإنه هو هو مَصدَر نَزوتِه ومَنشَأ اندفاعته إلى الإثم حين تحدوه الشهوةُ إلى ارتكاب ما ارتكب» (٢-١٠).
ومن ذلك أنك لا تجد في كلامه نبرة الثقة الزائدة والاعتداد بالرأي الذي تجده في أقوال قُدامى الرُّواقيِّين. يقول ماركوس مخاطبًا نفسه: «ليس لديك متسعٌ للدرس والتحصيل، ولكنَّ لديك متسعًا لأن تَكُفَّ الغطرسة، ولديك متسعًا لأن تعلو فوق اللذة والألم، ولديك متسعًا لأن ترتفع فوق حب الشهرة والصيت، وألا تَحنقَ على البليد والجاحد، بل، حقًّا، أن ترعاهما» (٨-٨)، «احرص ألَّا تتقَيصَر، وألا تَصطبِغ بهذه الصبغة؛ فقد تقع في ذلك إذا لم تَتوخَّ الحذر …» (٦-٣٠).
ومن ذلك أنه، بخلاف الرُّواقيِّين القدامى، أخذ بفكرة أفلاطون عن الواجب الاجتماعي والسياسي؛ فلما كان الإنسان كائنًا اجتماعيًّا فإنَّ مِن واجبنا أن نقوم بِدَورنا في الشئون السياسية العامة. يقول ماركوس: «إنني أصحو من نومي لكي أؤدي عملي كإنسان، أما زِلتُ كارهًا أن أَذهبَ لكي أُؤدِّي ما خُلقتُ من أجله وما وُجِدتُ في العالم لكي أُؤدِّيه؟ …» (٥-١).
والحق أن الوظيفة العسكرية لم تكن مُتفقةً مع روح الفيلسوف لدى ماركوس أوريليوس، على الرغم من إتقانه لهذه الوظيفة. يَرشَح ذلك من حديثه بين الحين والآخر: «العنكبوت فخورةٌ حين تصطاد ذبابة، والإنسان فخورٌ بصيده؛ أرنبٍ مسكين، سمكةٍ صغيرة في شبكة، خنازير، دِببة، أسرى من الصرامطة، والجميع من حيث الدافعِ لُصوص» (١٠-١٠).
(٢) قلعة الذات
لعل أهم ما يُؤثَر عن ماركوس وصفته العلاجية بالرجوع إلى الذات، والخُلوِّ إلى النفس من وقتٍ لآخر التماسًا للأمان والسكينة، باعتبارها الحصن الداخلي المنيع. إنه المنتجع العقلي حيث الاستجمام الحقيقي والتجدُّد الدائم. وهو الحصن الذي كان يلجأ إليه ماركوس أثناء حملاته الشمالية وراء الدانوب، والذي يُهيب بنا ماركوس أن نبحث عن مثلِه داخل أنفسنا.
(٣) علِّمْهم أو احتمِلْهم
أخذ ماركوس بالفكرة السقراطية القائلة بأن «الفضيلة علم والرذيلة جهل.» وألَّا أحد يرتكب الشر عن قصد؛ أي عن علم. ينتج عن ذلك، منطقيًّا، أن علينا تجاه مُرتكِب الخطأ أن نُعلِّمه ونُبصِّره بجهله، وإلا نُعلِّمْه فلنتسامَحْ معه ولا نُحمِّله فشلَنا نحن وتقصيرنا في إرشاده إلى المسلك الصحيح. «… ليست هناك نفسٌ تريد عمدًا أن تُحرم من الحقيقة، والشيء نفسه ينسحب على العدالة، والاعتدال، والإحسان، وكل هذه الفضائل. من المهم للغاية أن تضع هذا دائمًا باعتبارك، فبذلك سوف تكون أرفقَ بالجميع» (٧-٦٣). «لقد ابتُلي كلٌّ منهم بذلك من جَرَّاء جهله بما هو خيرٌ وما هو شر، أمَّا أنا وقد بصُرتُ بطبيعة الخير وعرفتُ أنه جميل، وبطبيعة الشر وعرفتُه قبيحًا، وأدركتُ أن مُرتكِب الرذائل لا يختلف عني أدنى اختلافٍ في طبيعته ذاتها — فنحنُ لا تجمعنا قرابةُ الدم والعِرق فحسبُ بل قرابةُ الانتساب إلى نفس العقل ونفس القبَس الإلهي — أمَّا أنا وقد بصُرتُ بهذه القرابة فلن يَسوءَني أيُّ واحدٍ من هؤلاء ولن يُعديني بإثمه، وليس لي أن أنقِم منه قرابتي أو أسخط عليه …» (٢-١). «سَلْ نفسَك ماذا يكون هذا الشيء الذي يَعرِض لي الآن؟ وأي نوع من الفضائل يلزمني لمواجهته: الرفق مثلًا أم الشجاعة أم الصدق، إلخ؟ … هذا جاء من أحد إخوتي من بني الإنسان، قريبي وزميلي، وإن كان لا يعرف ما يليق بطبيعته ذاتها. غير أني أعرف؛ ومن ثَمَّ أُعامِله برفق وعدل، مُتبعًا في ذلك القانون الطبيعي للأخوة …» (٣-١١). «من المفيد عمليًّا أن تعي هذا كلما صادفتَه؛ وهو تلك الفضيلة التي وهبتنا إياها الطبيعة لكي نقابل بها كل فعلٍ خبيث. وهبتنا الرفق ليكون ترياقًا للقسوة، وخصالًا أخرى نواجه بها إساءاتٍ أخرى. وبصفةٍ عامة، بِوُسعِك دائمًا أن تُعيد تعليم من ضل طريقه، وكل من يفعل الشر فقد أخطأ هدفَه الحقيقي وضل طريقه» (٩-٤٢). «مِن الطبيعة الإنسانية أن تحب حتى من يَزِلون ويسقطون. يتبين ذلك إذا ما أخذتَ باعتبارك، حين يخطئون، أن البشر إخوة، وأنهم يخطئون عن جهلٍ وليس عن عمد، وأن الموت لا يلبث أن يطويك ويطويهم. والأهم، أن المخطئ لم يَضُرَّك، ولم يجعل عقلك المُوجِّه في وضعٍ أسوأ مما كان عليه من قبل» (٧-٢٢). «إذا استطعت فبيِّن لهم الطريق الأَقوم، وإذا لم تستطع فتذكَّرْ أنه لذلك السبب قد أُوتيتَ ملَكَة السماحة» (٩-١١).
(٤) نهر التغير
(٥) أهمية دراسة الطبيعيات
لم يكن ماركوس أوريليوس شغوفًا بالمنطق والطبيعيات، غير أنه أوصى بدراستهما بالنظر إلى الصلة الوثيقة بين الإنسان والكون (بين الميكروكوزم والماكروكوزم). «من لا يعرف ما هو العالم لا يعرف أين هو، ومن لا يعرف لأي غاية وُجد العالم لا يعرف من هو ولا ما هو العالم، ومن يجهل أي شيء من هذه لا يمكنه حتى أن يقول لماذا وُجد هو ذاته، ما رأيك إذن في ذلك الرجل الذي يتجنب أو يطلب المديح من أناس لا يعرفون أين هم ومن هم؟» (٨-٥٢). «ضع نُصب عينَيك دائمًا هذه الأشياء؛ ما هي طبيعة «الكل»؟ ما هي طبيعتي الخاصة؟ ما علاقة هذه الطبيعة بتلك؟ أي صنف من الجزء لأي صنفٍ من الكل؟ وأن ليس بإمكان أحد أن يحول بينك وبين أن تقول ما تقول وتعمل ما تعمل وفقًا لتلك الطبيعة التي أنت جزء منها» (٢-٩). «لا شيء يُؤدِّي بك إلى سمو العقل مثل قدرتك على أن تعرض كل عنصر من عناصر خبرتك في الحياة على الفحص المنهجي والصادق، وقدرتك على أن تنظر إلى الأشياء دائمًا بحيث يمكنك في الوقت نفسه أن تتأمل أي صنف من العوالم هذا وأي دورٍ يُسهِم به هذا الشيء أو ذاك في هذا العالم، وأي قيمةٍ يتحلى بها كل شيء بالنسبة إلى «الكل» وبالنسبة إلى الإنسان الذي هو مُواطن هذه المدينة العليا التي تُعَد سائر المدن مجرد عائلاتٍ فيها» (٣-١١).
(٦) الكوزموس
ذهب ماركوس إلى أن العالم كله ليس إلا كائنًا واحدًا حيًّا مترابط الأعضاء متواشج الأجزاء. وأن ما يحدث في الجزء يُؤثِّر في الكل والعكس بالعكس، وأن الله والطبيعة شيءٌ واحد (وحدة الوجود/البانتزم). «انظر دائمًا إلى العالم على أنه كائنٌ حي واحد، يتكون من مادةٍ واحدة وروحٍ واحدة، انظر كيف يذوب الكل في هذا الوعي الواحد، كيف تخضع كل أفعاله لنزوعٍ واحد، كيف تتعاون الأشياء جميعًا في كل ما يحدث، انظر أيضًا الغزل الدائم لخيط الشبكة ونسيجها» (٤-٤٠). «ثَمَّةَ ضوءٌ واحد للشمس وإن تشتَّت على الجدران والجبال وما لا يُحصى من الأشياء، ثَمَّةَ مادةٌ عامة واحدة وإن تكسَّرَت إلى ما لا يُحصى من الأجسام لكل منها صورته وخصائصه، ثَمَّةَ روحٌ حيوانية واحدة وإن توزَّعَت بين ما لا يُحصى من الأنواع والأفراد، وروحٌ عاقلة واحدة وإن بدَت مقسمة» (١٢-٣٠). «جميع الأشياء متواشجةٌ متشابكة، يربطها معًا رباطٌ مقدس. لا شيء غريب عن الأشياء الأخرى فجميعها قد رُتِّبَت معًا لكي تتعاون على تحقيق «النظام» الواحد للعالم؛ ذلك أن «العالم» المؤلف من جميع الأشياء واحد، والإله المنبث في كل الأشياء واحد، والمادة واحدة، والقانون واحد، والعقل الشائع في جميع الموجودات العاقلة واحد، والحقيقة واحدة؛ لأن الحقيقة هي كمال الموجودات العاقلة المشاركة في عقلٍ واحد» (٧-٩). «تأمل مليًّا ترابُط الأشياء جميعًا في العالم وقرابتها، جميع الأشياء، بطريقةٍ ما، متواشجة، ولديها من ثَمَّ مشاعرُ وُدٍّ بعضها تجاه بعض؛ فالشيء يتلو الشيء في نظامٍ منضبط، من خلال توتُّر الحركة والروح الشاملة التي تُلهمها ووحدة الوجود كله» (٦-٣٨). «جميع الأشياء، رغم انفصالها وتمايزها، يتخلل بعضها بعضًا ويستجيب بعضها لبعض» (٤-٢٧). «في سلاسل الأشياء فإن اللاحق يكون دائمًا مرتبطًا بما سبقه، لا مجرد إحصاءٍ بسيط لأشياءَ منفصلة ومجرد تعاقبٍ ضروري، بل ارتباطٌ عقلي. ومثلما أن الأشياء الموجودة مترابطة بينها بانسجام، كذلك عمليات الصيرورة لا تَعرِض مجرد تتابُع، بل انسجامًا صميمًا مدهشًا» (٤-٤٥).
ويذهب الرُّواقيون إلى أن جوهر العالم هو العقل الكلي أو «اللوجوس»، وأن هذا العقل مبثوث في كل شيء وفي كل مكان، يقول ماركوس: «لا تعُد تتنفس فقط من الهواء المحيط، بل خذ فكرك أيضًا من العقل الذي يضم الأشياء جميعًا؛ فالقوة العاقلة منتشرة، كالهواء، في كل مكان ومتخللة في كل شيء، طَوعَ من يشاء أن يتشربها، تمامًا كالهواء لمن يستطيع أن يتنفسه» (٨-٥٤).
(٧) الأشياء اللافارقة Indifferentia
إن إسباغ قيمةٍ على هذه الأشياء اللافارقة ليس مجرد خطأ في الحكم، بل إن له نتائجَ عمليةً وبيلة. «إذا كنت تعُدُّها خيرًا أو شرًّا تلك الأشياء الخارجة عن سيطرتك فسوف يترتب على ذلك بالضرورة أن تتذمر على الآلهة وتُبغِض البشر كلما أصابك هذا الشر أو كلما فقدتَ ذلك الخير … إننا لنرتكب ظلمًا عظيمًا باكتراثنا بهذه الأشياء واعتبارها «فارقة». أمَّا إذا قصَرنا صفة الخير والشر على ما يقع في نطاق قدرتنا فلن يعود ثَمَّةَ مُبررٌ لاتهام إلهٍ أو لاتخاذ موقفٍ عدائي من إنسان» (٦-٤١). «القيمة الحقيقية هي أن تفعل أو تُحجم وَفقًا لفطرتك الحقة … وإذا أنت قَبضتَ على هذه القيمة فلن تصبو إلى اكتساب أي شيءٍ آخر، ولن تُعلي من شأن كثيرٍ من الأشياء الأخرى إلى جانبها. وإلا فلن تكون حرًّا أو مكتفيًا بذاتك أو خاليك من الانفعال، وستُضطر إلى الجسد والغَيرة والتوجُّس مما لديهم القدرة على أن يسلبوك هذه الأشياء، والتآمر على من يملكون ما تراه ثمينًا. وباختصار، فكل من يشعر بالحاجة إلى أي شيء من هذه الأشياء يكون بالضرورة مُنغَّص العيش، بل سيدفعه ذلك في أحيانٍ كثيرة إلى أن يتذمر على الآلهة» (٦-١٦).
(٨) السعي إلى الأشياء «بتحفُّظ»
(٩) التعامُل مع العقبات
ترتبط فكرة التحفُّظ في السعي إلى الأهداف بفكرةٍ أخرى تتصل بالتعامل مع المصاعب. فإذا كان الخير هو السلوك العقلاني الفاضل، فماذا لو صادَفَتنا العوائق واعتَرضَت سبيلنا العقبات؟ يجيب ماركوس ببساطة: لا شيء، ستكون تلك فرصةً أخرى لممارسة الفضيلة: «… إن العقل لديه القدرة، بطبيعته وبإرادته، على أن يمضي خلال كل عقبة. في جميع الكائنات العضوية الأخرى فإن أي أذًى يلحق بأيٍّ منها يجعله أسوأ في ذاته، أمَّا في حالة البشر فإن الشخص في الحقيقة يُصبِح أفضلَ وأجدرَ بالثناء إذا استخدم الظروف التي تُصادفه استخدامًا صحيحًا» (١٠-٣٣). «فإذا اعترض أحدٌ سبيلك بالقوة فتذرَّعْ بالهدوء، وحوِّل العائق إلى تمرُّسٍ بصنفٍ آخرَ من الفضيلة» (٦-٥٠). «هل اعترضَك عائقٌ في سعيك إلى شيءٍ ما؟ إذا كان سعيك حقًّا غير مشروط فسيكون هذا العائق بالتأكيد مؤذيًا لك ككائنٍ عاقل. أمَّا إذا قبِلتَ المسار المعتاد للأشياء فليس ثَمَّةَ من أذًى بعدُ ولا عائق، أترى … لا أحد سواك سوف يعوق الوظائف القويمة للعقل؛ فلا الناس ولا الحديد ولا الطغيان ولا السب يمكن أن يمس العقل؛ فمنذ أصبح العقل دائرةً مكتملةً فإنه ما يزال في وحدته دائرةً مكتملة» (٨-٤١). «تلك القوة الحاكمة بداخلنا، حيثما كانت في تَوافُقٍ مع الطبيعة، تتخذ موقفًا مرنًا من الظروف، وتُكيِّف نفسَها دائمًا بسهولةٍ ويسر مع ما يَعرِض لها من أحداث؛ فهي لا تتطلب مادةً معينة لعملها، بل تتجه إلى غرضها بأسلوبٍ تكيفي فتحوِّل أي عقبةٍ في طريقها إلى مادةٍ لاستعمالها. إنها أشبه بنارٍ تسيطر على أي شيءٍ يسقط في جوفها. قد تنطفئ الجذوة النحيلة إثر ذلك، أمَّا النار المُضطرِمة فتتملَّك المادة التي تُركَم عليها، وتلتهمها وتنزو فوقها بفضل هذه المادة نفسها» (٤-١). «قد تُعيقني هذه الأشياء عن بعض نشاطي، نعم ولكنها لا تُشكِّل عوائق أمام وجداناتي ونوازعي، من حيث إن بها يقبع الالتزام المشروط وقوة التكيُّف. إن العقل ليتكيف ويدور حول أي عائقٍ للفعل لكي يخدم هدفه؛ فيُحوِّل ما هو عائقٌ عن عمل مُعيَّن إلى مُعينٍ على ذلك العمل، ويحول العقبة في طريقٍ ما إلى تقدُّمٍ على تلك الطريق» (٥-٢). «إذن حيثما وقف عائقٌ في طريقك فتقبَّل العائق كما هو وحوِّل جهدك بحكمة لمواجهة الظرف القائم، وسرعان ما سوف يحل فعلٌ جديدٌ محل السابق متلائمًا مع هذا الوضع الجديد الذي نتحدث عنه» (٨-٣٢). ليس في هذه المداورة العقلية أي حُيودٍ أو زيغٍ عن طريق العقل: «يتحرك السهم بطريقة، ويتحرك العقل بطريقةٍ أخرى، ومع ذلك فإن العقل، حتى عندما يمارس الحَيطة أو يدور حول بحثٍ معين، إنما يتحرك بنفس الاستقامة، ويمضي قُدمًا في طريقه» (٨-٦٠).
(١٠) مَنعة العقل
ذلك أن العقل من نفسه في حصنٍ حصين، إنه بمعزل وبمنجاةٍ من الأشياء الخارجية، «وما إن يسل نفسه ويكتشف قواه حتى ينفصل بذاته عن تقلُّبات الجسد» (٤-٣). وليس للأشياء الخارجية أي سلطان على العقل؛ إنها «هناك» … خاملةٌ محايدةٌ لا تملك للعقل ضرًّا ولا رشدًا. يقول ماركوس: «لا يمكن للأشياء ذاتها أن تمس النفس أقلَّ مساس. ليس لدى الأشياء مَدخلٌ إلى النفس وليس بمُكنتها أن تُدير النفس أو تُحرِّكها. إنما النفس تُدير ذاتها وتُحرِّك ذاتها، وتقيم لنفسها ما تراه ملائمًا من الأحكام على ما يَعرِض لها من أشياء» (٥-١٩). «لا تَفرِض الأشياء الخارجية، التي تطلبها أو تتجنبها، نفسَها عليكَ فرضًا، إنما أنت، بمعنًى ما، من يخرج إليها. فليهدأ حكمك عليها وسوف تهدأ هي بدورها، ولن تراك تسعى إليها بعدُ ولا تتجنبها» (١١-١١). «الأشياء واقفةٌ خارجنا، قائمةٌ بذاتها، لا تعرف شيئًا عن نفسها ولا تُدلي بشيء، ما الذي يدلي إذن؟ عقلنا المُوجِّه» (٩-١٥). «ينبغي أن يبقى الجزء المُوجِّه والحاكم من نفسك مُحصَّنًا من أي مجرى يجري في الجسد» (٥-٢٩). «… فمِن الخصائص التي ينفرد بها العقل أنه يعزل نفسه ولا يتأثر بنشاط الحواس أو نشاط الرغبات؛ فهذان النشاطان حيوانيان، بينما غاية النشاط العقلي أن يتسيد عليهما ولا يُسلم قِياده لهما؛ لأن طبيعته ذاتها هي أن يضع كل هذه الأشياء تحت إمرته» (٧-٥٥). «العقل المُوجِّه هو ذلك الذي يُوقظ نفسه، ويُضفي على نفسه الطبيعة التي يُريدها، ويجعل كل ما يحدث له يبدو على النحو الذي يُريده» (٦-٨). وإذا كان الجسد يعاني أو يتألم فذاك شأنه، أمَّا الروح فبمقدورها «أن تحتفظ بصفاتها وسكينتها وألَّا تُقيم الألم على أنه شر؛ لأن كل رأيٍ وحركةٍ ورغبةٍ ونفور هو في الداخل؛ حيث لا شر يمكن أن يبلغ إليه» (٨-٢٨). «العقل المُوجِّه لا يكرثُ نفسَه؛ فلا هو يُروِّعها ولا هو يسوقها إلى الرغبة، فليُروِّعها ما شاء أو يؤلمها فإنه بذاته وبحكمه الخاص لم يعمد إلى الالتفات إلى مثل هذه الحالات. فليحرص الجسد على تجنُّب الألم ما وسعه ذلك، ولتقُل النفس الحاسَّة إني أخاف أو أتألم. أمَّا العقل الذي يضع التقييم العام لكل هذه الأشياء فلن يعاني على الإطلاق؛ لن يندفع بنفسه إلى أيٍّ من هذه الأحكام؛ فالعقل المُوجِّه بحدِّ ذاته ليس به حاجةٌ ما لم يخلق الحاجة بنفسه؛ ومن ثَمَّ فهو لا يضر ولا يُعاق ما لم يَضُر نفسه أو يعقْ نفسه» (٧-١٦). «وحتى إذا جرفك الطوفان فليأخذْ جسدك البائس ونفَسَك الضئيل وكلَّ شيءٍ آخر، أمَّا العقل فلن يأخذه» (١٢-١٣). «… والعقل بترفُّعه بنفسه يحتفظ بسكينته، العقل المُوجِّه لا يعوقه الألم، وللأجزاء المتأثرة بالألم أن ترى فيه ما تراه» (٧-٣٣).
(١١) الضرر لا يكون إلا ذاتيًّا
يترتب على ما سبق أنْ ليس ثَمَّةَ من أذًى حقيقي يمكن أن يُصيب الإنسان إلا ما يَجرُّه العقل على نفسه، وذلك حين يخطئ في أحكامه، ليس ثَمَّةَ أذًى إلا الأذى الذاتي. «هل أساء إليك أحد؟ إنما إلى نفسه أساء» (٤-٢٦). «لا أذى لك يقبع في عقل غيرك، ولا حتى في أي تبدُّل أو تغيُّر لعطائك الجسدي. أين إذن يقبع الأذى؟ في ذلك الجزء منك الذي يضطلع بتكوين الأحكام عن الأذى. كُفَّ عن الحكم بأن بك أذًى تكنْ قد سَلِمتَ منه. ولو أن أقرب شيءٍ منه، وهو جسدك، تعرض لسكينٍ أو كيٍّ، أو تُرك ليتقيح أو يموت؛ فإن الملكة التي تحكم هذه الأحكام ينبغي أن تظل هادئة …» (٤-٣٩). «إنما تُؤذي النفسُ نفسَها عندما تُصبح كيانًا مُنفصلًا أَشبَه بورمٍ على جسد العالم؛ فالسخط على أي شيءٍ تَجري به الأقدار هو تَمرُّدٌ انفصالي عن الطبيعة … وحين تنأى بجانبها عن كائنٍ إنسانيٍّ آخر أو حين يلِجُّ بها الخِصام فتعمد إلى إيذائه. تلك هي حال الأنفس التي استبد بها الغضب، وحين تستسلم للذة أو للألم، وحين تتكلف وتُرائي وتفعل أو تقول غير الصدق وغير الحق، وحين تفقد الهدف وتَخبِط خبطَ عَشواءَ، فالفعل مهما صغُر ينبغي أن يُؤدَّى لغاية ويرمي إلى هدف. وغاية الكائنات العاقلة هي أن تتبع العقل وتلتزم قانون أقدمِ دولة وحكومة؛ العالم» (٢-١٦).
(١٢) الاستقلال عن إرادة الآخرين
يؤذي الإنسان نفسه حين يجعل سعادته معلَّقة على آراء الآخرين فيه وحديثهم عنه، ثم يريد أن يحصل عليها تسوُّلًا واستجداءً! «إنه شحاذٌ إذا اعتمد على الآخرِين ولم يذخر في نفسه كل ما يحتاج إليه في الحياة» (٤-٤٩). «السعادة تتعلق على تقدير الذات لذاتها، وما زِلتَ تحرمها من ذلك وتُعلِّق سعادتك على الآخرِين؛ ذواتهم وآرائهم وتقديراتهم» (٢-٦). «ما جدوى المديح؟ لكأني بك ترفض هِبَة الطبيعة التي أَودعَتك إياها، والتي لا تعتمد على أقوال الآخرين، وتتشبث بشيءٍ آخر» (٤-١٩). «كل ما هو جميلٌ على أي نحو من الأنحاء إنما هو جميلٌ «في ذاته»، يذخر جمالَه في لُبه وصميمه وليس المديح جزءًا منه؛ فالمَديحُ لا يجعل الشيء أفضل مما هو ولا أسوأ» (٤-٢٠). «لا تتلفَّت حولك لكي تُنقِّب في عقول الآخرِين، بل انظر أمامك، إلى ما تقودك إليه الطبيعة …» (٧-٥٥). «ما أهنأَ بالَه ذلك الذي لا يتطلع إلى ما يقوله جيرانه وما يفعلون وما يُفكِّرون، بل ينصرف إلى أفعاله هو ليجعلها عادلةً مُوقَّرةً مشربةً بالخير» (٤-١٨). «كيف تفهم خيرَكَ الخاص؟ عاشق الشهرة يجعل خيرَه في استجابات غيره، وعاشق اللذة يجعل خيره في خبرته السلبية. أمَّا الحكيم فيرى خيره هو أفعاله ذاتها» (٦-٥١).
(١٣) تَقبَّلْ قدَرَك
كلُّ ما يصيب الإنسان هو مُقدَّرٌ له منذ الأزل، وملائمٌ له لأنه ملائم لطبيعة العالم، وخيرٌ له لأنه خيرٌ ﻟ «الكل»، وعلى المرء أن يرضى بنصيبه ويَتقبَّل قدَره؛ لأنه خيرٌ له من جهة، ولأنه لا مفَرَّ منه من جهةٍ أخرى. «هل أَلمَّ بك شيء؟ حَسَن، كل ما أَلمَّ بك كان مُقدَّرًا لك من «الكل» منذ البداية ومنسوجًا من أجلك» (٤-٢٦). «لا تحب إلا ما أَلمَّ بك ونُسج لك من خيط مصيرك، فأيُّ شيء أنسب لك من هذا؟» (٧-٧٥).
يقول سِينِيكا: «القدَر يحدو العُقلاء ويُجرجِر الحَمقى.» ويقول ماركوس: «أسلم نفسك طواعيةً إلى «كلوثو»، إحدى إِلهات القدَر، ودَعْها تَغزلْ خيطك على أي شكلٍ شاءت» (٤-٣٤). «ما أَشبَه الإنسان المُتبرِّم بكل شيء والساخط على كل شيءٍ بخنزير الأضحية يرفُص ويَصرُخ. كهذا الخنزير أيضًا ذلك الإنسان الذي يندُب، صامتًا، في مَخدَعه كل القيود التي تربطنا بها. وحده الإنسان العاقل من أُلهم أن يختار الاستسلام طوعًا لما يحدث. على أن الاستسلام المحض ضرورةٌ مفروضةٌ علينا جميعًا» (١٠-٢٨). «مثلما نقول جميعًا إن الطبيب قد «وصف» لهذا ركوبَ الخيل، ولهذا حماماتٍ باردة، ولهذا المشيَ حافيَ القدمَين؛ فإن لنا أن نقول بنفس المعنى إن طبيعة «الكل» قد «وَصفَت» لهذا المرء المرضَ أو العجزَ أو أي شيءٍ آخر من هذه البلايا. في الحالة الأُولى تعني كلمة «وصف» شيئًا من هذا القبيل؛ أن الطبيب قد أوصى بهذا الإجراء لهذا الشخص لكي يجلب له الصحة. وفي الحالة الثانية تعني أن ما يقع لكل شخصٍ هو مُدبَّر بطريقةٍ ما لكي يفضي إلى مصيره. ونحن نتحدث عن ملاءمة هذه الأحداث مثلما يتحدث البنَّاءون عن ملاءمة قوالب الحَجَر في الجُدران أو الأهرامات عندما يتراصُّ بعضُها مع بعض في وضعٍ مُعيَّن؛ ذلك أنه في كلية الأشياء ثَمَّةَ توافُقٌ واحد، ومثلما تتحد الأجسام المادية جميعًا لتجعل العالم جسمًا واحدًا، كلًّا منسجمًا، كذلك تتحد الأسباب جميعًا لكي تجعل القدَر سببًا منسجمًا واحدًا. ذلك شيءٌ يفهمه حتى أقلُّ الناس علمًا؛ فهم يقولون «القدَر أحدث له هذا.» فإن كان القدَر «أَحدَث» فقد «وصَف» أيضًا. ولنقبل هذه الوصَفات مثلما نقبل وصَفات الطبيب؛ فكثيرًا ما تكون قاسيةً ولكننا نقبلها التماسًا للشفاء» (٥-٨).
(١٤) المبادئ الرُّواقية جاهزة للاستعمال
(١٥) فِعل الخَير ثوابُ ذاته
كذلك الخير حين يصبح في الإنسان طبيعةً وسجيةً فإنه يأتيه عفوًا من غير تكلُّف ولا جهد. إنه لينضح بالخير مثلما ينضح الإناء بما فيه، أو مثلما يُؤدِّي الكائن وظيفته الطبيعة لا يفتعلها ولا يكاد يعيها. «من الناس من إذا أسدى جميلًا إلى شخصٍ سارع بتسجيله في حسابه كدَينٍ مُستحَق. ومنهم من لا يسارع بذلك غير أنه يضمر في نفسه أن هذا الشخص مَدينٌ له، ويعي جيدًا بما فعله. وهناك صنفٌ ثالث هو بمعنى ما لا يعي ما أتاه ولا يحشد له ذِهنَه، وإنما هو كالكَرمة التي أهدت عناقيدها ولا ترتقب أي مقابل. الفرس وقد أتم السباق، والكلب وقد طارد، والنحلة وقد أفرغت عسلها، والإنسان الذي أسدى معروفًا؛ لا يَلحظ أيٌّ من هؤلاء ما صنع ولا يلتمس عليه شهودًا، بل يمضي إلى فعلٍ جديد كما تمضي الكرمة لِتُقدِّم عناقيدَ جديدة في الموسم الجديد. فلتكن واحدًا من هؤلاء الذين يجترحون الخيرات دون أن يلاحظوها» (٥-٦).
إن الرحمة غايةٌ في ذاتها وفعل الخير ثواب ذاته، يقول المعري في ذلك:
ويقول ابن الرومي:
وإن الحكيم، بحِسِّه الاجتماعي وبِتوحُّده برفاقه البشر، إنما يؤتي الخير إنصافًا لذاته وبرًّا بنفسه قبل أي شيءٍ آخر! «وإلَّا فأنت بعدُ لا تُحب رفاقك البشر من قلبك، وفعلك الخير لا يُبهِجك كغايةٍ في ذاته … ما زِلتَ تفعل البر بِوصفِه أدبًا وواجبًا وليس بِوصفِه برًّا بنفسك» (٧-١٣). «ما دُمتَ فَعلتَ خيرًا وتلقَّاه آخر، فما لك ما تزال تترقب، كالأبله، شيئًا ثالثًا إلى جانب هذَين؛ أن تنال صِيتًا بفعل الخير، أو تتلقَّى مقابلًا؟» (٧-٧٣). «هل صَنعتُ شيئًا ما من أجل الصالح العام؟ إذن فقَد تلقَّيتُ أجري. لتكن هذه دائمًا قناعتك ولا تكُفَّ أبدًا عن فعل الخير» (١١-٤). «الخطأ خطؤك إذا كُنتَ قد أَسبغتَ معروفًا دون أن تجعل هذا المعروف غايةً في ذاته، وتجعل فعلك هو ثواب ذاته الذي لا يفتقر إلى أي ثوابٍ آخر، فأي شيءٍ آخر تريده أيها الإنسان من فعل المعروف؟ أليس بكافٍ أنك قد فَعلتَ شيئًا متناغمًا مع طبيعتك ذاتها؛ أتريد الآن أن تضع ثمنًا له؟! وكأن العين تطلب مقابلًا على الرؤية، أو القدم على المشي! فمثلما خُلق هذان لغرضٍ معيَّن ويُحقِّقان طبيعتهما القويمة بأن يعملا وفقًا لفطرتهما الخاصة، كذلك الإنسان خُلق لكل يفعل الخير، وحيثما فعل الخير أو أسهم في الخير العام فقد فعل ما خُلق له ونال ما هو له» (٩-٤٢).
(١٦) انصرِف إلى اللحظة الحاضرة
يذهب ماركوس إلى أن المرء لا يملك في حقيقة الأمر إلا اللحظة الحاضرة؛ لأن ما عداها هو إما ماضٍ ذهب أو مستقبلٌ غيرُ معلومٍ وغيرُ مضمون. ينتج عن ذلك أن المرء لا يمكن أن يخسر إلا هذه اللحظة التي في يده؛ لأنه لا يملك شيئًا آخر حتى يخسره! «حين تتكدر في أي ظرفٍ فقد نسيتَ … أن كلًّا منا لا يعيش إلا اللحظة الحاضرة ولا يفقد إلا إياها» (١٢-٢٦).
يترتب على ذلك أمورٌ كثيرة ينبغي أن نلتفت إليها؛ أولها أننا يجب ألَّا نُسوِّف الخير، ويجب أن ننصرف إلى اللحظة الحاضرة ولا نُكدِّرها بأطياف مَشاهِد مضت، ولا بهواجسِ أمورٍ تأتي ولا تأتي. «انصرِف إلى المسألة التي أمامك، سواءٌ أكانت رأيًا أم عملًا أم كلمة. إنك تستحق ما أنت فيه؛ لأنك اخترتَ أن تكون صالحًا غدًا لا أن تكون صالحًا اليوم» (٨-٢٢).
ويترتب على ذلك أن الشهرة والمجد وخلود الذكر أوهام لا وجود لها: «اذكُر أن كلًّا منا لا يعيش إلا اللحظة الحاضرة، وما أضألها في الزمن، وأن كل ما سواها من العمر هو إمَّا ماضٍ غير عائد وإما مُستقبلٌ غير معلوم» (٣-١٠).
ويترتب عليه أن عبء اللحظة الحاضرة هو العبء الوحيد الذي ينبغي أن نحمله، وينبغي ألَّا نُثقِله بما ليس منه: «لا تُزعِج نفسك بالتأمُّل في المشهد الكليِّ لحياتك، لا تدَع فكرك يضُم في آنٍ معًا كلَّ ما أزعجك فيما مضى وكل ما يمكن أن يزعجك فيما بعدُ، بل اسأل نفسك في كل ظرفٍ حاضر: «أي شيء في هذا يفوق احتمالي وينوء بي؟» ولسوف تخجل من مثل هذا الإقرار. ثُمَّ ذكِّر نفسك أنه لا المستقبل ولا الماضي هو ما يثقُل عليك، بل الحاضر وحده. وكم يهون عبء الحاضر إذا أمكنك فقط أن تُحدِّده وتضعه في حجمه، وأن تُوبِّخ عقلك إذا كان يكِل عن الصمود لشيءٍ مخفف كل هذا التخفيف» (٨-٣٦).
(١٧) طُولُ الحياة غيرُ فارق
ويترتب على ذلك أيضًا أن طول الحياة غيرُ فارقٍ ما دمنا لا نملك إلا اللحظة الضئيلة الحاضرة ولا نخسر إلا إيَّاها: «حتى لو قُدِّر لك أن تعيش ثلاثة آلاف عام، أو عشرة أضعاف ذلك، فاذكُر دائمًا أنْ لا أحد يفقد أي حياةٍ غير تلك التي يحياها، أو يحيا أي حياة غير تلك التي يفقدها. ينتج من ذلك أن أطول حياةٍ وأقصرها سيَّان؛ فاللحظة الحاضرة واحدة في الجميع؛ ومن ثَمَّ فإن ما ينقضي متساوٍ أيضًا. يتبيَّن إذن أن الفقدان إنما هو فقدان لحظةٍ لا أكثر؛ ذلك أن المرء لا يمكن أن يفقد الماضي ولا المستقبل؛ فكيف يمكن أن يُسلب ما ليس يملك؟! تذكَّرْ إذن هذَين الشيئَين؛ أن الأشياء جميعًا هي ما هي منذ الأزل، تبدأ وتعود دوالَيك، وسيَّان أن يرى المرءُ نفس المشهد لمائة عام أو مائتَين أو ما لا نهاية من الأعوام. وأن ما يُسلَب من المُعمَّر هو ما يُسلَب من أقصر الناس عمرًا؛ فليس غير اللحظة الحاضرة ما يمكن أن يُسلب من الإنسان. فإذا صح أن هذه اللحظة هي كل ما يملكه فمن غير الممكن أن يفقد ما ليس يملك» (٢-١٤).
ينبغي إذن أن يتخلص الإنسان من هاجس التشبُّث بالحياة وكأن امتداد الأجل عامًا أو أعوامًا يمكن أن يُحدِث أي فارق. «كما لو أن إلهًا أخبرك أنك ستموت غدًا أو بعد غدٍ على الأكثر فلم تُعِّلق أهمية على فرق يومٍ واحد … كذلك ينبغي عليك ألا تتصور فارقًا يُذكر بين أن تموت بعد سنينَ طويلةٍ وأن تموت غدًا» (٤-٤٧). «استعرض في ذهنك قائمةً بأولئك الذين تشبثوا بالحياة فترةً طويلة، ماذا ربحوا من ذلك أكثر مما ربح من مات مُبكِّرًا؟ من المُؤكَّد أنهم يرقدون الآن جميعًا في قبورهم … انظر إلى هول فجوة الماضي من ورائك وإلى اللانهاية الأخرى من أمامك. ما الفَرق من هذا المنظور بين رضيعٍ عاش ثلاثة أيام ونسطور عاش ثلاثة أجيال؟» (٤-٥٠)، «كلُّ ما تراه سوف يزول سريعًا، وأولئك الذين يشهدون زواله سوف يزولون هم أنفسهم. مُت في أرذل العمر أو مُت قبل أوان موتك … كلاهما سيَّان» (٩-٣٣)، «ما من نشاطٍ يضيره أن يتوقف ما دام توقف في الوقت المناسب، ولا فاعله يضيره شيئًا أن هذا النشاط المُعيَّن قد توقف. وعلى ذلك فإذا بَلغَت جملة أفعاله، التي تُشكِّل حياته، نهايتَها في الوقت المناسب فلا ضَيرَ عليها من مُجرَّد التوقُّف، ولا ضَيرَ على من ختم هذه السلسلة من الأفعال في الوقت المناسب. أما الوقت والأجل فتحددهما الطبيعة؛ طبيعة الإنسان أحيانًا كما في الشيخوخة، وطبيعة العالم في كل الأحيان، والتي من خلال التغيير الدائم لأجزائها المُكوِّنة تُبقي العالم كله صبيًّا وعفيًّا. وكل ما ينفع العالم فهو حسنٌ وفي إبَّانه؛ لذا فلا بأسَ على الإطلاق بأن تنتهي حياة كلٍّ منا؛ فلا النهاية عيبٌ ولا اختيار ولا هي ضد الصالح العام، بل هي خير؛ إذ تقع في التوقيت الملائم ﻟ «الكل»، وتصب في صالحه، وتنسجم معه. فكذلك أيضًا يمشي المرء بعون الرب إذا مضى باختياره ووجهته على طريق الرب» (١٢-٢٣). «فلتأخذ دورك» في الفَناء ولا تنخذل، مت بحريةٍ على أقل تقدير! «حبات بخور كثيرة على نفس المذبح، إحداها تسقط أولًا، الأخرى لاحقًا … لا فرق» (٤-١٥).
(١٨) لا جديد تحت الشمس
وإذا كان المشهد الحياتي واحدًا منذ الأزل فماذا يُجديك من تكرار رؤيته؟ يقول لبيد بن ربيعة:
ويقول ماركوس: «مثلما يحدث لك في المُدرَّج وما شابه ذلك من الأمكنة؛ حيث ثبات المنظر ورتابة المشهد يبعثان على الضجر، كذلك الحال في خبرتك بالحياة ككل؛ كل شيء، هنا وهناك، هو نفس الشيء، وبنفس الأسباب، فإلى متى؟» (٦-٤٦). «انظر وراءك إلى الماضي؛ إلى كل التحوُّلات الشديدة للأُسر الحاكمة، وبوسعك عندئذٍ أن تتنبأ أيضًا بما سوف يكون؛ فمن المؤكد أنه سيكون مشابهًا لذلك تمامًا وأنه لا يمكن أن يحيد عن إيقاع الحاضر؛ ومن ثَمَّ فإنه سيَّان أن تتأمَّل الحياة البشرية أربعين سنة وأن تتأملها عشرة آلاف من السنين؛ فأي جديدٍ عساك تراه؟» (٧-٤٩).
يقول المعري في لزومياته:
ويقول ماركوس أوريليوس: «تأمَّل مثلًا عصر فيسباسيان، فسوف ترى نفس الأشياء؛ ناس تتزوج، وتنجب أطفالًا، ويدركها المرض، وتموت، وتقاتل، وتعيد، وتتاجر، وتفلح الأرض، وتجامل، وتتدافع، وتشك وتتآمر، وتتمنى موت الآخرِين، وتتذمَّر على نصيبها المقسوم، وتقع في الحب، وتكنز المال، وتتوق إلى منصب القنصل والملِك، والآن انقضت حياتهم وزالت. ثم عرِّج على زمن تراجان، سترى أيضًا نفس الأشياء، والحياة انقضت أيضًا. وانظر كذلك في الأزمنة الأخرى، والأمم كلها في الحقيقة، وسترى حيواتٍ كثيرةً من الكدح تنتهي بسقوطٍ سريع وتحلُّل إلى العناصر» (٤-٣٢). «كل ما يحدث فهو معتادٌ ومألوفٌ كالزهر في الربيع والفاكهة في الصيف. كذلك أيضًا المرض والموت، الافتراء والتآمر؛ وكل ما يَسُر الحمقى أو يُؤلمهم» (٤-٤٤). «… وأينما تُولِّ فسوف تجد الأشياء ذاتها التي يعُجُّ بها تاريخ العصور، القديمة منها والوسيطة والحديثة، وتعُجُّ بها المدن والديار في يومنا هذا، لا جديد … كل شيءٍ مألوف ومعروف … وزائل» (٧-١).
(١٩) التأهُّب للموت
«وما الموت؟ إن من يتأمل الموت في ذاته، ويُعمل فيه التحليل العقلي ليُجرِّده مما يرتبط به من دلالات سوف يخلُص إلى أنه لا يعدو أن يكون وظيفةً طبيعية. ومن يرتاع لوظيفةٍ من وظائف الطبيعة فهو طفلٌ غرير. ليس الموت وظيفةً طبيعية فحسب بل إنه أيضًا لِخَير الطبيعة وصالحها» (٢-١٢).
يرى ماركوس أنه لا وجه للخوف من الموت على كل الأحوال. لقد وُلدتَ أيها الإنسان وكَبرتَ وخبَرتَ كل ما تملكه الحياة من طرافة. «… فارحل الآن، فإذا كان لحياةٍ أخرى فلن يخلو حتى هذا الشاطئ من الآلهة، وإذا لم يكن هناك أي حياة أو حس فلن تعود تعاني من الآلام واللذات، ولن تعود مستعبدًا لوعاءٍ جسدي هو سيدٌ بالغ الدناءة بقَدْر ما إن عبدَه بالغُ الرفعة؛ فهذا عقلٌ وروحٌ، وذاك مُجرَّد تراب ودم» (٣-٣)، «من يخشى الموت إنما يخشى فقدان الحس أو يخشى حسًّا من صنفٍ آخر. فإذا كنت سوف تفقد الحس فلن تشعر أيضًا بأي أذى. أمَّا إذا كنت ستكتسب شعورًا مختلفًا فسوف تكون كائنًا آخر ولن تتوقف الحياة» (٨-٥٨).
الموت وظيفةٌ طبيعية لا عار فيها، وفعلٌ طبيعي ينبغي أن يؤديه المرء بإتقان كأي فعلٍ آخر! «ما دُمتَ تؤدي واجبك فلا تعبأ بما إذا كنت باردًا أو دافئًا، نعسان أو يقظًا، يمدحك الناس أو يذمونك، وبما إذا كنت تُحتضَر أو تفعل شيئًا آخر! فحتى هذا … فعل الاحتضار … هو أَحدُ أفعال الحياة. وبِحسبِك هنا أيضًا أن تُتقِن ما تفعله جهدَ ما تستطيع» (٦-٢). «الموت، شأنه شأن الميلاد، سرٌّ من أسرار الطبيعة: تضامٌّ، ثم انحلالٌ، للعناصر نفسها، لا عارَ في الأمر بكل تأكيد؛ فلا شيء فيه مناقضٌ لطبيعة الكائن العاقل أو مناقضٌ لمبدأ تكوينه» (٤-٥).
وما بالُ الإنسان يخشى الموت وكأنه لم يُجرِّبه من قبلُ ويطَّلع على نماذجَ منه في حياته السالفة؛ الموت تبدُّل مراحل، ولقد تبدَّلت عليك من قبلُ مراحلُ وأطوارٌ فهل كان في ذلك ما يدعو إلى الخوف؟! «انتهاء عمل، توقُّف نشاط أو حكم … هذا نوعٌ من الموت، ولكن لا ضير فيه. تحوَّل الآن إلى أطوار حياتك؛ الطفولة مثلًا، ثم المراهقة، الشباب، الشيخوخة. هنا أيضًا كل تغيُّرٍ هو موت (المرحلة): هل ثَمَّةَ من شيءٍ مخيف؟ وتحوَّل الآن إلى حياتك مع جدِّك، ثم مع أمك، ثم مع أبيك. وحيثما وَجدتَ أمثلةً أخرى عديدةً للتحلل أو التغير أو الانتهاء فاسأل نفسك: «هل كان ثَمَّةَ أي شيءٍ يدعو إلى الخوف؟» بالمثل، فلا شيء مخيفٌ في انتهاء، وتوقُّف، وتغيُّر حياتك بأَسْرها» (٩-٢١).
وللموت مباهجه أيضًا! ألم يقل المعري في سِقْط زنده:
وفي لزومياته:
ويقول ماركوس: «… فسوف يهون عندك لقاء الموت إذا نَظرتَ إلى الأمور التي سوف يُعفِيك منها والشَّخصيَّات التي لن تعود تُنغِّص روحك» (٩-٣). «الموت انعتاقٌ من أي استجابةٍ للحواس، ومن خيوط دُمَى الرغبة، ومن العقل التحليلي، ومن خدمة اللحم» (٦-٢٨). «انظُر أي عناء نحتمله في هذه المسافة (بين الميلاد والموت)، وأية صحبةٍ تكتنفنا فيها ومع أي صنفٍ من الناس، وفي أي جسدٍ واهن نقطعها بجهد جهيد» (٤-٥٠). ألا يكفي أن الموت يُخرِجُك من ضَجَر الرتابة والتَّكرار: «… كل شيءٍ هنا وهناك هو نفس الشيء وبنفس الأسباب، فإلى متى؟» (٦-٤٦).
«عليك إذن أن تقضي هذه الكِسرة الضئيلة من الزمان في تناغُم مع الطبيعة، وأن تُغادرها راضيًا، مثلما تسقط زيتونة حين تبلغ النضج، مُبارِكةً الأرضَ التي حَملَتها، وشاكرةً للشجرة التي مَنحَتها النماء» (٤-٤٨).
•••