دنيا المخاوف التي نعيش فيها
كثيرون منَّا يمضون حياتهم، منذ المهد إلى اللحد، وهم في خوف، ونحن نغرس هذا الخوف في نفوسهم منذ الطفولة، فإن قسوة الأب لن تنسى حتى حين يبلغ الطفل سن الشباب، ذلك أن صورته القاسية حين كان يكشِّر ويزعِّق ويضرب تبقى ماثلة في صورة عاطفية لجميع الرجال، كأن كل رجل يمثل الأب؛ ولذلك كثيرًا ما نجد شابًّا يشكو الخجل عند مقابلة الناس، وهو يتجنبهم ويفرُّ من لقائهم، وليس هذا الخجل سوى الذكرى غير الواعية لما حدث أيام الطفولة، حين كان هذا الشاب يخشى لقاء أبيه وغضبه وتهديده له، أي للطفل، أو لأمه أو لأحد أشقائه.
الخجل هو أحد الرواسب الدفينة في الشاب منذ طفولته القاسية، ولكن الخوف يبدو في مظاهر أخرى حين يكون مرجعه إلى أيام الطفولة، كالخوف من الظلام، فإننا كلنَّا تقريبًا عانينا ذلك؛ لِما غُرس في قلوبنا من احتواء الظلام للعفاريت، وحين تجد شابًّا يتحدث بصوت منخفض أو حين يرتبك ويتلعثم ويتردد، ثق أن كل هذه الصفات يعود أكثرها إلى أنه قد عومل بالتخويف أيام طفولته.
ولكن الخوف لا يقتصر كله من حيث الأسباب على أيام الطفولة، ذلك أننا نعيش في دنيا تحفل بالمخاوف، فإننا نخاف الإفلاس والفقر والمرض وموت الأبناء أو خيبتهم، بل نخاف الموت الذي تجهله جميع الحيوانات إلا الإنسان، ولكن مع أن هذه المخاوف لا تعود إلى أيام الطفولة، فإن الطفل الذي ينشأ بلا تخويف ولم يرَ قسوة من أحد أبويه يمكنه أن يتحمل هذه المخاوف أكثر من ذلك الطفل الآخر الذي عُومل بالتخويف في طفولته، وذلك لسبب بسيط هو أنه عندما يصادفنا حادث يخيفنا ونحن كبار تثار في نفوسنا تلك العواطف القديمة التي ظننا أننا نسيناها.
تذكر الأم التي مات ابنها كيف تبكي أحرَّ البكاء في مأتم، أو أخرى مات ابنها أيضًا وهي لا تعرف كيف تضبط نفسها عن الحزن العميق، هذا في حين أن سيدة أخرى لم يمت لها ابن، تستطيع أن تتحمل هذا الحادث وهي مطمئنة تكاد تكون متفرجة.
الخوف في الطفولة يبعث الخوف في الرجولة.
وعندما نكبر نلاقي مخاوف أخرى في المجتمع، فإن الفتاة حين تبلغ العشرين تتطلع إلى الزواج، فإذا بلغت الخامسة والعشرين دون زواج عمَّها قلق يزيد سنة بعد أخرى، وتحدث لها توترات، بل أمراضًا نفسية وجسمية، وخاصة إذا لم تكن تحترف حِرفة تكسب منها، فتحفظ بها كرامتها وتحسُّ الاطمئنان الاقتصادي منها.
بل كذلك يحدث للزوجة إذا تزوجت ولم تعقب بعد عشر سنوات مثلًا من الزواج، ولكن الخوف هنا ليس له تلك الخطورة التي تحسُّها الفتاة حين تظنُّ أنها فشلت في الحصول على زواج.
ثم هناك الشاب الذي يعجز عن الحصول على عمل كاسب، أو الذي يخشى معاكسة الرئيس له وتهديده له بالفصل من وظيفته، أو الذي تكون طبيعة عمله مغامرة، كما في التجارة والبورصة؛ حيث تتقلب الأثمان والأسعار بلا ضابط.
وهناك علامات تدلُّ على الخوف حتى حين يظنُّ الشاب أو الفتاة أنهما غير خائفين، مثال ذلك الكابوس؛ فإنه خوف يتردد حين ننام وتذهب عنَّا قيود ضبط النفس الاجتماعية، وهو يتخذ أشكالًا طفلية وأساليب وحشية، ولكن له دلالة حيوية خاصة بمجتمعنا، وبالهموم التي نتحملها في التجارة أو الوظيفة أو المرض أو نحو ذلك، والرجل المطمئن من هذه المخاوف لا يحدث له الكابوس.
وليست الهموم سوى مخاوف مترددة نتحملها كما قلنا في يُسر أو ما يقارب اليسر، إذا كنَّا قد عوملنا بلا تخويف أيام الطفولة، ولكنها تفدح وتؤلم إذا كنَّا قد عوملنا بالتخويف أيام طفولتنا.
وقد يجد أحدنا نفسه في اجتماع بين نظرائه الذين لا يجد فيهم من يفضله، ثم يطلب إليه أن يقف ويقول كلمة ترحيب أو شُكر أو بيان لموضوع ما، فما هو أن يقف حتى تغمره رعدة الخوف، فيعجز عن نطق كلمة واحدة.
أليس هذا خوفًا آخر كان كامنًا في نفسه، ولكنه برز في هذا الموقف الذي طُولب فيه بمواجهة عدد كبير من الرجال؛ إذ هو قد تعوَّد الخوف من لقاء الرجال منذ كان أبوه يقسو عليه في طفولته؟
وعندما يكون الخوف غامرًا فإنه يؤدي بالخائف إلى تجنب المسئوليات، بل إنه ليتجنب مسئولية الحياة نفسها، ويرسم برامجه على مستوى منخفض من العيش، بلا طموح يكون فيه شيء طفيف من المخاطرة، ولو أن هذه المخاطرة قد لا تزيد على واحد في المائة في المشروع المنتظر، وهو يبرر لنفسه هذه الحال الوضيعة بأنه قانع متواضع، والحقيقة أنه جبان خائف.
ولكن مع ذلك يجب ألا نقلل من شأن الأخطار المحدقة في الحضارة القائمة التي لا تكفل لنا العمل والكسب، ولا تكفل الضمانات التي نطمئن بها على أنفسنا أيام التعطل أو المرض، أو حين نموت ونترك أرملة وأيتامًا، فإن هذه كلها مخاوف حقيقية يجب أن يكون الإنسان حجرًا لا يحس إذا كان يقول: إنه لا يخشاها.
وأحيانًا يتخذ الخوف في بعض الشبَّان سرعة تشبه الهرولة، كأنه من حيث لا يدري يريد أن يفر، والفِرار علامة الخوف، فإننا نفرُّ من ثور هائج أو حية سامة أو نار غير مضبوطة أو نحو ذلك، وتعود الهرولة أسلوب سلوكنا، وأحيانًا تفسد العلاقات الزوجية بسبب هذه الهرولة التي يعود أساسها إلى الخوف.
وبعض الناس حين ترتبك أعمالهم أقل ارتباك يجدون وقت النوم زيادة على الكابوس أو بدلًا منه أنهم يهبون من النوم، فيستيقظون في انزعاج كأن حادثًا عظيمًا قد وقع بهم، ومرجع هذا الخوف المفاجئ أنهم يكتمون مخاوفهم في النهار، فتفرج هذه المخاوف في الليل عند النوم.
والنوم يخفف أحيانًا بالأحلام بعض مخاوفنا، بل هو قد يحلل لنا هذه المخاوف ويعالجها، هذا إذا كنَّا لا نكتم تمامًا ولا نقاطع هذه المخاوف كثيرًا، بل نعالجها في النهار بالعقل والحكمة، وعندئذٍ يكون النوم حليفنا، فيخفف من وقع الصدمات، ويرسم لنا طُرق التخلُّص منها، ولكن عندما نكتم المخاوف، وكثير منَّا يفعل ذلك تهبُّ علينا وتفزعنا وقت النوم، وكأنها تنبهنا إلى ما أهملنا من شئون الحياة، ويجب لذلك أن نستجيب إلى هذا النداء، ونبحث في أعماق نفوسنا عمَّا يخيفنا ونعالج حالنا بالعقل والحكمة.
وأحيانًا أخرى نقع في الخمور أو المخدرات لفرط ما يرهقنا من مخاوف، والخمور هي أيسر المخدرات، وأثرها في تخفيف التوترات والمخاوف لا ينكر، ولكن مع وجوب الحرص على تجنب الإفراط أو الإدمان.
وأخيرًا هناك التحليل النفسي.
فإن المحلل قد ينتهي بنا إلى ثورة قديمة تعود إلى أيام الطفولة، وقد يجد أننا نطمح إلى أكثر مما تتحمله طاقتنا فيقول الكلمة الحكيمة؛ وهي أننا يجب أن نقنع بأقل مما نطمع في تحقيقه، وقد يجد أننا نخاف من أوهام لا قيمة لها، بل أحيانًا لا وجود لها إلا في ماضينا القريب أو البعيد، فيوضح لنا أن خطرها قد زال.
ثم هو قد يبني ما تحطم في نفوسنا فيرسم لنا طريقًا إلى النمو، بأن يهيئ لنا طموحًا جديدًا في هذه الدنيا.
وأخيرًا يجب ألا ننسى أن هناك أمراضًا تحدث في الجسم، مثل لغط القلب أو الإسهال أو زيادة الضغط في الدم، وقد يكون مرجعها جميعها إلى الخوف، وقد تفدح هذه الأمراض فتؤدي إلى الموت، كما يجب ألا ننسى أن كثيرًا من الخائفين (والخائفات) يشوه الخوف وجوههم، فتكثر الخطوط والتجاعيد، ويشيخ الشاب والفتاة وهما بعد في سنِّ الشباب.
علينا أن نزن طاقتنا ونتعقل في المجتمع، ونطمع أو نقنع وفق ما تطالبنا به ظروف الحياة، أي علينا أن نكون حكماء.