الجرائم والمجرمون
هناك قصة خيالية لأحد الأدباء الإنجليز، يتحدث فيها عن شعب ناءٍ يعيش على أصول وقواعد في الأخلاق تختلف عما نحن عليه، وكان بعض هذا الاختلاف أن قضاة هذا الشعب كانوا يحكمون على المريض بالسجن عقوبة له على مرضه، في حين أن المجرم لا يعاقب، وإنما يوضع في مستشفى للعلاج.
والفكرة لأول وهلة تدهشنا، ولكن قليلًا من التأمل يُزيل هذه الدهشة، فإن المسئولية المزعومة عند المجرم، ثم الإرادة التي ينبني عليها عقابنا له على ارتكابه الجريمة، كلتاهما تعدُّ وهمية في نظر السيكولوجيين، فهو هنا مثل المريض، ولكن إذا قسنا العقوبة على قدر النتيجة، فإن القياس الصحيح يميل بنا إلى معاقبة المريض بأشد وأقسى مما نعاقب المجرم؛ ذلك أن المجرم قد يقتل رجلًا واحدًا، ولكن المريض الذي يهمل في اعتزال الناس لمنع عدواه لهم يقتل عشرة رجال أو مائة رجل بالعدوى.
ولكننا نهذر حين نقدر العقوبة بمقدار النتيجة للمرض أو الجريمة؛ لأن المجرم والمريض سواء في أنهما غير مسئولين، وعندئذٍ يجب أن نعالجهما بالدواء بدلًا من أن نعاقبهما بالحبس.
•••
والجريمة مثل المرض نتيجة محتومة لنظام المجتمع الذي نعيش فيه، وأعظم ما يؤدي إلى كثرة الجرائم هو الفقر، وهو نفسه أيضًا أعظم ما يؤدي إلى مرض.
وكل سنة يشنق في مصر نحو مائة رجل، كلهم فقراء، وليس بينهم غني واحد، وكل سنة يحكم على مئات بالسجن المؤبد أو المؤقت وكلهم فقراء ليس بينهم غني واحد إلا فيما ندر، أليس هذا برهانًا على أن الفقر سبب الجريمة؟
والشعوب التي لا ترتكب فيها الجرائم البشعة التي تؤدي إلى الإعدام أو السجن المؤبد هي الشعوب التي يعمُّ فيها التكافل الاجتماعي، مثل سويسرا أو هولندا أو سويد أو دنمركا.
قلت: «التكافل الاجتماعي.» ولم أقل: «الغنى»؛ إذ إن هذه الكلمة الأخيرة نسبية في معناها؛ لأن الدخل الذي يجعل صاحبه غنيًّا في القاهرة يعد صغيرًا في نيويورك، ولكن التكافل الاجتماعي يمنع الفقر، وهذا كل شيء في منع الجريمة.
وفي بلادنا تكثر الجريمة في الريف وتبشع؛ وذلك لأن الريف يحوي الثراء والفقر الفاحش، ونجد لهذا السبب جرائم الاغتيال لأتفه الأسباب في نظرنا، ولكن ما نحسبه سببًا تافهًا هو طفاوة السطح للأحقاد العميقة التي خلفتها حياة الفقر والحاجة في نفس المجرم.
ومكافحة الإجرام في مثل بلادنا يجب أن تنهض على مكافحة الفقر لهذا السبب، وإذا استطعنا أن نوجد بعض القوانين التي تجمل معاني التكافل الاجتماعي فإننا بلا شك نمنع الجريمة، أو بالأحرى نمنع معظم الجرائم.
وأساس التكافل الاجتماعي هو أن نكفل العمل الكاسب المنتج لجميع الرجال والنساء من سنِّ العشرين إلى سنِّ السبعين، وأن نمنحهم التعويضات عن التبطل والمرض، وأن نيسر لهم صيانة صحتهم في المسكن النظيف والشارع النظيف.
أما بعد الفقر الذي أعزو إليه ٩٥ في المائة من الجرائم في بلادنا، فإني أحتاج إلى ذِكر أسباب أخرى تؤدي إلى الجريمة، أو تزيد من فداحة الجرائم التي يحدثها الفقر.
وأول ذلك العائلة المفككة بالطلاق وتعدد الزوجات، فإن كليهما يعمم الفوضى ويبعث الأحقاد بين الأزواج والأبناء، وقد يحدث العُقَدَ السيكولوجية التي تؤدي إلى الإجرام.
والثاني هو المجتمع الانفصالي الذي يفصل بين الشبَّان والفتيات، ويحدث التوترات والشذوذات الجنسية البشعة، وليس من الضروري أن تؤدي التوترات الجنسية إلى جرائم جنسية؛ إذ هي تؤثر في السلوك العامِّ للشباب، وتجعله يقع في انحرافات إجرامية قد لا يكون لها عَلاقة مباشرة بالجنس؛ إذ هي تُحدث كربًا وضيقًا وإحساسًا بالحقد والغضب يجعل السلوك غير عادي في الشئون العادية، فتحدث الجريمة أو الرذيلة، والإصرار على منع الخمور هو في صميمه إصرار على تعويد الشبان اتخاذ المخدرات، ولا يقف انتشار المخدرات غير الترخيص ببيع الخمور، وهذا على الأقل هو ما نفهمه من تجارب الشعوب الأخرى، فإن اللبنانيين والإسرائيليين والسوريين يزرعون الحشيش ولكنهم لا يدخنونه؛ لأنهم يقنعون بشرب الخمور الرخيصة، ثم هم يزرعون الحشيش لنا.
وإذا لم تبعث المخدرات متناوليها على الإجرام فإنها تحيلهم إلى حيوانات لا تحسُّ المسئوليات الاجتماعية والعائلية، كما أنها تعمم البلاهة في كثير منهم بحيث يعجزون عن العمل الكاسب المنتظم، وتناول الخمور في اعتدال لا يحدث شيئًا من هذه الرذائل.
وجميع الشعوب المتمدنة القوية تتناول الخمور بلا حرج، والصحة العامة فيها حسنة، ومتوسط الأعمار يصل إلى ٧٢ سنة، في حين لا يصل هذا المتوسط في مصر إلى ٣٠ سنة.
وهناك في أقصى الصعيد عادات وتقاليد تحثُّ على الإجرام منها هذه الكلمات السفاحة التي يجب أن تلغى من لغتنا وهي: العرض، الدم، الثأر، الانتقام. فإن هذه الكلمات مسئولة عن قتل خمسين أو مائة مصري كل عام، ومرجعها أو أساسها هو هذا النظر الاقتنائي للمرأة التي تُعَدُّ في بعض البيئات الصعيدية سلعة وليست إنسانًا حرًّا يتصرف بحياته كما يشاء، ولا بدَّ من تغيير هذه النظرة.
•••
كيف نعالج الإجرام؟
قبل كل شيء وبعد كل شيء وفي كل وقت يجب ألا ننسى أن الفقر هو العلة الاجتماعية الأولى التي تؤدي مباشرة أو مداورة إلى الإجرام؛ ولهذا تكثر الجرائم في الريف؛ لأنه البيئة الأولى للفقر؛ ولهذا يجب أن يكون هم المصلحين واهتمامهم في مصر زيادة الدخل لعامة الشعب.
والفقر كما قلتُ هو علة ٩٥ في المائة من الجرائم، أما الخمسة في المائة الباقية ففي ظني أنها تعود في كثير من ظروفها إلى الفقر أيضًا؛ لأن الرجل الذي يطلق زوجته، أو الزوجة التي تسب زوجها وتهينه وتستفزَّه إلى ضربها أو قتلها، والصبي الذي يفسد كي يجد قرشًا يشتري به الحلوى، والفتاة التي يستميلها مخدومها في المنزل حتى يفسق بها، كل هذا يعود مباشرة أو مداورة إلى الفقر.
ومهما كررنا القول عن الفقر، وأنه أساس الرذائل والجرائم والأمراض، فإننا لن نعطيه حقه في كل هذه المساوئ، فالعلاج الأول للجريمة هو إلغاء الفقر، وتبقى بعد ذلك علاجات أخرى:
أولها: أن توجد العائلة المكينة في مصر، أي العائلة التي لا تتزعزع بطلاق أو ضرر، فإن هنا ضمانًا للاستقرار والنشأة الطيبة للأبناء، ولا يمكن بالطبع أن نستغني عن الطلاق، ولكن يجب ألا نسمح به إلا في أضيق الحدود.
ثم يجب أن نلغي المخدرات؛ الحشيش والأفيون والمورفين والكوكئين والهيروين بتيسير صنع الخمور في بلادنا وبيعها بدلًا منها.
وأخيرًا يجب أن نوجد المجتمع المختلط، فنعلِّم الشبان والفتيات معًا في الجامعات، كما يجب أن نرفع من شأن المرأة باستخدامها في جميع أعمال الرجال، حتى يحس هؤلاء أن لها كرامة مثلهم، ولا يقتلوها أو يضربوها لأتفه الأسباب.
وفي كل هذا الذي ذكرت لا أنسى المركبات والعقد السيكولوجية التي قد تُحدث الإجرام، فإن الوالد القاسي أو زوجة الأب التي تسيء إلى أبناء زوجها أو المعلم الشرس أو الشوهة التي تجعل الصبي خجولًا لا يحسُّ نقصه أمام تعيير زملائه له، أو العار في العائلة، أو الفسق بالصبي، كل هذا يُحدث عُقدًا في نفس الشاب تحمله على كراهة المجتمع أو الحقد عليه، ثم التفريج أحيانًا عن هذا الحقد بالإجرام.
ولسنا ننسى هنا مع ذلك أن مركب النقص قد يحمل صاحبه على التَّمَهُّرِ للتعويض، وقد يتيح له النجاح، ولكن هذا قليل؛ لأن الأكثر أنه يبعثه على الإجرام.
وأخيرًا يجب أن نذكر الرحمة على الدوام، فإننا كلنا مجرمون، وبرهان هذا أننا كثيرًا ما تخيلنا إيقاع الأذى، بل أحيانًا حلمنا بالقتل لأعدائنا، أي إننا ارتكبنا الجريمة في الخيال، ثم غرامنا بقصص الإجرام السينمائية أو بقراءة هذه القصص برهان على أن الإجرام ليس بعيدًا عن نفوسنا؛ إذ إننا لو كنَّا ننفر ونشمئز من الجريمة لما أحببنا رؤيتها على الشاشة السينمائية، ولما قرأنا ما تكتبه الصحف عنها في نهمٍ وحماسة، ولما تخيلنا أنفسنا أبطالًا في العدوان وقت الراحة حين نستسلم لأحلام اليقظة.
وكل هذا يجب أن يكون عاملًا من عوامل المطالبة بالرحمة للمجرمين.