نحن شعراء في الصباح
عندما نقرأ الأبيات التي ينسجها خيال الشاعر العظيم نحسُّ السعادة تغمرنا للمعاني العميقة التي يستنبطها في نفوسنا، وللإلهام الإنساني الذي يبعثه في عقولنا.
وتكاد الرغبة في تأليف الأشعار تكون عامة بين جميع الشبان، حين يشرعون في تحسس الفنون والآداب، وقلَّ أن تجد مشتغلًا بالأدب أو الفن لم يحاول أكثر من مرة أن يؤلف الشعر، والأغلب أنه يمارس هذه المحاولات أيام الشباب الأولى حين يبدو كثير من الدنيا والكون أمامه جديدًا، وحين يشرع في تفسير عواطفه البازغة، فيسأل عن الحب والجمال والشجاعة والشرف.
والشاب الذكي يستبقي هذه الإحساسات سائر عمره، فإذا استطاع أن يكون مؤلِّفًا ناظمًا فذاك، وإن لم يستطع فهو يقنع بالقراءة وينشد الأشعار العظيمة أينما وجدها، يتأمل معانيها ويتلمظ بكلماتها، وهو سعيد بكل ذلك، يحاول أن ينقل معاني الشعر إلى معاني حياته كي يسمو ويتقدس.
وكلنا نستطيع أن نكون شعراء.
ذلك أن للشعر أوقاتًا وظروفًا تثيره في نفوسنا، فإن كل شاب مثلًا شاعر وقت غرامه، وكذلك الجندي المكافح وقت المعمعة، بل كذلك الأم وهي تناغي طفلها الرضيع، وكلنا شعراء أمام جبل شامخ، أو شفق ملتهب، أو صورة فنية، أو نحو ذلك.
وكلنا شعراء في الصباح حين نبكر في الاستيقاظ ونستقبل النسيم الرخي الذي يحمل أصواتًا هادئة بعيدة عن وعينا المدني، تكاد تكون في هدوئها صامتة مضمرة، في حركة الهواء وحفيف الأوراق ورقصات الأعشاب.
ويجب كي نجيد الإحساس بالشعر، ألا نتناول فطورنا إلا بعد أن نخرج إلى الحقول، أو حتى إلى أقرب حديقة مهما صغرت مساحتها وقلَّت أعشابها، فإن هذا الاتصال بالطبيعة يبعث في قلوبنا طائفة من الإحساسات النبيلة ويعيد إلينا ما ننساه كثيرًا، وهو أن لنا أمًّا عامة تشملنا جميعًا هي الطبيعة.
نحن كلنا أبناء الطبيعة ويجب أن نتصل بها كل صباح نتشمم العبير من أعشابها ونتغزل بأحيائها ونذوب في كيانها، ويجب ألا نطلب الجمال فقط في الطبيعة، بل يجب ألا نطلبه بتاتًا في الصباح؛ لأن الإحساسات التي ننطوي عليها وقتئذٍ هي إحساسات البنوة للأمومة، فكما أننا نحب أمنَّا التي نشأنا على صدرها ورضعنا من ثديها؛ لأنها أمنَّا فقط، وكما أننا لا ننشد فيها الجمال، كذلك يجب أن يكون شأننا مع الطبيعة، نحبها بقوة العاطفة التي يكنها الأبناء للأمهات لا أكثر.
هذه العاطفة الحنونة هي التي تجعلنا نجد في طين الحقل ودبيب النمل ورائحة السباخ وأوراق الخريف الصفراء، نجد فيها جميعها إحساسًا دينيًّا يكاد يحملنا على الصلاة.
ومع ذلك ليس هناك شك في أن للطبيعة جمالًا، بل جلالًا تراه في الجبل الشامخ أو في النيل العظيم، أو في الشمس عند الشروق أو الغروب، عندما تلهب الشمس السحب كأنها تشعل فيها حريقًا، ولكن تقديرنا للأم يحتاج إلى كل هذه المظاهر الفاخرة؛ لأن الصلة الحميمة التي تربطنا بها تغنينا عن هذه البهرجة، بحيث نحس الحب والحنان لها وهي في ابتذالها عارية من هذه الأبهة، والأبناء لا يطالبون أمهاتهم بالتأنق في الملابس والتأنق في الأزياء.
أجل، ليست الطبيعة للجمال، وإنما هي للأمومة.
يجب أن نخرج في الصباح كي نلتقي بأمنا، حيث نختلي بها ونناجيها، وإنه للقاء رحيب سخي عند جميع الذين مارسوه، فإن ما غرسته في نفوسنا ملابسات الحضارة من غيرة أو بُغض أو حسد أو طمع، كل هذا يذوب وتأخذ مكانه عواطف الحب والتسامح، حتى إننا لنجد لذة حنونًا في الحكمة القائلة: «أحبوا أعداءكم.»
وهي حكمة يشق علينا العمل بها ونحن في مجتمعنا الاقتنائي الحاضر؛ إذ هو يحملنا على المباراة، ويغرس فينا منذ طفولتنا الرغبة في التفوق والسبق، وينأى بنا عن معاني الحب والتسامح، فضلًا عن الحب للأعداء.
ومن الحسن أن ننسى ساعة كل يوم هذه الاعتبارات المدنية، وأن نعود بدائيين نقدر القيم البدائية في تأمل الشجرة والزهرة، وفي لذة النفحة من النسيم، تحيينا وكأنها تقبِّل وجوهنا، وفي الصمت يحيط بنا وكأنه يهمس إلينا أسرارًا عن حقيقة الوجود.
بل ونحن في هذه الحال منفردين في خلوتنا إلى أنفسنا بعيدين عن ضجيج المدينة نستطيع من وقت لآخر أن نتأمل ماضينا ومستقبلنا، وقد نهتدي، والأغلب أننا نهتدي، إلى بصيرة جديدة في حياتنا، فقد نكون مندفعين في خطة أو سلوك نحو هدف زائف فاسد أو بعيد مجهد، وما دمنا في وسط المدينة وملابساتها وقيمها فإننا ننساق في غير وعي وبلا تفكير، ولكن خلوة الصباح مع الأم الكبرى جديرة بأن تجعلنا نقف ونقدر ونغير ونفلسف، وقد نأخذ عندئذٍ بقيم جديدة تؤدي إلى السعادة، أو إلى ما هو أشرف من السعادة؛ إلى الإنسانية.
ولنكن جميعًا شعراء في الصباح.