مرض النفس يحدث مرض الجسم
كان موسى بن ميمون طبيبًا فيلسوفًا، ولد في قرطبة بالأندلس وهاجر إلى مصر حيث مارس الطب أيام صلاح الدين وابنه الملك الأفضل، ومات بالقاهرة في ١٢٠٥م.
ومعلوم لدى مولانا، أدام الله أيامه، أن الانفعالات النفسانية لها تأثير عظيم في الجسم بيِّن ظاهر للكل، فإن الإنسان القوي البنية الجهير الصوت الناضر الوجه إذا فاجأه خبر يحزنه حزنًا عظيمًا تغير لونه، وذهبت نضارة وجهه وانحنت قامته وانخفض نبضه وغارت عيناه وبرد سطح جسمه وقلَّت شهوته، وعلة هذا التأثر هو غور الحرارة الغريزية والدم داخل البدن، وبالعكس فإن الشخص الضعيف الجسم الحائل اللون الضعيف الصوت إذا اتصل به أمر يسره سرورًا عظيمًا قَوِيَ جسمه وارتفع صوته وأنار وجهه وأسرعت حركاته وارتفع نبضه وسخن سطح جسمه، وسبب هذا هو حركة الحرارة الغريزية والدم نحو ظاهرة البدن، كذلك حالات المنهزم والظافر بينة؛ إذ يكاد المنهزم لا يبصر لقلة الروح الباصر وتبدده، أما الظافر فإنه يزيد نور بصره زيادة عظيمة حتى يخيل إليه أن النور قد زاد ونما؛ لهذا كان على الأطباء واجب هو العناية بالحركات النفسانية وتفقدها في حالتي الصحة والمرض قبل كل شيء، ورغبة في أن يكون كل مريض وكل صحيح مسرورًا منبسط النفس بعيدًا عن الانفعالات الموجبة للانقباض، على أن من يغلب عليه الهم لا يمكن الطبيب الماهر، من حيث هو طبيب فقط، أن يعالجه علاجًا ناجحًا، وإنما يعالجه مَن له إلمام بالفلسفة العملية والمواعظ والآداب الشرعية، فإن الفلاسفة كما وضعوا كتبًا في العلوم وضعوا كتبًا في إصلاح الأخلاق وتأديب النفس وطريق اكتسابها للفضائل؛ ولذلك لا تجد الانفعال شديدًا جدًّا إلا عند أشخاص لا علم لهم بالأخلاق الفلسفية، كالصبيان والنساء والأغمار من الرجال، فإنهم لرخاوة أنفسهم يهلعون ويجزعون إذا مسهم الضر ونزلت بهم آفة من آفات الدنيا، وربما عظم المصاب فيموت الشخص لقلة أدب نفسه، وكذلك من نال منهم خيرًا عظيمًا يزداد عجبه ويعظم ضحكه، وتشتد رعونته حتى لقد يموت بعضهم من شدة الفرح.
انتهى ما أردت نقله مما كتبه موسى بن ميمون قبل ٧٥٠ سنة، وكل ما قاله صحيح وإن تكن ألفاظه وتعبيراته عتيقة غير مألوفة، وخلاصة ما يقول أن الحال النفسية تؤثر في الحال الجسمية، وأن مرض النفس قد يجعل الجسم يمرض، بل أحيانًا يموت.
وليس هناك سيكولوجي يمارس العلاج النفسي إلا مرَّت به مئات الحالات التي وجد فيها أمراضًا في الجسم تعود إلى أمراض النفس، وقد تكون هذه الأمراض طفيفة أو خطيرة.
فنحن نعرف مثلًا أننا عندما نتلقى خبرًا مزعجًا أو محزنًا لا نجد اشتهاءنا العادي للطعام، فالنفس «مسدودة»، ولكن عندما نقعد إلى أصدقائنا وأحبائنا فإننا نأكل وكأننا لا نشبع.
وكثيرًا ما سمعنا عن رجل فوجئ بخبر سيء فلم يتحمله ومات فور استماعه له.
وحين نكره عملًا نحسُّ ارتخاء في الجسم وتكاسلًا وفتورًا، بل نحسُّ أحيانًا صداعًا؛ لأننا لا نطيق العمل أو الرئيس الذي يشرف علينا فيه.
وأعظم الأمراض النفسية الفاشية، وهي تعمنا جميعًا بدرجات متفاوتة هي الخوف، فإننا نعيش في حضارة غير مأمونة، نتعرض فيها للموت من الحوادث، للإفلاس الذي لا يمكن الحذر منه، وللأمراض التي تتسلل إلى أجسامنا خفيفة، ولفواجع الموت للأصدقاء أو المقربين، وأحيانًا تخشى المرأة زوال شبابها، كما يخشى الطالب رسوبه في الامتحان أو خيبته في الحصول على عمل يرتزق منه بعد الحصول على شهادته الجامعية.
هذه مخاوف نعيش فيها، وهي تحيط بنا طيلة حياتنا تقريبًا، وقد تكون طفيفة فتحدث همًّا خفيفًا أو قد تفدح فيكون الهم عظيمًا.
وما هو الهم؟ هو خوف متردد نتوقعه بحق أو بغير حق، وهو أسوأ من الكارثة التي نحسُّ هذا الهم خشية من توقع حدوثها.
وأسوأ ما في الهم أنه يلازمنا قلقًا يخيم على عقولنا، ويظلم رؤيتنا للدنيا ورؤيانا للمستقبل ويبقى معنا السنوات، فلا نبصر بالأشياء على أبعادها الحقيقة؛ لأننا لا نرى الأشياء الموضوعية إلا بالصورة الذاتية التي غرسها فينا الهم، وقد يزيد الهم والقلق فلا نعرف لماذا نحن مهمومون قلقون، وقصارى ما نجد أننا في عادة راسخة هي عادة الهم والقلق.
وكما أن الخبر السيئ المحزن أو المزعج «يسد النفس عن الطعام»، كذلك الهم الدائم يعطل وظائف الجسم، فالهضم يسوء والشرايين تنقبض والقلب يدق، وباستمرار الهم تستمر كل هذه الأعراض.
ولكن استمرار هذه الأعراض يجعلها تتفاقم في الجسم، فلا تكون أعراضًا فقط، وإنما تصبح أمراضًا خطيرة.
فالهضم يسوء ويستمر حتى تجد أننا مسهلون بلا سبب واضح أو أننا نتعب من بعض الأطعمة التي لا يتعب منها غيرنا، أو أنه قد تكونت بالمعدة قُرحة، أو أننا لأقل انزعاج يزيد على ما عندنا من هم أو قلق تطفح على بشرتنا بثور قد تتقيح ويطول بقاؤها قبل الشفاء.
بل هناك من يعزو نوبات الربو والروماتيزم إلى الهموم.
وعندما يستمر انقباض الشرايين يزيد ضغط الدم، وعندئذٍ نكون عُرضة لأمراض التصلب أو القلب، وعامة الناس يعرفون أن الهموم تؤدي إلى الموت المبكر، وأن المعمرين لا يحملون همومًا، أي لا يخافون.
ماذا نفعل كي نتجنب أمراض الجسم التي تنشأ من أمراض النفس؟ نفعل ما ينصح به موسى بن ميمون: أي الفلسفة العملية.
إن حاجتنا إلى الفلسفة لا تقل عن حاجتنا إلى الغذاء؛ إذ يجب أن نكون حكماء نتصرف بحياتنا وغرائزنا وأهدافنا وسلوكنا التصرف الحكيم، فنتعقَّل دنيانا ومجتمعنا، ولا ننفعل للمخاوف المحيطة بنا، ولا نستسلم للطموح البعيد الذي يهلكنا ولا للغيرة أو الحسد اللذين يحطمان أعصابنا.