السلوك السيكولوجي الناضج
- الكلمة الأولى: هي النيوروز، أي جنون العواطف، فالنيوروزي شخص يتعقل الأشياء ولكنه يحس بضغط العواطف ضغطًا شديدًا، بحيث يعجز أحيانًا من مقاومتها، فهو يخاف كثيرًا مثلًا، أو يتشكك كثيرًا، أو يجد رغبة جنسية شاذة لا يطيق حبسها، وهو حين يتعقل يجد أن كل هذه المخاوف والشكوك أوهام، ولكنه لا يعرف كيف ينفضها عن نفسه، وهي لذلك تعوقه ليس عن النجاح وحده، بل عن الحياة السوية.
- والكلمة الثانية: هي السيكوباثية، وهي مرض نيوروزي خاص، هي مرض الإجرام، فالسيكوباثي يرتكب الجريمة ويبدو أمام الناس كأنه رجل سويٌّ، فهو عدو المجتمع من حيث لا يهتدي إليه المجتمع، وهو أحيانًا يفسق بالغلمان، أو يقتل في الخفاء، أو يسرق، أو يزوِّر إلخ، فالمجرمون هم السيكوباثيون في التعبير السيكولوجي.
- والكلمة الثالثة: هي السيكوز، أي جنون العقل، حين يخترع المجنون لنفسه عالمًا آخر غير العالم الواقعي، ويسير في خيالاته، يستأنس بها ويعيش عليها بعد أن يكون قد انقطع عن الواقع، ومعالجته شاقة تقارب المستحيل، إلا إذا كان مبتدئًا في مرضه، أما النيوروزي والسيكوباثي فيمكن معالجتهما.
وإذا تركنا هذه الطرز الثلاثة من الناس فإن غيرهم يعدُّون سويين، أي ليس بهم مرض نفسي، ولكن هذا الكلام العامَّ يحتاج إلى تنبيه، وهو أن جميع الأمراض النفسية أو العقلية نجد بِذْرَتَها في الشخص السوي، ولكنها بذرة ضعيفة تبقى خامدة فينا جميعًا إلا في فترات سرعان ما نبرأ منها.
-
طراز الشخصية التي تعتمد على العادات والعقائد والتقاليد.
-
وطراز الشخصية التي تعتمد على العقل والمنطق والابتكار.
والطرازان يتداخلان؛ إذ ليس هناك واحد منَّا يستطيع أن يقول أو يزعم أنه لا يستسلم لكثير من العقائد والعادات والتقاليد، فإن العيش في كنفها سهل لا يحتاج إلى بذل مجهود من التفكير، وكذلك لا يمكن أحد أن يقول: إنه يطرد عقله في جميع الحالات ويسلم بعقيدته؛ إذ إن هناك مواقف جديدة يحتاج كل منَّا فيها أن يبتكر.
ولكن هناك الطراز الذي يغلب عليه العقل، وهناك الطراز الآخر الذي تغلب عليه العقيدة.
والأغلب أنه عندما تتغلب العقيدة يركد الشخص ويخشى التفكير والابتكار، ويهنأ بسلوكه الهادئ في المجتمع، وينشد الطمأنينة، ويعود رجعيًّا يمدح السلف ويحتقر الخلف، ويتشاءم بالمستقبل؛ لأنه يجد الطريق إليه شائكًا بالابتكارات التي تخالف عقيدته، وهو إذا جمع مقدارًا من المال ادَّخره وجمَّده في خزانته دون استغلال؛ إذ هو يشكُّ في الكسب المنتظر، وهو يبخل على نفسه وأهله؛ لأنه يشك ويخاف، ونجد هذا الطراز كثيرًا في الريف، حيث الأخلاق التقليدية، بل حيث تتغلب التقاليد والعادات على فنون الزراعة نفسها.
ومثل هذا الرجل يعيش هادئًا مطمئنًّا لا يقع في الفاقة ولا يرتفع إلى الثراء، ولكنه يعيش بلا عقل؛ لأن العقيدة انتحار للعقل، فإذا ناقشتَه وجدته متحجرًا، يعيب على الجيل الجديد نزقَه واستهتاره، أي حريته، أليست الحرية انطلاقًا من العقائد والتقاليد؟!
وهو يحتقر الثقافة ويلتزم الزراعة ويكره السياحة، وبالطبع لا يعرف معنًى للثورة؛ لأنه يطلب السلامة، والثورة فتنة وشغب وقلق يخشاها جميعها، وحياته وأعماله وأخلاقه تكرارية بلا ابتداع، فهو يعيش في ١٩٥٧ كما كان يعيش في ١٩٠٧، وهو يكره من أبنائه أن يقتنوا سيارة أو يغيروا أزياءهم من القفطان إلى البنطلون، ويعد هذا كله تمردًا منهم لا يليق بالأبناء نحو الآباء.
هذا هو منطق الرجعية.
فالرجل الرجعي سويٌّ لا تستطيع أن تجد فيه شُبهة المرض النيوروزي أو السيكوباثي أو السيكوزي، ولكنه لا يسلك السلوك السيكولوجي الناضج، فلا يبتكر ولا يتغير ولا يتطور ولا يدرس ولا يرتقي.
وقد يكون هذا السلوك الرجعي فرارًا من مجهود التقدم والارتقاء، فقد ينشأ أحد الشبان تقدميًّا ارتقائيًّا في وطن رجعي، فيجد العقبات والعقوبات، فيعود رجعيًّا راضيًا بناسه وعصره، وعندئذٍ يهدأ ويطمئن، وكي يبرر موقفه يشنع على التقدميين الارتقائيين، ويعزو إليهم الضعف والخيانة والحقارة، وقد حدث هذا لبعض من الأدباء في مصر.
أما الطراز الآخر من الشخصية فهو تلك التي تعتمد على العقل والمنطق والابتكار، أو بالأحرى يتغلب على سلوكها العقل والمنطق والابتكار.
هو طراز القلة التي تتسم بالنضج السيكولوجي الخصب.
والرجل من هذا الطراز لا يسلِّم بالعقائد، وإنما هو يبحث ويستطلع ويسأل الناس ويفتش الكتب، ويزيد معارفه بالسنين، ولا يبالي أن تكون هذه المعارف خطرة، وهو يعتمد على عقله؛ ولذلك يدرس كثيرًا كي يقارن ويستنتج، وهو يبتكر ويخترع، وهو في نظر الناس غير سعيد؛ إذ هو يجهد نفسه فيما لا يعود عليه أو على أبنائه بكسب مادي، ولكنه هو سعيد بمجهوده، وكثيرًا ما يخالف العرف العامَّ بشذوذاته الذهنية التي لا تتفق والعقائد الموروثة، وقد يلقى به في السجن ويجد الاضطهاد من الحكومة والمجتمع، ولكنه لا يبالي كل ذلك؛ لأنه سعيد أمام ضميره، يعرف أنه يخدم المجتمع والإنسانية، ويجد في نفسه إحساس الشرف بل لذة الشرف.
والشعوب تتغير بمثل هذا الرجل، بمثل قاسم أمين الذي رفس بقدميه تقاليد بلاده وابتكر فكرة السفور بدلًا من الحجاب، ولقي البغض والاحتقار، ثم بعد ذلك، بعد موته، لقي الاحترام والحب.
والشعوب ترقى بالمبتكرين الذين يبتكرون في الأدب والعلم والصناعة ووسائل العيش، وهي تركد بالرجعيين الذين يلتزمون التقاليد والعادات والعقائد.
وأنت ما هو طرازك: ابتكاري أم تقليدي؟ ناهضٌ أم راكد؟