النمو الذهني للمرأة
لم يعد أحد يقول: إن المكان الأول للمرأة المكان الإلزامي هو البيت؛ وذلك لأننا أصبحنا نقول بشخصية المرأة المستقلة، وأن البيت لم يعد يكفي لنمو شخصيتها أو ذكائها.
والمرأة بالطبع في آرائنا العصرية إنسان يستوي بالرجل قبل أن تكون زوجة أو أمًّا أو ربة بيت، هي إنسان له جميع حقوق الإنسان، ويجب لذلك أن تتحمل واجباته أيضًا.
وإحدى الغايات الكبرى للإنسان أن يكون شخصيته المستقلة وأن يراعي ذكاءه بالنمو، ولا يمكن أن ينمو الذكاء إلا في مئات الاختبارات، والبيت بضيق آفاقه التي تحتويها جدرانه لا يتسع لهذه الاختبارات.
وإنما ينمو الذكاء عند المرأة بمثل الوسائل التي تنمو بها عند الرجل، وأُولى هذه الوسائل هي العمل المنتج الكاسب الذي يستتبع المسئوليات، فإن الكسب يحفِّزنا إلى العمل والاختراع، والإنتاج يملي علينا مسئوليات شخصية واجتماعية وثقافية، وهو يضطرنا إلى أن نجتمع بزملائنا وندرس حرفتنا ونعرف ما ترتقي به، وكل هذا يزيد ذكاءنا حِدة وفهمًا.
إننا حين نقول بضرورة المساواة بين الرجل والمرأة في «الحقوق» الدستورية، كالانتخابات والترشيحات للمجالس النيابية والبلدية، وحين ندعو إلى أن تؤدي المرأة وظائف الدولة أو تعمل في المصانع والمتاجر والمكاتب، نذكر كل هذه الأشياء كما لو كانت حقوقًا فقط قد أنكرناها في الماضي على المرأة، فيجب أن نسلِّم بها الآن.
ولكن الواقع أنها ليست حقوقًا فقط للمرأة؛ إذ هي أيضًا واجبات؛ لأن المرأة مثل الرجل يجب أن تكون منتجة للشعب كله، فتؤدي حِرفة، وليس شك أن البيت بما فيه من واجبات الأمومة وتربية الأطفال والطبخ وراحة الزوج يعدُّ أيضًا مؤسسة إنتاجية، ولكنه صغير الإنتاج إلى جنب العمل في المصنع أو المتجر.
البيت أمام المرأة المتزوجة هو مكان للعناية بالزوج وبثلاثة أو أربعة أولاد، مجموع مَن تُعنى بهم في تهيئة الطعام وتنظيف الغُرَف والتربية للأطفال هم أربعة أو خمسة أشخاص، ومن العسف أن نقول: إنه يجب على المرأة أن ترصد حياتها كلها للعناية بأربعة أو خمسة أشخاص؛ لأن حياتها أكبر قيمة من هذا العمل الصغير، ويمكن بتنظيم آخر أن تتم هذه العناية دون أن تستوعب كل حياة المرأة.
إن على المرأة واجبات لنفسها قبل أن تفكر في الواجبات لغيرها، وما كنَّا نسميه حقوقًا لها يجب أن تسميه هي واجبات عليها؛ لأنها حين تهمل هذه الواجبات وحين يقتصر نشاطها على شئون البيت الصغيرة يتبلَّد ذهنها وهو أشرف وأثمن ما تملك في هذه الدنيا، ولا يحرك الذهن إلا الاهتمامات الكبيرة التي تشتبك بالمجتمع والثقافة والعلم والحِرفة والفلسفة والدِّين، هذه الاهتمام تجعل الذِّهن يقظًا يتدرب كل يوم على الفهم ويزداد نموًّا في المعارف، كما تزداد الشخصية إحساسًا بالمسئوليات التي ترفعها من تفاهة العيش إلى جلالة الحياة.
تفاهة العيش في البيت بالكنس والطبخ والغسل وضرب الأطفال، وجلالة الحياة بالاشتباك في شئون المجتمع الحيوية وسياسة الدنيا ووسائل الارتزاق ومعاني الحرية، ومحاولة إيجاد فلسفة عملية نعيش بها ونبحث بها المشكلات الاجتماعية والإنسانية.
وكثيرًا ما أقعد إلى سيدة عاشت في مملكة البيت وأتحدَّث إليها، فلا أجد لها من اهتمامات سوى أثمان البقول وحوادث الخدم، والزواج والطلاق والفساتين الجديدة، أجد عقلًا تافهًا قاصرًا قد حدَّت منه حدود البيت واهتماماته الصغيرة، وهذا بخلاف ما نجد حين نقعد إلى سيدة تؤدي عملًا خارج البيت وتنتج به وتكسب منه، فإن إحساسها الاجتماعي عميق، وذكاءها مدرَّب وآفاقها بعيدة، وطموحها يوغل في المستقبل، وهي تتحدث عن الشئون العامة وتُعنى بقراءة الصحف وتتبع السياسة الداخلية والخارجية، هي عقل ناضج يعرف قيمة الدرس، وهي تقتني الكتب وتؤدي أثمانها الغالية في غير أسف؛ لأن نموَّ ذهنها يؤلف جزءًا من برنامج حياتها، وهي حين تربي أطفالها تهدف إلى أهداف اجتماعية عرفتها بخبرتها في المجتمع، وهي أهداف لا تعرفها امرأة البيت.
وقد يقال هنا: إنه يمكن الجمع بين العمل الخارجي الذي يربي الزوجة ويزيد كسبها وبين واجبات البيت، وهذا صحيح إذا كانت الزوجة أو الزوجان على ثراء يمكِّنها من استخدام الخدم الأكفاء الأمناء، أو إذا كان البيت مجهزًا بتلك الأجهزة العصرية التي تجعل واجبات البيت خفيفة، تؤديها ربة البيت بعناء قليل في وقت قصير، مثل جهاز التثليج لحفظ مئونة البيت نحو أسبوع بلا حاجة إلى شرائها كل يوم، وأيضًا بالطبخ على الأجهزة الكهربائية، وكذلك الغسل والكنس، وهذا إلى التليفون الذي يصل بين البيت والسوق ويؤدي كثيرًا من أعمال الخادم.
بمثل هذه المجهزات تستغني الزوجة عن الخدم ولا تحسُّ تعبًا كبيرًا لتأدية الواجبات المنزلية، ويمكنها أن تؤدي عملها الخارجي وعملها المنزلي معًا بلا عناء، أما الأطفال فلهم المحاضن إن كانوا دون الخامسة أو السادسة، ثم الرياض إذا تجاوزوا ذلك، ثم ينتظمهم التعليم الابتدائي.
ولكن للأسف ليس هذا النظام قائمًا في مصر.
وخير منه لبلادنا أن نجعل الأعمال الشاقة في البيت تعاونية، فإن مطبخًا واحدًا يمكن أن يكفي السكان في شارع كامل، وكذلك الاشتراك التعاوني في مؤسسة للغسل والكي يمكن أن يغني ربة البيت عن مجهودات فردية كبيرة … إلخ.
والتعاون هو كلمة المرور للمستقبل، وهو يخفف عناء الفرد؛ لأنه يحيله إلى المجتمع، وبالتعاون تستطيع المرأة أن تؤدي العمل المنتج الذي يكسبها مرتبًا شهريًّا حسنًا ويربي ذهنها ويدربه على المسئوليات الكبيرة.