الامتحانات والشهادات
للشهادات المدرسية والجامعية قيمة كبيرة في مجتمعنا المصري ليست لها في التعلم المدرسي أو الجامعي الأجنبي؛ ولذلك نحن لا نزيد على ٢٢ مليونًا، لنا من الطلبة في جامعاتنا الثلاث مثل ما للإنجليز الذين يبلغون ٥٠ مليونًا في ٢٧ جامعة، بل الأغلب أن طلبتنا يزيدون في العدد على طلبة الإنجليز.
وهذا الاهتمام بالتعليم الجامعي لا يهدف منه آباء الطلبة إلى تنويرهم بالعلوم كي يسعدوا بذكائهم ويواصلوا حياتهم الثقافية عقب تخريجهم، وإنما الهدف الوحيد هو حصولهم على شهادة.
ولذلك تكبر قيمة الامتحانات عندنا وتتجاوز حدود التعقل، فإن حرص الآباء على أن يحصل ابنهم على شهادة، يبعث حرص الأبناء على ذلك أيضًا، فيجهدون أنفسهم في الدرس والتحصيل، بل أحيانًا يتجاوزون طاقتهم في الاجتهاد والسهر، حتى إذا جاء وقت الامتحان كانت نفوسهم متعبة، بل مرهقة، فلا يحسنون الإجابة، وإذا خالجتهم فكرة الرسوب تولَّاهم الوهم والخوف؛ ولذلك كثيرًا ما يسيئون التصرف بحياتهم ومستقبلهم.
واعتماد شبابنا على الشهادات وخوفهم من الامتحانات، كلاهما يرجع إلى تلك السنين الماضية حين كان الإنجليز لا يأذنون لنا بالتعليم إلا على قدرِ ما يحتاجون إليه من الموظفين في الحكومة.
فكانت الشهادات للوظيفة ولم تكن للثقافة.
وكانت الوظيفة الحكومية كل شيء، كل الأمل، كل المستقبل أمام الشبان؛ إذ لم يكن هناك طريق آخر للارتزاق، فإن الأعمال الحرة كانت في غير الزراعة معدومة في بلادنا؛ ذلك لأن الإنجليز حرصوا كل الحرص على ألا نؤسس مصنعًا، وبلاد بلا مصانع هي بلاد بلا متاجر.
ومتى خلت البلاد من المصانع والمتاجر خلت من الأعمال الحرة، ومن هنا نشأت لنا تقاليد هي أن الشاب الذي لا يحمل شهادة متوسطة أو عُليا هو شاب خائب لن يجد وظيفة حكومية يعيش من مرتبها، وما دام ليس هناك أعمال حرة من الصناعة أو التجارة فإن خيبته مؤكدة.
وكان هذا المنطق صادقًا إلى وقتٍ قريب.
أمَّا الآن فهذا المنطق ليس صادقًا؛ لأن الأعمال الحرة قد توافرت بعض الشيء، وستتوافر أكثر في المستقبل؛ لأننا صرنا نفطن إلى قيمة الصناعة والتجارة، وشرعنا نؤسس ونؤلف الشركات، وليس للشهادات باستثناء الفنية منها أية قيمة هنا في اختيار الموظفين، فالمصانع تحتاج بلا شك إلى المهندسين الفنيين أو إلى غيرهم ممن حصلوا على تعليم جامعي، ولكن الموظفين الفنيين الذين يحملون الشهادات لا يزيدون على عشرة في المائة من مجموع الموظفين في المصانع، ولا يزيدون على واحد في المائة من مجموع الموظفين في المتاجر أو الشركات.
وفي القاهرة مثلًا مئات المتاجر، وليس بين رؤسائها أو كبار موظفيها أو صغارهم مَن يحمل شهادة، مع أن مرتباتهم تزيد على مرتبات الموظفين في الحكومة، وكذلك الشأن بدرجة أقل بين موظفي المصانع.
ولم تَعُدِ الوظيفة الحكومية مورد الرزق «المحترم» الذي ينشده الشاب الطموح؛ لأنه يجد في العمل الحر، في الشركات أو المصانع أو المتاجر، ما يشبع طموحه ويوسع له في أبواب الرزق أكثر من الوظائف الحكومية.
وهذه الشركات والمصانع والمتاجر لا تسألك حين تطلب العمل فيها ما هي شهادتك؟ وإنما سؤالها: ما هي خبرتك؟ أيُّ الأعمال تحسن؟
وهي في العادة تضعك في الدرجات السفلى من السلم، فإذا أبديتَ ذكاء ونشاطًا وأخلاقًا رأيتَ الترقيات تتوالى عليك بلا حساب، بل رأيت استمساك الشركة أو المتجر أو المصنع بك، خير ضامن لعيشك الهنيء وكسبك الوفير طيلة حياتك.
ولستُ مع ذلك أنتقص قيمة التعليم الجامعي؛ لأن أقل ما يقال فيه إنه تدريب على التحقيق والتمحيص، ثم هو أساسٌ للثقافة في المستقبل.
أساس فقط، ولكنه ليس بناء؛ لأن البناء يأتي بعد التخرج، أي بعد الحصول على الشهادة الجامعية.
ولكن الثقافة أيضًا يمكن تحصيلها بالدرس الحر المستقل الذي لا يحتاج إلى الانتظام في كلية وتأدية امتحاناتها والحصول على شهادة، وهناك آلاف من المثقفين لا يحملون أية شهادة.
وننتهي من هذا إلى القول بأن هذه الحماسة للنجاح في الامتحانات قد أسرف فيها الشبان، وإسرافهم قد بعث فيهم القلق الذي يتجاوز حدود الاهتمام المعقول، فإن الخيبة في الامتحانات ليست خيبة في الحياة، وميدان الأعمال الحرة أوسع وأكثر استيعابًا للموظفين من ميدان العمل الحكومي، وهذه الأعمال الحرة لا تحتاج إلى الشهادات.
فعلى شبابنا أن يجتهدوا الاجتهاد المعقول في الدراسة الجامعية، ولكن عليهم ألا يقنطوا من وعود المستقبل الزاهر إذا رسبوا في الامتحانات، فإن الأعمال الحرة تنتظرهم.
إن في بريطانيا ٢٧ جامعة لا يزيد عدد طلبتها على عدد الطلبة عندنا في جامعاتنا الثلاث، بل ربما ينقص، ومعنى هذا أن اهتمام الإنجليز بالتعليم الجامعي أقل من اهتمامنا نحن به، وعلة ذلك أن الأعمال الحرة عندهم كثيرة، وهي لا تحتاج إلى مطالبة العاملين فيها بأية شهادة.
ونحن نتجه نحو هذا المصير، فلنتفاءل ولنتسلح بالشجاعة.