تزوجوا الصحة
عندما ينشد الشاب الزواج يعمد في أول اعتباراته إلى طلب الجمال في الفتاة، ثم يأتي بعد ذلك إلى مركز عائلتها الاجتماعي وما تملك أو ما سوف تملك من مال أو عقار، ولكن عندما تنشد الفتاة الزواج فإنها تفكر قبل كل شيء في المركز المالي والاجتماعي لزوج المستقبل، ولا تكاد تبالي بجماله، أو هي تضحي هنا بتقديرها للجمال من أجل القيم الأخرى، وهي الحصول على زوج قادر على أن ينفق عليها؛ إذ هي في الأغلب لم تتعلم كيف تكسب، فاعتبار الطاقة المالية للزوج كبير الشأن جدًّا عندها.
وظنِّي أن هذه الحال ستتغير في المستقبل حين تنشد الفتاة الجمال في الشاب، ثم تنشد بعد ذلك ثقافته ومركزه الاجتماعي وقدرته المالية، وسبب هذا التغيير أن فَتياتنا يتعلمن ولا يعتمدن كل الاعتماد على الزوج الذي يكسب وحده ويعول العائلة وحده.
وقيمة الجمال أصلية في الزواج، وأيما شاب أو فتاة يهمله، وكثيرًا منهم يهملونه الآن، يندم على ذلك حين يجد نسلًا دميمًا، بل يندم قبل ذلك كلَّما نظر إلى زملائه (أو نظرتْ إليها زميلاتها) فيجدان الامتياز الذي لم يحصلا على مثله.
ولكن حتى الجمال (وكذلك المال) يعدان صغيري القيمة إلى جنب الصحة، صحة الجسم وصحة العقل، ونعني الصحة الموروثة لا الصحة المكتسبة، أي الصحة التي تنتقل بالولادة وقد تكون غير وراثية، مثل الأمراض التناسلية، فإن عدوى الأبوين تنتقل إلى الأبناء، ولكن ليس هنا وراثة، إنما هما عدوى فقط.
وقبل أكثر من نصف قرن تألفت في إنجلترا جمعية تسعى لتحقيق «اليوجنية» أي العلم الذي نسترشد به في تحسين النسل، وكان الاهتمام في ذلك الوقت أكبر من اهتمامنا الحاضر؛ لأن الرأي السائد وقتئذٍ كان يقول بأن الوراثة هي كل شيء، فالعبقرية في الرجل العظيم وراثة، والإجرام في اللص والسفاح موروث، والتفوق مثل التخلف في أفراد المجتمع موروث، وكان «لومبروز» الإيطالي أعظم مَن عمَّم هذه الفكرة المخطأة في أوروبا واستمسك بها «جالتون» ابن خالة «داروين» ودعا إليها.
ولكننا الآن لا نعزو إلى الوراثة كل هذه القدرة على تعيين حظوظ الناس؛ لأننا قد عرفنا أن الوسط كبير التأثير في تعيين الأخلاق ومقدار الذكاء، وأصبحنا نقول: إن العبقرية مثل الإجرام مكتسبان من الوسط الاجتماعي.
ولكن مع ذلك هناك عاهات وراثية، بل أحيانًا يكون الزوجان على أحسن ما يبدو للناس ذكاء وجمالًا وأخلاقًا، ثم يولد لهما صبي أو صبية بلهاء تامة البلاهة، بحيث تعجز عن النطق والتمييز، ولا يزيد ذكاؤها (أو ذكاؤه) على صبي في السنة الأولى أو الثانية من العمر حين تبلغ العشرين أو الثلاثين.
وقد حدث هذا لبيرك بك مؤلفة «الأرض الطيبة»، فإن السيدة لا ينقصها الذكاء، ولم يكن زوجها كذلك تبدو عليه أية علة، ولكن الطفلة جاءت بلهاء، عاشت مع أمها نحو عشر سنوات وهي حيوان لا يعقل، ثم سلمتها الأم بالدموع والحسرات لمستشفى الأمراض العقلية تبقى فيه إلى أن تموت.
وجميعنا عُرضة لذلك.
ولكن من حُسن الحظ أن هذا لا يقع إلا بمقدار واحد في الألف، أو العشرة آلاف، ولا يمكن التكهن به.
ولكن هناك حالات يمكن التكهن بها، فقد يكون أحدنا سليمًا ذكيًّا، ولكن له شقيقًا أبله أو قريبًا من البَله، فإذا تزوج أعقب صبيًّا أو صبية بلهاء.
ونعني البلاهة لا الغفلة، والأغلب أن البلاهة ترافقها تشوهات في الجسم، كأن تكون ملامح الوجه غير إنسانية، حين يكون الرأس صغيرًا جدًّا يلفت النظر، أو الملامح مغولية، وحركة الجسم غير إنسانية مع عجز عن النطق.
فهنا يجب أولًا وقبل كل شيء تعقيم هذا الشخص الأبله حتى لا يتزوج، أو إذا تزوج فإنه لا يعقب، وثانيًا يجب أن نحترس من أشقائه وشقيقاته؛ إذ هم قد يحملون الطاقة الوراثية لإعقاب مثله.
وليس شيء أتعس من أن يرى الأب ابنًا له أبله، وقد لا يكون أبله إلى حدِّ الحيوانية، مثل بنت بيرك بك المؤلِّفة الأمريكية التي ذكرناها، ولكنه عاجز عن فَهم الدلالات، يسلك سلوك طفل في السادسة أو السابعة من عمره.
ولكن يجب هنا أن نحترس.
ذلك أن هناك أمراضًا نفسية خفيفة أو خطيرة قد ينتهي بعضها بما نسميه «الجنون»، ولكنها مع خفتها أو خطورتها ليست وراثية، وإنما هي تنشأ عن ضغط الحوادث ومن التوترات القائمة بين الفرد والمجتمع.
وكل منَّا يعاني توترات تقوم بينه وبين المجتمع الذي تكثر فيه الكظوم والمحظورات، وكل منَّا عُرضة لأي مرضٍ نفسي خفيف أو خطير، بل المجرم الذي يسفح الدم للغيظ، أو يقتل أطفاله للانتقام من أمهم أو نحو ذلك، هذا المجرم لا يمكن على الدوام أن نقول: إنه عمد إلى الإجرام لعاهة وراثية؛ لأن الوسط الاجتماعي بعاداته وتقاليده ومحظوراته وكظومه هو الذي أوجد في نفسه حالة إجرامية كان يمكن أن يتفادى منها لو أنه كان قد نشأ في مجتمع آخر …
وعندي أن العبقرية، مثل الإجرام، نتيجةُ الوسط الاجتماعي، بل الأخلاق كذلك، والشجاعة والجبن والشهامة والنذالة، كل هذه الفضائل نتيجة للوسط الاجتماعي فقط.
وقد عرفت بعض الشعوب قيمة الوراثة فسنَّت قوانين لتعقيم الناقصين في الذكاء، أي البُلْه، وأسرفت حكومة هتلر فكانت تعقم بعض المجرمين النواسيين الذين يفسقون بالصبيان أو الذين يثبت عليهم تكرار الجريمة.
وهذا إسراف؛ لأن كل هذه الجرائم ليست على الدوام وراثية.
ولكن إسراف هتلر ليس برهانًا على أن العاهات الوراثية يمكن إهمالها؛ إذ هي حقيقة بارزة تشيع الظلام والحزن والحسرات في الزواج.
ولذلك إذا شئت أيها الشاب (أيتها الفتاة) أن تتزوج فليكن أول ما تسأل عنه هو سلامة العائلة من أمراض الجسم الوراثية، وهي قليلة، ثم تسأل عن العاهات العقلية الوراثية.
وأكرر القول: إن انحراف أحد الأفراد في العائلة نحو مرض نفسي، مثل النورستانيا أو الشيزوفرنيا أو المانيا أو الخوف أو الخجل أو الشذوذ الجنسي، كل هذه الأمراض ليست وراثية، والبرهان على ذلك أنه يمكن علاجها قبل أن ترسخ، بل كثيرًا ما يصاب بها الأذكياء، ولكن نقص الذكاء الذي يصل أحيانًا إلى البلاهة هو العاهة التي يجب أن نتوقاها في الزواج، ليس في شخص الزوج القادم فقط بل في أشقائه أيضًا.
إن للزواج كما لكل شيء آخر قيمًا إنسانية، وأكبر قيمة إنسانية في الزواج أن يكون الشريك المختار من أسرة ذكية، ثم جميلًا، من أسرة جميلة، ثم سليم الجسم من الأمراض الوراثية، أما بعد ذلك فالقيمة للتربية والثقافة والقدرة على كسب العيش (في الزوجين وليس في واحد فقط منهما).
وأحب أن أميز هنا بين كلمتين، فإني أعني بالعائلة الزوجين وأبناءهما فقط، وأعني بالأسرة آباء الزوجين والأعمام والأخوال، أي الرهط كما تقول معاجمنا.
ويجب ألا نهمل العاهات الوراثية في الأسرة، كما يجب ألا نهملهما في الأبوين.