الانتحار بالموت وغيره
من أحسن ما قرأت وتأملت قصة أحد المتهمين السياسيين في ألمانيا أيام هتلر، فقد اتهم هذا الرجل بالخيانة للوطن، وأنه ينضوي سرًّا إلى علم من أعلام الأعداء، وكان عقاب المتهم بمثل هذه التهمة، وخاصة عند هتلر في أزمانه السياسية التي كان يخترعها ثم يقع فيها، هو الإعدام أو ما يقاربه من السجن المؤبد والتعذيب المُر.
ولم يكن هذا الرجل المتهم يعتقد أنه بعيد عن الحكم عليه بالإعدام، ولكن قلبه كان ينطوي على جزء ضئيل من الأمل بالبراءة، كما كانت نفسه، حتى وهو ينتظر المحاكمة، تنزع إلى الكفاح، وكان يؤمن بأن حجته في الدفاع عن نفسه سوف تكون من القوة بحيث يقنع القضاة ببراءته حتى ولو كان هؤلاء القضاة يشايعون هتلر.
وأحسَّ الرجل أن عوامل الحياة بالأمل والكفاح تنتصر في نفسه على عوامل الموت باليأس والاستسلام، فلم يتبرم بالحبس في انتظار المحاكمة، وإنما استغل هذا الحبس بأن شرع يتعلم لغة أجنبية.
تأمل هذا أيها القارئ: رجلٌ متهم يخشى الحكم بالإعدام يتعلم لغة أجنبية في السجن، هنا نجد انتصار الحياة المكافحة المؤملة.
وهناك كثيرون غيره لو كانوا في مكانه لاستسلموا للموت ينتظرونه كأنه على ميعاد معهم، ثم كانوا يتهيئون لهذا الموت بالفتور والكسل، وربما أيضًا بالاعتراف الاضطراري الذي يرخص للقضاة الحكم بالإعدام عليهم.
ونحن جميعًا في الحياة العامة، في مثل هذا المأزق في كثير من الأحيان، فإننا نواجه أزمات تطالبنا بالاختيار بين الكفاح أو الاستسلام، بين الحياة أو الموت.
وأحيانًا تكون الهزيمة كاملة، فننتحر.
والمنتحر عادة شخص نشأ في طفولته على النعومة والدلال؛ إذ وجد من أبويه التمهيد لكل صعوبة والتسليم بكل رغباته، فلم يتعلم كيف يكافح ولم يجد قط لذة الكفاح في الصعوبة، ننتصر عليها، أو العقبة نثب من فوقها، ولم يتعب ويعرق قط في عمل كاسب؛ لأنه «ورث» مالًا يغنيه، والأغلب أيضًا أن المنتحر يكون وحيد أبويه، هذا الولد الوحيد المدلل الغني المرفَّه الناعم، الذي لا يكسب ولا يتعب، حتى حين يجد الوظيفة التي تأتيه مجانًا بسلطة أبيه، ولكن ما هو أن يقع في أزمة، أو تستولي عليه توترات نفسية لشأن ما، حتى يجد أن الدنيا قد أظلمت في عينيه، وأن الموت خير من الحياة، فتتولاه الشكوك، وتغدو الحبة قبة، ويجد في المشكلة الهينة التي يحلها غيره بأيسر سبيل، أو لا يكترث لها، يجد نذيرًا بالدمار الذي يحمله على الانتحار، مع أن هذا الدمار المتوقع لو تم لكانت كارثته دون الانتحار، ولكن هناك ما هو دون الانتحار من الاستسلام للهزيمة، مما يعد انسياقًا في نزعة الموت، فإن الشباب حين يرضى بالفقر والوضاعة والكسل والإحجام إنما ينتحر؛ لأنه لا يطمح إلى الارتقاء والنمو والتوسع.
اعتبر هذا المثل:
«ج. ر» شاب في الثلاثين، كان يعاني مرضًا في الكليتين، واستشار بعض الأطباء الذين ملئوه تشاؤمًا، وأوهموه بأنه لن يعيش كثيرًا، ورسخ فيه هذا الاعتقاد، حتى تغيرت أهدافه في الحياة، فقنع بأدون العيش، وتزوج فتاة دون مكانته الاجتماعية، كما كانت أيضًا خالية من الميزات النسوية التي يرغب فيها الشبان، وأحجم عن التناسل، أي إنه استسلم للموت، ولعله فكَّر كثيرًا في الانتحار.
وربما نعذره في بعض هذا السلوك، وإن لم نكن نعذره في كل هذا اليأس، ولكن صورة هذا السجين عند هتلر يجب أن تبرز أمامنا في كل وقت، وذلك بأن نضع الأمل فوق اليأس، ونؤيد الحياة في انتصارها على الموت.
والعجيب في هذا الشاب الذي ذكرته أنه عاش بعد الزواج نحو عشرين سنة، ولم يمت من كليتيه كما أوهمه الأطباء، عاش وارتقى وأثرى، ولكنه ما زال يتطعم مرار اليأس، الذي استولى عليه وأفسد حياته، ويندم.
والعبرة هي: ما دمنا أحياء فيجب أن نتشبث بالحياة، ونحرص مع ذلك على أن تكون حياتنا كريمة، ويجب أن نعوِّد أطفالنا مجابهة الشدائد، ونغرس فيهم إحساس اللذة بالانتصار على الصعوبات حتى ينشئوا مكافحين.
والمكافح لا ينتحر بقتل نفسه، ولا ينتحر بالاستسلام للهزيمة والفقر والكسل والتراخي، حتى ولو عرف أنه يعاني مرضًا مميتًا، فإن أعظم الأطباء لا يستطيع أن يصدر حكمًا قاطعًا بأن أحد الأمراض سوف يقتل المريض قبل خمس أو ست سنوات، بل عندي أن الحياة مع المرض خير من الموت في كل حال.
الحياة وعي وإحساس وعقل، وما أعظمه «جلادستون» الوزير الإنجليزي الذي كان يتألم وهو في حشرجة الموت، فعرض عليه الطبيب أن يخدره حتى يموت في راحة وغيبوبة، فأبى؛ لأنه أراد أن يكون على وعي وإحساس وتعقل في الدقائق والثواني الأخيرة من حياته.
أبى أن يموت قبل ميعاد الموت.