إنهاض الشبان بعد سقوطهم
هناك من المصادفات السيئة ما يجعل الشاب ينشأ مدة طفولته ثم صباه في وسط يعمل على اعوجاج نفسه، فلا يرى القيم الصحيحة الرؤية الصادقة، ولا يجد الأخلاق القويمة التي يمكنه أن يستقيم بها في الحياة، وهذه المصادفات السيئة تكثر في بعض المجتمعات والبيئات دون الأخرى.
فقد يعيش الصبي مع زوجة الأب وزوج الأم، فلا يجد الأبوة أو الأمومة التي هي من حقه أو التي يستمتع بها سائر الصبيان، ولكن هذه الحال تفدح إذا كان أحد هذين الزوجين الغريبين قاسيًا أو كارهًا الصبي، أو إذا كان لهذا الصبي إخوة تميزهم الأم أو الأب عليه في المعاملة، فهو هنا ينشأ في مجتمع صغير يحمله على أخلاق معينة تؤدي إلى اعوجاج شخصيته.
وليس من الضروري أن يكون أحد أبويه غريبًا عنه، فقد يكون أبواه على غير وفاق، يجد كل يوم، بل كل ساعة، منهما أمارات النفور بينهما؛ حيث يرى المشادات والتوترات، وتنعكس هذه الحال في نفسه أسوأ الانعكاس، إذ هو ينشأ وهو يجهل كلمات الحب والحنان والرقة والظُّرف، ويعرف نقيضها من الكلمات الأخرى التي تؤدي إلى اعوجاجه.
بل هناك ما هو أقدح من كل ذلك؛ إذ قد يعيش الصبي في عائلة غير عائلته لظروف تحتِّم ذلك على أبويه، فيجد من قريب له أو غريب عنه فسادًا جنسيًّا تتكون له منه عُقد نفسية تربك حياته وتعوج أخلاقه.
هذه بعض الظروف التي تجعل بعض الشبان ينشئون في فساد عظيم أو طفيف، وهم في حاجة إلى تقويم اعوجاجهم الذي تُحدثه هذه الظروف التي لم يكن لهم يد في إيجادها.
ولنذكر بعض حالات معينة:
نشأ «س» في بيت جده الذي تزوج غير جدته، واستعملته هذه الزوجة خادمًا داخل البيت فقط، أي إنها لم تكن تبعثه لشراء الحاجات من السوق، وبالطبع كان يمكن بهذا الخروج إلى الحوانيت ومقابلة الناس وفهم الأسعار، أن يتحرك ذكاؤه، ولكنها لم تكن تفعل ذلك لئلا يقال: إنها جعلت منه خادمًا، فقصرت نشاطه على الخدمة داخل البيت، حيث وقف ذكاؤه ولم يتحرك إلا في الشئون المنزلية الصغيرة.
وذكاؤنا اجتماعي يحتاج إلى الاختلاط بالناس والأشياء، ومعالجة الشئون والمشكلات التي تتجاوز حدود البيت، والمدرسة تحرك هذا الذكاء ببعض دراساتها، وأيضًا باختلاط الصبيان بعضهم ببعض.
ولكن «س» حُرم المدرسة إلى سن العاشرة تقريبًا، وكان إلى هذا مرمطون البيت؛ يغسل ويمسح وينظف، ولا يختلط بأحد، وبدت له زوجة أبيه، بل كذلك جده، كأنهما من الأرباب، ولم يكن واحد منهما يؤنسه، وكانت حياته حركة أوتوماتية تخلو من التعقُّل فضلًا عن الابتكار.
وذهب إلى المدرسة بعد هذه السن، فلازمه الجبن الذي تعلمه من البيت حين كان يخاف جده وزوجته، ولازمته أخلاقه الانفرادية فلم يعرف كيف يلعب ويرافق زملاءه، وكان يخشى الاختلاط بهم، ولم يجد الرغبة في الارتقاء بالدرس، فتوالت عليه السنون وهو لا يتجاوز السنة الثانية في المدرسة الابتدائية، ولم يكن يعبأ بذلك؛ إذ هو فقد إرادة الحياة، فكان يحيا بلا قصد، ولم يتعلم كيف يهتم بأي شيء فلم يطمح.
وجميع الذين تأملوه حكموا بأنه غبي أو مغفل، وأنه لا يرجى منه ارتقاء.
وخرج من المدرسة وهو على مستوى منخفض من المعارف المدرسية، يقرأ في صعوبة وتمهل وتعثر، ولا يبالي أن يعرف شيئًا في هذه الدنيا، وعاد خادمًا في بيت جده، ولم يكن أحد يلوم جده أو زوجته على استعماله خادمًا؛ لأن تبادل بعض الكلمات معه «س» كان يثبت غفلته، وأنه ليس كفئًا لأنْ يؤدي عملًا آخر سوى الخدمة المنزلية.
كان في سُباتٍ نفسيٍّ، إذا تُرك نام، وإذا وجد خادمًا آخر في البيت تحدث معه عن البيت، وتنادر معه عن موضوعات منزلية سخيفة.
ثم مات الجد ووجد نفسه مالكًا لسبعة فدادين تتيح له العيش المتواضع لا الوضيع، وظهر له أقارب كانوا يجهلونه أو كانت زوجة الجد تحرص على أن تحول بينه وبينهم، وكان عندئذٍ في الخامسة عشرة، ولكن ذكاؤه لم يكن ليزيد على ذكاء صبي في السابعة أو الثامنة، وفصل من أرملة جده، ونُقل إلى بيت خاله.
وجرى الفحص السيكولوجي على «س» وأثبت هذا الفحص أن كفاءته الوراثية الطبيعية عادية ليس بها أي نقص، وإنما جاء النقص من التربية السابقة؛ من حَبْسَةِ البيت ومنعه من الاختبارات، وقصر نشاطه على غسل الأطباق ومسح البلاط، وإغلاق عقله عن البحث والتساؤل.
كيف يتذكى العقل من هذه الأعمال؟
إنما الذكاء يحتاج إلى التدريب في هذه الدنيا الواسعة.
يحتاج أيام الصبا إلى رفقة الزملاء في اللعب، وإلى دراسة بعض الموضوعات في المدرسة، وإلى السينما، وإلى الوقوف على حركة الشوارع وتوقي أخطارها، وإلى رؤية الصور وقراءة القصص في مجلات الصبيان، وإلى الحديث مع الأبوين أو مَن يقوم مقامهما؛ حديث الحب والنور، وإلى الاختلاط بالبنات، وإلى بعض النقود ينفقها كل يوم في حاجاته الخاصة، ويتعلم منها مبادئ الحساب ثم مبادئ المعاملات.
أما حبسة البيت فتغلق الذكاء، وقد أغلقته علينا نساء الجيل الماضي في بلادنا.
ومن هنا كانت النصيحة لرد الذكاء إلى «س»، ولم يكن هذا الرد سهلًا، فإنه كان قد استقر على الغفلة، وارتضاها لنفسه وعقله، كان أبلهًا بلا بلاهة طبيعية.
وكانت النصيحة لخاله أن يبدأ في ترشيده بإعطائه بعض النقود الصغيرة كي يشتري بها الحلوى المغرية، حتى يعرف الفرق بين المليم والقرش، ثم بين خمسة القروش وعشرة القروش، وكانت السوق الريفية (إذ كان يعيش في قرية) مثارًا لذكائه؛ حلوى وحيوانات ودجاج وحمام، وكان خاله يكلفه مع مرافق كبير لحراسته وتنبيهه شراءَ حاجات المنزل، كاللحم والأرز والصابون، ثم تعلم كيف يقود البقرة إلى الحقل، ورأى كيف ينزو الثور على البقرة وشرع يفهم ما لا يراه، وما يجد في غريزته الجنسية المستيقظة، وصار يسأل ويستطلع.
واستأجر له خاله معلمًا شرع يعلمه ما يلي السنة الثانية الابتدائية من جغرافيا إلى تاريخ إلى دين إلى حساب إلى هجاء صحيح … إلخ.
ثم نصح خاله بأن يجعله يستقبل الضيوف ويقعد معهم رجالًا ونساء ويفهم أحاديثهم.
وعرفه خاله بثروته، وقيمة إيجارات أرضه، وصار يسلمه الجنيه وهو مطمئن، واستمرت هذه الحال، واستمر «س» في الارتقاء الاجتماعي الثقافي الذهني إلى أن بلغ سن الرشد، فتولى أعماله بلا خوف، وعرف أعظم حافز على الذكاء وهو الطموح الذي يبعث على الاستطلاع.
حبسة البيت أوشكت أن تلغي عقله، وقد ألغته إلى حدٍّ كبير نحو عشر سنوات، ولكن خروجه من البيت إلى هذا الفضاء الواسع، إلى المجتمع أعاد إليه عقله.
•••
ثم انظر في حال «ع»:
هو شاب في الخامسة والعشرين يمارس الإجرام الخفي عن مبدأ، لمَّا تحدثتُ إليه سألته عن أحلامه في اليقظة، أي تلك الخواطر السائبة التي تخطر لنا بلا ضابط ونحن أيقاظ كأننا نيام، كما يحدث عندما نستريح وننسطح مثلًا عقب الغداء في السرير.
ولم أُدهش عند قوله: إنه يفكر في إحراق القاهرة.
وسألته: أي خاطر آخر يمر بذهنك؟ ولم أدهش عند قوله: إنه يشتهي أن يرتكب اتصالًا جنسيًّا شاذًّا مع سيدة معينة، وكانت هذه السيدة تمثل في ذهنه صورة المرأة الشريفة.
إنه يكره الشرف، ولا يطيق رؤية رجل شريف أو امرأة شريفة، وذلك لسبب بسيط وهو أنه هو نفسه غير شريف.
فقد حدث وهو دون الثانية عشرة من عمره، أن فسق به عمه، واستمر يفسق به نحو عام.
ولذلك هو لا يطيق أن يسمع عن رجلٍ شريف أو امرأة شريفة، ويود لو يشتعل حريق في القاهرة يموت به هذا المجتمع الذي حرمه الشرف منذ صباه.
وهو عندما يجد رجلًا يكره التدخين يعمد إلى سبِّه، ويعد امتناعه تكبرًا، وإذا وجد رجلًا يتحفظ في لغته ويرفض الاندماج في حديث استهتاري يعمد إليه في كراهة يحاول التصغير من شأنه.
إنه يحسُّ أنه سافل، وأن المجتمع مسئول عن سفالته، وأنه يجب كي يتساوى بسائر الناس أن يجعلهم سفلة مثله، لهم مثل هذا الاختبار السيئ الذي أوقعه به عمه حين كان يفسق به وهو دون الثانية عشرة، وهو ضائق بفضيحته التي يحسُّها في نخاع عظامه، وهذا الضيق يثير غضبه فيجب أن يرتكب في الناس ما ارتكبه فيه عمه، وقد حقق كثيرًا من ذلك، ففسق بالصبيان، بل فسق بالبغايا شاذًّا، ولكنه لم يرتح إلى هذا الانتقام، فالتجأ إلى الخمور لتهدئة نفسه، ولكنه كان وقت سُكره يعربد ويعتدي، فإذا أفاق عاد إليه الكرب والضيق.
وكان يعمل ويكسب، وكان كسبه معتدلًا، ولكنه كان ينفقه على الخمور والمخدرات، ولم يكن يجالس المهذبين المتمدنين؛ لأنه وجد بالاختبار أنه سريع الشجار معهم، فصار يختار من هم دونه، يأتنس بهم ويعطف عليهم، ويتحدث أحاديث بذيئة معهم.
وكان يضيق بعمله؛ ولذلك تنقَّل في نحو عشر وظائف في أقل من سبع سنوات.
عندما رأيته وسمعت أحاديثه المتكررة شرعت أؤنسه وأشجعه، وأحاول تغيير فوضاه إلى نظام، وأرسم برنامجًا نظيفًا جديدًا لحياته.
قلت له: أنت تكره حياتك الماضية وتلعن عمك الذي ارتكب فيك هذه الجريمة، وأنت ضائق مكروب متوتر بهذه الذكرى، وهذا برهان على شرفك؛ إذ لو لم تكن شريفًا لما عبأت بما حدث لك أيام صباك، أنت ترى رؤيا الرجل العظيم الذي كان يمكن أن تكونه أنت، ثم تذكر تاريخك الماضي فتكره نفسك وتكره المجتمع، وتثأر منه بارتكاب جرائم الفسق، وأنا أحترم غضبك، ولكني لا أجد أنك تحاول معالجة نفسك، يجب أن تولد مرة أخرى.
كلنا نتطور، ومعنى التطور أن نتغير، بحيث نزيد التلاؤم بيننا وبين مجتمعنا، وأعني مجتمعنا الحسن، وهناك أوقات يزيد فيها التطور حتى ليشبه الثورة، وكأننا نولد مرة أخرى.
اعتبر السكير الذي مضت عليه عشرون سنة وهو يسكر ويتلف صحته وماله، فإنه يفيق ذات صباح، فإذا به شخص آخر لا يطيق رؤية الخمور، لقد ولد مرة أخرى، ويحدث هذا الانقلاب بشكل ثوري، أي إننا لا نتدرج إليه وإنما نَثِبُ.
وأنت الآن على وشك الوثوب؛ لأنك وأنت تمارس الجريمة عن عمد بروح الانتقام لتاريخك الماضي إنما تحتضن أملًا مضيئًا ترى فيه نفسك رجلًا شريفًا، ولكن لن تكون هذا الرجل الشريف إلا إذا وضعت لنفسك برنامجًا جديدًا لتحقيق هذا الشرف.
ما هو الذي يجعلنا شرفاء في الدنيا؟
أن نهوى الأشياء العظيمة، نحب الأشعار ونقرأها، بل نؤلفها إذا استطعنا، ونحب الموسيقى، ونصادق الأصدقاء الأشراف، ونقتني الكتب والتحف، ونقرأ تاريخ الإنسان، ونخدم الناس بعمل منتج، وننتج أكثر مما نستهلك، ونسافر كل سنة إلى الشواطئ، ونبني بيتًا يقوم على الحب بيننا وبين الزوجة، ونشتغل بالسياسة والاقتصاد، ونسأل لماذا يكون في الدنيا فقر واستعمار، ونكافح الظلم عند المستبدين والظلام عند الرجعيين، ونجعل لحياتنا دلالة، دلالة وليس معنًى فقط، يجب أن تكون رجلًا يدلُّ.
تعمَّد الارتقاء كل يوم بترك عادة قبيحة واتخاذ عادة حسنة، بعملٍ بارٍّ بدلًا من عملٍ نجسٍ، لا تتعمد نسيان ما حدث لك، وإنما قم بأعمال إيجابية تجعلك تحسُّ الشرف في نفسك، والدلالة لشخصك في مجتمعك، وعندئذٍ تنسى — دون تعمد — ما حدث في صباك، ضع لنفسك برنامجًا لهذا العام أو لهذا الشهر، بحيث تحاسب نفسك في آخر المدة على ما كسبت منه، ثم جدِّد برامجك واهدف إلى السموِّ.
ادرس الاشتراكية وافهم غايتها في الإصلاح، أي في إلغاء الفقر والجهل والمرض، وكن بطلًا من أبطالها، لك هدف إنساني عظيم، والهدف الإنساني العظيم يجعلك رجلًا عظيمًا.
•••
شُفي «ع» وصار يزورني في فترات، يسأل عن حلٍّ لبعض المصاعب الصغيرة، وسألته بدوري: ما هو الذي أثَّر فيك أكبر الأثر من أحاديثي معك؟ فكان جوابه قولي له: إنه يجب أن يولد من جديد، ميلادًا جديدًا.