كيف نجعل أقرباءنا أصدقاء
تسلمت قبل أسابيع خطابًا من أحد أصدقائي ذكر لي فيه أنه فقد صديقًا وفيًّا كان عزيزًا عليه على الرغم من أنه كان قريبه.
والحق أنه يندر أن يصادق أحدنا قريبًا له، إلا في حال تكاد تكون مفردة، وهي أن تكون الأسرة فقيرة، فلا تنازع على ميراث أو اشتراك في أعمال مالية تدعو إلى الخلاف.
بل أحيانًا تكون مصاهرة الأقرباء أدعى إلى الخلاف من مصاهرة الغرباء على الرغم مما نعتقد حين نسلم بالسطحيات بدلًا من أن نتعمق الأعماق.
والواقع الذي نشاهده في كل وقت أن الخلافات لا تنقطع بين أفراد الأسرة الواحدة، بل أحيانًا بين العائلة الواحدة، ومرجع ذلك إلى طمع أحد أفرادها في أموال الباقين، أو حرمان البنات من الميراث، أو إيثار أحد الورثة على إخوته لسبب ما، أو قد يكون مرجع الخلاف إلى احتكاكات سيكولوجية تنشأ من الاقتراب الذي يجعل المقارنة المؤلمة بين أبناء البعض الآخر من الأسرة الواحدة.
ولكن المال هو العلة الأولى للخلاف؛ ولذلك كثيرًا ما نجد وفاقًا وسلامًا في العائلة الصغيرة أو الأسرة الكبيرة إذا لم يكن هناك ميراث أو اشتراك في أموال، فالإخوة يحب بعضهم بعضًا ويتعاونون، والأخوال والأعمام يزورون أقاربهم ويسألون عنهم ويعطفون عليهم، وهنا نكاد نعد الفقر فضيلة أو وسيلة إلى الفضيلة.
ولكن حيث يكون الميراث والورثة والأخ الأكبر الذي يطمع في الرياسة والزعامة والزيادة في الدخل، أو حيث يكون البنات المحرومات أو شبه المحرومات، أو حيث تكون البيوع المزيفة التي تؤثر إحدى الزوجات أو أحد الأبناء، حيث يكون ذلك يكون الخلاف الذي لا ينقطع والبغض الذي لا تخمد حدَّته على مدى السنين.
ذكرتْ لي سيدة في السبعين أنها حين زارت شقيقها وهو في فِراش الموت، قد أصابه شلل جعل يده اليمنى تهتز في حركة لا تنقطع، لم تحس العطف عليه قدر ما أحسَّت أن هذه اليد هي التي كتبت عقد البيع الصوري من أبيها له في جميع ممتلكاته، مع حرمانها هي وأخواتها من البنات الحرمان التام.
ومع أني كرهت هذه السيدة وهي تقصُّ القصة المؤلمة، فإني لم أتمالك الإحساس بأنها تعذر لهذا الحقد الذي لم يتركها مدة أربعين سنة.
هو الأموال والتركات والتمييزات وتفاوت المواريث، تعمل جميعها لإثارة البغض واستبقائه السنين الطويلة، بحيث يغبط الإنسان أولئك الفقراء الذين يحب بعضهم بعضًا لأنهم لم يجدوا ميراثًا يختلفون عليه.
زِد على هذا اعتبارات وآراء سخيفة تجعل من الأخ الأكبر بديلًا من الأب، فيستغل هذا المركز، ويرفض قسمة الميراث بينه وبين إخوته، ويمشي عندئذٍ بين أفراد العائلة ناسٌ، إما لؤماء وإما مغفلون، يزعمون البركة في اللمة والوفاق في الجماعة، وينتفع الأخ الأكبر بكل هذه السخافات، ويستأثر بالتركة، لا يترك منها لإخوته إلا القليل الذي لا يغني، ويخجل هؤلاء من مقاضاته في المحاكم؛ لأن «العقلاء» يقولون بالوفاق، وأن البركة في اللمة، ولا يمكن في هذه الحال إلا أن يأخذ البغض مكان الحب.
وقد أشرتُ إلى الاحتكاكات السيكولوجية بين أفراد الأسرة، فما هو أن تتزوج إحدى الفتيات زواجًا موفقًا حتى تنبعث الإشاعات السافلة من أقاربها، وما هو أن ينجح أحد أبنائها حتى تُثار حوله أقاويل، وما هو أن يصيب أحدٌ نجاحًا في تجارة أو أي عمل آخر حتى يُتَّهَمَ بأن نجاحه يُعْزَى إلى خيانته أو سوء أخلاقه أو نحو ذلك، وكل هذا يكاد يكون طبيعيًّا إذا كان أفراد الأسرة يقيمون في بلدة واحدة أو شارع واحد، ولكن هذا الحسد يخف ويكاد يزول إذا كان أفراد الأسرة متفرقين لا يتزاورون كثيرًا، ومعنى قولنا هذا أنه إذا كان وضع الأقارب يشبه وضع الأغراب في الابتعاد الجغرافي، الذي يؤدي إلى ابتعاد نفسي، فإن البغض يزول.
كيف نجعل أقرباءنا أصدقاءنا؟
أول ذلك ألا نميز أحدًا على الآخرين بزيادة في الميراث أو حتى بزيادة في التعليم الذي يؤدي إلى تفوق أحدهم على الآخرين، والمسئولون هنا هم الآباء والأمهات، فإن كثيرًا من الآباء إذا ماتت الزوجة الأولى يتزوجون أخرى، ويميزون أبناء الثانية على أبناء الأولى، وذلك لفرط ما تضغط الزوجة، أي والدتهم الشابة زوجها، بدعوى حاجة الأولاد إلى تعليم وغير ذلك، فالذي يزرع بذور الشر والشقاق هنا هو الأب، وأحيانًا تفعل الأم مثل ذلك، ولكن هذا قليل.
إن التمييز بين ابن وآخر في الميراث هو أعظم كارثة تقع بالأبناء وتلقي بينهم ألوان الشرور، ولم تخترع بعد القوانين التي يمكنها أن تتفادى من هذا التمييز، فإن البيوع الصورية وكتابة الصكوك التي تقبل التحويل ونحو ذلك يتيح للأب أن يمنح ويمنع كما يشاء، وليس هناك من ضمان للأبناء سوى الشرف والإنسانية اللذين إذا عدمهما أب فلن يكون بعدهما ضمان للأبناء في العدل، ثم فيما هو أكثر من العدل، وهو أن يحب بعضهم بعضًا بعد وفاته، وكثيرًا ما وجدت أبناء يلعنون أباهم؛ لأنه ارتكب جريمة التمييز لأحد أو لبعض الورثة دونهم.
وكثيرًا ما وجدت نساء فقيرات، مع أن ما كان يملكه أبوهن من العقار والأموال كان يكفي لرفعهن إلى مستوى الرفاهية لو أنه لم يحرمهن الحرمان الكامل من الميراث.
فإذا تركنا المواريث فإنه يبقى هناك مجال آخر للخلاف هو زواج الأقارب، فإن هذا الزواج، حتى قبل أن يتم، هو موضوع الخلاف الذي لا ينقطع على الدوام في بعض الأسر، ولكن هذا لا ينفي أن هناك شذوذًا بل شذوذات لهذه القاعدة.
وأخيرًا يحسن بنا أن نتجنب الاشتراك في أعمال مالية مع أقاربنا؛ لأن الذين يوسوسون من أعضاء الأسرة كثيرون، وكثيرًا ما تعود هذه الوسوسة إلى الحسد، ولكنها كثيرًا أيضًا ما تثمر الثمرات المُرَّة.