الكتاب الرابع
(٤-٢) لا تفعل شيئًا من غير هدف، أو من غير وفاقٍ مع مبادئ الفن؛ فن الحياة.
فلتمنح نفسك دائمًا هذا الاستجمام، ولتُجدِّد نفسك. ولتكن المبادئ العقلية التي سوف تعود إليها هناك وجيزةً وأساسيةً وكافيةً لأن تذهب بكل أَلمِكَ في الحال وتُعيدكَ إلى أموركَ المُستأنَفَة خاليًا من السخط عليها أو التبرُّم بها.
فعَلامَ أنت ساخطٌ؟ على اللؤم البشري؟ تَذكَّرْ أن الكائنات العاقلة قد خُلِقَت من أجل بعضها البعض، وأن الصفح جزءٌ من العدل، وأن الناس تفعل الشر عن غير عمد، واذكُرْ كم من الناس قد قَضَوا حياتهم في عداوةٍ وشكٍّ وبغضاء وحربٍ معلنة، ثم لَفَّتهم الأكفان وصاروا رمادًا، وكُفَّ عن لَجَاجتك.
أم تُراك ساخطًا على ما قُسِم لك من نصيبٍ في «الكل»؟ إذن فاذكر أنك مضطرٌّ إلى أن تختار؛ فإما عنايةٌ مُدبِّرة وإما ذرَّاتٌ عَمياءُ تلتقي كيفما اتفَق وتفترق. واذكُر البينات الكثيرة على أن العالم نوعٌ من المجتمع السياسي وكُفَّ عن لَجَاجتك، أم لعلك ما تزال واقعًا في قبضة الحاجات الجسدية؟ إذن فاذكُرْ أن العقل ما إن يسُلَّ نفسه ويكتشف قواه الخاصة حتى ينفصل بذاته عن حركة النفس الجسدية سواءٌ أكانت هذه الحركة هادئةً أم عنيفة. واذكر أيضًا كل ما سمعتَه وتَبيَّنتَه عن الألم واللذة، وكُف عن لَجَاجتك.
أم لعلك إذن تتحرق إلى شيءٍ من المجد، فاذكُرْ كم هو سريعُ النسيان هذا العالم، واذكر الفجوة الزمنية السابقة للحاضر واللاحقة عليه، وكم هو فارغٌ ذلك الإطراء الذي تجده من الآخرِينَ وكم هم مُتقلِّبون وعديمو الرأي أولئك الذين يتظاهرون بتأييدك، وكم هي ضيقةٌ تلك المساحةُ التي يجول فيها مَجدُك. الأرض برُّمتها مجرَّد نقطةٍ في الفضاء؛ فما أَهونَ ذلك الرُّكنَ الذي تقطنه وما أَقلَّهم وأهونهم أولئك الذي تَرتقِب منهم ها هنا التمجيد والمدح.
لن يبقى سوى هذا؛ حصنك الصغير الذي بين جنبَيك، فأْوِ إليه … حيث لا كرب، على الأقل، ولا وَصَب. كن سيد نفسك، وانظر إلى الأشياء كرجلٍ، كإنسانٍ، كمواطنٍ، ككائنٍ فانٍ. وبَينَ أَسرعِ الأفكار تلبيةً وإسعافًا لك اتجِهْ إلى هاتَين؛ الأولى: أن الأشياء لا يمكنها أن تمس العقل؛ إنها خارجيةٌ وخاملة، والاضطرابات لا تأتي إلا من رأيك الداخلي. والثانية: أن جميع تلك الأشياء التي تراها حولك ما تكاد تَنظُر إليها حتى تتغير ثم تزول. واعتبر دائمًا بكل ما شَهِدتَه بنفسك وقد تغيَّر وزال، العالم هو التغيُّر … والحياة هي الرأي.
(٤-٤) ما دام الجزء المفكر مشتركًا بيننا، فالعقل مشتركٌ أيضًا، وهو ما يجعلنا كائناتٍ عاقلة. ومشتركٌ بيننا أيضًا الآمر الذي يملي علينا ما نفعل وما لا نفعل. وإذا صح ذلك فبيننا أيضًا قانونٌ مشترك؛ ومن ثَمَّ فنحن مواطنون، نستظل معًا بدستور واحد. إذا صح ذلك فالعالم كله كأنه دولةٌ واحدةٌ وإلَّا فكيف يمكن للمرء أن يقول إن الجنس البشري كله يشارك في دستور عام؟ من هناك إذن، من هذه المدينة؛ الدولة المشتركة، نستمد عقلنا نفسه، قانونَنا، وإلَّا فمن أين نستمد؟ فكما أن الشطر الترابي مني مستمدٌّ من ترابٍ ما، والمائي من عنصره، والنفس الهوائي من مصدرٍ ما، والحار الناري من مصدره الخاص (فلا شيء يأتي من لا شيء، ولا يعود إلى لا شيء) كذلك العقل لديه أيضًا مَصدرُه.
(٤-٦) من الطبيعي، والضروري، أن تأتي مثل هذه الأفعال من مثل هؤلاء الناس، وإلا فهل تُؤمِّل في التين ألا يعود ينتج أَنفحتُه؟ تَذكَّر على كل حالٍ أن كليكما سوف يموت وشيكًا جدًّا، ولن يعود يُذكر بعد ذلك حتى اسمَاكُما.
(٤-٨) ما لا يجعل المرء أسوأ لا يمكن أن يجعل حياته أسوأ؛ فليس بوُسعِه أن يضيره لا من داخل ولا من خارج.
(٤-٩) كان من المُفيد للطبيعة أن يكون (الشيء) هكذا؛ ومن ثَمَّ كان من الضروري.
(٤-١١) لا تحكم على الأمور كما يحكم عليها من آذاك، أو كما يريدك أن تحكم، بل انظر إلى الأشياء كما هي عليه في الحقيقة.
(٤-١٢) كن دائمًا على استعداد للعمل بهذين المَبدأَين؛ أولًا: ألَّا تفعل إلا ما يملي عليك العقل الحاكم والمُشرِّع أن تفعله لخير الإنسانية. ثانيًا: أن تُغيِّر موقفك إذا كان هناك في الحقيقة من يُصحِّح لك رأيًا ما ويُرشِدك إلى ما هو أَقوَم. على أن ينبع هذا التحوُّل عن اقتناعٍ بالعدل أو بالخَيرِ العام، وأن تُعدِّل مَسارَك وفقًا لذلك وليسَ لمجرَّد اللذة أو الشعبية.
(٤-١٣) هل تملك عقلًا؟
– «نعم.»
– ولماذا لا تستعمله إذن؟ فإذا كان هذا يُؤدِّي وظيفته فماذا عساك تطلُب أكثر من ذلك؟
(٤-١٤) لقد وُجِدَت كجزءٍ من الكل. ولسوف تتلاشى في ذلك الذي أتى بك، أو بالأحرى سوف تُسترد مرةً ثانية، بالتحوُّل العنصري، إلى المبدأ المُولِّد (للعالم).
(٤-١٦) خلال عَشرة أيامٍ سوف تبدو إلهًا لأولئك الذين تبدو لهم الآن بهيمةً أو قردًا، إذا ما عُدتَ إلى مبادئك وإلى عبادة العقل.
(٤-١٧) لا تتصرَّف كما لو كنتَ سوف تُعمَّر آلاف السنين. الموت يَترصَّدك؛ فما دمت تعيش، وما دام بإمكانك … كُن خَيِّرًا.
(٤-١٨) ما أهنأَ بالَه ذلك الذي لا يتطلع إلى ما يقوله جيرانه وما يفعلون وما يُفكِّرون، بل ينصرف إلى أفعاله هو لِيجعلَها عادلةً مُوقَّرةً مُشربةً بالخير. لا تَلتفِت إذن إلى الشخصيات السوداء عن يمينك وشمالك، بل امضِ أمامَكَ سعيًا في الطريقِ المستقيمِ لا تَنحرِفْ عنه.
(٤-٢١) لعلك تسأل: إذا كانت الأرواح خالدةً فكيف يمكن للهواء أن يستوعبها جميعًا منذ بداية الزمان؟ حسنٌ … فكيف تستوعب الأرض كل تلك الأجسادِ التي تُدفن بها منذ تلك البداية السحيقة؟ فمثلما هو الحال هنا على الأرض؛ إذ تتحول الأجسام بعد مُقامها على الأرض، طال أو قصر، وتتحلل فتترك مكانًا لغيرها، كذلك الشأن بالنسبة للأرواح المرتحلة إلى الهواء؛ تبقى رَدحًا من الزمن ثم تَتغيَّر وتندثر وتتخذ طبيعةً ناريةً إذ يتلقاها المبدأ المولِّد للعالم، بذلك تترك مكانًا للمُقيمِين اللاحقِين، هذا هو الجواب عن مسألةِ خلودِ الأرواح.
ينبغي ألَّا نقتصر على النظر إلى الأجساد التي تُدفن هكذا بل نتأمَّل أيضًا كم من الحيوانات تُؤكَل كل يوم، نأكلها نحن وتأكلها المخلوقات الأخرى؛ مقاديرُ ضخمةٌ تُستهلَك وتُدفَن، بمعنًى ما، في أجساد آكليها. ومع ذلك فهناك مكانٌ لها؛ لأنها تتحول إلى دمٍ وإلى عُنصُرَي الهواء والنار.
(٤-٢٢) لا تَتخبَّطْ هنا وهناك، ولكن في كل حركةٍ من حركاتك كن عادلًا، وفي كل خَطرةٍ من خطراتِك التزِم مَلَكة الرأي والفهم.
(٤-٢٥) جَرِّبْ أيضًا كيف تُوافِقكَ حياةُ الإنسان الصالح، حياة ذلك القانع بنصيبه المقسوم من «الكل»، وبأفعاله العادلة ومُيولِه الخَيِّرة.
(٤-٢٦) أَرأيتَ إلى ذلك؟ فانظر إلى هذا أيضًا: لا تُرهِقْ نفسك، كن بسيطًا دائمًا. هل أساء إليك أحد؟ إنما إلى نفسه أساء، هل أَلَمَّ بك شيءٌ؟ حسنٌ، كل ما أَلَمَّ بك كان مُقدَّرًا لك من «الكل» منذ البداية ومنسوجًا لك. وباختصار، الحياة قصيرة؛ اغتَنمِ اللحظة الحاضرة بالعقل والعدل. كن صاحيًا في استرخائك.
(٤-٢٩) إذا كان غريبًا في العالم من لا يعرف مكوناته، فليس أقل غربةً من لا يعرف ماجَرَيَاته. إنه هاربٌ إذا تملص من المبدأ الاجتماعي، أعمى إذا غَضَّ عين العقل، شحَّاذٌ إذا اعتمد على الآخرِين ولم يَذخَر في نفسه كل ما يحتاج في الحياة، ورمٌ في الكون إذا انسحب وفصل نفسه عن مبدأ طبيعتنا المشتركة بتبرُّمه بنصيبه (إذ إن الطبيعة هي التي تجيء بنصيبك مثلما تجيءُ بكَ)، إنه منشقٌّ خارجٌ على المجتمع إذا سل رُوحَه من روح الكائنات العاقلة جميعًا، والتي هي وحدة.
(٤-٣١) أَحِبَّ الفن الذي تَعلَّمتَه، أيًّا كان، وارضَ به، واقضِ ما تبقَّى من حياتك كإنسانٍ نَذَر نفسه للآلهة بكل قلبه واحتسب عندها كل ما لديه، ولا تجعل من نفسك طاغيةً على أي إنسانٍ ولا عبدًا له.
(٤-٣٣) الألفاظ التي كانت شائعةً قديمًا هي الآن مهجورة، كذلك أيضًا أسماء الذين كانوا مشاهير ذات يومٍ هي بمعنًى ما مهجورة؛ كاميللوس، كايسو، فوليسوس، دينتاتوس، وبعدها بقليل سكيبيو وكاتو، ثم أوغسطس أيضًا، ثم هادريان وأنطونينوس. كل الأشياء تتلاشى وسرعان ما تتحول إلى أسطورةٍ سرعان أيضًا ما يَلُفُّها النسيان. هذا بالنسبة للذين تألَّقُوا على نحوٍ مُدهش. أمَّا البقية فما يكادون يَلفِظُون أنفاسهم الأخيرة حتى يختفون عن العين والفكر؛ فماذا تكون الذكرى الخالدة إذن؟ لا شيء؟
وإلى أين إذن ينبغي على المرء أن يَسعَى؟ إلى هنا فقط؛ فكرٍ صائب وفعلٍ للخير العام، وقولٍ لا يعرف الكذب، وتقبُّلٍ لكل ما يجري كشيءٍ ضروري وعاديٍّ ونابعٍ من مبدأٍ ومصدرٍ من الصنف نفسه.
(٤-٣٥) الكل زائل، الذاكر والمذكور معًا.
(٤-٣٦) تأمَّلْ دائمًا كل ما يأتي به التغيُّر، ورُضْ نفسك على فكرة أن طبيعة «الكل» لا تُولَع بشيءٍ قَدْر وَلَعَها بتغيير كل شكلٍ من الوجود إلى شكلٍ آخر، شبيهٍ ولكن جديد. كلُّ ما يوجد هو بمعنًى ما بذرةٌ لما يأتي بعده؛ فإذا كان مفهوم «البذرة» عندك محصورًا فيما يُوضع في الأرض، أو في الرحم، فذاك لعمري تفكيرٌ مُغرِقٌ في السُّوقيَّة.
(٤-٣٧) ستموت وشيكًا وما زِلتَ لا تتمتع بوضوح الفكر وصفاء النفس، ولم تتحرر بعدُ من الخوف من الأذى الخارجي، وما زِلتَ غير ودودٍ تجاهَ الجميع، وغيرَ مُوقنٍ بأن العدل هو مِلاكُ الحكمة.
(٤-٣٨) انظر إلى عقولهم المُوجِّهة، حتى أولئك الذين يُعَدُّون حكماءَ، انظر أيَّ الأشياء يجتنبونها ويَفرَقون منها، وأيَّ الأشياء يلتمسونها ويَسعَون إليها.
(٤-٤٠) انظر دائمًا إلى العالم على أنه كائنٌ حيٌّ واحدٌ، يتكون من مادةٍ واحدة وروحٍ واحدة. انظر كيف يذوب الكل في هذا الوعي الواحد، كيف تخضع كل أفعاله لنزوعٍ واحد، كيف تتعاون الأشياء جميعًا في كل ما يحدث، انظر أيضًا الغزل الدائم لخيط الشبكة ونسيجها.
(٤-٤١) أنت روحٌ ضئيلةٌ هنا وهناك … حاملةً جثة. (كما اعتاد إبكتيتوس أن يقول).
(٤-٤٢) التغيُّر: لا شيء في العملية شيء في ذاته، ولا شيء في النتيجة خيرٌ في ذاته.
(٤-٤٤) كل ما يحدث فهو معتادٌ ومألوفٌ كالزهر في الربيع والفاكهة في الصيف، كذلك أيضًا المرض والموت، الافتراء والتآمُر؛ وكُل ما يَسُر الحمقى أو يُؤلِمُهم.
(٤-٤٥) في سلاسل الأشياء فإن اللاحق يكون دائمًا مرتبطًا بما سبقه، لا مجرد إحصاءٍ بسيطٍ لأشياء منفصلةٍ ومجرد تعاقبٍ ضروري، بل ارتباطٍ عقلي، ومثلما أن الأشياء الموجودة مترابطةٌ بينها بانسجام، كذلك عمليات الصيرورة لا تَعرِضُ مجرد تتابُعٍ، بل انسجامًا صَميمًا مُدهِشًا.
(٤-٤٦) تذَكَّر دائمًا قول هيراقليطس: «موتُ التراب هو أن يصبح ماءً، وموتُ الماء ميلاد الهواء، وموت الهواء هو النار، وعَودٌ على بَدء.» تذكر أيضًا تصوُّرَه عن الإنسان الذي نَسِي طريقه إلى داره، وقوله إن الناس في خصامٍ مع ألصق رفيق؛ «العقل» الذي يحكم العالم، وأن الأشياء التي يُصادفونها كل يومٍ تبدو لهم غريبة. وتذكَّرْ أننا ينبغي ألَّا نعمل أو نتحدث كما لو كنا نيامًا، وأن النوم يَجلِب الوهم القولي والفعلي، وأننا ينبغي ألَّا نَحذُوَ حَذْوَ الأطفال مع آبائهم؛ فنقبل ببساطةٍ كُلَّ ما يُقال لنا.
(٤-٤٧) كما لو أن إلهًا أخبرك أنك ستموت غدًا أو بعد غدٍ على الأكثر فلم تُعلِّق أهميةً على فرق يومٍ واحد (ما لم تكن مُفرطًا في الهلع، فما أضيق الفرق)؛ كذلك ينبغي عليك ألَّا تَتصوَّر فارقًا يُذكر بين أن تموت بعد سنينَ طويلةٍ وأن تموت غدًا.
عليك إذن أن تقضي هذه الكسرة الضئيلة من الزمان في انسجامٍ مع الطبيعة، وغادرها راضيًا، مثلما تسقط زيتونةٌ حين تَبلُغ النُّضج، مُبارِكةً الأرض التي حَملَتها، وشاكرةً للشجرة التي مَنحَتها النماء.
وهل تُسمِّيه مُصابًا للإنسان، على كل حال، ذلك الذي لا يَشذُّ عن طبيعة الإنسان؟ أو تسميه شذوذًا عن طبيعة الإنسان ذلك الذي لا يتعارض مع أهداف طبيعته؟ حَسنٌ إذن. لقد تَعلَّمتَ ما هي هذه الأهداف، هل ثمة من شيءٍ في هذا المُصاب يمنعك من أن تكون عادلًا وشهمًا ومعتدلًا وحصيفًا وصادقًا وشريفًا وحرًّا، أو غير ذلك من الصفات التي تُحقِّق في اجتماعها طبيعة الإنسان الحقة؟ تذكر إذن في كل حدثٍ مُنغِّصٍ هذا المبدأ: «ليس هذا بالحظ السيء، بل احتمال هذا بنبالةٍ وكرمٍ هو حظٌ سعيد.»