شبابنا والثورة
كلَّما مرَّ وقت على ثورة مصر خُيِّل إلينا أننا قد انفصلنا عن تاريخنا السابق حتى لكأننا لا نعرفه.
فإنَّ الفرق في المبادئ والأفكار والخطط كبير عظيم، وكثير من شبابنا يجهلون هذا الفرق؛ لأنهم لم يكونوا على وعي بالمجتمع السائد في مصر قبل عشرين سنة، وكذلك بالحكومات المستبدة، وبسلطان المستعمرين، وبالارتخاء العامِّ في الإدارة الشعبية، وتأخر التعليم، وموت الصناعة، وحجاب المرأة.
لقد عشنا، نحن الشيوخ، في دنيا كان يسودها الفقر؛ إذ مرَّت بنا سنون لم يكن يزيد فيها أجر العامل في الصعيد على عشرين مليمًا في اليوم، وكان الجندي يتناول قرشًا واحدًا في اليوم؛ إذ كان الضباط الإنجليز يريدون إذلاله قبل كل شيء، ولم يكن يجاز لمصري بأن يؤسس مصنعًا، ولو نجح بالوسائل والشفاعات في تأسيسه لكانت الخسارة محققة لإغراق السوق بالبضائع الأجنبية، ولم يكن يؤذن لنا بإنشاء جامعة، بل إني أذكر عندما كنتُ طالبًا بالمدرسة الثانوية أنه لم يكن في القُطر المصري كله سوى ثلاث مدارس ثانوية، وكان المستعمرون من الإنجليز والرجعيون من المصريين على رأي واحد في إبقاء المرأة في الحجاب وتحريم التعليم عليها، حتى بقينا بعد ١٨٨٢، أي سنة الاحتلال المشئومة، بقينا نحو أربعين سنة وليس لوزارة المعارف سوى مدرسة ابتدائية واحدة للبنات.
وإلى هذا سلط المستعمرون والمستبدون علينا شبكة من الجاسوسية تحت أسماء «البوليس السياسي» و«القلم المخصوص» ونحو ذلك، كانت تراقب ما نقوله وما نكتبه، وتقدمنا للمحاكمة بتهمة الدعوة إلى المبادئ الهدَّامة أو الثورة على العرش أو احتقار السلطة الشرعية أو حتى احتقار ملك أجنبي.
وقد اتُّهِمتُ أنا في سنة ١٩٤٦ بأني أدعو إلى الجمهورية والاشتراكية وأُلقيَ بي في السجن نحو أسبوعين، كان منهما عشرة أيام على الإسفلت، وعمَّ الفساد بلادنا، فلم يكن يُعيَّن في وظيفة حسنة إلا أبناء الإقطاعيين، بل إن أحد العلماء وصف فاروق الفاسق بأن الله قد اختاره لتجديد الدين في مصر، وكتب أحد القضاة في أحد أحكامه يقول: إن الشعب كله في خدمة الملك، وكان لنا سفراء في عواصم البلاد كل ميزاتهم أنهم يلعبون الجولف أو التنس، وكان لنا وزراء يركعون على الركب أمام فاروق ويقبلون يده النجسة.
كل هذا، وأكثر منه، رأيناه وقاسيناه وعشناه.
ولذلك نعرف قيمة الثورة.
الثورة أعطتنا الكرامة بدلًا من الذل، أعطتنا الاستقلال بدلًا من الاحتلال، واعترفتْ للمرأة المصرية بكرامة جديدة وأدخلتها بمجلس الأمة، وألفت لنا جيشًا، وأسست لنا المصانع، وجعلت التعليم حقًّا مباحًا للفقير كما هو للغني، وضربت الإقطاع في أساسه، ومسحت من تاريخنا عارَ قناة السويس التي أممتها في وجه الأعداء الأقوياء، وزرعت الصحراء، وأقامت المشاريع الاقتصادية على النيل، وفوق كل هذا وذاك طردت من مصر الفسق والدعارة والذل والرشوة والنذالة بخلع فاروق.
هذه الدنيا الجديدة لا نعرف قيمتها إلا بالمقارنة مع دنيانا القديمة؛ ولذلك نحن الشيوخ نُقدِّر الثورة، ونرغب في المحافظة عليها؛ لأننا نخشى العودة إلى ما كنَّا عليه من فساد وانهيار.
ويمكن أن نعرِّف الثورة بأنها: هدمٌ للماضي وبناءٌ للمستقبل.
وقد هدمنا الكثير من الماضي البالي وشرعنا في البناء للمستقبل، ولكن هذا البناء ليست له نهاية نقف عندها، وهنا واجب الشباب.
إن أعباء المستقبل يجب أن يحملها شباب مصر، فنحن الشيوخ زائلون أو قد اقتربنا من الزوال، وأمام كل شاب نحو نصف قرن سيحيا سنيها في هذا الوطن المقدَّس، فعليه أن يبني، أي عليه أن يكون ثائرًا يأخذ بمبادئ الثورة، فيعمر بلادنا، ويعمل على تقوية الشعب وزيادة رخائه وثرائه بالزراعة والصناعة والتعليم، ودفع المرأة إلى الأمام، والتزام الأخلاق القوية وتعميمها، والحرص على استقلالنا وحريتنا وجمهوريتنا.
وليبدأ الشاب بنفسه، أي يجب أن يثور على نفسه فينزع منها عوامل الضعف والاستهتار، ويعمل وينتج، ويجب أن تكون له كرامة ترفعه عن الرضا بأن يكون عيالًا على غيره، أي إن غيره يُنتج وهو يستهلك، أجل، يجب أن يكون شعارنا في المستقبل شعار الشباب، هو: لا يجوز لمصري أو مصرية أن يستهلك دون أن ينتج.
ويجب أن نحتقر الوارث الذي ينام على ميراثه ولا يكد ويعمل وينتج، كما نحتقر المتسول الذي يعيش عيالًا على غيره، ويجب أن ندعو المرأة للعمل في الإنتاج العام؛ حتى يزيد ثراء الشعب ورخاؤه وقوته، وبكلمة أخرى يجب أن نكون اشتراكيين نسير على هدى الاشتراكية ونظامها.
ولكن يجب مع ذلك أن يعرف الشاب أن مصر تعيش في ظروف دولية حرجة تناديها بأنَّ «تَنَازُع البقاءِ» هو المذهب السائد في هذا العالم، وأنها لن تبقى إلا إذا كانت جديرة بالبقاء، أي قوية ثرية منتجة، تعمل للسلام ولكنها تستعد للدفاع.