الطلبة الذين يقتلون ويسرقون
استبشع الجمهور ما ذكرتْه الصحف عن الجرائم التي ارتكبها شبَّان من الطلبة، وهي جرائم يجب أن تنبهنا إلى العوامل العديدة التي تبعث الأفكار السوداء في عقول أبنائنا، ثم يجب ألا ننسى أنه إذا كان هؤلاء الطلبة قد ارتكبوا هذه الجرائم العاتية وقبض عليهم، فإن هناك من الشبان من ارتكب ما هو دون هذه الجرائم، أو فكَّر فيها كما لو كانت حلمًا وأمنية، ولعله لم يرتكبها إلا للخوف فقط من العقوبة، وليس لأن نفسه تنفر من الجريمة.
وعندما نتحدث عن الجريمة يجب أن نذكر أن المجرم إنما يرتكب جريمته؛ لأنه لا يطيق الوسط الذي يعيش فيه، وليس لأنه قد ورث النزعة الإجرامية.
ليس هناك وراثة في الإجرام، وإنما هناك عوامل سيئة قد أنبتها الوسط الاجتماعي، وقد كان يقال: إن العقل السليم في الجسم السليم، ومن الحسن أن نعكس هذه العبارات وأن نقول: إن الجسم السليم في العقل السليم، فإن هناك عشرات من أمراض الجسم تعود إلى العادات السيئة في العيش، وهي عادات ما كان ليقبلها ويتعودها صاحبها لو كان عقله سليمًا.
ولكن هناك حِكمة أخرى يجب ألا ننساها هي أن النفس السليمة في الوسط السليم.
جميع جرائمنا تعود إلى وسط سيئ، يحدث التوترات التي يختل منها العقل وتحتد منها العواطف، فتنفجر الجريمة للعجز عن الضبط والتعقل، وهذا يقع منذ الطفولة إلى الشيخوخة.
اعتبر الصبي الذي يسمع نداء الحلويات والمثلجات في الشارع فيطلب من أمه قرشًا ليشتري شيئًا منها فترفض، فيغتاظ ويصفع شقيقه للتفريج عن توتره.
واعتبر الصبي يخرج من البيت قصد الذهاب إلى المدرسة فلا يذهب إليها، وإنما يقضي وقته وهو يتسكع ويلعب في الشوارع إلى ميعاد الغداء، حين يعود إلى البيت، وكأنه لم يرتكب شيئًا، وإنما فعل ذلك؛ لأن المدرسة بنظامها الحاضر ليست محبوبة، ولأن المعلمين لا يغرونه بالدرس أو بطريقة التدريس.
أو اعتبر الصبي الذي لا يجد حبًّا من أبويه، فهما يهملانه في البيت؛ ولذلك لا يطيق البقاء فيه، وإذا بقي فيه، فإن نشاطه يتخذ أسلوبًا لا يرضي أبويه.
هذه جرائم صبيان بل أطفال تعود إلى أن نفس الصبي مريضة غير سوية؛ لأن وسطه العائلي أو المدرسي غير سليم.
وعندما يبلغ الصبي سن الشباب يجد أن له عائلة أخرى، عائلة كبرى هي المجتمع.
وفي المجتمع السليم أي الوسط السليم يجب أن يلقى الشاب تلك العوامل التي تبعثه على السلوك السوي، فليسأل كلٌّ منا: هل مجتمعنا سليم يثمر النفوس السليمة؟ وهل لو كان سليمًا كان هؤلاء الطلبة الذين قتلوا وسرقوا وفسقوا يجدون المرتع لجرائمهم؟
قبل نحو شهر مات صديقي الأستاذ المرصفي، وكان قد أنفق بضع سنوات من عمره كمرشد اجتماعي يصلح ويوجه صبيان الإصلاحيات، وسألته ذات مرة سؤالًا علنيًّا أمام جمع من الشبان: هل أولئك الصبيان حين يخرجون من الإصلاحيات يسلكون السلوك الاجتماعي الحسن ويعيشون العيشة الطيبة؟
فكان جوابه: لا، كلهم يرتكبون الجرائم ويدخلون السجون.
يدخلون السجون بعد أن أمضوا سنوات فيما نسميه «إصلاحيات».
قلت له: ولماذا؟
فقال: لأن نظام الإصلاحيات هو نظام السجون لا يختلف، والذين يشرفون عليهم في نظامهم وإطعامهم واستخدامهم ليسوا من المربين والمربيات، وإنما هم من رجال البوليس.
وذكرت عندئذٍ ما سبق أن قاله لي الأستاذ عبد الحميد عبد الحق، فقد كان وزيرًا للشئون الاجتماعية، حين قصد إلى إصلاحية «الرجال» في القناطر، ولشد ما دهش عندما وجد رجلًا قد ربط إلى ساقية الإصلاحية، فهو يجر ويدور حول محور الساقية.
وسأل: لماذا تفعلون هذا بالرجل؟ فكان الجواب: «ما عندناش بقرة.» وبكلمة أخرى قد أحلنا هذا الإنسان إلى حيوان، فكيف ننتظر منه بعد أن يخرج من الإصلاحية أن يعود إنسانًا؟!
وكذلك «صبيان الإصلاحية» الذين عوملوا المعاملة العسكرية، كيف ننتظر منهم أن يكونوا اجتماعيين سويين حين يخرجون منها؟
إن لكل منَّا أسلوبًا في العيش يتفق ووسطه ومجتمعه، وهذا الأسلوب هو استجاباتنا ورجوعنا إلى الحب والبغض، ومعاني الشرف ومطامع الكسب، وهو يجب أن يحثنا عما يسعدنا ويريحنا أو يزيدنا كرامة، والإصلاحيات والسجون لا تهيئ هذا الوسط أو هذا المجتمع، بل تبعث في المجرمين الصغار والكبار بواعث الحقد وإحساس الضعة ونسيان الفضائل نسيانًا يكاد يكون تامًّا.
وهؤلاء الطلبة الذين سقطوا سقوطهم العظيم في الجريمة يجب أن نلتمس أسباب سقوطهم في مجتمعهم؛ إذ ليس شك أن هناك عوامل قررت لهم أسلوب العيش على هذه الطريقة الإجرامية، وأنهم لو كانوا قد تعلموا أسلوبًا آخر لسلكوا سلوكًا آخر.
هل نشأ هؤلاء الشبان المجرمون في حضن عائلة حسنة وجدوا فيها الحب من الأبوين والإخوة والمعاملة الحسنة التي لا تنزع إلى الاضطهاد أو إلى التدليل؟ هل وجدوا المَدْرَسَة التي كانت تغريهم بالدرس بدلًا من التهديد بالعقوبة؟
هل وجدوا ما يملأ فراغهم من العمل الكاسب أو الكتاب النافع، أو الهواية السليمة أو الاختلاط الجنسي، أو سائر ما يرفه عنهم آلامهم من تفاهة حياتهم؟
أظن أنهم لم يجدوا ذلك؛ إذ لو كانوا قد وجدوه أو وجدوا بعضًا منه لامتلأت حياتهم بما يشغلهم من العمل السوي الصالح بدلًا من هذا الشذوذ الإجرامي.
إننا نعالج الجريمة بالمشنقة والسجن والحبس، ولكن العلاج الحقيقي هو أن نوجِد المجتمع الصالح الذي يثمر المواطن الصالح، فلا ينحرف إلى الإجرام.
واقتراحاتي الإيجابية هي ما يلي:
أن يعنى الآباء بحب الأبناء أيام الطفولة ثم الصبا، فإن العادات التي ترسخ في هذه السنين قلما تتغير في المستقبل، ومعنى الحب هنا ألَّا يكون هناك اضطهاد أو تدليل لهم، وإنما المعاملة النزيهة فقط.
أن نعلِّم الصبيان كيف يصادقون زملاءهم، ويلعبون وينتمون إلى الأندية التي تنشأ على نظام الاحترام لشخصياتهم، والتي تدربهم على الألعاب الرياضية.
وأن نعمم التعليم المختلط، فإن الاختلاط الجنسي يرفه عنهم شبَّانًا وفتيات، ويحملهم على صداقات تربيهم وترسم لهم أهدافًا من الشرف والجد، وهم لا يجدون شيئًا من هذه الصداقات الآن؛ لأننا نحرِّمها.
وأن نيسر لهم الدروس، ونطالب المعلمين بأن يكونوا شخصيات محببة غير مكروهة، فإن فشل التلميذُ في المدرسة يعدُّ من أعظم الصدمات النفسية التي تحمله على رذائل لا تحصى، بل إن التجاءه إلى اللذة الانفرادية الجنسية كثيرًا ما يكون نتيجة لفشله في المدرسة؛ إذ هي ترفيه وقتي يرفع نفسه ويريحه بعض الوقت من الكرب الذي يعانيه بسبب الفشل، ويجب أن نشجع الشبَّان والفتيان على اتخاذ الهوايات النافعة التي تحمل في طياتها عوامل التربية الذاتية والارتقاء المطرد.
ويجب ألا نحرمهم مصروفهم من النقود مع الاعتدال، فلا تقتير ولا تبذير.
وكذلك يجب ألا نحرمهم من غشيان الدور السينمائية، ولكن مع النصح بتجنب الأفلام الإجرامية التي ترد إلينا من الأقطار الأجنبية والتي تصف المجرم بالبطولة.
وأخيرًا وعندي أن هذا كبير القيمة جدًّا، يجب أن نعوِّدهم قراءة الكتب النافعة التي يحسُّون منها الزيادة في الارتقاء الذهني.
فإنَّ هذا الارتقاء يوجههم ويكسبهم إحساس القصد في الحياة، فالشاب الذي يشغف بالقراءة منذ السابعة عشرة مثلًا تتسع آفاقه في التفكير الإيجابي، فهو يريد أن يكون كذا وكذا، وهو يفكر في الدنيا وفي شخصه ومجتمعه، وهو لهذا الشغف نفسه يكره قتل الوقت في الأحاديث التافهة وألعاب الحظ، كما ينفر من الأصدقاء الهازلين، بل هو يتجنب العادات السيئة، كالتدخين والشراب ونحوهما.
وتبعًا لذلك يتجنب التفكير الإجرامي الهدَّام الذي يهدم به نفسه قبل أن يهدم غيره.
والمجتمع السليم هو الذي يطهر لغته من الكلمات السفاحة، مثل الانتقام، الثأر، الشماتة، التفوق، ويستبدل بها كلمات التعاون والسلام والرحمة، ويجب أن تكون له كلماته التي تصح أن تكون شعارات، يرتقي بها الشبان ويؤلفون برامج جديدة ينهضون بها ويكبرون.
هذا عندي هو المجتمع السليم الذي تحتاج إليه النفس السليمة السوية التي لا تشذُّ ولا ترتكب الجريمة.