علم النفس على الشاشة البيضاء
- الاختراع الأول: هو استخدام الذرَّة، فإن هذه القوة العظيمة التي كان يمكن الإنسان أن يبني منها وينشئ ويعمر قد استعملت للتدمير فقط، ولا يزال العلميون يسيرون في اختراعاتهم عن سبيلها كي يزيدوا التدمير والتقتيل حتى أصبح النوع البشري مهددًا بالفناء.
- والاختراع الثاني: هو السينما، فإنه أعظم قوة جديدة للتربية والتعليم، وما كانت المدارس أو الجامعات أو المعامل العلمية تحتاج إلى إنفاق الشهور والسنين في تعليم الصبيان أو الطلبة مع الألم، يمكن السينما أن تعلِّمه في ساعات مع السرور، ولكن الروح الاقتنائية التي تعم مجتمعنا تحمل المتصلين بالسينما، من مؤلفين ومخرجين، إلى أن يهدفوا إلى الكسب، والكسب فقط؛ ولذلك تحتاج السينما والمتصلون بها إلى أن يتقربوا من الجماهير، بل من العامة، بشتى الموضوعات السخيفة أو الوضيعة أو المثيرة، وبدلًا من أن يقود مؤلفو السينما هذه العامة صاروا ينقادون بها، ويسيرون خلف المرضى والشاذين والعابثين بحياتهم، والمجرمين.
وهذه الحال الأسيفة التي ترجع كما قلتُ إلى الرغبة الجامحة في اقتناء المال وجمع الفلوس قد حملت كثيرًا من الحكومات على منع الصبيان والمراهقين، إلى سن ١٦ أو ١٨، من الدخول في الدور السينمائية إذا كان الفيلم الذي سيعرض يتناول قصصًا جنسية فاضحة أو قصصًا تشرح الجرائم وأساليب ارتكابها.
ولست أعرف لماذا يمنع الصغار من رؤية هذه الأفلام ولا يمنع الكبار؟ فإن الإيحاء يعم الجميع كبارًا وصغارًا وإن تفاوتت درجاته، وقد يكون من الرجال من يبلغ سن الثلاثين أو الأربعين ومع ذلك تزيد قابليته للإيحاء السينمائي على شاب في العشرين أو الخامسة عشرة؛ وذلك لأن ظروف الأول الاجتماعية قد تعده لهذه القابلية أكثر من الثاني، وما دمنا نقول بضرر أحد الأفلام فإننا يجب أن نمنعه عن الجميع.
إن الفتاة وهي تنظر إلى الحوادث الغرامية بين شاب وفتاة تطابق بين نفسها وبين هذه الفتاة الممثلة، ومن هنا اهتمامها، والشاب وهو يرى سير الحوادث بشأن سرقة أو قتل أو نحوهما يطابق بين نفسه وبين هذا الشخص الذي يمثل شخصية السارق أو القاتل، ومن هنا اهتمامه.
والموضوعان اللذان يمتازان بأكبر قوة جاذبة للشبان والفتيات هما الحب والجريمة، بل إن كلمة الحب ليست هنا الأداة المعبرة عما يجري على الشاشة البيضاء، وأولى منها كلمة غرام، فإن في الحب هدوءًا وحنانًا لا نراهما في السينما، ولكنا نرى نارًا واقتحامًا في الغرام.
إن القوة الإيحائية في السينما كبيرة جدًّا، وهي تعين لنا أسلوب الغرام الاختطافي أكثر مما تعين لنا أسلوب الحب الهادئ الوديع.
والشاب والفتاة كلاهما يحلم بما يرى من المناظر السينمائية، وكلاهما يتأثر بالقدوة ويتخذ أسلوبها الجنسي، هذا الأسلوب الذي رأيناه في السينما، وهو أسلوب ينأى عن الواقع وكثيرًا ما يُفسد هذا الواقع.
ولا يمكن السينما أن تعرض علينا في قصصها الغرامية أكثر الحوادث والطوارئ التي تسبق النهاية، والنهاية هي الزواج كما نفهم أو نعتقد أننا نفهم، فنحن نرى الكفاح والمحاولة والإغراء والمنافسة والدسيسة والغيرة تجري جميعها في سلسلة من المناظر والوقائع، ثم تنتهي بالبقاء عشيقين وانتصارهما على سائر الأشخاص والأحداث.
وما نراه إذن هو لقاء بعد هجر، أو مصافاة بعد خلاف، أو عناق بعد جفاء، ومع أن المحبين أو العاشقين يمثلان كل ذلك أمام الجمهور فإن الشاب أو الفتاة يتأثران بهذا السلوك، والفتاة تتأثر أكثر من الشاب، وكلاهما يعتقد ويحلم ويحس أن لذة الغرام تنحصر في القبلة والعناق.
ثم في القُبلة والعناق ولا أكثر، وكما قلتُ: إن الفتاة تتأثر أكثر من الشاب بهذا السلوك لأسباب كثيرة، بل الفتاة المصرية تتأثر أكثر من الفتاة الأوروبية.
فإذا تم الزواج بين هؤلاء المتفرجين من الشبان والفتيات كانت المأساة بسبب ما كانا يريانه في السينما، ولا أقول: إن المأساة تعم الجميع، بل أعتقد أنها لا تعم الأكثرية وإنما الأقلية فقط، ولكنها أقلية غير صغيرة.
تجد الفتاة نفسها بعد الزواج أنها لا تريد من زوجها سوى القُبلة والعناق، ولا شيء سوى القُبلة والعناق، بل هي تشمئز مما يزيد على ذلك؛ لأنها تعودت وساست غريزتها الجنسية على هذا الأسلوب بالمناظر السينمائية التي تكرر هذا الموضوع، وليس هناك واحد من السيكولوجيين لا يعرف هذه المأساة التي يشرحها الزوج وهو يكاد يبكي على بخته السيئ.
إن أعظم ما ترتكبه السينما من إجرام في الغرام أنها تجعل من القُبلة والعناق كل شيء، وهي لا تستطيع غير ذلك، كأن تواصل مثلًا حياة العاشقين بعد الزواج، وتصف لنا السعادة الزوجية بينهما؛ لأن هذه السعادة شيء مبتذل هادئ إزاء الغرام الناري الهائج قبل الزواج.
ولست أقترح علاجًا، والسينما كما قلت هي عرضة للمباراة الاقتصادية الانفرادية، وهي لذلك تطلب الكسب أولًا وليس الخدمة، بل إن الخدمة الإنسانية أو الاجتماعية أبعد ما يفكر فيه المؤلفون أو المخرجون معًا.
لقد شخصت الداء أو أحد الأدواء، ولم أشخص الدواء.