شبابنا وكيف نثقفه
أثير في الصحف موضوع خطير هو المستوى الثقافي العامُّ لخريجي الجامعات: أي لشبابنا المتعلم الذي نعتمد عليه في سياسة الدولة، والتعليم والصحة العامة، والبناء القومي والمادي لبلادنا.
وقد عيب على هؤلاء الخريجين نقصهم الفاضح في الجغرافية وأسماء البلاد حتى القريبة منَّا، بل إن بعضهم أخطأ في موقع الأردن: دع عنك مكانها في الإطار العالمي السياسي.
وقد أحسن الذين أثاروا هذا الموضوع، وهذا مع أنهم لم يذكروا العلاج لهذا النقص الذي أثبتوه.
والذي يجب أن نثبته أن الجامعات غير مسئولة عن هذا النقص، وإذا كانت هناك أية مسئولية على دور التعليم فإن المدارس الثانوية أولى من غيرها بالتثقيف العامِّ.
ذلك أن كليات الجامعة إنما أنشئت للتخصص، فالطالب في إحداها كيماوي، وهو في الأخرى حقوقي، وفي غيرها جيولوجي أو مصرلوجي أو متخصص في الآداب العربية أو الآداب الإنجليزية، أو هو يدرس الصيدلة أو الطب أو الهندسة.
والتخصص في هذه العلوم أو الفنون لا يتيح للطالب أن يكون مثقفًا، ونعني تلك الثقافة العامة التي تجعله رجلًا كاملًا أو بالأحرى يطلب الكمال في الفهم العام، أي يعرف مكانه في هذه الدنيا أو يفهم المبادئ التي يتجه إليها الطب، مع أنه هو مهندس مثلًا، أو يتذوق الشعر، مع أنه هو طبيب، أو يدرس السياسة العالمية مع أنه هو زراعي، إلخ.
وفي معاهدنا التعليمية، من المدرسة الابتدائية إلى المدارس الثانوية إلى الجامعة، لا نكاد نجد الفرصة لأنْ يحصل الشاب المصري على ثقافة «عامة» إلا إذا كنَّا نعد الدراسة الثانوية سبيلًا إلى هذه الثقافة.
وهي مع ذلك سبيل ضيق، ولكن يمكن في المستقبل أن نتوسع في الدراسات الثانوية على نحو ما يجري في فرنسا، بحيث تتناول هذه الدراسات موضوعات مختلفة، ولكن متعددة أيضًا، لا يصل فيها التلميذ إلى الغاية، وإنما تنبعث في نفسه بها الحوافز للاستزادة في المستقبل، وهي لذلك عرض أكثر منها درسًا.
والذين انتقدوا انخفاض المستوى الثقافي عند خريجي الجامعة إنما انتقدوا في الحقيقة، ومن حيث لا يدرون، التعليم الثانوي؛ إذ هو التعليم الذي كان يمكن أن يُعد شبابنا للثقافة العامة.
أقول: «يُعِدُّهم» أي يفتح لهم الطريق فقط، أما التثقيف العامُّ فليست مشكلته في مدرسة أو جامعة، وإنما هو مشكلة العمر كله، وهو مجهود شخصي على الشاب أن يقوم به، ولا يعتمد فيه إلا على نفسه، ولكنه مع ذلك محتاج إلى الوسائل التي تثقفه.
وهذه الوسائل هي الكتاب والمجلة والجريدة.
وأهم هذه الوسائل لعامة المثقفين وليس لخاصتهم هو الجريدة التي تطلع كل صباح وفيها من التشويق بالصورة والخبر ما يُغري باقتنائها، ومع أن للخبر قيمة تثقيفية كبرى فإن الجريدة المثلى كما أتخيلها في ذهني يجب أن تزوِّد قراءها بألوان شائقة من الثقافة العالية والمتوسطة بأقلام كتاب يعرفون كيف يكتبون للجمهور، وليس للخاصة، وكيف يبعثون فيه الاهتمام بالسياسة العالمية، والارتقاء الزراعي، وتقدم الصناعة، ووسائل تحطيم الاستعمار الظاهر والخفي، ومعاني النهوض أو التأخر في الشعوب، والطاقة الجديدة في العلوم العصرية، ونحو ذلك.
ويزيد على الجريدة في تثقيف القراء هذه المجلات الشهرية التي تستطيع أن تستوعب بالإسهاب ما تنشره الجرائد اليومية بإيجاز، وفي ذهني الآن هذه المجلات الفرنسية العظيمة التي تدأب في تعليم الجمهور، فإنها جامعة، بل جامعات تشرح في لغة شعبية مأنوسة قضايا العلوم والآداب والفنون، وتحاول أن تعمم الثقافة بل الحضارة بين قرائها.
ويمكن القارئ الفرنسي لهذه المجلات أن يرتفع إلى أعلى مستوى في الثقافة إذا تابع بحوثها، حتى ولو لم يكن قد حصل على تعليم جامعي، ثم أزيد هنا أن المدرسة الثانوية في فرنسا هي بتعدد موضوعاتها الدراسية، وأيضًا بزيادة عدد الحصص اليومية فيها خير ما يهيئ حامل «البكالوريا» منها للثقافة العامة، بل خير ما يبعث فيه الشوق ويثير الحافز لأنْ يبقى طيلة عمره يدرس ويفهم.
ولا أعرف لماذا لا نأخذ بهذا النظام الفرنسي في التعليم، فإنه يتفوق على غيره كمًّا وكيفًا، وللكم هنا قيمة يجب ألا نبخسها.
ثم هناك الكتب التي يؤلفها الاختصاصيون بلغة شعبية في الفلك والكيمياء والذرَّة والتطور والطب والتاريخ والسياسة والاشتراكية والشيوعية ونحوها مما ينير القراء، وليس في أوروبا بيت يخلو من رفِّ كتب إن لم نقل خزانة أو خزانات تحتوي المئات من المجلدات.
سبيل الثقافة العامة هو الجريدة الجادة والمجاملة الخادمة والكتاب المبسط، وليس هو المدرسة أو الجامعة.
ثم هذه الثقافة هي مجهود شخصي، أي على الشباب أن يبحث عنها ويسأل ويدرس نحو خمسين أو ستين سنة، عمره الواعي كله، أي يجب ألا ينقطع عن الدرس إلا أن يموت.
وفي عصرنا هذا، عصر الذرَّة، يجب أن تكون العلوم المركز العامِّ للثقافة، ولا أستطيع أن أصف أديبًا أو مؤرخًا أو شاعرًا أو صحفيًّا بأنه مثقف ما لم يكن قد درس علمًا من العلوم.
يجب أن نهدف من الثقافة إلى أن نجعل أذهان الشباب عصرية، ولن تكون كذلك إذا أهملنا العلم.