الأمراض النفسية أرستقراطية
مما يلاحظه السيكولوجيون أن المنتحرين، بل كذلك المرضى النفسيين، لا يكونون إلا بين المتعلمين بل المثقفين، أما الجهلاء فقلَّ أن تجد بينهم مريضًا نفسيًّا، وقلَّ أن تجد بينهم مَن تحدثه نفسه بالانتحار.
وعلَّة ذلك واضحة، وهي أنَّ الرجل الراقي المثقف يمرض أو ينتحر؛ لأنه يؤمن بقيم اجتماعية عالية، إذا أحسَّ أنه انزلق عنها، أو أنه عاجز عن تحقيقها، ابتأس وشقي، فيمرض.
ولكن الجاهل يخلو من هذه القيم، أو هو يؤمن بقيم رخيصة محدودة بمجتمعه الذي لا يسمو عليه، فلا يجد التوترات التي يجدها الرجل الراقي المثقف.
هل يمكن الحيوان أن يفكر في الانتحار؟
إن الأمراض النفسية أمراض أرستقراطية في معنًى ما.
يجب كي نمرض نفسيًّا أن نكون مثقفين إلى حدٍّ ما، لنا معانٍ وقيم اجتماعية، ولنا مطامع أكبر من واقعنا، ويجب أيضًا أن نجد بيننا وبين المجتمع خصومة في معنًى ما، أي إنه بمبادئه وعاداته يصدمنا في أغراضنا، ويجب أن نجد في أنفسنا روح الثورة على هذه المبادئ والعادات؛ لأننا لا نؤمن بصحتها كل الإيمان أو نؤمن بضررها.
والجهل في هذه الاعتبارات يُعدُّ نعمة وسعادة، ولكن المعرفة مع ذلك لا تُعَدُّ نقمة وشقاء، وإنما تعدُّ جَدًّا ورجولة وشرفًا.
ويجب أن ننشد الشرف بالعلم، ولا ننشد السعادة بالجهل.
وعندما نتأمل حياتنا في هذه الدنيا ونخلع عنها الإضافات والتزاويق الاجتماعية، ونتحرى القيم الحقيقية التي ترفعنا، نجد أن تثقيف أذهاننا طيلة أعمارنا، أي التربية الشخصية، هي أعظم ما يجب أن نهدف إليه وليس الثراء، وليست المكانة الاجتماعية بشيء يذكر إلى جنب التربية الشخصية التي ننمو بها ونتغير ونتطور ونفهم الإنسان والكون بها.
إذا كانت هذه التربية الشخصية تؤدي أحيانًا إلى التوترات النفسية الخطيرة أو الخطرة فلا بأس في ذلك؛ لأنها تستحق هذه المخاطرة، وعلى كل حالٍ يجب أن نذكر أن هذه المخاطرة لا تقع إلا في مجتمع سيئ يسرف في الحرمان والضغط والإرهاق للأفراد الراقين، وأغلبهم من أحرار الذهن المستقلين.
ولكن الذي يجب أن نقوله ونكرره أن المدرسة أو الجامعة لا يمكنها أن تزودنا بالتربية الشخصية النامية المتطورة؛ وذلك لأن كلًّا منهما تجد جذورها في المجتمع الذي نحيا فيه، فلا يمكنها أن تعارضه مهما فَسد هذا المجتمع وأنتن وتقيح، وهذا هو ما ينتظر، وكلنا يعرف أننا كنا أيام فاروق نجعل صبياننا في المدارس يصيحون صباح كل يوم ويهتفون بنداءات في الدعاء له، بل لقد وقف أستاذ جامعي كبير يدعوه أمام الطلبة بعبارة: «صاحب مصر.» ويقول: إن أخلاقه الشخصية (ولا تنس هنا وصف الشخصية) جديرة بأن يقتدي بها شباب الشعب المصري.
لا، إذا كنَّا نريد أن نربي أنفسنا التربية الشخصية الناضجة فيجب أن نبدأ بها بعد المدرسة والجامعة.
ونمارسها في استقلال وتبصر، وحسبنا أن نتعلم من المدرسة والجامعة تلك الثقافة الهادئة، وأحيانًا الراكدة، التي تهيئنا لأنْ نتابع تربيتنا بالبحث عن غيرها، مما يبعث فينا النهضة والجرأة على اقتحام الأفكار.
والتربية الشخصية هي في النهاية تدريب الذكاء بالمعارف حتى نحسُّ الفهم لأنفسنا ومجتمعنا والدنيا والكون، والرجل الذكي يحسُّ أن مِن حقه أن يفهم، وألا يخشى الفهم، وألا يرضى بحياة الجهلة من الناس.
وتدريب الذكاء يطالبنا بأن ننظم حياتنا حتى نختبر ونقرأ، والاختبار هو الوسيلة المباشرة للمعرفة التي اختبرها غيرنا.
وليست الوسيلة الأولى متاحة لكلٍّ منَّا، ولكن الوسيلة الثانية معروضة على الدوام لمن يطالبها، وذلك باقتناء الكتب التي يكتبها المؤلفون الراغبون في خدمة القارئ وتنبيهه وإيقاظه وتوجيهه، وهذا بالطبع إلى الالتفات إلى قيمة الجريدة والمجلة، فإن للخبر قيمة تثقيفية وتنبيهية لا تقدَّر، وما دمنا نعيش في هذه الدنيا فيجب أن نتابع أحداثها بقراءة أخبارها.
إن العالم يهتزُّ هذه الأيام بخطر القنابل الذريَّة والهيدروجينية، ولكنه يهتزُّ أكثر بالمذاهب التي تتحرك هذه القنابل بقيادتها، والرجل الذي يجهل عن اختيار ورضًا هذه المذاهب وهذه القنابل هو جاهل يحيا على مستوى الحيوان، وجهله خطر علينا جميعًا.
ولكن ليست هذه المذاهب هي كل ما يجب أن يشغل الذهن المدرَّب عند الرجل المثقف، فإن في العالم مشكلات لا تحصى، أكثرها أو بالأحرى جميعًا، قد صارت مشكلات؛ لأنها تجمدت بالتقاليد؛ ولأن المجتمع الذي يحتضنها راكدًا يجد أفراده مشقة في التفكير البِكر ربع ساعة، وهذا هو الشأن في مشكلات الزواج والطلاق والتعليم والصحة والثقافة والقضاء والاقتصاد، إلخ مما نعاني هذه الأيام.
هذه الأشياء جميعها قد أصبحت مشاكل؛ لأننا نعالجها بالتقاليد وليس بالتفكير البِكر؛ ولذلك نعجز عن إصلاحها، وأعظم ما يجعل للتقاليد أو العادات القديمة الموروثة هذه القيمة هو الجهل، فلو كنَّا مثقفين، ولو كانت التربية الذاتية هدف كل فرد في الجمهور لكانت معالجة هذه المشكلات سهلة، ولكان تطور مجتمعنا ميسورًا.
ونقول: «كل فرد» ولكن هذا القول يراد به الهدف الأخير أو المثل الأعلى، أما في نظامنا الحاضر فإنه يكفينا أن نطالب أفراد الطبقة المتسلطة اقتصاديًّا وحكوميًّا بألا يهملوا تربيتهم الذاتية الشخصية بعد المدرسة أو الجامعة، وأن يعتمدوا في تثقيف أنفسهم على الشجاعة، بحيث يقرءون ويفكرون كما يريدون، ثم يعتقدون ما يريدون وفق ذكائهم المستنير وعقولهم المثقفة.
والشعب الذي يريد الحياة الحرَّة الشريفة في القرن العشرين يجب أن يبيح الثقافة الحرة، ولا يضع عليها قيودًا تمنع تداول هذا الكتاب أو ذاك الآخر؛ لأن هذا المنع هو حظر على النمو الذهني للشعب، وهو حظر لا ينتج سوى الجهل بين أفراد الشعب، ثم تعرض هذا الشعب لخطر الهزيمة أو الإبادة.