الإرهاق سبيلٌ إلى المرض والموت
المتأمل السيكولوجي لحياتنا الاجتماعية يكاد ينتهي إلى القول بأن جميع أمراضنا حتى ما نسميه الأمراض الميكروبية التي تنتقل بالعدوى، يكاد يقول: إنها أمراض نفسية، أي سيكولوجية.
اعتبر مثلًا هذا الإرهاق الذي تحملنا عليه المباراة من أجل الكسب أو الجاه أو المكانة أو الغيرة، هذا الإرهاق الذي يفتت أعصابنا ويجعلنا عُرضة لنمو المرض الذي يصيبنا ويقتلنا، مع أنه قد يصيب غيرنا فلا يؤثر؛ لأن الإصابة وقعت على شخص لم يرهق، فهي تزول كما لو كانت دخانًا أو غبارًا قد مرَّ به ثم تخلَّص منه.
هذا شخص قد أصابه رشح، فهو يعطس ويسيل أنفه، ثم بعد ساعات يفيق من هذه النزلة وكأنه قد نسيها، ولكن هناك شخصًا آخر قد أصابه مثل هذا الرشح، فهو يعطس أيضًا ويسيل أنفه أولًا وبعد أيام نلقاه في السرير يعاني التهابًا في شُعب الرئتين، وقد يحتاج إلى أسبوعين أو أكثر للعلاج، وقد يموت من الإصابة.
والفرق بين الاثنين أن الأول الذي أفاق بعد ساعات من العدوى كان مرتاحًا، أما الثاني فكان مرهقًا، تحمل الأول العدوى وتخلَّص منها، في حين أن الثاني عجز عن التغلب عليها.
وكلمة مرهق لا تعني التعب فقط؛ لأننا قد نتعب ونلهث ثم نرتاح ونفيق، ولكن الإرهاق يعني ضغط أعصابنا جملة أسابيع أو شهور بأعمال وتكاليف وهموم واهتمامات لا نستطيع النهوض بها، فالجسم ينهار ويعجز عن المقاومة.
وانهيارنا في النهاية هو انهيار الأعصاب، أي هو في لغة السيكولوجيين، الانهيار السيكولوجي، ذلك أن أعصابنا التي يرأسها الدماغ هي المشرفة على أجسامنا ولن نمرض ولن نموت إلا بعد انهيار المجموعة العصبية المشرفة.
إننا نقرأ هذه الأيام، مع الأسف، أخبار الوفيات المفاجئة لفشل القلب أو انفجار الشرايين، والموت يعود إلى خلل أو صداع في أحد أعضائنا الرئيسية، ولكنه مع ذلك قد نشأ أصلًا من توترات سابقة، أي هموم وأعباء وضغوط وواجبات؛ ولذلك نجد أن الذين يموتون بالسكتة أو النقطة هم أحسن رجالنا الذين ترهقهم هذه التوترات، وليس هناك سيكولوجي قد تعمق موضوع التوترات إلا وهو على ثقة، تبدو لأفراد الجمهور أنها إسراف أو حماسة، بأن كثيرًا من أمراض الجسم إنما هو في الأصل نفسية، وأن الموت بالبول السكري أو تليف الكبد، أو عجز القلب أو القرحة المعدية، أو انفجار الشريان، أو حتى بعض الأمراض الميكروبية، كل هذه الأمراض يعود إلى إرهاق سابق أدَّى إلى انهيار في مقاومة الجسم، فكان المرض ثم الموت.
وقد استطاع عالم كندي أن يحقق ذلك، وأن يقول في تأكيد إنه ليس هناك مرض يصيبنا إلا بعد إرهاق أدى إلى عجز في المقاومة حتى ولو كان مرضًا ميكروبيًّا.
وأحب أن أكرر أن انهيار الجسم وعجزه عن المقاومة لا يعني التعب والعرق والجهد، وإنما يعني الإرهاق العصبي، أي التوتر النفسي الذي يلازمنا يومًا بعد يوم عدة أسابيع أو شهور من الهموم لا نطيقها، وهذا العالم الكندي يعين الإرهاق بأنه قد يكون قلقًا نفسيًّا لا يطاق، أو إرهاق العمل المتواصل، أو تعرضنا لبرودة قاسية أو حر قاسٍ لمدة غير قصيرة، ففي كل هذه الحالات يكون الجسم مستعدًّا لقبول المرض حتى ولو كان هذا المرض ميكروبيًّا ينتقل بالعدوى.
وعندما نقول بضرورة التجنب للإرهاق إنما نعني ضرورة الاعتدال، يجب أن نعتدل في كل شيء نمارسه، نعتدل قبل كل شيء في مطامعنا، حتى لا يرهقنا تحقيقها أو محاولة تحقيقها، ونعتدل في ساعات عملنا كل يوم، فلا نعمل في الليل والنهار، ونعتدل في تعرضنا للبرد أو للحر، ونعتدل في تحمل الهموم فلا نقلق ونأرق؛ إذ يجب أن نكون حكماء، والحكيم لا يقلق ويأرق حتى يموت، وكذلك يجب ألا نتعس أبناءنا، أي لا نرهقهم بالمذاكرة حتى لا ينهاروا أو يمرضوا.
إن الدنيا تحتاج إلى الجهد، ولكنها لا تستحق الإرهاق، وهي لا تطالبنا به، والمغفلون هم الذين يرهقون أنفسهم كي يثروا أو يرتقوا إلى مكانة اجتماعية عالية.
وعلى الدولة وعلى المجتمع وعلى كل فرد منا أن يعرفوا جميعهم قيمة الراحة النفسية، وأنها هي الأساس الأول، إن لم تكن الأساس الوحيد للصحة، فعلى القاضي والمحامي والطبيب، وكل من يتحمل مسئوليات تؤدي إلى التوترات، أن يجعلوا الإجازة السنوية حتمية، وأن يفروا كل عام في عجلة، بل هرولة إلى المصايف، حيث يقضون شهرًا أو شهرين بعيدين عن المسئوليات.
هذه الراحة السنوية هي راحة الجسم كله؛ لأن الأعصاب تشرف على الجسم.
وكلمة أخيرة أقولها للتلاميذ والطلبة ولغيرهم ممن يدرسون القضايا والمشروعات والمقاولات، أقول: ادرسوا الموضوع، فإذا أحسستم التعب فكفوا عن الدرس حتى ترتاحوا، فإذا وجدتم أنكم مضطرون إلى متابعة الدرس فلا بأس من هذه المتابعة، ولكن إذا أحسستم أن التعب يزيد ويؤلم، فيجب التوقف.
- النَّفَس الأول: في الدرس نستطيع أن نسير فيه بصحة وراحة.
- النَّفَس الثاني: في الدرس عقب التعب من الدرس الأول، يمكن أن نؤديه مع التعب، ولكن بلا خطر.
- أما النَّفَس الثالث: فهو الخطر، كل الخطر، هو الموت أحيانًا، وأحسن ما نرتاح به هو النوم، وليس التسلية بأي عمل آخر غير الدرس.
النوم هو سيد الفضائل، والرجل الذي يعجز عن النوم أو لا يعنى به ليس فاضلًا؛ إذ هو ضجر لا يتحمل الجهد، كما هو انفعالي يغضب لأقل استفزاز؛ ولذلك لا يعرف التسامح، وإذا كان قاضيًا وضع العدل فوق الرحمة.
كي نكون فضلاء يجب أن «نغرق» في النوم ثماني ساعات كل يوم على الأقل.