الكتاب الخامس
(٥-١) في الصباح، عندما تجد نفسك غير راغبٍ في القيام، قل لنفسك: «إنني أصحو من نومي لكي أؤدِّي عملي كإنسان، أما زلتُ كارهًا أن أذهب لكي أؤدِّي ما خُلِقتُ من أجله وما وُجِدتُ في العالم لكي أُؤدِّيه؟ أم تُراني خُلِقتُ لكي أَلُفَّ نفسي بالأَغطية وأبقى دافئًا؟
– «ولكن هذا أهنأ وألذ.»
– «ولكن المرء بحاجةٍ إلى الراحة أيضًا.»
– حقًّا إنه لَبِحاجةٍ إلى الراحة، غير أن الطبيعة وَضعَت حدودًا للراحة، مثلما وَضعَت حدودًا للطعام والشراب، بينما أنت تتجاوز هذه الحدود، تتجاوز حاجتَك. أمَّا في الأعمال المنوطة بك فأنت تُقصِّر عن الحد وتقف دون الحد الأدنى من قدراتك. إنك إذن كارهٌ لنفسك؛ فلو كنتَ تُحبها لأَحببتَ طبيعتَك وإملاءاتِها.
– «ولكن أولئك المُحبِّين لصنائعهم يُرهقون أنفسهم في أدائها فلا يغتسلون ولا يطعمون.»
– ولكن اعتبارك لطبيعتِك أدنى من اعتبار الحدَّاد لحِرفة الحِدادة، والراقص لحِرفة الرقص، ومُحبِّ المال لماله، ومُحبِّ الظهور لمجده الضئيل. على أن هؤلاء حين يأخذهم الحماس يتجافَون عن الطعام والنوم حتى يُتقِنوا الأشياء التي يَصبُون إليها. أترى أنت أن العمل لصالح الجماعة هو أقلُّ أهميةً من هذا وأقلُّ استحقاقًا للجهد؟!
(٥-٤) سأبقى سائرًا في طريق الطبيعة حتى أسقُط وأخلُد إلى الراحة، فأَلفِظ أنفاسي الأخيرة في هذا الهواء ذاتِه الذي تَنفَّستُه عبر أيام عمري، وأَسقُط على ذات الأرض التي مَنحَت أبي بَذرَته ومَنحَت أمي دمها ومَنحَت مُرضعتي لبنها، الأرض التي أَطعمَتني يومًا بعد يوم وسَقَتني سنواتٍ طِوالًا، الأرض التي احتَملَت وطأتي عليها واحتَملَت مني كُلَّ ضروب الإساءة.
(٥-٥) تقول إنك تفتقر إلى حضور البديهة التي تنتزع به إعجاب الناس. حسنٌ، ولكن هناك خصالًا كثيرةً لا يمكن أن تتذرَّع بأنها لا تدخل ضمن قدراتك الطبيعية، فلتُطهِّر إذن تلك الفضائل التي هي في حوزتك بالكامل؛ الإخلاص، الوقار، الكد، إنكار الذات، الرضا، الإحسان، الصراحة، القناعة، الطيبة، الاستقلال، البساطة، التعقل، الشهامة. أرأيتَ كم من الفضائل بوُسعِك أن تأتيها ولا تتملَّص منها بحُجة افتقاد الموهبة أو المَلَكة ثم ما تزال راضيًا بأن تُقصِّر فيها عن الحد؟ وهل حقيقة افتقادك الموهبة الفطرية تُبيح لك أن تتذمر وتُقتِّر وتتزلَّف وتَنحِي باللوم على جسدك وتتملَّق الناس وتتباهى وتُوقِع عقلك في هذا الاضطراب؟ كلا، بحقِّ السماء، لعله كان بوُسعِك أن تتخلَّص من كل هذا منذ زمنٍ طويل فلا تُعابَ، إن أُعِبتَ، إلا بالعِيِّ والفَهاهة. وحتى هذان بمقدورك أن تُعالجهما ما لم تَستنِم إلى العِي وتَستمرِئ الفَهاهة.
– «نعم ولكن هذا بالضبط ما يجب أن يكون المرء واعيًا به؛ لأن من شأن الإنسان؛ الحيوان الاجتماعي، أن يكون على درايةٍ بفعله الاجتماعي، وأن يُهيب برفاقه حقًّا أن يكونوا واعِين به أيضًا.»
– حقًّا، غير أنك أَسأتَ فهم ما أَعنيه الآن؛ ولذا فسوف تقع ضمن إحدى الفئات الأولى التي ذكرتها؛ فهم أيضًا قد أضلَّهم نوعٌ ما من المنطق المعقول، ولكن إن شئتَ أن تتبع ما أَعنيه فلا تَخشَ من أن يُفضيَ بك إلى أي تقصيرٍ في الفعل الاجتماعي.
ذلك أنه في كلية الأشياء ثَمَّةَ توافقٌ واحد. ومثلما تتحد الأجسام المادية جميعًا لتجعل العالم جسمًا واحدًا، كلًّا منسجمًا، كذلك تتحد الأسباب جميعًا لكي تجعل القدَر سببًا منسجمًا واحدًا. ذلك شيءٌ يفهمه حتى أقل الناس علمًا؛ فهم يقولون: «القدَر أَحدَث له هذا.» فإن كان القدر «أحدث» فقد «وصف» أيضًا. ولنقبل هذه الوصفات مثلما نقبل وصفات الطبيب؛ فكثيرًا ما تكون قاسيةً ولكننا نقبلها التماسًا للشفاء.
ثَمَّةَ إذن سببان يحملانك على الرضا بما يجري لك؛ الأول أن ما حدث لك كان موصوفًا لك، وهو متعلقٌ بك، خيطٌ من القدَر مغزولٌ لك منذ الأزل بأقدم الأسباب. والثاني أن ما يصيب كل شخصٍ هو جزءٌ ضالعٌ في صلاح الكل واكتماله بل اتساقه مع نفسه؛ ذلك أن «الكل» يتشوه إذا أنت قَطَعتَ أدنى كِسرة من سياقه واتصاله؛ يصدق هذا على أجزائه المُكوِّنة كما يصدُق على أسبابه. وإنك لتقطع شيئًا — بقَدْر ما يمكنك ذلك — كلما تَبرَّمتَ بنصيبك. إنك تُدمِّر، بمعنًى ما، وتُخرِّب!
في كل هذا الضلال والتخبُّط، في كل هذا التدفُّق للوجود، الزمن، الحركة، الأشياء المُتحرِّكة، يُعجزني أن أجد أي شيءٍ جديرٍ بالثمين أو جديرٍ حتى بالسعي الجاد، بل، على العكس، ينبغي على المرء أن يُعلِّل نفسه بارتقاب الخلاص الطبيعي، وألَّا يَضجَر من انتظاره، وإنما يلتمس السلوى في هاتين الفكرتين فحسب؛ الأولى: أنه لن يصيبني إلا ما هو متناغمٌ مع طبيعة «الكل»، والثانية: أن بوُسعِي ألَّا أقترف أي شيءٍ فيه عصيانٌ لإلهي وللأُلوهة التي بداخلي. لا يمكن لأحدٍ أن يُرغِمني على هذا الإثم.
(٥-١١) في أي شيءٍ أستعمل نفسي الآن؟ سل نفسك هذا السؤال في كل مناسبة. تَفحَّصْ نفسك. ماذا يدور الآن في ذلك الجزء من نفسي الذي يُسمُّونه العقل المُوجِّه؟ أي صِنفٍ من النفوس لديَّ الآن؟ نفس طفلٍ، أَم صبيٍّ، أَم امرأةٍ، أَم طاغيةٍ، أَم حيوانٍ مُستأنَسٍ أَم حيوانٍ وَحشِي؟
(٥-١٣) مُكوَّنٌ أنا من صورةٍ ومادة، ولن تفنى أيٌّ منهما وتصير إلى عدم، كما أن أيًّا منهما لم تأتِ من عدم. إذن كل جزءٍ مني سوف يُقيَّض له مكانه الجديد في جزءٍ ما من العالم، وهذا الجزء سوف يتغير بدوره إلى جزءٍ آخرَ من العالم، وهكذا إلى غير نهاية. وثَمَّةَ تسلسلٌ مماثلٌ من التغيُّر أتى بي إلى الوجود، وبوالديَّ من قبل، وهكذا رُجُعًا إلى ما لا نهاية في الاتجاه المُقابِل. هذا حكمٌ لا ينقضه شيءٌ حتى لو كان العالم مُقدَّرًا له أن يَمُرَّ بدَوراتٍ من العَود الأبدي.
(٥-١٥) لا شيء من هذه الأشياء ينبغي أن يُسمَّى «إنسانيًّا» تلك التي لا تنتمي إلى الإنسان بما هو إنسان. إنها لا تلزمه كإنسان، ولا تهيب بها طبيعةُ الإنسان. إنها ليست كمالاتٍ لهذه الطبيعة؛ ومن ثَمَّ فهي لا تُشكِّل غاية الإنسان أيضًا، ولا حتى أية وسيلة لهذه الغاية الإنسانية التي هي الخير. وفضلًا عن ذلك، إذا كانت أيٌّ من هذه الأشياء تنتمي إلى الإنسان لَمَا حَقَّ لأي امرئٍ أن يزدريها أو يَصدِف عنها، ولَمَا كنا نُطري أي امرئٍ يُبدِي استغناءه عنها لو صح أنها خيراتٌ حقًّا، ولَمَا أمكن لمن يَزهَد في أيٍّ منها أن يكون امرءًا صالحًا، ولكن الحقيقة أنه كلما حَرَم المرء نفسه من هذه الأشياء وأشباهها، أو حُرم من أيٍّ منها، كان أَصبَر عنها وأكثر احتمالًا لفقدانها، وكان بنفس الدرجة … أَكثرَ إنسانية.
(٥-١٧) طلبُ المُحال جُنونٌ، ومُحالٌ على الشرِّير أن يَعمل على غير شاكِلتِه.
(٥-١٨) لن يصيب الكائنَ أيُّ شيءٍ لم تُؤهِّلْه الطبيعة لتَحمُّله، هاك شخصٌ آخرُ أصابه ما أصابك. ولأنه لا يُدرك ما وقع له أو لأنه يَتجمَّل ويتظاهر بالشجاعة فهو يبقى هادئًا. أليس من المُؤسِف إذن أن يكون الجهلُ والادِّعاء أقوى من الحِكمة؟!
(٥-٢٢) ما لا يَضِير المَدينة لا يَضِير مواطنيها أيضًا. ومتى وقع في ظنك أَنْ قد مسَّك ضرٌّ فطبِّق هذا المعيار: إذا كانت المدينةُ بخيرٍ فأنا إذن بخير. أمَّا إذا لَحِق أذًى حقًّا بالمدينة فإن عليك ألَّا تَغضَب بل أن تُبيِّن لمُرتكِبه ما عَجزَ عن رُؤيتِه بنَفسِه.
(٥-٢٣) انظُر مَليًّا كيف يُزاحُ كل ما هو قائمٌ وكل ما هو قادمٌ ويصير ماضيًا ويزول زوالًا. الوجود مِثل نهرٍ في تدفقٍ دائم، وأفعاله تعاقُبٌ ثابتٌ للتغير! وأسبابه لا تُحصَى في تنوُّعها. لا شيء يبقى ثابتًا حتى ما هو حاضرٌ عتيد. تأمَّل أيضًا الهُوَّة الفاغرة للماضي والمستقبل التي تبتلع كل شيء. أليس بأَحمقَ من يعيش وسط هذا كله ثم تُحدِّثه نفسه أن يَلِجَّ في الأمل أو يَهلِك في الكفاح أو يَسخَط على نصيبه؟! وكأن أي شيءٍ من هذا دائمٌ له أو مُقدَّرٌ أن يُؤرِّقه طويلًا.
(٥-٢٤) انظر في الوجود كله؛ الذي أنت أصغر أجزائه، وانظر في الزمان كله، الذي قُسِمَت لك منه لحظةٌ وجيزةٌ وهاربة، وانظر في القدَر وما هو معقودٌ بالقدر، وكم أنت جزءٌ ضئيلٌ منه.
(٥-٢٥) هل أساء إليَّ شخصٌ آخر؟ دَعْه وشأنه. إنه سيد نزعاته وسيد أفعاله. أمَّا أنا فأملك ما تقتضيني الطبيعةُ الكليةُ أن أملك، وسوف أفعل ما تقتضيني طبيعتي أن أفعل.
(٥-٢٦) ينبغي أن يبقى الجزء المُوجِّه والحاكم من نفسك مُحصَّنًا من أي مجرًى يجري في الجسد.
(٥-٢٧) «عِشْ مع الآلهة»، وإنه ليعيش مع الآلهة ذلك الذي يرون أن روحه قانعةٌ بنصيبها، تُؤدِّي ما تُمليه الأُلوهة … ذلك الشطرُ من نفسه الذي وَهبَه زيوس لكل شخصٍ لكي يحرسه ويُرشده. هذه الألوهة في كلٍّ منا هي فهمه وعقله.
(٥-٢٨) هل أنت مُحنَقٌ على الرجل المُنتِن أو الأبخر؟ ماذا تُريده أن يفعل؟ هكذا حالُ فمِه وهكذا حال آباطِه. ومن المُحتَّم أن تنبعث هذه الروائح من هذه الأشياء.
– «ولكنه أُعطِي عقلًا بوُسعِه إذا شاء أن يكتشف مَكمَن الأذى منه.»
– أفادك الله، إذن أنت أيضًا لستَ أقلَّ منه عقلًا. فليكُن عَقلُك مُحفِّزًا لعقله وأَظهِره على خطئه، ابذُل له النُّصح. فإذا ما استمع إلى نُصحِك فسوف تُبرِؤه من دائه، ولا داعي إلى الغضب. لا تكن منافقًا (تتجنب المسألة) ولا بَغِيًّا (تحتملها)!
ولكن ما دمتُ غير مُضطرٍّ لمثل ذلك فلسوف أبقى رجلًا حرًّا لا يملك أحدٌ أن يمنعني من أن أفعل ما أَوَدُّ فِعله؛ وما أَودُّ فعله هو أن أتبع ما تمليه طبيعة الكائن العاقل والاجتماعي.
(٥-٣٠) فِكر «الكل» هو فكرٌ اجتماعي. ومن المُتيقَّن أنه جَعَل الأشياء الدُّنيا من أجل الأشياء العُليا، وسلك الأشياء العليا في تناغمٍ بعضُها مع بعض. أَلَا ترى كيف سَخِر بعض المخلوقات، ونسَّق بين البعض، ووَضَع كلًّا في مكانه اللائق، وضَمَّ الكائنات العُليا معًا في وحدة العقل؟
(٥-٣١) كيف كان مسلكك حتى الآن تجاه الآلهة، وتجاه والدَيك وإخوتك وزوجك وأبنائك ومُعلمِيك ومُربِّيك وأصدقائك وأقاربك وخدمك؟ هل كان مبدؤك مع كل هؤلاء هو «لا تُؤذِ إنسانًا بالقول ولا بالفعل»؟ ذَكِّر نفسك كم قاسيتَ وكم تَحمَّلتَ، وأن رواية حياتك قد تمَّت الآن وخدمتك قد انتهت، وكم شَهِدتَ من جمالٍ، كم ازدرَيتَ من لذةٍ وألم، وكم ازدرَيتَ من مجدٍ، وكم كنتَ طيبًا مع غير الطيبِين.
(٥-٣٢) لماذا تَعمِد النفوس الجاهلة والحمقاء إلى مضايقة من لديه معرفةٌ وحكمة؟ حسنٌ، أية نفسٍ إذن تلك التي لديها معرفةٌ وحكمة؟ إنها تلك النفس التي تَعرفُ الأصلَ والغاية، وتعرف «العقل» الذي يتخلَّل الوجود كله ويدير العالم عبر الزمان كله في دوراتٍ ثابتة.
(٥-٣٤) بوسعك أن تقضي حياتك في فيضٍ متدفقٍ من السعادة إذا أمكنك أن تمضي في الطريق القويم، وأن تتبع طريق العقل في أحكامِكَ وأفعالِكَ، ثَمَّةَ شيئان تشترك فيها جميع الأنفس العاقلة؛ بشرًا وآلهة؛ أنها مُحصَّنةٌ من العوائق الخارجية، وأن الخير الذي تطلبه يقبَع في النزوع إلى العدالة وممارستها، وأنها لا تَرغَب فيما عدا ذلك.
(٥-٣٥) ما دام هذا ليس إثمًا من جانبي ولا هو نتاج لإثمي، وما دامت الجماعة بخير، فلماذا أُعنِّي نفسي به؟ وأي ضير منه على الجماعة؟
– «حسنٌ، ولكنها مهمةٌ عند القطيع.»
– وهل هذا يُبرِّر أن تُشارِك القطيع حماقته؟
(٥-٣٧) «كنتُ ذات يومٍ رجلًا محظوظًا، لا يتخلى عني الحظ في كل صغيرةٍ وكبيرة، واليوم تخلى عني لا أعلم كيف.»
– ولكن كلمة محظوظ تعني ذلك الرجلَ الذي حدَّد لنفسه حظًّا سعيدًا، والحظ السعيد هو نزوع النفس إلى الخير، هو الوجدانات الخيِّرة والأفعال الخيِّرة.
والاختلاف الجذري بين تصوُّر العامة للخيرات وتصوُّر الفيلسوف لها يُعَد ثيمةً محوريةً في «التأمُّلات»؛ فما يَعُدُّه عامة الناس خيرًا، كالثروة والصحة والشهرة والمنازل والرياش وغير ذلك من ضروب المظهر والزينة، يصنفها الفيلسوف الرُّواقي ضمن فئة «الأشياء الأسواء، أو غير الفارقة» indifferentia التي ليست بذاتها خيرًا ولا شرًّا.