الكتاب الثالث
(٣-٢) شيءٌ آخر عليك أن تلحظه؛ أنه حتى النواتج العرَضية لما يتم وفقًا للطبيعة لا يخلو من فتنةٍ وجاذبية. حين يُخبَز رغيفٌ، على سبيل المثال، فلا بُدَّ من أن تحدث تشقُّقاتٌ هنا وهناك ضد ما يقصده الخباز. على أن هذه التشقُّقات غير المُتعمَّدة تجذب العين بطريقةٍ ما وتُثير الشهية. التِّين أيضًا ينفلق عند تمام نضجه. وفي حالة الزيتون الذي يُنضَج على شجرته فإن قُرب التحلُّل نفسه يمنح ثمرتَه رونقًا مُعيَّنًا. كذلك سنابل القمح المنحنية إلى الأرض، وجَفن الأسد المُغضَّن، والزَّبَد المُتدفِّق من فم الخنزير، وغير ذلك كثير؛ كل أولئك أشياءُ تبدو بعيدةً عن الجمال حين تُؤخَذ على حِدَة، ولكنَّ تَرتُّبَها على عمليات الطبيعة يُضفِي عليها جمالًا وجاذبية. ومن ثَمَّ فأيُّ إنسانٍ لديه شعورٌ واستبصارٌ عميقٌ بتشغيلات «الكل» سوف يجد لذةً ما في كل جانبٍ منها تقريبا، بما في ذلك النواتج العَرَضية. مِثلُ هذا الإنسان سوف تُبهِجه زمجرة الوحوش بهجةً لا تقل عن بهجته بكل تمثيلات المُصوِّرِين والمثَّالِين، سوف يرى لونًا من التفتُّح والوسامة في امرأةٍ أو رجلٍ عجوز. ومثل هذا الإنسان سيكون قادرًا على أن ينظر بتوقُّرٍ إلى الفتنة الآسِرة في غلمانه أنفسهم. وكثيرٌ من مثل تلك المُدرَكات لن تروق كل إنسانٍ بل ذلك الذي أصبح على أُلفةٍ حقيقيةٍ مع الطبيعة ومع أعمالها.
(٣-٤) لا تُضيِّع ما تبقَّى من عمرك في الانشغال بالغير، ما لم يكن ذلك تصلًا بوجهٍ ما من أوجه الخير العام. لماذا تُجرد نفسك من الوقت من أجل مهمةٍ أخرى؟ أعني أن التفكير حول فلان، ماذا عساه يفعل ولماذا يقول أو يُضمر أو يُخطِّط وكل هذا الخط من التفكير، يَضِلُّ بك عن التأمُّل الدقيق في عقلك المُوجِّه نفسه.
لا … عليك أن تجتنب في مسار فكرك كل ما ليس له هدفٌ أو فائدة، وبخاصةٍ كلَّ ما هو فضوليٌّ خبيث. رُض نفسك على ألا تُجيل بخاطرك إلا تلك الأفكارَ التي بوُسعِكَ إن سُئلتَ فجأةً: «فيم تفكر الآن؟» أن تقول لتوِّك ما هي بصراحةٍ فتكون إجابتك دليلًا على أن أفكارك مستقيمةٌ وحسنةٌ وتليق بكائنٍ اجتماعيٍّ لا يُلقي بالًا لخيالات اللذة أو المُتع الحسية على الإطلاق، ومُبرَّأٍ من أي غَيرةٍ أو حسدٍ أو شكٍّ أو أي شيءٍ يُخجِل المرء من أن يعترف أنه خَطَرَ له.
فإنسانٌ مثل هذا، إذا لم يعُد يتنازل عن مكانه بين الصفوة الأخيار، هو أَشبَه بكاهنٍ وخادمٍ للآلهة، إنه يُلبِّي نداء الأُلوهة القابعة داخله، والتي تجعل المرء غير مُلطَّخ بالملذَّات وغير مُنغَّص بالآلام، لا تناله الإهانة ولا يعرف الخبث … مقاتلًا في أنبل حرب … لا يَجرِفه أيُّ انفعال، مُتشرِّبًا بالعدل حتى النُّخاع، يتقبل بمِلءِ قلبِه كُلَّ ما يُصِيبه وكلَّ ما هو مقسومٌ له، وقلما يتطلع إلى الآخرِين ما عساهم يقولون أو يفعلون أو يُفكِّرون؛ فبِحَسْبه ما يُكِبُّ عليه من عمل لكي يُتِمَّه، وبِحَسْبه نصيبُه المقدورُ من «الكل» لكي ينصرف إليه بهمةٍ لا تنقطع. فأمَّا عمله فيتقنه أيَّما إتقان، وأما نصيبه المقدور فهو قانع به؛ فنصيب كل امرئٍ هو رفيق رحلته وهو حادِيه في آنٍ معًا.
(٣-٦) إذا عَثَرتَ في حياة الإنسان على أي شيءٍ يُفضِّل العدالة والصدق والاعتدال والشجاعة — وباختصارٍ شيءٌ يَفضُل اكتفاءَ عقلك بذاته، ذلك الاكتفاءَ الذي يُمكِّنك من العمل وفقًا للعقل الصحيح ومن قَبول ما ليس لك به يدٌ من أحكام القضاء — أقول إذا أمكنك أن ترى شيئًا أفضلَ من هذا فاتجِهْ إليه بكل قلبِك وتمتع بما وجدته أفضل. ولكن إذا لم يتبينْ لك ما يفضُل الإلهَ نفسَه القابعَ في داخلك والذي يحكمُ جميعَ اندفاعاتِك، ويُمحِّصُ أفكارك، والذي نأى بنفسه، على حد قول سقراط، عن كل إملاءات الحواسِّ، والذي يعنو للآلهة ويرعى بني الإنسان؛ إذا وجَدتَ كل ما عداه ضئيلًا حقيرًا بالقياس إليه فلا تأبه لكل ما عداه؛ فأنت إذا مِلتَ مرةً إلى أي بديلٍ آخرَ فسيكون من العسير والمُعنِت أن تستعيد الصدارة لذلك الخير الذي تملكه ولا تملك غيره؛ ذلك أن من الضلال أن يُوضَع أي شيءٍ آخر، من مثل إطراء الناس أو السلطة أو الثروة أو اللذة، في منافسةٍ مع الخير العقلي والاجتماعي. قد تروقك كل هذه الأشياء لحظةً صغيرة، ولكنها قد تأخذ بزمامك فجأةً وتحملك بعيدًا؛ فعليك، مرةً أخرى، ببساطةٍ وحرية، أن تختار الأفضل وتَتشبَّث به.
– «ولكن الأفضل هو ما ينفع.»
– إذا كان نافعًا لك ككائنٍ عاقل فاتخذه، ولكن إذا كان نافعًا لك كمجرد حيوانٍ فانبُذْه وتمسَّكْ بحكم العقل دون مكابرة. كن فقط على بينةٍ من أنك قد أَعمَلتَ الرأي على نحوٍ صحيح.
(٣-٧) لا تَعُدَّه نافعًا لك أيَّ شيءٍ سوف يضطرك يومًا إلى أن تُخلِف وعدك، أو تتخلى عن وقارك، أو تكره أحدًا، أو تَشُك، أو تلعن، أو تُرائي، أو تشتهي أيَّ شيءٍ يتطلب التستُّر بالحيطان والحُجُب؛ فالرجل الذي أسلم قياده لعقله وأُلوهته وقدَّس عُلوَّها وامتيازها، لا يجعل من حياته مأساةً، ولا يئن، ولا يلجأ إلى الوحدة ولا إلى الصحبة الزائدة. والأهم أنه سوف يعيش دون سعيٍ إلى الموت ولا فرارٍ منه، ولن يبالي على الإطلاق بما إذا كانت مدة إقامة روحه في جسده ستطول أو تقصر. وحتى إذا تعين عليه أن يرحل هنا والآن فسوف يرحل بسهولةٍ كما لو كان يؤدي أي عملٍ آخر تقتضيه الأمانة واللياقة. إن شغله الوحيد طُول حياته هو ألَّا يحيد بفكره عن أي شيءٍ ينتمي إلى الكائن العاقل والاجتماعي.
(٣-٨) في عقل من هُذِّب وطُهِّر لن تجد أثرًا لصديدٍ أو لقروحٍ متهيجةٍ أو لتهيُّجٍ مُؤلمٍ تحت الجلد. إن أجله لا يُوافِيه قبل أن تكتمل حياته كشأنِ ممثلٍ يغادر المسرح قبل أن ينتهي دورُه وتتم المسرحية. وفضلًا عن ذلك، فلن تجد فيه أيَّ تذلُّلٍ عبوديٍّ أو تصنُّعٍ أو اعتمادٍ على الآخرِين أو انفصالٍ عنهم، أو أي شيء يُستجوَب عليه أو أي شيء يُتستَّر له.
(٣-٩) احترِمْ ملَكَة الرأي؛ فإليها يرجع كل شيء وعليها يتوقفُ ما إذا كان عقلك المُوجِّه ما زال يُضمر أي حكمٍ غيرِ متفقٍ مع الطبيعة أو مع جبلَّة الكائن العاقل. وهذه الملَكة هي التي تكفُل لك التفكير المُتأنِّي، والأُلفة بالآخرين والطاعة للآلهة.
لا شيء يُؤدِّي بك إلى سُمو العقل مثل قدرتك على أن تَعرِض كل عنصرٍ من عناصر خبرتك في الحياة على الفحص المنهجي والصادق، وقدرتِك على أن تنظر إلى الأشياء دائمًا بحيث يمكنك في الوقت نفسه أن تتأمل أي صنفٍ من العوالم هذا وأي دورٍ يُسهِم به هذا الشيء أو ذاك في هذا العالم، وأي قيمةٍ يتحلى بها كل شيءٍ بالنسبة إلى «الكل» وبالنسبة إلى الإنسان الذي هو مُواطِن هذه المدينة العُليا التي تُعَد سَائرُ المدن مجرد عائلاتٍ فيها.
سل نفسك إذن ماذا يكون هذا الشيءُ الذي يَعرِض لي الآن؟ وأي نوعٍ من الفضائل يلزمني لمواجهته؛ اللطف مثلًا أم الشجاعة أم الصدق أم الولاء أم البساطة أم الاكتفاء الذاتي … إلخ. إذن علينا في كل حالةٍ أن نقول: هذا جاء من الله، هذا من تصريف القَدَر وغَزْله، أو شيء أشبه بالمصادفة والاتفاق، وهذا من أحد إخوتي من بني الإنسان، قريبي وزميلي، وإن كان لا يعرف ما يليق بطبيعته ذاتها. غير أني أعرف؛ ومن ثَمَّ أُعامِله برفقٍ وعدل، مُتبعًا في ذلك القانون الطبيعي للأُخوَّة، على أن أحاول برغم ذلك أن أعطيه ما يستحقه بالضبط في الأمور المحايدة أخلاقيًّا.
(٣-١٢) إذا ما انصرفت إلى المهمة التي بين يديك، متبعًا العقل الصحيح بكل العزم والجد وخلوص النية، دون أن تسمح لأي شيء أن يشتتك، بل حافَظتَ على الجانب الإلهي فيك نقيًّا ثابتًا كما لو كان مقدرًا عليك أن تُقبض حالًا، إذا تمسكت بذلك غير طامعٍ في شيءٍ ولا متوجس من شيء، بل راضيًا بما تفعله الآن وفقًا للطبيعة وبصدقٍ بطولي في كل ما تقول وتقصد، فلسوف تعيش سعيدًا، ولم يملك أي إنسانٍ أن يصدك عن ذلك.
(٣-١٤) لا تتخبط ولا تخدع نفسك أكثر من ذلك؛ فما أحسبك سوف تقرأ مُدوَّناتك، ولا تواريخك عن قدماء الإغريق والرومان، ولا مختاراتك من الأدب التي أعددتَها لزمن شيخوختك. أَسرِع إذن إلى النهاية، وأَقلِع عن الآمال الزائفة. أَنقِذ نفسك إن كان لنفسك عندك أدنى اعتبار، قبل أن يفوت الأوان.
فإذا كان كل شيءٍ آخرَ مشتركًا مع كل ما ذكرت، يبقى هناك ذلك الذي يُميِّز الإنسان الصالح؛ أن يرضى ويَقنَع بما يجري عليه به القضاء وتنسجه خيوط قدَره، وألَّا يُدنِّس أُلوهته التي تقبَع داخل صدره أو يُعكِّر صَفوَها بخليطٍ من الانطباعات المُشوشة، بل يحفظها في سكينةٍ واتصالٍ وثيقٍ بالله، لا يقول غَيرَ الحق ولا يفعل غير العدل.
وإذا أنكر كلُّ الناس أنه يعيش حياةً بسيطةً ومتواضعةً وراضيةً فإنه لا يغضب على أيٍّ منهم، ولا يتنكَّبُ الطريق التي تُؤدِّي إلى الغاية النهائية للحياة؛ إلى هذه الغاية ينبغي أن يأتي نقيًّا، مُطمئنًّا، مُتأهبًا للرحيل، مُصطلِحًا تمامًا مع قدَره دون أي إكراه.