الحديث الثالث
وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا .
متعتي الوحيدة الآن يا ربي هي الحديث إليك … ولكنَّك تجعلني أسترسل مهتديًا بإرادتك …
وقد كنت نسيت ذلك …
وغير ذلك كثير … وأفضالك كثيرة … وتمنحني ما لم أطلب من التكريم الأدبي والرسمي، ولا أظن أنَّ القلادتين الأسمى في الدولة: «الجمهورية» و«النيل» قد مُنحتا لشخصٍ واحدٍ … والأخيرة دُعيت ولم أذهب لتسلُّمها حتَّى الآن … لأنِّي لم أفعل شيئًا أستحقها عليه سوى كُتب لا تنفع ولا تضر … ولكنَّه فضلك أنت وكرمك … ثمَّ حُبك لمخلوق مثلي، ليس عندك أكثر من حشرة …
هذا صحيح … فقد كنت يومًا أنظر في ورقة بيضاء لأكتب عليها الهراء الذي أكتبه، فرأيت نقطة سوداء دقيقة وضئيلة، أضأل من أي نقطة حبر، فحسبت أنَّ هذه النقطة قد سقطت من قلمي على الورقة … ولكنِّي رأيتها تتحرَّك، فدهشت وكذَّبت نظري، وأمعنت النظر فإذا هي تسير فعلًا، ولكن، كيف تسير هكذا؟ ما هذه السرعة؟ وحسَبت في نفسي هذه السرعة بالنسبة إلى حجمها الذي لا يكادُ يُرى بالعين المجردة، وقارنت بين حجمها وحجمي فاتضح لي أنَّه لو كانت لي سرعتها لكنت أسير في الطرقات بسرعة الطائرة النفَّاثة! ما هذه القوة الجبَّارة التي وضعتها بقدرتك في هذا المخلوق الضئيل! وكم من المولدات الكهربائية يلزمني أنا الإنسان لأسير بسرعة هذه النملة؟ ثمَّ النحل، كيف تستطيع النحلة أن تصنع بغير أدوات من خارج جسمها هذه الأشكال الهندسية الرائعة في تكويناتها السداسية وتملؤها بالعسل؟! ثمَّ … ثمَّ … ثمَّ … هناك ما لا يُحصى من عجائب خلقك!
كل مخلوقاتك يا ربِّ وضعتَ فيها نوعًا من العقل يُفكِّر ليُحافظ على وجوده … فإذا كان هناك امتياز لنا فهو في أسئلتنا …
منذ الطفولة حتَّى النهاية.
أقصد يا ربي الأسئلة للإجابة.
الطموح إلى المعرفة …
لكنَّك القائل:
– لماذا يا ربي؟ ربما كان ذلك رحمةً بنا؟ هل الغلو في العلم أكثر مِمَّا ينبغي مدمر لحياتنا؟
أنت أدرى بحكمتك يا خالقنا العظيم …
كل ما أسألك من نعمة هي حكمتك ورحمتك …
•••
لا أسألك متعة من متع الدنيا!
أعطيتني القناعة والاعتدال، فلم أشعر بحرمان.
وفي الآخرة …
لا أتطلَّع إلى الجنة؛ لأنَّها جزاء للمتقين، وأنا لا أُريد جزاء ومكافأة على حبك وتقواك …
والنار …
لن تجعلها تمسني، فهناك رحمتك …
ولذلك يا ربي العزيز تخلَّف المسلمون على وجه الأرض؛ لأنَّهم لا يُفكِّرون … ولا حتَّى في قمة الإيمان؛ لأنَّ الإيمان … هو الذي أنقذ عمر بن الخطاب من شكِّه في الإسراء.
وتعليق على الغزالي في فضل العلم العقلي أنَّ معرفة الله تعالى لا يُمكن أن تتم بالعلم فقط؛ لأنَّ الله قال: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء: ٨٥) … فلا يُمكن إذن إدراك الله بالعلم فقط إلَّا إذا أدخلنا الله في باب القليل الذي أوتيه الإنسان … وهو تعالى الأكبر … وهو بكبره وعظمته لا يُحشر في عقلنا البشري الصغير القليل …
ولكن فلنصبر … يوجد ليل ونهار في حياة الأمم، هذا قانونك … وأنا بإرادتك اشتغلت بالقانون … وكذلك أبي … لقد اشتغلت بكل شيءٍ … بلا موهبة … ولكنِّي كثير الأسئلة … دون أن أظفر بإجابة …
ومِمَّن أنتظر الإجابة؟
منك طبعًا …
إنِّي أحبك، ومعنى حبي لك: معرفتك …
إنَّك اصطفيت محمدًا وأردته بشرًا، ولم تمنحه من معرفتك إلَّا القدر الذي يحتمله البشر … ويوم سأله قومه عن الرُّوح لم تكشف له عن سرِّها، وأوحيت إليه: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (سورة الإسراء: من الآية ٨٥).
نعم … نعم … المعرفة …
ولكن ماذا أفعل بالمعرفة؟
لست أدري … أريدها …
الناس تريد الجنة … ويعبدون الله من أجلها! …
أمَّا أنا لست أطلبها … وهذا شقائي …
المحال، نعم أحب المطلق …
أحب مَنْ لا يُمكن أن تحبني …
في شبابي نظرت إلى امرأة أحبها … فرأيتها تنظر إليَّ طويلًا، وتهمس كلمة واحدة: «مستحيل» …
ولعل ذلك الشاعر الألماني الذي ذكرته كان واقعًا في الحب، ومات أيضًا بسبب الحب … موتة جديرة بشاعرٍ! … أراد أن يُقدِّم إلى محبوبته وردة، فاقتطفها من شجرة، فوخزه شوكها وسال الدم من أصبعه … وتسمَّم الجرح فمات … وهذه هي قصيدته:
وجاء في كتابي «أرني الله» عام ١٩٥٣م أنَّ رجلًا ذهب إلى ناسك من رجال الدين وقال له: «أُريد أن أرى الله! فأجابه: إنَّ الله لا يُرى بحواسنا الجسدية … ولكنَّه يتكشَّف لروحك إذا ظفرتَ بحبه … فسأل الرجل: كم مثلًا؟ … فقال الناسك: حذار الطمع، مستحيل لبشر أن يطيق مثقال ذرة من حبه تعالى، ولكنِّي أسأل الله لك ربع ذرة من حبه. واستجاب الله … وإذا الرجل يفقد عقله من قوة نور الله، وحاول الناس أن يكلِّموه فلم يسمع … فقال الناسك للناس: لا جدوى … كيف يسمع كلام الآدميين مَن كان في قلبه ربع ذرة من حب الله … والله لو نشرتموه بالمنشار لما علم بذلك.»
إنَّ ربع ذرة من نور الله تكفي لتحطيم تركيبنا الآدمي وإتلاف جهازنا العقلي!
– أورده الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ (سورة آل عمران من الآية: ١٩١). وأورده الإمام الغزالي في الإحياء بلفظ «كلمة من الحكمة يسمعها المؤمن فيعمل بها ويعلمها خير له من عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها» قال الحافظ العراقي: رواه الديلمي في مسند الفردوس من رواية محمد بن محمد بن علي بن الأشعث: حدَّثنا شريح بن عبد الكريم التميمي، حدَّثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، حدَّثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن حسَّان بن عطية عن محمد بن أبي عائشة عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه فذكره دون قول فيعمل بها ويعلمها …
وقال السيد مرتضى في تخريجه: رواه الديلمي أيضًا عن أبي هريرة: «كلمة يسمعها الرجل خير له من عبادة سنة والجلوس عند مذاكرة العلم خير من عتق رقبة.»
صار إمام الحرمين وانتشر ذكره في الآفاق، وقام بالتدريس في المدرسة النظامية في بغداد، ثمَّ حج وترك الدنيا، واختار الزهد والعبادة، وبالغ في تهذيب الأخلاق، ودخل بلاد الشام، وصنَّف كتبًا كثيرة أشهرها: إحياء علوم الدين، جعله على أربعة أرباع: ربع العبادات، وربع العادات، وربع المهلكات، وربع المنجيات. ثمَّ عاد إلى خراسان مواظبًا على العبادات إلى أن انتقل إلى جوار ربه سنة ٥٠٥ﻫ/١١١١م بمدينة طوس بخراسان عن ٥٤ عامًا، له في التوحيد كتاب «المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال»، وله «مقاصد الفلاسفة»، وله أيضًا «تهافت الفلاسفة»، وله كتاب «مكاشفة القلوب»، وله أيضًا «منهاج العابدين» ويُسمِّيه أهل السُّنَّة بحُجَّة الإسلام.
-
أورده البيهقي في السُّنَن.
-
أورده الإمام القرطبي قال: روى محمد بن سعد أخبرنا الفضل ابن دكين قال: حدَّثنا منعل عن ثور عن خالد بن معدان قال: «… الحديث.»
-
ذكره الإمام الطبراني في الأوسط.
-
وأورده الإمام الغزالي في آداب المسافر وزاد في رواية أخرى ستة أشياء: «المرآة والقارورة والمقراض والسواك والمشط.»
شاعر فيلسوف وُلِدَ في «براغ» من أصل نمساوي، وهب نفسه للفن، وجاب أنحاء النمسا وألمانيا وإيطاليا وفرنسا، وكانت رحلته إلى الروسيا دافعًا قويًّا لنزعته الصوفية. ثمَّ جاءت صداقته وملازمته للمثَّال «أوجست رودان» (١٨٤٠–١٩١٧م) تصقل مواهبه وتضيف عمقًا إلى نظرته الفنية وفلسفته. وقد كتب كتابًا عن «رودان» بعد وفاته، وله محاولة وحيدة في القصة وأخيرًا أشعاره الرائعة التي تُرْجِمَت لأكثر من سبع لغات تحت عنوان «دونييزير إيليجيان» وتُوفِّيَ في سويسرا مُخلِّفًا فنًّا خالدًا، ويُعدُّ من أبرز شعراء ألمانيا في العصر الحديث.