الحديث الأول
هذا الحديث مع الله، لم أرَ مانعًا من نشره، بإذن الله طبعًا.
فأنت تعرف يا ربي أنَّه لم يبقَ لي وأنا في آخر أيامي غيرك.
وليس غيرك مَن أحب الحديث معه، وأن يكون آخر ما أكتب هو هذا الحديث.
ولا يسقط القلم من يدي إلَّا وهو يخط اسمك الأكرم، سبحانك، وأنت الذي أكرمت القلم وأقسمت به …
وبإذنك، أسألك أن يكون حديثي في كل شيء شاهدته وفكَّرت فيه في أثناء إقامتي في هذه الدنيا، دون حرج … وأن تقويني على نشره في حلقات أسبوعية …
كل حلقة يوم ثلاثاء …
ذكرى ابني الوحيد …
الذي وُلِدَ في الشهر الثالث …
وتُوفي في الثلاثين من عمره …
يوم ثلاثاء …
والشكر والحمد لك يا مَن نفسي بيده.
نعم يا ربي … لن أكتمك حديثًا … ولم يبقَ لي في حياتي الآن سوى الحديث معك … فقد عشت الحياة التي قدَّرتها لي أكثر من ثمانين عامًا … جعلت أهيمُ خلالها في كل وادٍ، حاملًا قلمًا أملأ به الأوراق بين جدٍّ وهزلٍ …
ولا أظن أنِّي فعلت بذلك خيرًا كثيرًا … ولكنِّي أذكرك كثيرًا … وأتحدَّث إليك طويلًا … وأعلم أنَّك تسمعني … لأنَّك سميع بصير .
ولكن الحديث معك ليس بيسير؛ لأنَّك عليم بكل شيء … وما أقوله تعرفه … وليس من حقي أن أسألك إجابة أو ردًّا … وليس لبشر أن تُكلِّمه أنت إلَّا وحيًا … ومن أكون أنا حتَّى تُحدثني أنت بالوحي!
وكيف وأنتم بشر ترون بعيونكم البشرية ما لا تراه العيون؟! وهل سنبقى في الآخرة بعيون وأجساد بشرية؟ أظن أنَّهم لم يسألوا ذلك.
رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا .
•••
وليس أدل على ذلك الإدراك والإجلال من كلمة ذلك العالِم «أينشتين» في قوله: «إنِّي أدين بأعمق الإجلال والتعظيم لهذه القدرة العجيبة التي تُفصِح عن نفسها في كل جزيء من جزيئات الكون» … وكلمة «كاستلر» عندما قال: «كلما ازداد تعمُّقنا في دراسة تركيب المادة تضاعف اقتناعنا بأنَّنا ما عرفناها … فإنَّ جزءًا منها سوف يظل إلى الأبد بعيدًا عن تعليلنا لأنَّه مخفي عنَّا … مخفي بمن؟ مخفي بالمُبْدِئ الأوحد: الله.»
•••
وأنا آسف يا ربي أسفًا شديدًا، ولا اعتراض لي عليك، ولكنَّها مجرد ملاحظة، لماذا وأنا أحبك هذا الحب لم تعطني لمعرفتك غير وسيلة اللغة، ولم توجهني إلى دراسة العلم! بل لقد كنت أكره المواد العلمية وأرسب منذ الصغر في دروس الحساب!
•••
يُحشرون! … نعم … إذن هو يوم حشر لهم أيضًا! … لكن يا ربي هل هم لهم أخطاء؟ … طبعًا، يجب أن أعرف ذلك، أليسوا مخلوقات؟! ما من مخلوق إلَّا وله أخطاؤه …
ولكن هل الجميع؟ … حتَّى الأنبياء؟
أنت تعصم مَنْ تحب عن الفعل … أمَّا النية فهي لصيقة الغريزة البشرية …
وبعد … إنِّي لا أُحدِّثك إلَّا بما أنت أعلم به مني … ولكن، أوَكان من الممكن أن أُحادثك فيما لا علم لك به وأنت يا ربي العظيم العليم بكل شيء … ولكنَّك لا تسأم حديثي؛ لأنَّك لا تعرف السأم … فإنَّك سميع دائم السمع للغط مخلوقاتك الكثيرة من أبعد المجرات إلى أصغر الحشرات.
انظر صحيح البخاري كتاب الرقاق، ج٨، ص١١٧ وما بعدها، وفيه: «قال أناس: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: «هل تُضارون في الشمس ليس دونها سحاب»؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: «هل تُضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب»؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: «فإنَّكم ترونه يوم القيامة كذلك» …» قال القسطلاني في تفسير قوله «ترونه كذلك»: «الكاف ليست لتشبيه المرئي؛ فليس لله شبيه، قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (الشورى: ١١)، وإنَّما هي لتشبيه الرؤية بالرؤية في الوضوح واليقين وعدم المجادلة ونفي الشك عنها.» (وإن كان المعلوم أنَّ المرء لا يستطيع رؤية الشمس وإنَّما هو يرى الشمس من بعد ملايين السنين الضوئية، إذ آلة الإبصار لا يُمكنها إدراك إلَّا ما ينطبع على عدستها قدر طاقتها البشرية المحدودة)، والخلف يؤولون المتشابه بصرفه عن معناه الحقيقي الموهم للتشبيه إلى معنى يليق بجلال الله وعظمته. لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (سورة الأنعام: الآية ١٠٣).
تفسير المنار بعد مبحث طويل ١٥٢ إلى ١٩٠، ج٩، قال: «وقد عُلِم مِمَّا تقدَّم أنَّه ليس في الرؤية البصرية نص أصولي ولا لغوي متواتر قطعي الرواية والدلالة يجعلها من العقائد المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة، وليست مِمَّا كان يُدعى إليه في تبليغ الدين مع التوحيد والرسالة بحيث يكون من يجهلها أو ينكرها كافرًا، وإنَّما هي من غريب العلم إلَّا على الذي يستنبطه من القرآن كبار العارفين، وربما كان فتنة لمن دونهم وكذلك كان، حتَّى إنَّ كِبار النُّظَّار وعلماء البيان قد اختلفوا في كل من الآيات الثلاث الواردة فيها: في سورة الأنعام والأعراف والقيامة» ثمَّ يختم الموضوع بقوله: «خلاصة الخلاصة أنَّ رؤية العباد لربهم في الآخرة حق، وأنَّها أعلى وأكمل النعيم الروحي الذي يرتقي إليه البشر في دار الكرامة والرضوان، وأنَّها أحق ما يصدق عليه قوله تعالى في كتابه المجيد: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ (السجدة: ١٧). وقوله في الحديث القدسي الذي رواه عنه رسول الله ﷺ: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.» وأنَّ هذا وذاك مِمَّا يدل على مذهب السلف الذي عبَّر بعضهم عنه بأوجز عبارة اتفق عليهم جميعهم «وهي أنَّها رؤية بلا كيف»، ويُؤيِّد ذلك اضطراب جميع أصناف العلماء في النصوص الواردة في نفيها وإثباتها سواء منهم أهل اللغة وأساطين البيان، ونظار الفلسفة وعلم الكلام، ورواة الأحاديث والآثار ومرتاضو الصوفية وأولو الكشف والإلهام، فلم تتفق طائفة من هؤلاء على قولٍ فصل قطعي تقنع به بقية الطوائف بدليلها» ا.ﻫ.
(فصل) في الرؤية ومجال التأويل في آيات رؤية الله تعالى ص١٢٨ وما بعدها، الجزء التاسع من تفسير المنار:
رؤية الله تعالى ربما قيل بادئ الرأي إنَّ آيات النفي فيها أصرح من آيات الإشارة كقوله تعالى: لَنْ تَرَانِي، وقوله تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، فهما أصرح دلالة على النفي من دلالة قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (القيامة: ٢٢ و٢٣)، فإنَّ استعمال النظر بمعنى الانتظار كثير في القرآن وكلام العرب، كقوله تعالى: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً (سورة يس: الآية ٤٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ (سورة الأعراف: الآية ٥٣). كقوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ (البقرة: ٢١٠) … فقد روى عبد بن حميد عن مجاهد تفسيره «ناظرة» بقوله: تنتظر الثواب، قال الحافظ بن حجر سنده إلى مجاهد صحيح.
وقد كان النبي ﷺ يعذر أصحابه في اختلاف فهمهم للنصوص ويقرُّهم على ما كان للاجتهاد فيه وجه وجيه، كما فهم بعضهم تحريم الخمر والميسر من آية البقرة التي رجَّحت إثمهما على منافعهما فتركوهما، ولم يتركهما من لم يفهم ذلك وهم الأكثرون إلَّا بعد نزول آية النفي العظمى باجتنابهما. فإذا فحصنا أسباب الخلاف من وجهة النصوص وحدها، وجدنا لكل من النفاة للرؤية والمثبتين لها ما يصح أن يكون له عذرًا عند الآخر بمنع جريمة التفرق في الدين، وجعل أهله أحزابًا وشيعًا متعادية غير مبالية بما ورد فيه من الوعيد الذي كاد يجعله كالكفر، ما دام كل منهم يعلم أنَّ الآخر يؤمن بأنَّ جميع ما جاء به الرسول ﷺ حق، وأنَّ الخلاف محصور في اختلاف الفهم.
ويقول في موضع آخر: «إنَّ الأحاديث الصحيحة من التصريح في إثبات الرؤية ما لا يمكن المِراء فيه، ولكن المراد من هذه الرؤية غير قطعي، وفيها ما قد يدل على عدم الرؤية، فيأتي فيها الخلاف بين السَّلف والخَلَف.
قوله تعالى: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ (سورة الأعراف: الآية ١٤٣).
وأحسن ما ورد في التفسير المأثور لهذه الأشياء مطابقًا لمعنى اللغة ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الرؤية عن ابن عباس فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ قال ما تجلَّى منه إلَّا قدر الخنصر جَعَلَهُ دَكًّا قال ترابًا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا قال مغشيًّا عليه. ا.ﻫ. من تفسير المنار.
عالم الفيزيقا النظرية، من أصل ألماني، وعاش في أمريكا، عُرِفَ بنظرية النسبية المشهورة. أجرى بحوثًا على ظاهرة الكهروضوئية، وضع أُسس «النظرية النسبية الخاصة»، ونال جائزة نوبل في الفيزيقا عام ١٩٢١م، ورحل إلى أمريكا، وتجنَّس بالجنسية الأمريكية (١٩٤٠م). أول من افترض وجود الضوء على هيئة كمات من الطاقة «فوتونات» وضع تكافؤ الكتلة والطاقة «النسبية الخاصة» وهو أنَّ الكتلة تُكافئ طاقة مقدارها حاصل ضرب الكتلة في مربع سرعة الضوء، والعلاقة بين التجاذب وعزم القصور. أخرج نظريته النسبية عام ١٩١٦م على أُسس رياضية، وهي تُحدِّد العلاقة بين الجاذبية وبين انحناء الفراغ ذي البعد الزمني الرابع.
(فصل) عقائد علماء الإفرنج في هذا العهد، ص٤١٢، ج١٠ (تفسير المنار):
«مُلخَّص القول في الدين عند الإفرنج كما يتراءى لنا: أنَّ العوام لا يزالون يخضعون لدين الكنائس ونظم رجالها في الجملة، ولعلهم يبلغون النصف في مجموع شعوبها، وأنَّ الملاحدة المُعطِّلين فيهم، على كثرتهم، هم الأقلون في النصف الآخر. وسائر النصف يؤمنون بأنَّ للعالم خالقًا وأنَّه واحد، عليم، حكيم يعرف بأثره في نظام العالم الكبير، وأمَّا ذاته فهي غيب مُطلق لا تتصور كُنهها العقول، ضرب له الفيلسوف الألماني أينشتين الشهير مثلًا غلامًا مميزًا دخل دارًا من دور الكتب منضوضة مرتبة من أدنى الحجرات إلى سقوفها؛ فهو يدرك أنَّ في هذه الكتب علومًا كثيرة مكتوبة بلغات مُتعدِّدة، وأنَّ الذين وضعوها في مواضعها أولو فهمٍ ونظام هندسي دقيق، وأمَّا ما دُوِّن فيها من العلوم والفنون فلا يصل عقل إلى أقل القليل منها».
ويختم التفتازاني هذا الموضوع بقوله: «إنَّ الحكم الذي أراه في هذه المسألة هو ما قرَّره الإمام أبو الحسن الأشعري حين ذهب إلى أنَّ الواجبات كلها سمعية، والعقل لا يُوجب شيئًا، ولا يقتضي تحسينًا ولا تقبيحًا، فمعرفة الله بالعقل تحصل وبالسمع تجب»، فإذا كانت بعض العقول تَقْوَى على معرفة وجود صانع لهذا الكون، فإنَّ هذه المعرفة، لا تعلُّق لها بالوحي، ونحن لا يجب علينا شيء إلَّا عن طريق الوحي أو السمع.
(راجع ندوة العلم والإيمان - التصوُّف الإسلامي.)
وكاستلر يرى ألَّا تعارض بين الدين والعلم، وأنَّ العلم قائم على السببية، والدين قائم على الغائية بمعنى أنَّ غاية الدين الوصول إلى معرفة الله والتقرُّب إليه، أمَّا العلم فهو ربط السبب بالنتيجة في الوصول إلى المعرفة على أساس الحواس.
المعنى أنَّ الإنسان الكامل يحتاج إلى العلم الدنيوي على أساس الحواس والعقل.
كما يحتاج إلى الدين المعتمد على الحدس والبصيرة لإدراك آخرته على أساس الإحساس والقلب …
والإنسان الكامل كما قال الإسلام يعيش لدنياه وآخرته.
وقال: «روى البيهقي في كتاب الأسماء والصفات هذا الأثر عن ابن عباس فقال: أنبأنا أبو عبد الله حدَّثنا أحمد بن يعقوب حدَّثنا عبيد بن غنَّام النخعي أنبأنا علي بن حكيم حدَّثنا شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس أنَّه قال: اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ، قال سبع أرضين في كلِّ أرضٍ نبي كنبيكم، وآدم كآدم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى.»
وجاء في صفحة ٢٥٢ الجزء الخامس من كتاب «إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري للقسطلاني»:
اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ في العدد، وفيه دلالة على أنَّ بعضها فوق بعض كالسموات، وعن بعض المتكلمين أنَّ المثلية في العدد خاصة وأنَّ السبع متجاورة. وقال ابن كثير: ومن حمل ذلك على سبعة أقاليم فقد أبعد النجعة وخالف القرآن، واختُلِف: هل أهل هذه الأرضين يشاهدون السماء ويستمدون الضوء منها؟ فقيل: يشاهدونها من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضوء منها، وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة، وقيل: لا إنَّما خلق الله لهم ضياءً يشاهدونه، وهذا قول من جعل الأرض كرة. قال ابن جرير: حدَّثنا عمرو بن علي ومحمد بن مثنى، قال: حدَّثنا محمد بن جعفر حدَّثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في هذه الآية قال: في كل أرض مثل إبراهيم ونحو ما على الأرض من الخلق، هكذا أخرجه مختصرًا وإسناده صحيح وأخرجه الحاكم والبيهقي.
عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي من العلماء الزاهدين المتعبدين تُوفِّيَ سنة ٦٧١ﻫ/١٢٧٣م.
تفسيره: «الجامع لأحكام القرآن، والمبين لما تضمَّن من السُّنَّة وآي الفرقان» وهو من أجلِّ التفاسير وأعظمها نفعًا، أسقط منه القصص والتواريخ، وأثبت عوضها أحكام القرآن واستنباط الأدلة وذكر القراءات والإعراب والناسخ والمنسوخ. ويقول الإمام القرطبي في مقدمة تفسيره: «… وشرطي في هذا الكتاب إضافة الأقوال إلى قائليها والأحاديث إلى مصنِّفيها، فإنَّه يُقال من بركة العلم أن يُضاف القول إلى قائله …إلخ»، وهو في الحق قد أثبت في تفسيره أقوال القائلين حتَّى المخالفين له في الرأي.
وقد قام توفيق الحكيم بعمل تلخيص لتفسير القرطبي على منوال مختار الصِّحاح وأسماه «مختار تفسير القرطبي».
(فصل) تحت عنوان: «آية نبوة محمد عقلية علمية وسائر آياته الكونية»، قال السيد رشيد رضا:
جعل الله تعالى نبوة محمد ورسالته قائمة على قواعد العلم والعقل في ثبوتها وفي موضعها، لأنَّ البشر قد بدءوا يدخلون في سنِّ الرشد والاستقلال النوعي الذي لا يخضع عقل صاحبه فيه لاتباع من تصدر عنهم أمور عجيبة مخالفة للنظام المألوف في سنن الكون، بل لا يكمُل ارتقاؤهم واستعدادهم بذلك، بل هو من موانعه، فجعل حُجَّة نبوة خاتم النبيين عين موضوع نبوته، وهو كتابه المُعْجِز للبشر بهدايته وعلومه وإعجازه اللفظي والمعنوي ليُربِّي البشر على الترقي في هذا الاستقلال إلى ما هم مستعدون له من الكمال.
هذا الفصل بين النبوات الخاصة السابقة على الإسلام، والنبوة العامة الباقية، قد عبَّر عنه النبي ﷺ بقوله: «ما من الأنبياء من نبي إلَّا وقد أُعْطِي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنَّما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وأما ما أقامه الله تعالى به من الآيات الكونية أو المعجزات فلم يكن لإقامة الحُجَّة على نبوته ورسالته، بل كان من رحمة الله تعالى وعنايته به وبأصحابه في الشدائد كنصرهم على الكُفَّار في بدر والأحزاب …» المنار ، ج١١، ص١٥٩ وما بعدها.
– قال الإمام النسفي في تفسير هذه الآية:
قرأ أبو حنيفة وابن عبد العزيز وابن سيرين رضي الله عنهم: «إنما يخشى اللهُ من عباده العلماءَ»، والخشية في هذه القراءة استعارة والمعنى: إنَّما يُعظِّم الله من عباده العلماء ا.ﻫ.
– وقال الإمام القرطبي في تفسيرها:
فإن قلتَ فما وجه قراءة من قرأ: «إنما يخشى اللهُ» بالرفع «من عباده العلماءَ» بالنصب وهو عمر بن عبد العزيز، وتُحْكَى عن أبي حنيفة؟ قلت: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى: إنَّما يجلُّهم الله ويُعظِّمهم كما يجلُّ المهيب المخشي من الرجال من بين جميع عباده. ا.ﻫ. كلام القرطبي.
إنَّ الله تعالى يُخاطب الناس على قدر عقولهم، وبالوسيلة التي يفهمون بها، وفي عهد الرسالة الإسلامية كانت اللغة هي الوسيلة الوحيدة للتفاهم والتبليغ، ولكن الله تعالى وهو علَّام الغيوب، كان يعلم أنَّ مستقبل البشر سيأتي بوسيلة أخرى تُضاعف من قدراتنا على فهم عظمة الله وهي العلم (الذي يكشف لنا عن وجود الفيروسات في دقائقها والمجرات في أحجامها) ولذلك قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (سورة فاطر: من الآية ٢٨) باعتبار أنَّهم في وقت قادم سيعرفون من عظمة الله ما لا هو معروف للبشر في عهد النبي، ولذلك لم يهمل وسيلة العلم في فهم عظمة الخالق، وهذا تفسير لاقتراحي على الأزهر أن يُنشئ قسمًا أعلى يُدرَّس فيه العلم فيما وصل إليه من مستويات معاصرة.
صاحب مذهب الحنيفية، أحد مذاهب أهل السُّنَّة الأربعة في الإسلام. وُلِدَ بالكوفة من أصل فارسي، لم تمنعه تجارة الحرير من طلب العلم والنبوغ فيه، فأخذ الفقه عن حمَّاد بن أبي سليمان، وروى عن التابعين وتابعيهم من أهل العراق والحجاز.
منهجه الأخذ من الكتاب والسُّنة وآراء الصحابة وفتاواهم، وهو مع ذلك يأخذ بالقياس والاستحسان، ويحترم العرف، ويأخذ به، وقد وُصِفَ بأنَّه من مجددي الإسلام في عصره.
ونراه مع ذلك لم يسلم، على فضله، من العنت والأذى حتَّى مات على أثر تعذيب الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور له. صار مذهبه بعد ذلك مذهبًا رسميًّا للدولة العباسية، وللدولة العثمانية، وفي مصر أيضًا.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (سورة البقرة: الآية ٦٢). هذه الآية يُوضِّحها الحديث الذي أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال:
التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى فقال اليهود للمسلمين: نحن خير منكم وديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن على دين إبراهيم، ولن يدخل الجنة إلَّا من كان هودًا، وقالت النصارى مثل ذلك، فقال المسلمون: كتابنا بعد كتابكم، وديننا بعد دينكم، وقد أمرنا أن تتبعونا، نحن خير منكم نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحق، ولن يدخل الجنة إلَّا من كان على ديننا. فأنزل الله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (سورة النساء: الآية ١٢٣).
قال السيد رشيد رضا: «أي أنَّ حكم الله العادل سواء وهو يُعاملهم سنَّة واحدة لا يُحابي فيها فريقًا ويظلم فريقًا، وحكم هذه السُّنة أنَّ لهم أجرهم المعلوم بوعد الله لهم على لسان رسولهم، ولا خوف عليهم من عذاب الله يوم يخاف الكفار والفجار مِمَّا يستقبلهم ولا هم يحزنون على شيء فاتهم …»
يقول السيد رشيد رضا في الإيمان بالعقل: «ذهب جمهور الحنفية وكذلك المعتزلة إلى أنَّ أصول الاعتقاد تدرك بالعقل، فلا تتوقَّف المؤاخذة عليها على بلوغ دعوة رسول، وإنَّما يجيء الرسل مُؤكِّدين لما يفهم العقل موضحين له ومبينين أمورًا لا يستقل بإدراكها: كأحوال الآخرة وكيفيات العبادة التي ترضي الله تعالى.
… ويقول الإمام الغزالي إنَّ الناس في شأن بعثة النبي ﷺ أصناف ثلاثة:
- (١)
مَنْ لم يعلم بها بالمرة — أي كأهل أمريكا لذلك العهد — وهؤلاء ناجون حتمًا (أي إن لم تكن بلغتهم دعوة أخرى صحيحة).
- (٢)
ومن بلغته الدعوة على وجهها ولم ينظر في أدلتها إهمالًا أو عنادًا أو استكبارًا وهؤلاء مؤاخذون حتمًا.
- (٣)
ومن بلغته على غير وجهها أو مع فقد شرطها، وهو أن تكون على وجه يحرك داعية النظر، وهؤلاء في معنى الصنف الأول.
وأقول في حل معنى الآية على هذا: «إنَّ أهل الأديان الإلهية، وهم الذين بلغتهم دعوة نبي على وجهها وشرطها إذا آمنوا بالله واليوم الآخر على الوجه الصحيح الذي بيَّنه نبيهم وعملوا الأعمال الصالحة فهم ناجون مأجورون عند الله تعالى، وإذا آمنوا على غير الوجه الصحيح كالمشبهة والحلولية والاتحادية وغيرهم، فلا ينالهم من هذا الوعد شيء بل يتناولهم الوعيد المذكور في الآيات الأخرى، وكذلك حال الذين يؤمنون بأقوالهم دون أعمالهم، فإنَّ الإيمان الصحيح هو صاحب السلطان الأعلى على القلب، والإرادة التي تُحرِّك الأعضاء في الأعمال … ولا يُعْقَل أن يكون من لم تبلغهم الدعوة بشرطها أو مطلقًا ناجين على سواء، وأن يكونوا كلهم في الجنة كأتباع الرسل في الإيمان الصحيح والعمل الصالح. إذ لو صحَّ هذا لكان بعث الرسل شرًّا من عدمه بالنسبة إلى أكثر الناس، والمعقول الموافق للنصوص أنَّ الله تعالى يُحاسب هؤلاء الذين لم تبلغهم دعوة ما بحسب ما عقلوا واعتقدوا من الحق والخير ومقابلهما».» ا.ﻫ. كلام السيد رشيد رضا، ص٣٣٨–٣٣٩، تفسير المنار، ج أول، طبعة المنار.
فيلسوف وطبيب مسلم. أصبح حُجَّةً في الطب والفلك والرياضة والفلسفة قبل سن العشرين. تنقَّل بين قصور الأمراء مشتغلًا بالتعليم والسياسة وتدبير شئون الدولة، تُوفِّيَ بهمذان.
قسَّم الفلسفة إلى ثلاثة: المنطق للوجود الذهني، الطبيعيات للوجود المادي المحسوس، الإلهيات للوجود العقلي.
أمَّا من ناحية علم النفس فهو يتبع أفلاطون وأرسطو.
وهو يدين بنظرية الفيض التي تشرح في نظره كيفية صدور الكثرة عن الواحد.
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.
فالله تعالى يصف المغالاة والتطرُّف في الدين بالضلال والإضلال «ضلوا وأضلوا»، وينهانا أن نفعل مثل أهل الكتاب ونغلو في ديننا، فالنصارى أكثرهم ألَّهوا عيسى عليه السلام ونحن منهيون عن تأليه محمد عليه السلام، واليهود غالوا في عصبيتهم وتطرُّفهم في تصوير «شعب الله المختار» فضلُّوا وأضلُّوا.
قال أبو حاتم: كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلمَّا أتيتُ على: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا الآية، قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير، كأنَّه أراد ولقد همَّت به ولولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها …. وقال أحمد بن يحيى: أي همَّت زليخا بالمعصية، وكانت مُصرَّة، وهمَّ يوسف ولم يُواقع ما همَّ له، فبين الهمتين فرق.
وقيل: همَّ بها تمنى زوجيتها. وقيل همَّ بها أي بضربها ودفعها عن نفسه، والبرهان كفَّه عن الضرب، إذ لو ضربها لأوهم أنَّه قصدها بالحرام فامتنعت فضربها. وقيل إنَّ همَّ يوسف كان «معصية»، وإنَّه جلس منها مجلس الرجل من امرأته، وإلى هذا القول ذهب معظم المفسرين وعامتهم، فيما ذكر القشيري أبو نصر، وابن الأنباري، والنحَّاس، والماوردي وغيرهم.
قال ابن عباس: حل الهميان وجلس منها مجلس الخائن، وعنه: استلقت على قفاها وقعد بين رجليها ينزع ثيابه.
قال سعيد بن جبير: أطلق تكة سراويله، وقال مجاهد: حلَّ السراويل حتَّى بلغ الأليتين … وجلس منها مجلس الرجل من امرأته. قال ابن عباس: ولمَّا قال: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ (سورة يوسف: من الآية ٥٢). قال له جبريل: ولا حين هممت بها يا يوسف؟ فقال عند ذلك: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي (سورة يوسف: من الآية ٥٣). قالوا: والانكفاف في مثل هذه الحالة دال على الإخلاص، وأعظم للثواب. قلت: وهذا كان سبب ثناء الله تعالى على ذي الكفل … وجواب «لولا» على هذا محذوف، أي لولا أن رأى برهان ربه لأمضى ما همَّ به … انتهى كلام القرطبي.
– ولقد رفض الإمام ابن قتيبة تفسير الهم بالفرار أو الضرب وردَّه، فقال في كتابه تأويل مشكل القرآن ص: ٤٠٣–٤٠٤: «يستوحش كثير من الناس من أن يُلْحِقُوا بالأنبياء ذنوبًا، ويحملهم التنزيه لهم صلوات الله عليهم على مخالفة كتاب الله عز وجل واستكراه التأويل، وعلى أن يلتمسوا لألفاظه المخارج البعيدة بالحيل الضعيفة وذلك كتأويلهم لقوله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا أنَّها همَّت بالمعصية وهمَّ هو بالفرار منها! وقال بعضهم: وهمَّ بضربها! والله تعالى يقول: لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ. أفتراه أراد الفرار منها أو الضرب لها، فلمَّا رأى برهان ربه أقام عندها وأمسك عن ضربها؟! هذا ما ليس به خفاء ولا يغلط متأوله، ولكنَّها همَّت بالمعصية همَّ نية واعتقاد، وهمَّ نبي الله ﷺ همًّا عارضًا بعد طول المراودة، وعند حدوث الشهوة التي أتى أكثر الأنبياء في هفواتهم منها، روى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس أنَّ رسول الله ﷺ قال: «ما مِنْ أحد من ولد آدم إلَّا وقد أخطأ أو همَّ بخطيئة ليس يحيى بن زكريا».» انتهى كلام الحافظ ابن قتيبة.
وإن كان الحافظ ابن كثير في قصص الأنبياء يميل إلى الفصل بأنَّه لم يقع في الفاحشة وأنَّ الله أعلم بتأويل باقي الآيات.