زوجات بلا خدم
أعرف رجلًا يحترف المحاماة التي بلغ فيها مركزًا يغبط عليه، وهو من حيث الكسب يستطيع أن يستخدم خادمًا أو خادمين، ولكنه لا يفعل.
ذلك لأن زوجته المتعلمة المستنيرة تخدم البيت، فتشتري بنفسها الطعام من لحوم وبقول، وتطهو وتنظف، وتبعث بالملابس التي تحتاج إلى الغسل إلى الكوَّاء، الذي يقوم بالغسل والكي، وهي لا ترهق بأعمالها؛ لأنها رتبتها بحيث صارت تؤديها في اقتصاد الجهد والوقت.
وكثيرات من السيدات المتمدنات يفعلن ذلك الآن في القاهرة وسائر المدن، وقد يكون لأزمة الخدم الحاضرة بعض الأثر في هذا الاتجاه، ولكن الذي ألاحظه أنه عندما تعمد ربة البيت إلى الاستغناء عن الخدم وتخدم هي بنفسها وأولادها، وأحيانًا زوجها، فإنها لا تعود بعد ذلك إلى استخدام الخدم؛ لأنها حين تتعلم الخروج كل صباح لشراء حاجاتها تغتبط بإحساس النزهة، كما تنتفع باختيارها الشخصي لما ترغب في شرائه، ثم إنها تتفادى غش الخدم وسرقاتهم.
وإذا تذكرنا أن الصحة على المستوى العادي فقط، تتطلب الحركة والمشي كل يوم، فإن الاستغناء عن الخدم يوفر لربة البيت مستوًى حسنًا من الصحة التي يتألف منها جزء كبير من الجمال، بل الصحة النفسية تحتاج إلى مثل هذه الحركة والمشي كل يوم؛ لأن فيها ما يشغل عن الهموم الصغيرة، كما أن الاهتمام والتفكير في الأثمان واختيار السلعة كل هذا يحرِّك الذهن إلى الذكاء بدلًا من أن يُترك راكدًا بالتزام الزوجة للبيت.
وربما كان أكبر الموانع للسيدات من الاستغناء عن الخدم والقيام بأنفسهن بشراء حاجات البيت من السوق، هو إحساسهن بأن هذا يعيبهن، وهذا الإحساس هو بعض ما ورثنا من أخلاق إقطاعية قديمة، وعندما يسودنا النظام الديمقراطي لن نجد أي عيب من الاستقلال بالخدمة لأنفسنا، في أوروبا الآن قد يبلغ الإيراد العامُّ للبيت ألفين من الجنيهات في السنة، ومع ذلك لا تفكر ربة البيت في استخدام خادم.
والصحة، كما قلت، تطالبنا بالعمل، وحين أنظر إلى ربة البيت المرتاحة الوادعة التي تأمر فتُجاب، وأقارن حالها بالخادمة التي تمسح البلاط وتقضي الحاجات من الحوانيت المجاورة، أقرر في نفسي أن هذه الخادمة النحيفة التي تمتاز بما نسميه خصرًا، والتي تبدو عضلاتها في ذراعيها وساقيها وبطنها، هذه الخادمة أصح جسمًا من سيدتها المترهلة السمينة المرتاحة، وهي أصح؛ لأنها تعمل وتجهد، وستعيش بلا شك أكثر مما تعيش سيدتها، وربما تزيد عليها في العمر بعشرين سنة.
ولو كنا كلنا نعمل ونجهد لما احتجنا إلى الرياضة بألوانها المختلفة، هذه الرياضة التي اخترعت في الأصل لأبناء الطبقات المترفة في إنجلترا كي يجدوا فيها عوضًا في حركة الجسم وتربية العضلات عن العمل والجهد للإنتاج العامِّ.
والاستغناء عن الخدم يحمل في أحيان كثيرة على استخدام الزوج والأبناء، وهذا حسن؛ لأن الزوج حين يشترك في بعض الأعمال المنزلية، يعرف شيئًا أو أشياء عن الأعباء التي تتحملها زوجته ويقدرها لذلك، كما أن استخدام الأبناء وهم بعدُ صبيان ينبه ذكاءهم في تقدير السلعة التي يكلفون شراءها، كما أنهم يتعلمون الخدمة، فتبقى أصلًا من الأصول الأخلاقية في كيانهم النفسي طيلة حياتهم، فينأون عن عار التعطل، أو الرغبة في الكسب غير المشروع، ويحترمون العاملين.
وأسوأ ما في الخادم إحساسه أنه خادم يمتهن في الأعمال التي نَصِفُها — بغير حق — بأنها خسيسة، وقصْدنا أن نقول: إنها غير نظيفة؛ إذ ليست فيها أية خِسة، وإذا كان في البيت من الأقذار ما يحتاج إلى تنظيفه منها؛ فإن الذي أحدث الأقذار أولى باللوم والخجل، وليس هو الخادم بالطبع؛ لأنه هو ينظف ويمسح ويجلو، ولكننا مع ذلك لا ننكر أن إحساس الخادم سيئ، وهو أسوأ ما يكون إذا كبر ووجد عملًا كاسبًا مستقبلًا يرفعه إلى مقام أسياده السابقين، فإن إحساسه هنا يعود مرًّا أليمًا، وخاصة إذا كان حظه قد أوقعه مع سيدة كانت تجد لذة في السباب والتعنيف، أو تمد يدها بالضرب على سبيل التأديب في زعمها، وهي إنما كانت تفرج في أغلب الحالات بهذا الضرب عن كروبها وتوتراتها.
والأطفال الذين ينشئون وهم يسمعون كلمات السباب والتعنيف من والدتهم للخادم أسوأ الأمثلة في نشأتهم وتربيتهم، وقلَّ أنْ توجد ربة بيت لا تمارس السباب والتعنيف للخدم أمام أبنائها.
وهناك من المخترعات العصرية ما يجعل الاستغناء عن الخدم ممكنًا حتى في أغنى البيوت، فإن التليفون خادم عظيم نستطيع به أن نخاطب عشرة متاجر كل يوم إذا شئنا، ونطلب منها ما نحتاج إليه من طعام أو قماش أو غيرهما، ثم هذه الثلَّاجات التي تحفظ الأطعمة سليمة لأسبوع أو عشرة أيام تغنينا عن الخروج كل يوم للشراء، ولكن لا يتيسر التليفون والثلاجة لجميع البيوت، والخروج كل يوم للشراء هو، كما قلت، نزهة يومية إذا تعودتها الزوجة فإنها لن تستغني عنها للميزات التي تجدها فيها في صحتها الجسمية والسيكولوجية، والإنسان لا يسعد ولا يتذكى إلا إذا اختلط بالمجتمع، والاستغناء عن الخدم ينقل الزوجة من حبسة البيت إلى انفساح جديد مثمر بالمعاملة اليومية مع الناس، والمعاينة للأشياء والسلع، أي ينقلها إلى الاجتماع بدلًا من الاعتزال.
ونحن نعيش في مجتمع نزعم أنه ديمقراطي، وهو إذا لم يكن كذلك الآن فإنه سوف يكون كذلك بعد سنوات، وقد أُلغي الخدم من المجتمعات الديمقراطية إلغاء يكاد يكون تامًّا، ولا بدَّ أن هذا الذي حدث فيها سيحدث مثله في بلادنا، وهذا تطور حسن، تطور نحو الديمقراطية والمساواة، ويجب أن نستعد له بتهيئة بناتنا لأن يخدمن أنفسهن قبل الزواج وبعده.
والاستغناء عن الخدم هو إفراج عن اليد العاملة المصرية كي تعمل في الإنتاج الكبير في المصانع والمتاجر التي سوف تحتاج إلى أكبر عدد من العمال، كما أنه إفراج عن الصبيان (من الجنسين) الذين يعطلون بالخدمة المنزلية عن التعلم في المدرسة.
إن في القاهرة أحياء أجنبية يكاد يكون تسعة أعشار السكان فيها من الأجانب، ولهذه الأحياء أسواق لبيع البقول واللحوم، وكثيرًا ما تحملني المصادفة على أن أمرَّ بها وأتأمل ما فيها من السلع وأشخاص المشترين، وهم جميعهم تقريبًا من السيدات ربَّات البيوت، أعرفهن بِسِيمَاهُن وفساتينهن، وقليلًا ما أجد خادمًا بينهن، ومع كل منهن شَبَكة لحمل ما تشتريه.
إني أود لو أرى سيداتنا تفعلن ذلك أيضًا في الحدود الممكنة؛ إذ إن هناك ظروفًا تحتم استخدام الخدم، ولكن هذه الظروف قليلة بل نادرة.