الفتاة التي تكسب
كلنا يعرف، بل يوقن أن الأعباء الاقتصادية في حياتنا الحاضرة تكاد تكون مبهِظة مرهقة، وأن الموظف أو المالك الذي كان يحصل قبل عشرين أو ثلاثين سنة على دخل شهري لا يتجاوز عشرة جنيهات لم يكن ليجد تلك الصعوبات التي يجدها الموظف أو المالك في أيامنا، ولو كان دخله يبلغ أربعين جنيهًا في الشهر.
ذلك أن الأشياء تسير، في العالم كله وليس في بلادنا وحدها، نحو الغلاء، وبكلمة أخرى تسير النقود نحو التضخم، وهو تضخم طبيعي له أسبابه التي ليس هنا مكان شرحها، فقد رأيت بعيني قبل نحو نصف قرن أفة السمك تباع بنصف قرش ورطل اللحم بقرش واحد و١٥ بيضة بنصف قرش، وكان مصروفي وأنا دون العاشرة نصف قرش في اليوم، مع ذلك كنتُ أعوم به في الرفاهية (وذلك بالطبع قبل اختراع الشيكولاتة التي لم أسمع عنها طيلة القرن التاسع عشر).
كل شيء يسير نحو الغلاء، ولكن هذا وحده لم يكن لِيُكربنا ويرهقنا، مباراة في الاقتناء تزداد سنة على أخرى، وأثاث البيت الذي كان يكلفنا قبل نصف قرن نحو خمسين جنيهًا قد أصبح يكلفنا أكثر من ٥٠٠ أو أحيانًا ألف جنيه، وليس هذا بسبب الغلاء فقط، وإنما لأن مقداره قد زاد، كما أننا أصبحنا لا نقنع بالرخيص التافه منه.
وبكلمة أخرى زادت صعوبات العيش.
وبكلمة أخرى أيضًا زادت صعوبات الزواج.
ذلك؛ لأن المرتب الصغير الذي كان يحصل عليه الشاب وكان يكفيه وهو أعزب كان يمكن أن يكفيه أيضًا وهو متزوج، ولكن الآن لا.
ولهذا السبب يجب أن يهدف الشاب إلى الزواج من فتاة كاسبة، بحيث يجتمع كسباهما فيكون منهما الوفر الذي يحتاج إليه بيت متمدن ينفق عن رفاهية، وليس عن ترف، على العيش الهنيء والنفقة المعقولة وليس السخية على الأطفال.
هذه نصيحة حتمية للشباب: لا تتزوجوا الفتاة العاطلة التي تمضي حياتها الزوجية وهي «قعيدة» البيت؛ ذلك لأنكم أولًا لا تستطيعون في ظروفنا الجديدة الحاضرة الإنفاق بمرتبكم الصغير على زوجة وعائلة.
ثم هناك مع ذلك اعتبارات أخرى تقتضي الشاب اختيار الزوجة الكاسبة؛ المعلمة، الطبيبة، العاملة في المصنع أو المتجر، الطرزية، الموظفة في الحكومة، المحامية … إلخ، ذلك أن البيت العصري لم يعد يحتاج مثل بيوتنا القديمة إلى ١٦ ساعة من عمل الزوجة والخدم؛ في الطبخ والمسح والغسل وشراء حاجات البيت، بل إن البيت القديم كان يحتاج إلى أن يخبز الخبز أيضًا في فُرن البيت، وبيوتنا الحاضرة إذا كانت في المدينة النظيفة والشارع النظيف لا تحتاج إلا إلى أقل المجهود لتنظيفها، كما أن ساعة من ربَّة البيت تمضيها في تهيئة الطعام ونحوه، تقوم مقام المجهود القديم طِيلة اليوم، وهو مجهود عرفته أمهاتنا مع الحسرات والدموع، أما الزوجة الحديثة فلا تعرفه.
وأكثر من هذا في المقارنة بين الزوجة الكاسبة والزوجة القعيدة أن الأولى متمدنة تحذق فنًّا تكسب به، وتمدنها وفنها وعملها الخارجي كل هذا يقتضيها الاختلاط بالمجتمع ودرس شئون الحياة فيه؛ ولذلك تزداد فهمًا للدنيا وعرفانًا بطرق الخير والشر وبصيرة بالمستقبل واستعدادًا لتربية أطفالها وتوجيههم الوجهة الصحيحة لنجاحهم في المجتمع.
إنها تعيش في المجتمع وتفهم القواعد التي ينبني عليها النجاح والخيبة في المجتمع؛ ولذلك لا تخطئ حين تبصر بمستقبل أبنائها؛ لأن بصيرتها صادقة.
ثم هي إنسانة تفهم معاني الإنسانية والشرف والتضحية والخير؛ لأنها تشتبك في شئون اجتماعية تبعث فيها هذه الإحساسات النبيلة، أما قعيدة البيت فلا تفهم شيئًا من ذلك إلا إذا كان ذكاؤها نادرًا، يحطم جدران البيت ويتصل، عن طريق الزيارات وقراءة الصحف والكتب، بالمجتمع، ومع ذلك مهما كان ذكاء القعيدة عاليًا نادرًا فإنه لن يبلغ ذكاء الزوجة العاملة الكاسبة؛ إذ إن ذكاء هذه العاملة الكاسبة مدرب بالاختلاط بالرجال، والاشتغال بالشئون الاجتماعية، والاختلاط في المتجر أو المكتب أو المصنع، أما ذكاء تلك الزوجة القعيدة فليس مدرَّبًا، ثم أكثر من هذا أيها الشاب، خذ مني هذه النصيحة: عندما تتزوج تذكَّر أن زوجتك قد تكون أرملتك بعد خمس أو عشر سنوات، ومع أن هذا الاحتمال قد يكون غير مرجح فإنه على الأقل ممكن، ومهما أمَّنت على حياتك في إحدى الشركات عناية بأرملتك وأطفالك فإن التأمين الحقيقي هو أن تكون زوجتك بعد وفاتك بعمر طويل أو قصير قادرة على أن تنهض وهي شريفة حادة مستنيرة لخدمة أولادك وخدمة نفسها.
لقد سبق أن نصحت، وكتبت كلمة بعنوان: «اختر أرملتك» فردت عليَّ السيدة سهير القلماوي بأن هذه النظرة تشاؤمية، وإني ما كان يجب أن أقولها، ولست أشك أنها نظرة تشاؤمية، ولكن هل هي تخالف واقع الحياة؟
ألسنا نعرف كثيرات من الزوجات قد أصبحن أرامل؟ فلماذا ننكر هذه الحقيقة؟ ولماذا نستبعد لها أن نطالب الشاب بألا يختار تلك الفتاة زوجة له إلا إذا قدّر أنها قد تصبح يومًا ما أرملة، وأنها يجب أن تكون أرملة ذكية، قادرة على الكسب وعلى خدمة الأطفال، دون أن تحتاج إلى مدِّ يدها تستجدي الصدقة من الأقارب والأباعد، وهيهات أن تقوم الصدقة مقام المهنة التي تحسنها، والتي تكسب منها قوتها وكرامتها وقوت أطفالها وكرامتهم.
قد يثبت هنا سؤال من أحد الشبان الذين يقرءون هذه الكلمة فيقول: إذا كنتَ تزعم بأن دخل الزوج لا يكفي نفقات البيت العصري فلماذا لا تدعو إلى الزواج من الفتيات الوارثات بدلًا من الفتيات العاملات؟
وجوابي المجابه الصريح هو: هل تريد أن تكون زوج زوجتك أم ناظر عزبتها؟ وهل تكفل أن موقفك إزاءها وأنت بلا عزبة تستغل موروثها، سيكون موقف الشرف والمساواة والكرامة والحب والخير؟
أظن لا، وجميع من عرفت ممن هدفوا هذا الهدف ندموا عندما تحقق لهم الهدف.
ولست هنا أنكر أن بعض المال تملكه الزوجة بالميراث من أبويها له قيمة، ولكن هذا الميراث صغير في معظم الحالات لا يغني غناء المهنة الكاسبة، وزيادة على هذا تمتاز الزوجة المحترفة الكاسبة على الزوجة الوارثة القاعدة بأن الأولى اجتماعية يتدرب ذكاؤها كل يوم بالمهنة، ويطرد ارتقاؤها بمقتضيات هذه المهنة، أما قعيدة البيت الوارثة القانعة، فتجمد ولا ترتقي، ولا تنتظر منها الكفاءة لتربية أطفالها، بل هي خطر على نفسها وأبنائها إذا قضى الحظ السيئ بأن تكون أرملة.
أكرر ذلك أيها الشاب: تزوج الفتاة الكاسبة التي تحسن حِرفة ما.
وأخيرًا لي كلمة أوجهها إلى الفتاة: لا تتزوجي شابًّا وارثًا يمضي حياته عاطلًا لا ينتج، ويحيا تافهًا يمسح ببنطلونه كراسي المقاهي ويسهر ويشرب الخمر ويأكل حتى يسمن، وتذكري أن كل ثروته الموروثة قد تضيع في نبوة من العقل أو في مغامرة في التجارة، وإنما تزوجي الرجل الذي يكسب من حرفته؛ لأن هذه الحرفة تعلمه وترقيه وتنظم حياته، وتكسبه كرامة، وتعلق به مسئوليات مهنية ينعكس أثرها على جميع علاقاته الاجتماعية والعائلية، ثم هذه الحرفة لن تفقد بمغامرة كالثروة الموروثة.