كيف نتعلم لغة أجنبية؟
عقب الهجوم الغادر على بلادنا من دولتي الخسة والدعارة؛ بريطانيا وفرنسا، عمَّ الشعبَ سخطٌ حمل بعض الكتَّاب على أن يدعوا إلى مقاطعة اللغتين الفرنسية والإنجليزية.
وليس شك في الشرف الذي انبعث به هؤلاء الكتَّاب إلى هذه الدعوة؛ إذ هي فورة الاستنكار وغضب الشهامة وإحساس الغيظ مما أنزله المجرمون في بورسعيد وسائر بلادنا.
ولكن مع ذلك يجب أن نضع العقل والمنطق فوق القلب والعاطفة.
ذلك أن اللغة الإنجليزية هي لغة أمريكا كما هي لغة بريطانيا، ثم هي تحتوي ثقافة بشرية تُعَدُّ من أعظم الثروات الذِّهنية التي يملكها الإنسان، وكذلك الشأن في اللغة الفرنسية، لغة بلجيكا وبعض سويسرا، ولا يمكن مصريًّا أو عربيًّا أن يتعامى عن قيمة ما تحوي هاتان اللغتان من أدب وعلم وثقافة.
ثم بعد ذلك يجب أن نقول: إننا نكره الحكومتين ولكننا لا نكره الشعبين في كلٍّ من فرنسا وبريطانيا، وقد تأتي يومًا ما في المستقبل القريب، حكومة اشتراكية في فرنسا أو بريطانيا فنجد عندها الصداقة والوفاء بدلًا من الخيانة والغدر من الساسة المحافظين أو من دعاة الاشتراكية السوداء.
واللغتان الإنجليزية والفرنسية هما لغتا الرجال والنساء والأطفال، بل لغتا ألف سنة مضت وألف سنة قادمة أو أكثر، وحقنا الحاضر على حكومتَي هذين الشعبين يجب ألا يحملنا على كراهة هاتين اللغتين.
واللغات الأجنبية التي يجب أن نتعلمها في نهضتنا الجديدة تتجاوز هاتين اللغتين إلى اللغات الصينية والهندية والروسية والإيطالية والألمانية، فإنها لغات متمدنة تحوي الكثير من الآداب والعلوم.
وقد أصبحت الصينية وهي لغة ٦٠٠ مليون إنسان، أي ربع الدنيا، من اللغات السهلة التي لا تحتاج إلى مجهود كبير يزيد على ما نبذل في تعلم الإنجليزية أو الفرنسية؛ وذلك لأنها اتخذت الحروف اللاتينية أو ستتخذها قريبًا بعد أن قررت حكومتها ذلك.
ونحن في حاجة إلى تعلم اللغات الأجنبية، وستبقى حاجتنا إلى هذا التعلم ضرورة محتومة نحو ربع أو نصف قرن؛ لأن لغتنا بحروفها الحاضرة لا تتسع للتعبيرات العلمية، وحتى بعد أن نأخذ بالحروف اللاتينية سنحتاج إلى تعلم اللغات الأجنبية الحية المتمدنة لاستكمال ما ينقصنا من ثقافة وعلم وأدب.
- القاعدة الأولى: ألا ندرس اللغة كما لو كانت لغة فقط، وإنما ندرس موضوعًا، أي مادة علمية أو أدبية بلغة أجنبية، كأن ندرس الكيمياء أو الهندسة أو البيولوجية أو الصحافة الفرنسية؛ إذ يجب ألا ندرس موضوعات متفرقة بزعم أننا نحيط بمعانٍ مختلفة، فإن اهتمامنا يتفرق، أما عندما نحب موضوعًا معينًا وندرسه بلغة أجنبية فإن اهتمامنا يتركَّز على الموضوع، فلا ننسى تعابيره وكلماته، كما أننا حين ننكبُّ عليه ندرس تفصيلاته.
- القاعدة الثانية: أننا نجعل الجملة وليس الكلمة أساسَ التعلم، والفهم هو في النهاية فهم الجملة وليس فهم الكلمة، والكلمة المفردة في اللغات الأوروبية أكثر مما في لغتنا يختلف معناها باختلاف حروفها الملحقة بها في الجملة.
- القاعدة الثالثة: أن نعمد إلى كتاب مترجم عن الفرنسية مثلًا فنقرأه ونفهم موضوعه واتجاه مؤلفه في العربية، ثم نقتني الأصل الفرنسي فنقرأه، فإن تداعي المعاني ييسر علينا استذكارها، فلا ننساها، ويمكن الصحفي المبتدئ أن يفعل مثل ذلك بأن يقرأ الأخبار في الجرائد الأجنبية، فإن اشتغال ذهنه بالعناوين والأخبار والمعاني التي يهتمُّ بها يجعلها تتفتح أمامه وهو يقرأ الصحيفة الأجنبية، فيسهل الاستذكار.
ومع مداومته قراءة أو بالأحرى تصفُّح الجرائد الأجنبية يحمل نفسه على شيء من الدراسة الجدية في كتاب يقرأه مترجمًا إلى العربية أولًا، ثم يقرأه في اللغة الأصلية التي ترجم عنها ثانيًا.
وخير الكتب المترجمة التي تجدي هنا أعظم الجدوى هي كتب الدِّين؛ لأن الترجمة فيها حرفية، وإن تكن أحيانًا ركيكة، ومرجع ركاكتها هو التزامها الحرف، وهذا ييسر فهمها وإن نقص جمالها.
وربما يكون كتاب ألف ليلة وليلة من أحسن الكتب في تعلم الإنجليزية أو الفرنسية، نقرأه أولًا بالعربية، إذا لم نكن قد قرأناه في صبانا، ثم نقرأه في اللغة الأجنبية.
أما نحو اللغة الأجرومية فيجب أن يكون آخر ما يتعلمه من يرغب في إتقان لغة أجنبية؛ وذلك لأن النحو والصرف هما في صميم معناهما فلسفة اللغة، وقد تكون هذه الفلسفة سيئة، ولكن يراد بها مع ذلك إيضاح المنطق في التعبير، وهذا شأنٌ يجب تأخيره وليس تقديمه للمبتدئ.
ولكن يجب ألا نقنع بالرطانة التي نتطرف بها في حديثنا ثم نكون جهلاء نعرف جهلنا ونحسه في نفوسنا، فإن تعلم اللغة الأجنبية ليس للتطرف والزهو والرطانة وإنما هو للعلم والأدب والثقافة؛ ولذلك يجب أن نثابر على الاستنارة بقراءة كتاب أو كتابين كل شهر في الشئون السياسية والعلمية والأدبية التي يعالجها مؤلفها بروح الجد والخدمة للقراء، وفي أوروبا مئات ممن يهدفون إلى هذا الهدف النبيل.
وبالطبع لا يمكن المبتدئ في تعلم اللغة الأجنبية أن يستغني عن معلم أو مدرسة يأخذ منهما الخطوات الأولى في فَهم الحروف ونطقها، وإذا كان شابًّا حوالي العشرين، فإنه يقنع بنحو شهرين على يدي معلم، ثم يشرع في «التعليم الذَّاتي» كما وصفنا طريقته.
وأسهل الكتب في تعلم اللغة الأجنبية هي كتب العلوم، بشرط أن يختار المتعلم علمًا يحبه ويحوي صورًا وأشكالًا.
ومن الخطط النافعة أن نلتزم أحد المؤلفين، فنقرأ كل مؤلفاته؛ ذلك لأن المؤلف له عبارات وكلمات تتكرر، كما أن له أسلوبًا لا يتغير، فيسهل لذلك فهمه على المبتدئ.
إن هناك مَن يزعمون أن المستوى الثقافي في الصحافة المصرية قد انحط وأن كاتب المقال المدروس قد اختفى للاستغناء عنه.
وعندي أنه إذا كان في هذا القول شيء من الصحة، فإني أعزوه إلى النقص في درس اللغات الأجنبية، وأيضًا إلى تقصير الصحف في إتاحة الفرص لمحرريها ومخبريها حتى يتعلموا، وقد قلتُ: «النقص»؛ لأن كليات الصحافة عندنا تدرس اللغات الأجنبية، ولكن في نقص.
والصحفي المرشد أكبر من الصحفي المخبر، ونحن نحتاج إلى الاثنين، وإن كانت الصحافة الحديثة تقوم وتروج على الخبر، ولكن هناك مزاحمين للأخبار الصحفية في أيامنا، وهم يطلون علينا ويصيحون، بل يصرخون من الراديو والسينما، أما الإرشاد والتوضيح وإخراج المغزى والدلالة فستبقى جميعها من اختصاص الكاتب المرشد المحرر، الذي تحتاج إليه الصحيفة الجادة أو يجب أن تحتاج إليه.
وهذا الكاتب أو المحرر يحتاج إلى دراسة لغة أجنبية دراسة كاملة مستوفاة، والصحيفة الجادة تستطيع أن تكثر من هؤلاء الكتَّاب إذا كانت توفد كتابها المخبرين المبتدئين إلى أحد الأقطار الأجنبية حيث يبقى سنة كاملة أو سنتين، يزودها بالأخبار كأي مخبر أجنبي، وفي الوقت نفسه يدرس أحوال الشعب الذي يعيش في صحبته كما يدرس لغته، فالصحيفة هنا لا تخسر شيئًا، بل يجب ألا تكلف زيادة في مرتبه، أو على الأقل لا تكلف زيادة باهظة، وإقامة سنة أو سنتين في فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا أو غيرها تؤدي في النهاية إلى تخريج صحفي ناضج قد رأى العالم من زاوية أخرى غير ما اعتاد في وطنه.
إن اللغة الأجنبية ضرورة لكل مثقف، ويجب ألا نستهين بقيمتها في الثقافة الخاصة فضلًا عن الثقافة العامة، ويجب أن ندعو إلى تعلمها ونيسِّر ذلك للراغبين فيها.
وأخيرًا نحتاج إلى معاجم وافية متقنة رخيصة لا يزيد ثمن أحدها على ثلاثين أو أربعين قرشًا، يمكن المبتدئ أو المتعلم الرجوع إليها وهو واثق بصحة معانيها، وهذه المعاجم للأسف غير موجودة الآن، وتستطيع وزارة التربية والتعليم أن تضطلع بإيجادها.